من كلّ بستان زهرة (61)
#ماجد_دودين
قال الشَّافِعيُّ في توقيرِ النَّاسِ واحترامِهم عِندَ الخَطَأِ:
تَعمَّدْني بنُصحِك في انفِرادي وجَنِّبْني النَّصيحةَ في الجَماعَه
مقالات ذات صلة التاريخ سيكتب في رفح 2024/02/13فإنَّ النُّصحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوعٌ من التَّوبيخِ لا أرضى استِماعَه
وإن خالَفْتَني وعَصَيتَ أمري فلا تجزَعْ إذا لم تُعْطَ طاعَه
قال العُلَماءُ: أحقُّ النَّاسِ بعدَ الخالِقِ المنَّانِ بالشُّكرِ والإحسانِ، والتِزامِ البِرِّ والطَّاعةِ له والإذعانِ: مَن قَرَن اللهُ الإحسانَ إليه بعبادتِه وطاعتِه، وشُكرَه بشُكرِه، وهما الوالِدَان؛ فقال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان: 14].
صِلةُ الرَّحِمِ من أفضَلِ الطَّاعاتِ التي يتقَرَّبُ بها العبدُ إلى رَبِّه، وقد أمر اللهُ تعالى بها، وبَيَّن أنَّ وَصْلَها موجِبٌ للمثوبةِ، وقد ورد الحثُّ على صلةِ الرَّحِمِ فيما لا يُحصى من النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ، ولم يَرِدْ لها ضابطٌ؛ فالمعَوَّلُ على العُرفِ، وهو يختَلِفُ باختلافِ الأشخاصِ والأحوالِ والأزمنةِ، والواجِبُ منها ما يُعَدُّ به في العُرفِ واصلًا، وما زاد فهو من الإحسانِ والتَّفضُّلِ والمَكرُمةِ، وأظهَرُها معاودتُهم، وتفقُّدُ أحوالِهم، وزيارتُهم، والكلامُ الطَّيِّبُ، وإعانتُهم على الخيرِ، وبذلُ الصَّدَقاتِ في فُقَرائِهم، والهدايا لأغنيائِهم. قال اللهُ تعالى: يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1] ففي هذه الآيةِ أخبر اللهُ سُبحانَه بأنَّه خلَق النَّاسَ من نفسٍ واحدةٍ، وأنَّه بثَّهم في أقطارِ الأرضِ، مع رجوعِهم إلى أصلٍ واحدٍ، وذلك لتَعطِفَ قلوبُ النَّاسِ بعضِهم على بعضٍ بالإحسانِ، ولترقيقِ بعضِهم على بعضٍ، وقَرَن سُبحانَه الأمرَ بتقواه بالأمرِ ببِرِّ الأرحامِ والنَّهيِ عن قطيعتِها؛ ليؤكِّدَ هذا الحَقَّ، وأنَّه كما يلزمُ القيامُ بحَقِّ اللهِ تعالى بإحسانٍ، كذلك يجِبُ القيامُ بحقوقِ الخَلقِ -والأقربينَ منهم خاصَّةً- بإحسانٍ؛ فالقيامُ بحُقوقِهم هو من حَقِّ اللهِ عزَّ وجَلَّ الذي أمَر به ، وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ليس الواصِلُ بالمكافِئِ، ولكِنَّ الواصِلَ الذي إذا قُطِعَت رَحِمُه وصَلَها)) ، أي: إذا أساء إليه أقارِبُه أحسَنَ إليهم ووصَلَهم، وهذا من بابِ الحثِّ على مكارمِ الأخلاقِ).
من أجَلِّ أنواعِ الإحسانِ: الإحسانُ إلى من أساء إليك بقَولٍ أو فعلٍ؛ قال تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 34 – 35].
ومن كانت طريقتُه الإحسانَ، أحسَنَ اللهُ جَزاءَه: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن: 60.
