صحيفة الاتحاد:
2025-05-10@05:15:54 GMT

غواية الغرب.. تفكيك أسطورة

تاريخ النشر: 15th, February 2024 GMT

د. عز الدين عناية
قلّة في عالم الجنوب ظلّت في مأمن مما يمكن تسميته «غواية الغرب»، ولو رُمنا توصيف هذه الغواية، لقلنا إنها وصفة محكمة من «الاستلاب الثقافي». وقد تنبّهَ عدد من المفكرين الكبار، ممّن عملوا على تفكيك هذه الظاهرة في حدود الموضوعية العلمية، إلى ضرورة فهمها واحتواء آثارها. ومن هؤلاء المفكر العربي د.

حسن حنفي، والمفكر نعوم تشومسكي، وعالم الاجتماع شموئيل نوح إيزنستادت. وفي كتاب من تأليف الكاتب الإيطالي ماسيمو كامبانيني حوْل المفكر المصري حسن حنفي، اعتبر أنّ علاقة العرب المضطربة بالغرب، تعود في شقّ واسع منها إلى ما سمّاه عدم التناصُت. لاختلاف «الطبقات الفهمية» على غرار تنافر «الطبقات الصوتية»، وكأنّ هناك تفاوتاً في التسامُع يصدّ عن الإصغاء العادي. وأنّ العرب ليس أمامهم سوى تطوير نظر علمي، بحسب ما دعا إليه حنفي في «مقدمة في علم الاستغراب»، لتحقيق تخاطب سوي مع الغرب، والخروج من ثنائية الغواية المفرطة والكره الأعمى.

الحداثات المتعدِّدة
أمّا مع نعوم تشومسكي، الذي قضى ردحاً من حياته ولا يزال في مقارعة ما يعتبره سطوة الغرب الثقافية على العالم، فهو يدعو إلى تحرير الوعي الجمعي من أوهامه، ولهذا عدَّ نزع تلك الغشاوة بمثابة العمل العلمي الموازي لاهتماماته ودراساته الألسنية. فكلاهما يسير قدماً لترسيخ منظور موضوعي مجرّد لما يحيط بالإنسان من ظواهر. هذا في حين جاءت النظرة مع عالم الاجتماع شموئيل إيزنستادت من باب مراجعة مفهوم الحداثة الغربية المحوري، بهدف التحرر من ذلك الإغواء الآسر! فلطالما ساد النظر إلى الحداثة على أنها بمثابة «الحاوِية المعبَّأة» ببعض الخصوصيات الثقافية، وأن المجتمعات التوّاقة إلى هذا المغنم، لا مناص لها من القبول بالحمولة كلّها. وهو ادّعاء ساد على مدى عقود طويلة في النظر إلى هذا المنجَز البشري، وخلّفَ أنواعاً شتى من الاستلاب. وقد كشف إيزنستادت زيف هذا الفهم الأحادي للحداثة، وما ينطوي عليه من تجنٍّ بصهْرِ الحضارات في بوتقة الحضارة الغربية، ولذا فقد عمِل على إدراج تحوير جذريٍّ بطرح مقولةِ «الحداثات المتعدِّدة»، في مقابل الحداثة الوحيدة. فعالَم متعدِّدٌ هو أحوج ما يكون إلى فهْمٍ متعدِّدٍ، وهكذا راعى إيزنستادت ديناميات التعدّد، ومن ثَمّ إمكان أن تبنيَ تكتلات حضارية جنوبية حداثتها من داخل أنماطها الخاصة، بعيداً عن الخيارات «الإلزامية» الواحدة.

