السؤال التاريخي المعتاد من أي فئة مؤمنة مستضعفة في كل مكان وكل زمان.. يسألون رسولهم: متى نصر الله؟ يسألونه من بعد أن يبلغ بهم البلاء درجة نفاد الصبر، أو الوصول إلى النقطة الأخيرة من منحنى الصبر، أو ذروته، ليبدأ بعدها المنحنى بالنزول، في إشارة إلى بداية نهاية البلاء والعذاب والشقاء، والاقتراب من النصر الموعود كما في الآية (متى نصر الله، ألا إن نصر الله قريب).
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله؟ ألا إن نصر الله قريب. هكذا الآية الكريمة، وهكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى - كما في ظلال القرآن - وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها، وإلى سنته سبحانه في تربية عباده المختارين، الذين يكل إليهم رايته، وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته. إن هذا السؤال من الرسول الموصول بالله، والمؤمنين الذين آمنوا بالله.
إن سؤالهم متى نصر الله، ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة. ولن تكون إلا محنة فوق الوصف، تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب، فتبعث منها ذلك السؤال المكروب: متى نصر الله؟ وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة، عندئذ تتم كلمة الله، ويجيء النصر من الله (ألا إن نصر الله قريب).
نصر قريب، لكنه ليس لأي أحد، بل للذين ثبتوا حتى النهاية. صبروا على الفقر والجوع والمرض وأنواع البلايا، من التهديد بالقتل والنفي والسجن وأخذ الأموال وانتهاك الأعراض وغيرها. نعم إن هذا النصر يحتاج صبراً عظيماً لا يمكن وصفه.
ربنا أفرغ علينا صبرا
مع تساؤلات الفئة المؤمنة عن موعد نصر الله لهم متى يكون أو يحين، تجدهم قبل ذلك مبتهلين إلى الله يسألون صبراً غير صبر عامة الناس. صبراً يشبه ذاك الذي طلبته ورددته الفئة المؤمنة الصابرة التي صمدت مع طالوت، وهم في طريقهم لمواجهة طاغية عصره، جالوت وجنوده، وكانوا يفوقونهم عدداً وعدة. لكنهم دعوا الله أن يفرغ عليهم صبراً، في صورة بلاغية جميلة توحي لك كما لو أن الصبر سائل يتم تفريغه في إناء حتى يفيض ذاك الإناء.
بعد أن سألوا الله ذاك الصبر أن يفرغه عليهم، واجهوا مشهداً حقيقياً في ميدان معركة، ستكون حاسمة بين الحق والباطل. وسيكون للصبر المفروغ عليهم بإذن الله، دوره المؤثر في الصمود والثبات. معركة وقعت في زمن النبي داوود عليه السلام قبل أن يوحى إليه ويكون نبياً من أنبياء الله إلى بني إسرائيل.
ترى ها هنا مشهداً حقيقياً لا بلاغياً.. فئة مؤمنة قليلة محتسبة، تتوجه إلى ربها، تسأله أن يفيض عليهم صبراً ويغمرهم به حتى ينسكب سكينة وطمأنينة على قلوبهم. حتى إذا ما وقعت تلك السكينة والطمأنينة في القلوب، كانت نتيجتها بإذن الله تثبيت الأقدام في أرض المعركة، في مواجهة أعداء الله.
الثلة الصابرة في غزة
تلك الدعوة إذن كانت الشحنة الإيمانية – كما يقول الشعراوي في تفسيره - الشحنة الإيمانية لمن يريد أن يواجه عدوه، فهو ينادي قائلاً: ربنا. إنه لم يقل: يا الله، بل يقول: ربنا؛ لأن الرب هو الذي يتولى التربية والعطاء، بينما مطلوب (الله) هو العبودية والتكاليف؛ لذلك ينادي المؤمن ربه في الموقف الصعب « يا ربنا « أي يا من خلقتنا وتتولانا وتمدنا بالأسباب. قال المؤمنون مع طالوت: (ربنا أَفرغ علينا صبراً).
غمرهم الصبر، فهدأت نفوسهم، وثبتت أقدامهم، فكان النصر حليفهم، وقتل داود جالوت، فكان يوماً من أيام الله المشهودة، ظهر الحق وزهق الباطل. المشهد نفسه هو الحاصل في غزة الآن. الأهالي يواجهون عدواً مستأسداً، تقف قوى الباطل معه بالمال والسلاح، ويستخدم كل أسلحة الدمار في إهلاك الحرث والنسل، دون أن يواجه المقاتلين الحقيقيين على أرض المعركة، بل يعتدي على أهاليهم وبيوتهم وحتى حيواناتهم، أعزكم الله.
لكن غالبية الأهالي ومعهم المقاتلون، اتخذوا صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وأتباع الأنبياء والرسل، قدوة ونبراسا. أظهروا صبراً وثباتاً أدهش العالم. وما ذلكم الصبر والتصابر، والصمود والثبات إلا نتائج سنوات وسنوات من تربية إيمانية قرآنية، واستعداداً نفسياً وروحياً لمثل هذه الأيام العصيبة، أو المعركة الفاصلة الحاسمة بإذن الله، كما كان مع طالوت وهو يواجه مجرم عصره جالوت، وليس مع طالوت سوى ثلة قليلة مؤمنة صابرة، وبهم نصره الله وأعز جنده، وهو ما سيكون بإذن الله في غزة.