ذكَر الهَرَويُّ أنَّ من منازِلِ إيَّاك نعبدُ وإيَّاك نستعينُ (الفُتُوَّةَ)، وقال: (هي على ثلاثِ دَرَجاتٍ: الدَّرجةُ الأولى: تَركُ الخُصومةِ، والتَّغافُلُ عن الزَّلَّةِ، ونِسيانُ الأذيَّةِ. والدَّرَجةُ الثَّانيةُ: أن تُقَرِّبَ مَن يُقصيك، وتُكرِمَ من يُؤذيك، وتعتَذِرَ إلى من يجني عليك؛ سماحةً لا كَظمًا، ومودَّةً لا مُصابرةً!) .
قال ابنُ القيِّمِ في ذلك: (هذه الدَّرَجةُ أعلى ممَّا قَبْلَها وأصعَبُ؛ فإنَّ الأُولى تتضَمَّنُ تركَ المقابلةِ والتَّغافلَ، وهذه تتضَّمَنُ الإحسانَ إلى من أساء إليك، ومعامَلَتَه بضِدِّ ما عاملك به، فيكونُ الإحسانُ والإساءةُ بَينَك وبَينَه خِطَّتَينِ، فخِطَّتُك: الإحسانُ. وخِطَّتُه: الإساءةُ.
وفي مِثلِها قال القائِلُ:
إذا مَرِضْنا أتيناكم نعودُكم
وتُذنِبون فنأتيكم ونعتَذِرُ
ومن أراد فَهْمَ هذه الدَّرَجةِ كما ينبغي فلْيَنظُرْ إلى سيرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع النَّاسِ يَجِدْها بعَينِها).
زيادةُ المرءِ في دُنياه نُقصانُ ورِبحُه غيرُ مَحضِ الخَيرِ خُسرانُ
أحسِنْ إلى النَّاسِ تَستعبِدْ قُلوبَهُمُ فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
من جاد بالمالِ مالَ النَّاسُ قاطِبةً إليه والمالُ للإنسانِ فتَّانُ
أحسِنْ إذا كان إمكانٌ ومَقدِرةٌ فلن يدومَ على الإنسانِ إمكانُ
الصَّلاحُ بغَيرِ إصلاحٍ لا يعصِمُ الأمَمَ مِن الهَلاكِ:
قال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 117].
وسألَت زَينبُ بنتُ جَحشٍ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: ((يا رسولَ اللهِ، أفنهلِكُ وفينا الصَّالِحونَ؟ قال: نعَم، إذا كثُر الخَبَثُ)).
قال القُرطُبيُّ: (فأمَّا إذا كثُر المُفسِدونَ وقلَّ الصَّالِحونَ، هلَك المُفسِدونَ والصَّالِحونَ معَهم، إذا لم يأمُروا بالمعروفِ، ويكرَهوا ما صنَع المُفسِدونَ).
(فكثرةُ الخَبَثِ مُؤذِنةٌ بالهلاكِ، وهذا يعني أنَّه يجِبُ مَنعُ هذا الخَبَثِ حتَّى لا يحُلَّ بالمُسلِمينَ الهلاكُ).
إنَّ المكارِمَ كُلَّها لو حُصِّلَت رجَعَت بُجملتِهـا إلى شيئَينِ
تعظيمُ أمرِ اللهِ جلَّ جلالُـه والسَّعيُ في إصلاحِ ذاتِ البَينِ
عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: ((خَطَّ لنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَطًّا، ثمَّ قال: هذا سبيلُ اللَّهِ، ثمَّ خَطَّ خطوطًا عن يمينِه وعن شِمالِه، ثمَّ قال: هذه سُبُلٌ مُتفَرِّقةٌ، على كُلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليه، ثمَّ قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ))، وفيه: إشارةٌ إلى أنَّ سبيلَ اللَّهِ وَسَطٌ، ليس فيها تفريطٌ ولا إفراطٌ، وسَبيلُ أهلِ البِدَعِ ما يلي إلى جانِبٍ فيه تقصيرٌ أو غُلُوٌّ.