المعايشة والتجربة
والحال أن الإشكال الذي نعيشه مع «غواية الغرب» وجاذبيته، أن الأمر يتمكّن من شرائح واسعة في مراحل مبكرة، وقد يطمس إحساسها الفطري ويؤثر في مقدّراتها الذهنية، لفقدان «المضادات الحيوية» الثقافية التي تحدّ من انتشار بريقه. فالانبهار داء مستفحل أحياناً، في الشارع والجامعة، وفي اللغة والفرجة، ولدى المثقفين والأمّيين على حد سواء، بشكل يدعو للدهشة. 
ومن واقع التجربة، قبل مغادرتي البلاد العربية، أي منذ زهاء ثلاثة عقود، لما كنت أتّقد حماساً للتغيير والتجديد، لا أزعم أنني كنت معافًى من هذه الغواية. فقد كانت البوصلة متجهة صوب الغرب، وكان الآخر -أقصد الغرب- هو «النعيم» بالنسبة إليّ، وكان يصعب أن أرى بعين الشاب الغضّ ما أراه اليوم بعين تطلّ على الستين. والمسألة ليست أن يصير المرء طاعناً في السن حتى يصحو، بل هي المعايشة والتجربة لمن تيسّر له ذلك والعلموية في النظر للأشياء لمن عازه التواصل المباشر. فعملية الصحو، تشبه الدخول إلى مغطس، فيه التداوي بالذي كان هو الداء، أي بالغرب ذاته، بالانغماس فيه بحلوه ومرّه، والعيش في تجاويفه وفهم روحه.
فما معنى أن يزحف ألوف البشر نحو الغرب وهم يمنّون النفس بما يشبه «الجنة» يدفعهم الإغراء والإغواء؟ ليجدوا أنفسهم يتكدّسون في الشوارع والمحطات، وحول الكنائس ودور المساعدات كالسردين. كأنها غواية الفراشات حول النار التي تغدو جزءاً من تكوينها الغريزي. 

أخبار ذات صلة محمد الشرقي يلتقي مدير «السياحة والآثار» بالفجيرة «أوبنهايمر».. صراع العلم والضمير

قطع طريق التواصل
في كتاب مهمّ للأنثروبولوجي الفرنسي جان-لو آمسال بعنوان «إسلام الأفارقة.. الخيار الصوفي» (2018)، يرصد فيه مساعي حازمة من قِبل أطراف أكاديمية غربية لإبعاد شعوب جنوب الصحراء عن حاضنتهم المغاربية، وفك أواصر الصلة بين تومبكتو وفاس والقيروان والزيتونة. ومحاولة قطع طريق التواصل الضارب في عمق التاريخ بين تلك الحواضر، وذلك بالعمل على اختلاق ما يُشْبه الهوية «الإفريقية الزنجية» في مقابل الهوية «الإفريقية المغاربية». 
وكما يشرح جان-لو آمسال عادة ما يُعرَض «المخزون الحضاري الأسود» في مقابل «المخزون المغاربي» و«المخزون الشرق أوسطي» و«المخزون الخليجي»، وهي محاولة لفصل المخزون الإفريقي عن مجاله الطبيعي. ويبيّن آمسال أن مدرسة مرسال غريول الأنثروبولوجية قد لعبت دوراً حاسماً في هذا الشرخ، إلى حدّ أنها سعت لتحويل اللّغةَ العربية في غرب أفريقيا إلى «بلوى حضارية»، أضحى معها الحرف العربي، في لغات بعض بلدان ما وراء الصحراء، حرفاً لكتابة التمائم والطلاسم والتعاويذ، في مسعى للإيحاء ضمناً بأن العربية عنوان «التخلّف» و«الجمود».

الهشيم الثقافي
لماذا أوردنا هذا الحديث بشأن محاولات زعزعة المكون الحضاري الأفريقي؟ نقول ذلك لأن غواية الغرب قد بدأت مع تفكيك إيمان الأفارقة بذواتهم وأن لهم رصيداً جامعاً، يستظلون بظلّه في الأيام العصيبة. في حين مع غياب ذلك الرصيد، أو في حال طمسه، قد يصبح من السهل تمرير الأساطير والأخاييل في الوعي الجمعي والثقافة الهشة، فتمسي المعيارية الغربية الأكثر حضوراً في الهشيم الثقافي.
والسؤال المطروح هو: ما العمل أمام غواية الغرب؟ الملاحظ أن جملة من الأوهام تسري أحياناً في عالم الجنوب، بأن الغرب حاضن المثقفين والدارسين والمبدعين الوافدين من عالم الجنوب! فكم من فلاسفة جاءوا إلى الغرب من شرق أوروبا، مع انهيار جدار برلين، صاروا عمال حظائر وصنّاع بيتزا؟ وكم من شعراء وفدوا من المشرق قضوا حياتهم حراساً في العمارات السكنية، لتُقبَر معهم أحلام الفكر والثقافة إلى الأبد؟ ليس لأن الغرب يسدّ الأبواب أمامهم، ولكن لأن هناك بنية ثقافية حضارية تعليمية ينبغي على الوافد امتلاكها وهي ليست بالأمر الهيّن.
«سيرة الامتنان»!
الشاعر الإريتري الإيطالي حميد بارولي عبدو في كتاب بعنوان «سيرة الامتنان» (2023)، وهو عبارة عن سيرة ذاتية، أو لنقل خلاصة تجربة في العمل في مجال الهجرة والمهاجرين في إيطاليا، اعتبر أن المتاجرة بالمهاجرين في بلد الرحيل وبلد النزول هي ظاهرة استرقاق جديدة. ومن ضمن ما يورده في الكتاب حديث حول ما يعرف اليوم بـ«النسوية الإسلامية» والتحمس المفرط لها في إيطاليا -وكأن المرأة الإيطالية التي نالت حق الطلاق (1970) وحق الإجهاض (1978) سباقة في هذا المجال! ويكشف أن الجمعيات النسوية «المدافعة» عن المرأة العربية، ضحية «الذكورية المفرطة»، كما تصوَّر، تجني من كل حالة تفكيك أسري (طلاق) 2000 يورو، وفي الوجه الآخر من الميدالية -على ما يورد بارولي عبدو- تجد المرأة العربية المهاجرة الأكثر تهميشاً في سوق الشغل ومعاناة من البطالة القسرية.
وهكذا يتبين جلياً أننا كثيراً ما نصنع أساطير ثقافية حول الغرب ونقع ضحية لها، والحل يكمن في تفكيك الأساطير والنظر للأمور بواقعية.

