لجريدة عمان:
2025-05-16@18:17:23 GMT

جبرين.. سيرة الحب والمكان

تاريخ النشر: 29th, January 2024 GMT

جبرين.. سيرة الحب والمكان

"فضّلتني دون جميع الحرّاس بالسؤال عن هذا المكان الذي تحوّل من قصر للدفء، احتضن بداخله الحب إلى ثكنة للعسكر وأوامر السلطة... لماذا تطلبين مني أنا دون سائر الرجال، أتحدث عن القصر وليس الحصن، عن البيت وليس السور والسجن؟(1)".

إنّ النص الذي يتأسس عبر استنطاق الأمكنة والحجر، يفتح العلاقة بين الموجودات على مصراعيها، ويضفي على الكون لمسة جمالية، تتجاوز المألوف، ويؤسس لألفة مع الحجر، ويُعطي للعلاقة البينية بين الفنون طابعا من نوع آخر، وتواصلا يتجاوز الكلمة إلى إيقاع المكان ذاته.

حين يتحدث الفيلسوف الفرنسي "غاستون باشلار 1884-1962" عن المكان، يتجاوز بنيته الجامدة إلى روح تأتلف معه الأرواح، قائلا: "كيف تبدو بيوت الماضي في هندسة الحلم.. أمثال هذه البيوت هي التي سوف تتيح لنا استعادة ألفة الماضي من خلال أحلام يقظتنا. علينا أن ندرس بمزيد من العناية الكيفية التي تستعيد بها مادة الألفة الدافئة شكلها من خلال البيت.

يقول جان فاهل(2):

والبيت العتيق

أحس بدفئه الخمري اللون

يتسرب من الحواس إلى العقل (3)".

هكذا يتنفس الفيلسوف الفرنسي "غاستون باشلار" المكان بوصفه كائنا حيا، ينبعث منه الدفء، فيسكن فيه الإنسان. هل أن باشلار وحده من نظر للمكان هكذا أم أن السيابي في روايته "جبرين وشاء الهوى" أنطق المكان وأضاف إليه دفئا غرائبيا؟

ترتكز بنية الرواية السيابية على تيمة "المكان" بشكل رئيس من خلال روايته "جبرين وشاء الهوى" الصادرة عن مؤسسة بيت الغشام عام 2016، ذلك الارتكاز يُجبر المتلقي -عبر رحلة القراءة- على طرح سؤالين مهمين: كيف طوّع السيابي الحصن الحجري، وجعله مكانا للحلم، وملتقى للحب؟ وهل يمكن للمكان أن يكون معادلا موضوعاتيا للإنسان؟

يؤثث السيابي مفهوم "الوطن" عبر ثنائيات تُكمّل إحداها الأخرى تارة، وتتضاد تارة أخرى، الأولى: البيت، والأخرى: الحصن الذي يرمز للوطن بكل معانيه. فكيف تغلّب الثاني على الأول عبر سلسلة تحولات فكرية وعاطفية، جعلت من بطلي الرواية (الحارس والفتاة) ليسا مجرد حبيبين تجمعهما قصة حب، بل شكّلا نموذجين ذابا في تاريخ البلد عبر رموز مثّلت علامات فارقة على وطن كبير (الإمام بلعرب، وأخته "المرأة القوية").

ويمثل استحضار التاريخ وإعادة، واستنطاقه بلغة الحاضر، مدخلا مهما لفهم التاريخ من جهة، ولمراجعة الحاضر عبر قراءة تنبؤية من جهة أخرى.

للحصون قصة لا تنتهي مع السيابي، فهو يربط المكان بالإنسان عبر سلسلة تفاعلات إنسانية، تحكمها مشاعر تجاوزت كتلة الصخر إلى معنى سامٍ وعلاقة حب. إن الأمكنة التي جعلها السيابي أوعية لحوادثه، هي: (البيت، والحصن) وأثث كل منهما بمشاعر متناقضة، عاشها البطلان (الحارس والفتاة). فكلاهما عانا كثيرا في ظل قيمومة جردتهما من بناء الشخصية، فأصبح الفضاء باتساعه ضيقا عليهما؛ ولذا كان الكاتب ذكيا باختيار الحصن، مكانا لميلاد حبهما؛ لأنهما تعوّدا الأماكن المغلقة، ولكن الفرق كبير بين جدران البيت وأسوار الحصن.

يضفي الحصن طابعا رمزيا للوطن الكبير الذي يحتضن أبناءه، فإن ضاقت بيوت الآباء؛ فحضن الوطن في سعة من الحب والجمال. فرمزية الحصن، جعلت منه مكانا يتجاوز حدود عُمان إلى زنجبار؛ بوصفه المكان الذي احتضن البلدين في زمن ما، وتلك حقيقة شعرت بها "الفتاة" عندما زارت الحصن لأول مرة والتقت بحارس قلبها.

تبقى النهايات مفتوحة، يخفيها النص، ويتأملها القارئ عبر أسئلة لذيذة: "هل سنبدأ نحن الأربعينيين اللذين تعارفا في قصر الحب "جبرين؟(4)". فهل اجتمع الحبيبان؟ وهل لحق بها في المطار؟ وأسئلة أخرى تتجاوز تلك اللحظة؛ لنتأمل معها ذواتنا عبر رؤية الآخر في فضاءات أرحب.

هوامش:

(1) السيابي، جبرين، ص 7.

(2) شاعر فرنسي 1888-1974.

(3) غاستون باشلار، جماليات المكان، ص 68-69.

(4) جبرين، ص 158.