تقومُ مصالحُ الدُّنيا والآخرةِ على الاعتِدالِ والتَّوسُّطِ؛ فإنَّ السَّرَفَ في كُلِّ شيءٍ مُضِرٌّ بالجسَدِ ومُضِرٌّ بالمعيشةِ، ويؤدِّي إلى الإتلافِ، فيَضُرُّ بالنَّفسِ؛ قال ابنُ القَيِّمِ: (فالنَّومُ والسَّهرُ والأكلُ والشُّربُ والجِماعُ وغيرُ ذلك، إذا كانت وسَطًا بَيْنَ الطَّرفَينِ المذمومينِ كانت عَدلًا، وإن انحرَفَت إلى أحَدِهما كانت نقصًا وأثمَرَت نقصًا).
الاعتِدالُ والوَسَطيَّةُ على خمسةِ أضرُبٍ:
وَسَطيَّةٌ في الاعتقادِ: بلُزومِ السُّنَّةِ واجتنابِ البِدعةِ، وعَدَمِ الخَوضِ فيما سَكَت عنه السَّلَفُ، والتَّوسُّطُ بَيْنَ الفِرَقِ المتطَرِّفةِ.
وَسَطيَّةٌ في القولِ: بحفظِ اللِّسانِ، وتَركِ فُضولِ الكلامِ إلَّا من خيرٍ.
وَسَطيَّةٌ في الفِعلِ: بالاقتصادِ وعَدَمِ المبالغةِ أو التَّقصيرِ.
وَسَطيَّة في الأخلاق: بالوقوف بَيْنَ مذمومين، فالشَّجاعة بَيْنَ الجبن والتَّهور.
وَسَطيَّةٌ في عبوديَّةِ القَلبِ: كأن يكونَ بَيْنَ خوفٍ يحجُزُه عن المعاصي، ورجاءٍ يحمِلُه على الطَّاعاتِ.
قال تعالى واصِفًا عبادَه المُحسِنين بالتَّجاوُزِ والعَفوِ عن النَّاسِ: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134]. قال ابنُ كثيرٍ: (فقَولُه: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ أي: لا يُعمِلون غَضَبَهم في النَّاسِ، بل يَكفُّون عنهم شَرَّهم، ويحتَسِبون ذلك عِندَ اللهِ عزَّ وجَلَّ، ثمَّ قال تعالى: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ أي: مع كفِّ الشَّرِّ يَعْفون عمَّن ظلَمَهم في أنفُسِهم، فلا يبقى في أنفُسِهم مَوجِدةٌ على أحَدٍ، وهذا أكمَلُ الأحوالِ؛ ولهذا قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فهذا من مقاماتِ الإحسانِ).
الرِّفقُ محبوبٌ إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ، وإنَّه ما كان في شيءٍ إلَّا زانَه، ولا نُزِع مِن شيءٍ إلَّا شانَه؛ ففيه الحثُّ على أن يكونَ الإنسانُ رفيقًا في جميعِ شُؤونِه، رفيقًا في معاملةِ أهلِه، وفي معاملةِ إخوانِه، وفي معاملةِ أصدقائِه، وفي معاملةِ عامَّةِ النَّاسِ، يَرفُقُ بهم؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ رفيقٌ يحِبُّ الرِّفقَ؛ ولهذا فإنَّ الإنسانَ إذا عامَل النَّاسَ بالرِّفقِ يجِدُ لذَّةً وانشِراحًا، وإذا عامَلَهم بالشِّدَّةِ والعُنفِ نَدِم، ثمَّ قال: ليتَني لم أفعَلْ، لكِنْ بَعدَ أن يفوتَ الأوانُ، أمَّا إذا عامَلَهم بالرِّفقِ واللِّينِ والأناةِ انشَرَح صدرُه، ولم يَندَمْ على شيءٍ فَعَله.