المصدر: صحيفة الاتحاد

إقرأ أيضاً:

الدبلوماسية السورية تتحرك نحو الغرب.. الشرع يبدأ من فرنسا

باريس-رويترز 

يزور الرئيس السوري أحمد الشرع باريس اليوم الأربعاء، في أول رحلة له إلى أوروبا منذ الإطاحة ببشار الأسد في ديسمبر كانون الأول، وذلك في إطار سعيه للحصول على دعم دولي لجهوده الرامية إلى تحقيق المزيد من الاستقرار في بلده التي مزقتها الحرب.

وحصل الشرع، الذي سيجري محادثات مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على إعفاء من الأمم المتحدة للسفر إلى باريس إذ لا يزال مدرجا على قائمة عقوبات الإرهاب بسبب قيادته السابقة لجماعة هيئة تحرير الشام الإسلامية المسلحة، وهي جماعة كانت تابعة لتنظيم القاعدة.

وقال مسؤولون فرنسيون إن الرئيسين سيناقشان كيفية ضمان سيادة سوريا وأمنها، وطريقة التعامل مع الأقليات بعد الهجمات في الآونة الأخيرة على العلويين والدروز، وجهود مكافحة الإرهاب ضد مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية وتنسيق المساعدات والدعم الاقتصادي، بما يشمل تخفيف العقوبات.

وقال مسؤول في الرئاسة الفرنسية "من الواضح أنه نظرا للتحديات الهائلة التي تواجه سوريا، فإن هناك توقعات لدعم من فرنسا ومن شركاء سوريا الدوليين الرئيسيين"، مضيفا أن باريس ليست ساذجة فيما يتعلق بصلات الشرع السابقة مع المتشددين ولا تزال لديها مطالب بشأن العملية الانتقالية.

وتابع "هناك دور واضح يجب على المجتمع الدولي أن يضطلع به في سوريا لتمكين استقرارها."

رحبت فرنسا بسقوط الأسد، وعززت علاقاتها بشكل متزايد مع السلطات الانتقالية بقيادة الشرع. وعقد ماكرون مؤخرا اجتماعا ثلاثيا عبر رابط فيديو مع الشرع والرئيس اللبناني جوزاف عون، في إطار جهود رامية لتخفيف التوتر على الحدود.

مقالات مشابهة

  • ملك المغرب يعطي انطلاقة إحداث منصة المخزون والاحتياطات الأولية للصمود في مواجهة الكوارث
  • تفكيك عصابة واعتقال مطلوبين بالخطف والسرقة في محافظتين
  • سردية أسطورة الصمود الفلسطيني
  • الملك يعطي انطلاقة إحداث منصة المخزون والاحتياطات الأولية لجهة الرباط- سلا- القنيطرة
  • بعد 19 شهرا من الدمار.. صحيفة تكشف دعم الغرب لجرائم إسرائيل بغزة
  • الملك يعطي انطلاقة إحداث منصة المخزون والاحتياطات الأولية لجهة الرباط- سلا- القنيطرة لمواجهة الكوارث
  • “فايننشال تايمز” :صمت الغرب عن معاناة غزة مُخز
  • فايننشال تايمز: صمت الغرب عن غزة مخز
  • بعد عِقْديْن من المجد.. لماذا نودِّع أسطورة سكايب وما البديل؟
  • الدبلوماسية السورية تتحرك نحو الغرب.. الشرع يبدأ من فرنسا