* بسام الخفاجي كاتب عراقي باحث في الأدب العربي

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الحب في زمن التوباكو (8)

 

مُزنة المسافر

 

جوليتا: كانت أضواء المسرح عائدة للسطوع من جديد، وكان همِّي الأكبر أن تعود عمتي للمسرح وتغني أغنياتها الجميلة، وكان على طليعة أفكاري أن أضم فريقًا حيًا يُغني معها، ونجحتُ في إقناع البعض، لكن قبل ليلة الحفل، ارتمتْ عمتي ماتيلدا على السرير وقالتْ إنها لن تُغني مجددًا، وأن عليَّ أن أنسى هذا الوهم الكبير الذي جِئتُ به فجأة إلى روتينها الذي لا تود أن تُبدِّله، من تذكر بضع جوابات قديمة، ومراسيل عتيقة.

ماتيلدا: لن أغني مجددًا، لن أغني يا جولي.

جوليتا: لماذا يا عمتي؟ الجمهور بانتظارك.

ماتيلدا: لم أعد أصدقهم، لم أعد أشعر أنهم يحبونني بصدق، وأن وجودهم هنا لترديد اللحن والمغنى وقضاء وقت فراغ ليس فيه شيء يفعلونه.

جوليتا: لكنهم يهتفون باسمك ويخبرون بصوتك في كل البلاد.

ماتيدا: لقد سئمت منهم يا جولي.

جوليتا: لكننا نجني المال يا عمتي، هذا هو الأهم، هل لك أن تمثلي قليلًا؟

جوليتا: أقنعتها أن الحياة مجرد مسرح دمى، بخيوط غير بائنة للأعين، وأن مسرح الدمى يتطلب منا صوتًا جميلًا، ودمى متحركة بخفة كبيرة، وأن كل شيء سيكون على ما يرام.

ماتيلدا: تعرفين يا جولي، في الماضي كنت أحب دُمى الماريونيت، وكنت أشاهدها بسعادة غامرة، كنت أرى فيها كل شعوري، وكل ما أمر به كطفلة، وكان يسلينا رجل عجوز للغاية كان يطلق عليه فيرناندو، كان هو يقول بالأُحجيات، وبالأمنيات التي يتمناها الأطفال وكنا نهال عليه بالمديح، والبعض كان ينكره بشده ويتهمه أنه نفسه دمية كبيرة الحجم، وأن جسده محشو بالقطن وأضلاعه مربوطة بالخيوط، قربني منه يا جولي ووضعني على كرسي خشبي وسط الأطفال.

ونادى على اسمي، وقال لي: قولي لي يا ماتيلدا ماذا تتمنَّين؟

ماتيلدا: قلت له أود أن أتأكد أنك فعلًا محشو بالقطن، وأنك دمية تدعي أنك إنسان مثلنا.

ضحك الأطفال، وطلب منهم فيرناندو أن يصمتوا، وقدم لي قطعة شوكولاتة أجنبية، كانت محشوة بكريمة ناعمة، وقلبي كان يخفق خفقانًا عظيمًا لتلك القطعة المزدانة بالحب، شكرته لأنني شعرت أن صوتي صار أجمل بعد تلك القطعة اللذيذة.

وصار قلبي مسرح دمى عظيمًا، ترقص فيه الدمى يوميًا، للسحر الذي كنتُ أشاهده حين يخلق فيرناندو العجوز قصة ما للأطفال، وكان بينهم خافيير كان يقف هذا الطفل بجانبي علَّهُ يحصل على قطعة شوكولاتة تُشبه تلك التي حصلتُ أنا عليها من فيرناندو.

وكان خافيير يأتي بالحيل الكثيرة ليتحدث معي، ويخبرني عن طائرة ورقية سريعة قد صنعها، أو عن قوة مقلاع حطم به نافذة شخص ما، وكان يتفنن في الكلام والسلام، كان خافيير أصغر مني بثلاث سنوات، لكنه كان قوي البنية وسريع البديهة وفطنًا للغاية.

وكنتُ أنا ودودة وهادئة، وكنت أرفض الانضمام إلى مغامراته حتى لا ألطخ فستاني الجميل بنقاط البُولْكا أو أن أغير شيئًا من أناقتي؛ لأن خافيير كان يحب صعود الأشجار وتسلقها بخشونة، وكان ينسى أنني فتاة، وكنتُ أُذكِّرُه وأقولُ: خافيير أنا فتاة!

فيضيف خافيير: الفتيات يقدرن على صعود الجذوع، والركض في الربوع مثلنًا تمامًا نحن الصبيان.

ماتيلدا: لكنني فتاة لا يمكنني ذلك، سيتسخ فستاني، إنه فستانٌ بطبعة البُولْكا!

لا يفهم خافيير أن فتاةً بفستان البُولْكا لا يُمكنها أبدًا أن تصعد شجرة، أو أن تُلقي بحجرة ما على شخص عابرٍ للطريق الطويلة، وأنه من المستحيل أن تطوي الطائرات الورقية طيًَّا جيدًا.

مقالات مشابهة

  • مبادرة البدر تُعلن صدور 15 كتاباً في سيرة النبي محمد ضمن «منحة البدر»
  • أحمد الطلحي: الصلاة فى هذا المكان تنجي من النار وتبرئ من النفاق
  • الشيخ أحمد الطلحي: الصلاة فى هذا المكان تنجي من النار وتبرأ من النفاق
  • مسير راجل لطلاب مدرسة الشهيد القائد الصيفية في الحصن بصنعاء
  • اعترافات عصابة سرقة شركات المعادى: نراقب المكان وننتظر انصراف الموظفين
  • ما أوحت به سيرة "سارق المنشار"
  • اختتام منافسات بطولة كرة القدم للمدارس الصيفية في الحصن وجحانة
  • البيت الذي بنيناه عندما كنا صغارًا
  • الحب في زمن التوباكو (8)
  • قايدي «كلمة السر» في انتصارات اتحاد كلباء