قال الشَّافِعيُّ:
قالوا: سَكَتَّ وقد خُوصِمْتَ قُلتُ لهم
إنَّ الجوابَ لبابِ الشَّرِّ مِفتاحُ
والصَّمتُ عن جاهِلٍ أو أحمَقَ شَرَفٌ
وفيه أيضًا لصَونِ العِرْضِ إصلاحُ
إنَّ الهَدِيَّةَ حُلوةٌ كالسِّحرِ تجتَلِبُ القُلوبـــــــــا
تُدني البغيضَ من الهَوى حتَّى تُصَيِّرَه قَريبَا
وتُعيدُ مُضطَغَنَ العَداوةِ بَعدَ نُفرتِــــــه حبيبَا
كانت العَرَبُ توصي بناتِها بما يوجِبُ الأُلفةَ، فتقولُ للواحِدةِ: (كُوني له أرضًا يكُنْ لك سماءً، وكُوني مِهادًا يكُنْ عِمادًا، وأَمَةً يَكُنْ عَبدًا، وفِراشًا يَكُنْ مَعاشًا، ولا تَقْرَبي فيَمَلَّكِ، ولا تَبْعُدي فيَنساكِ، ولا تُعاصيه شَهْوَتَه، وعليكِ بالنَّظافةِ، ولا يَرَ مِنكِ إلَّا حُسنًا، ولا يَشَمَّ إلَّا طِيبًا، ولا يَسمَعْ إلَّا ما يَرضى، ولا تُفْشي سِرَّه فتَسقُطي مِن عَينِه، ولا تَفْرَحي إذا غَضِبَ، ولا تَغْضَبي إذا فَرِحَ)
إنَّ الأمانةَ فضيلةٌ ضَخمةٌ، لا يستطيعُ حَملَها الرِّجالُ المهازيلُ، وقد ضرب اللهُ المثَلَ لضخامتِها، فأبان أنَّها تُثقِلُ كاهِلَ الوجودِ، فلا ينبغي للإنسانِ أن يستهينَ بها أو يُفَرِّطَ في حقِّها؛ قال اللهُ تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب: 72] ، والظُّلمُ والجَهلُ آفتانِ عَرَضتا للفِطرةِ الأُولى، وعُنِيَ الإنسانُ بجهادِهما، فلن يَخلُصَ له إيمانٌ إلَّا إذا أنقاه من الظُّلمِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ … [الأنعام: 82] ، ولن تخلُصَ له تقوى إلَّا إذا نقَّاها من الجهالةِ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] ؛ ولذلك بعد أن تقرأَ الآيةَ التي حمَّلَت الإنسانَ الأمانةَ تجِدُ أنَّ الذين غلَبَهم الظُّلمُ والجهلُ خانوا ونافَقوا وأشركوا؛ فحَقَّ عليهم العِقابُ، ولم تُكتَبِ السَّلامةُ إلَّا لأهلِ الإيمانِ والأمانةِ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب: 73].
عن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (لا تَغُرُّني صلاةُ امرئٍ ولا صومُه، من شاء صام، ومن شاء صلَّى، لا دينَ لِمن لا أمانةَ له). وقال رَضِيَ اللهُ عنه أيضًا: (من أدَّى الأمانةَ وكَفَّ عن أعراضِ المُسلِمين فهو الرَّجُلُ) .
وقال أيضًا: (لا تَنظُروا إلى صيامِ أحَدٍ ولا صلاتِه، ولكِنِ انظُروا إلى صِدقِ حَديثِه إذا حدَّث، وأمانتِه إذا ائتُمِن).
(إنَّ تربيةَ الأولادِ وتهذيبَهم وتعليمَهم أمورَ الدُّنيا والدِّينِ أمانةٌ يجِبُ أداؤُها؛ فتوجيهُ الأولادِ للمعالي، وتربيتُهم على الفضيلةِ، وتعويدُهم على البِرِّ والأخلاقِ الحميدةِ وطَلَبِ الرِّزقِ من وجوهِ الحلالِ، وتعليمُهم الصَّلاةَ والصِّيامَ والزَّكاةَ: أمانةٌ؛ فاللهُ جَلَّ وعلا يقولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]، وقد أوضَح النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم أمانةَ تربيةِ الأولادِ في قولِه: ((ألا كُلُّكم راعٍ وكُلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه … إلخ)) الحديث) . وقال ابنُ عُمَرَ لرجُلٍ: (أدِّبِ ابنَك؛ فإنَّك مسؤولٌ عن ولَدِك: ماذا أدَّبْتَه؟ وماذا عَلَّمْتَه؟ وإنَّه مسؤولٌ عن بِرِّك وطواعيَتِه لك).