إن الثلة المجاهدة الصابرة القليلة، مقارنة بالعدو، وبالوضع الذي تعيشه تلك الفئة الصابرة من ظلم ذوي القربى، وتخاذل الأقربين قبل الأبعدين، وتآزر العالم الغربي القوي الرسمي مع الإجرام الصهيوني.. مع كل أولئكم، فإن الله لن يترك هذه الثلة المجاهدة دون مكافأة دنيوية وأخروية. نصر منه سبحانه كجزاء أو مكافأة دنيوية، وأخرى في الآخرة، جنة عرضها السماوات والأرض.
إنه وعد إلهي للصابرين، وهو أكرم الأكرمين.
(الشرق القطرية)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة فلسطين غزة الاحتلال مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة رياضة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
تأملات قرآنية
#تأملات_قرآنية
د. #هاشم_غرايبه
يقول تعالى في الآية 118 من سورة آل عمران: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ”.
في هذه الاية كما في كل آية تبدأ بتوجيه الخطاب الى المؤمنين، أمر إلهي واجب الاتباع، لأنه توجيه من العليم الخبير لعباده المؤمنين لما فيه مصلحتهم.
التوجيه هنا بتحذير المجتمع الإسلامي: الأفراد من عاقبة مخاللة لأناس يرفضون دين الله ويتبعون غيره، والحكام من اتخاذ مستشارين وخبراء من غير المسلمين.
وليس ذلك يعني مقاطعة غير المسلمين ولا مناصبتهم العداء، بل الحذر من كيدهم وشرورهم، فما منعهم من الإيمان مثلكم هو كراهية منهجكم ، والبغضاء لكل من يعتنقه، لذلك لا يمكن أن يوادوكم أو يخلصوا لكم النصح، ولا أن يتمنوا لكم الخير، حتى لو وجدتم لديهم الخبرة والمهارة، فهم لا يألونكم خبالا أي لا يتركون جهدا أو وسيلة في فسادكم، وفي المكر والخديعة لإيقاع الضرر بكم.
بالطبع فلم يكن في زمن التنزيل لديهم القدرة عل محاربتكم مباشرة، لكن كان يكشف نواياهم أنهم كانوا يظاهرون المشركين عليكم ويحرضونهم على قتالكم أملا في استئصال شأفتكم والقضاء عليكم، لكننا راينا في الزمن الحاضر، وعندما أسقطوا الدول العثمانية التي كانت تبسط سيطرتها على ديار المسلمين وتتصدى لشرورهم وأطماعهم، كيف استفردوا بالمسلمين وناصبوهم العداء علانية من دون الأمم، وطوال القرن المنصرم منذ ذاك، واصلوا أعمالهم العدائية ضدهم رغم أنهم لم يشكلوا أية خطورة عسكرية عليهم ولا على مصالحهم .
ذلك لكي نعلم أنه وإن بدت البغضاء واضحة في ما يصرحون به على الدوام من عداء صريح للإسلام، فما يكنونه في صدورهم من حقد دفين متوارث عبر القرون تجاه المسلمين أكبر كثيرا مما نتصوره، والدليل ثابت أمامنا عيانا في اجتماعهم جميعا على تأييد ومباركة أفعال الكيان اللقيط ضد الشعب الفلسطيني، لا يخجلهم ولا يوقظ ضمائرهم حجم الاستهداف للأطفال والمدنيين العزل، بل هم يستطيبون قتل كل مسلم، لا يفرقون بين الطفل البريء والعسكري المقاتل.
يقول أحدهم وهو “جدعون ليفي” إن الـ.يـ.هود جميعهم لديهم ثلاثة مبادئ يعتنقونها: الأول أنهم شعب الله المختار، وذلك يخولهم التعامل مع غيرهم بلا أية ضوابط أخلاقية، والثاني أنه على الرغم من وجود كثير من الاحتلالات عبر التاريخ، لكنهم في احتلالهم لفلسـ.طين كانت الحالة الوحيدة التي يقدم فيها المحتل نفسه على أنه ضحية .. بل والضحية الوحيدة في العالم، والثالث هو نزع الانسانية عن الفلسـ.طينيين وتصويرهم على أنهم مجرد كائنات لا تستحق الحقوق الانسانية.
في الآية التي تليها ويقول فيها تعالى: “هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ” يبين الفارق الكبير بين المسلمين وأهل الكتاب، فالعداوة والبغضاء ليست متبادلة، بل هي من طرف واحد، فأنتم تحبونهم لأنهم أتباع رسالات سماوية جاء بها رسل تجلونهم وتقدرونهم، ولا ينتقص من ذلك الاحترام لديكم ما قاموا به من تحريف للعقيدة وللكتب، فأنتم تحترمون الاصل لأنه جزء من عقيدتكم الإيمانية، وليس التطبيق البشري لها، بعكس ما هم عليه، فهم يكفرون بما أنزله الله عليكم حسدا من عند أنفسهم، ويكرهون نبيكم كونه كرمه الله بأنه سيد الأنبياء، وتشمل كراهيتهم للقرآن وانكارهم أنه من عند الله هو لتبرير رفضهم له، رغم أنه صدق بما أنزل إليهم، لكن كراهيتهم له أنه كشف كثيرا من تحريفهم العقيدة وتبديلهم لكلام الله، وبيّن كثيرا من أفعالهم الناقضة للإيمان مثل قتل بعضهم الأنبياء، وقول البعض الآخر ان المسيح ابن الله.
هذا التناقض الكبير بين المسلمين وبين غيرهم، يجعل من غير المنطقي موالاتهم ولا اتخاذ الحكام البطانة منهم، فهم وبناء على ما سبق لن يخلصوا النصيحة لهم، ولن يتوقفوا عن عدائهم.
لكل ذلك ينبه الله المؤمنين للحذر منهم، وعدم الركون اليهم: “وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ. لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ۖ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ” [آل عمران:110-111].