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اشترى رجلٌ مِن رجُلٍ عَقَارًا له، فوجَد الرَّجُلُ الذي اشترى العَقَارَ في عَقَارِه جَرَّةً فيها ذَهَبٌ، فقال له الذي اشتَرى العَقَارَ: خُذْ ذهَبَك مِنِّي؛ إنَّما اشتريتُ منك الأرضَ، ولم أبْتَعْ منك الذَّهَبَ! فقال الذي شَرى الأرضَ: إنَّما بِعتُك الأرضَ وما فيها! فتَحاكما إلى رجُلٍ، فقال الذي تَحاكَما إليه: ألَكُما وَلَدٌ؟ فقال أحدُهما: لي غلامٌ، وقال الآخَرُ: لي جاريةٌ، قال: أنْكِحوا الغُلامَ الجاريةَ، وأنْفِقوا على أنفُسِكما منه، وتَصدَّقا)) .فالرَّجُلُ الأوَّلُ اشترى عَقَارًا من الرَّجُلِ الثَّاني، والعَقَارُ هو الأرضُ وما يتَّصِلُ بها من البناءِ والأشجارِ، فلمَّا وجَد الذَّهبَ تورَّع عنه وعدَّه أمانةً، فرَدَّه إلى البائِعِ، لكِنَّ البائِعَ قال: إنَّما بِعتُك الأرضَ وما فيها، ولَمَّا رأى القاضي (صِدقَ نيَّتِهما ونصيحةَ كلِّ واحدٍ منهما لصاحِبِه، راعى جانِبَ كُلٍّ منهما في ذلك) ، فأمَرَهما أن يزَوِّجا ابنَ هذا لابنةِ ذاك.
مِن وصايا لُقمانَ لابنِه: (يا بُنيَّ، زاحِمِ العُلماءَ برُكبتَيك، وأنصِتْ إليهم بأُذُنَيك؛ فإنَّ القلبَ يحيا بنورِ العُلماءِ كما تحيا الأرضُ الميِّتةُ بمطرِ السَّماءِ)
مِن الخطأِ أن يظُنَّ المرءُ أنَّه مَعفوٌّ مِن الإثمِ إن حضَر مجالِسَ الباطِلِ مُنصتًا لِما يُقالُ فيها دونَ إنكارٍ أو اعتِزالٍ؛ كحضورِ المجالِسِ التي تُنتهَكُ فيها حُرُماتُ الدِّينِ، أو يُستهزَأُ فيها بالمُؤمِنينَ؛ فالمُستمِعُ شريكُ القائِلِ إذا لم يُنكِرْ عليه، قال اللهُ تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء: 140] ، (يعني: وقد نزَّل عليكم أنَّكم إن جالَسْتُم مَن يكفُرُ بآياتِ اللهِ ويستهزِئُ بها وأنتم تسمعونَ فأنتم مِثلُه، يعني: فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحالِ مِثلُهم في فِعلِهم؛ لأنَّكم قد عصَيْتُم اللهَ بجُلوسِكم معَهم، وأنتم تسمَعونَ آياتِ اللهِ يُكفَرُ بها ويُستهزَأُ بها، كما عصَوه باستهزائِهم بآياتِ اللهِ؛ فقد أتَيتُم مِن معصيةِ اللهِ نَحوَ الذي أتَوه منها؛ فأنتم إذًا مِثلُهم في رُكوبِكم معصيةَ اللهِ، وإتيانِكم ما نهاكم اللهُ عنه) ، وقال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68] ، فيجبُ أن يُنزِّهَ الإنسانُ سمعَه كما يُنزِّهُ لسانَه، وقد أنشَد بعضُهم:
فسمعَك صُنْ عن سماعِ القبيحِ كصونِ اللِّسانِ عن النُّطقِ بهْ
فإنَّك عندَ سمــــــــاعِ القبيـــــحِ شريكٌ لقائِلِـــــــه فانتبِـــــــهْ
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: ماجد دودين قال تعالى فی معاملة علیه وسل قال ابن ى الله هم على
إقرأ أيضاً:
ملتقى الجامع الأزهر: رسولنا حث على طلب الشفاء وعدم الاستسلام للمرض
عقد الجامع الأزهر اليوم، الاثنين، الملتقى الفقهي الثامن عشر بعنوان «رؤية معاصرة»، وذلك تحت عنوان: «فقه التداوي بين الشرع والطب»، برعاية كريمة من فضيلة الإمام الأكبر د. أحمد الطيب، شيخ الأزهر، وبتوجيهات من فضيلة أ.د محمد الضويني، وكيل الأزهر الشريف.
واستضاف اللقاء كلًّا من د. أحمد ربيع، أستاذ أصول اللغة ووكيل كلية اللغة العربية للدراسات العليا سابقًا بجامعة الأزهر، ود. إسلام شوقي عبد العزيز، أستاذ ورئيس قسم أمراض القلب بكلية الطب جامعة الأزهر بالقاهرة، وأداره الشيخ أحمد الطباخ، مدير المكتب الفني بالجامع الأزهر، وذلك عقب صلاة المغرب بالظلة العثمانية.
ملتقى الأزهر يناقش إيجابيات وسلبيات شبكات التواصل الاجتماعي.. غدا
رسالة الأنبياء مستمرة.. سلامة داود: الأزهر حامل لواء الإصلاح في العالم
مفتي الجمهورية: الأزهر مصدر رائد في صناعة المجدّدين والمصلحين
البحوث الإسلامية يشارك في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الأزهر وصناعة المصلحين
قال د. أحمد ربيع، أستاذ أصول اللغة، إنَّ الناظر في سلوك النبي ﷺ وتعاملاته يجدها تعاملات راقية واعية، تتلمس موطن الداء، ثم تشخص له الدواء، مستنيرةً بنور الوحي، ومستلهمةً من هدي الله تعالى الذي علّمه لنبيّه الكريم ﷺ. وقد سمعنا تلاوةً مباركة من كتاب الله، فيها قوله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾، وهي آية تؤكد أن للقرآن الكريم وظيفة علاجية روحية، تتكرر الإشارة إليها في مواطن متعددة، منها قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء﴾.
وأضاف فضيلته أنَّ القرآن الكريم يُعامل بوصفه وسيلة من وسائل الشفاء، والنبي ﷺ نفسه تعامل معه على هذا النحو، يعلمنا بذلك أن الله تعالى هو الشافي الحقيقي، وأن الطب وغيره من الوسائل إنما هي أسباب مأذون بها شرعًا للوصول إلى الشفاء، قال تعالى على لسان نبي الله إبراهيم: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾، فالنبي ﷺ كان إذا أتاه مريض، رقاه وقال: «اللَّهُمَّ ربَّ الناس، أذهب البأس، واشفِ أنتَ الشافي، لا شفاءَ إلا شفاؤك، شفاءً لا يُغادِرُ سقمًا».
وأشار د. ربيع إلى أن الطبيب ما هو إلا وسيلة سخّرها الله ليدلّ بها على الدواء، لكن الشفاء في حقيقته من عند الله وحده. وقد ورد إلى النبي ﷺ مرضى فقرأ عليهم ودعا لهم، كما في قصة المرأة التي كانت تُصرع فينكشف جسدها، فطلبت منه ﷺ أن يدعو الله لها، فخيّرها بين الصبر ولها الجنة، أو الدعاء بالشفاء، فقالت: بل ادعُ الله ألا أتكشف، فدعا لها بذلك.
وختم د. ربيع حديثه بالتنويه بدور علماء المسلمين في الطب، كابن سينا وابن النفيس وغيرهم، الذين أسهموا في النهضة الطبية، وكانت كتبهم تُدرّس في أوروبا قرونًا، مشيرًا إلى أن الأزهر الشريف لا يزال يحمل هذا الإرث في خدمة العلم والإنسانية.
من جانبه، قال الدكتور إسلام شوقي إن التداوي أمرٌ عظيم الشأن، بل هو في غاية الأهمية، لأنّه يمسّ صميم الإنسان، ويتعلق بصحّته وحياته. والتداوي كما بيّن أهل العلم: هو استعمال ما يكون به الشفاء بإذن الله تعالى، من علاجٍ أو دواءٍ أو رُقًى شرعية، أو اجتنابٍ لبعض الأطعمة، أو تناولٍ لأخرى، أو علاجٍ طبيعيٍّ كرياضةٍ أو نحوها. فكلّ ذلك يندرج تحت مفهوم التداوي المشروع. وهناك حديث أصيل في هذا الباب، وهو ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله ﷺ قال: «ما أنزلَ اللهُ داءً إلّا جعلَ له شفاء»، وفي رواية مسلم عن جابر: «فإذا أصابَ الدواءُ الداءَ، برأ بإذن الله»، وزاد النبي ﷺ في الحديث: «علِمَه من علِمَه، وجهِله من جهِله».
وأضاف أستاذ ورئيس قسم أمراض القلب بالأزهر أنه قد ورد في «صحيح أبي داود» من حديث أُسامة بن شريك رضي الله عنه أنَّ رسول الله ﷺ قال: «تَداوَوا؛ فإنَّ اللهَ عزّ وجلّ لم يضعْ داءً، إلّا وضع له دواء، إلّا الهرَم»، أي التقدُّم في السن. وهذا يُبيِّن أن كل داءٍ له دواء، وأنه لا يُستثنى من ذلك إلا الشيخوخة؛ فإنها أمرٌ طبيعيٌّ جارٍ بقدر الله، لا يُعالج ولا يُرد. وفي هذا الحديث دعوةٌ واضحة إلى عدم الاستسلام للمرض، بل السعي في طلب الشفاء، فإنّ الطبّ والرُقية والدواء كلُّها أسباب مأذونٌ بها شرعًا.
وأشار د. إسلام إلى أن بعض الناس ـــ قديمًا وحديثًا ـــ يُعارضون التداوي بدعوى أنّ المرض من قَدَر الله، وأنّ ترك العلاج هو تسليمٌ ورضًا بالقضاء! وهذا فهمٌ فاسد، فإنّ النبي ﷺ ردّ على مثل هذا الفهم حين سُئل عن الرقى والدواء والتوقّي من المرض: هل يردّ ذلك من قدر الله شيئًا؟ فقال ﷺ كما في حديث ابن أبي خزامة عن أبيه: «هي من قدر الله». فما أعظم هذا الجواب، وما أفقهه! الدواء من قَدَر الله، كما أنّ المرض من قَدَر الله، والسعي في دفع البلاء لا يُنافي الرضا، بل هو من كمال التوكل.
وفي ختام هذا الملتقى المبارك، أشار الدكتور أحمد الطباخ، مدير المكتب الفني بالجامع الأزهر، إلى أنّ ملتقى اليوم يجسّد بحقّ رسالة الأزهر في العناية بالإنسان جسدًا وروحًا، وأنّ الشريعة الإسلامية ما جاءت إلا لصيانة الإنسان وتهذيب فطرته وتوجيهه إلى سبل الخير والرشاد.
وأكّد أنّ ما طُرح من رؤى فقهية وطبية أصيلة إنما هو لبنة في بناء وعيٍ رشيد، يُحسن التعامل مع السنن الكونية، ويستمسك بجوهر التوكل مع تمام الأخذ بالأسباب، داعيًا إلى دوام مثل هذه اللقاءات التي تربط العلم الشرعي بالواقع، وتحفظ للإنسان كرامته في كل أحواله.