د. سلمان محمد أحمد سلمان*

1
تحدّث الفريق البرهان خلال كلمةٍ مصورةٍ أمام ضباط وضباط صف من القوات المسلحة السودانية يوم الثلاثاء 30 يناير 2024 عن المبادرات التي تمّ طرحها مؤخراً لمساعدة السودان في وقف الحرب المدمرة التي اجتاحت البلاد منذ منتصف ابريل الماضي. قال البرهان في كلمته "أي حل من خارج السودان لن يستمر ولن يصمد ولا أحد يقدر يفرض علينا حاجة.

" وواصل البرهان حديثه ليتطرّق إلى مبادرة الإيقاد قائلاً "منظمة الإيقاد من وجهة نظرنا لاتعنينا وغير معنية بالشأن السوداني."
وكانت وزارة خارجية حكومة البرهان قد أعلنت يوم السبت 20 يناير عام 2024 تجميد عضوية السودان في إيقاد بشكلٍ كامل. وقد عزت الحكومة ذلك إلى ما أسمته الانتهاكات الصريحة لسيادة السودان بواسطة منظمة ايقاد.
وقد سبق ذلك إعلان الحكومة يوم الثلاثاء 16 يناير عام 2024 تجميد التعامل مع منظمة إيقاد بشأن ملف الأزمة الراهنة في السودان. أرجعت الحكومة قرارها إلى سببين. السبب الأول ما وصفته الحكومة بتجاوزاتٍ ارتكبتها إيقاد بتضمين الوضع في السودان ضمن جدول أعمال القمة الاستثنائية الثانية والأربعين لرؤساء دول وحكومات إيقاد التي تم عقدها في العاصمة الأوغندية كمبالا يوم الخميس 18 يناير 2024 دون التشاور مع السودان. اما السبب الثاني فهو دعوة الإيقاد لقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو لحضور الاجتماع الأمر الذي اعتبرته حكومة البرهان انتهاكاً لسيادة السودان، فضلاً عن كونه مخالفة جسيمة لمواثيق إيقاد والقواعد التي تنظم عمل المنظمات الدولية والإقليمية.
وكأنّ هذا الارتباك لا يكفي فقد أعلنت حكومة البرهان بعد إصدارها كل التصريحات أعلاه "الإيقاد لم تعد محايدة، ونرحّب بجهود زعمائها بشكلٍ منفرد."
سوف نتناول في هذا المقال حالة الارتباك و التخبّط التي تسود حكومة البرهان فيما يختص بالتعامل مع منظمة إيقاد منذ نشوب الحرب في منتصف ابريل 2023، ونوضّح أن تدخّل الإيقاد في قضية الحرب في السودان تم بناءً على طلب البرهان نفسه، وبإلحاح، وأنه سافر إلى معظم دول الإيقاد ليحثَّ قادة هذه الدول على التوسّط في النزاع السوداني. كما سنناقش التناقضات الكثيرة والكبيرة التي تضمنتها البيانات الحكومية في التعامل مع مقررات الإيقاد.
سنقارن ذلك الوضع بالارتباك والتخبط الذي تعاملت به حكومة البشير مع مبادرة إيقاد لحلِّ قضية جنوب السودان والتي بدأت بطلبٍ من الحكومة، وبإلحاح أيضاً، لوساطة إيقاد، ثم رفض الحكومة مبادرة الإيقاد بصورة قاطعة، قبل أن تعود بعد سنوات قلائل لقبول المبادرة كما هي.
وسوف نحاول الإجابة على السؤال إن كان ارتباك البرهان سوف ينتهي مثلما انتهى ارتباك بالبشير بالعودة وقبول وساطة الإيقاد ومقرراتها.

2
كما ذكرنا في مقالٍ سابق فإن الاسم الكامل لمنظمة إيقاد باللغة الإنجليزية هو:
The Intergovernmental Authority on Development (IGAD) – إيقاد
والترجمة العربية السائدة لمصطلح "إيقاد" هي "الهيئة الحكومية المشتركة للتنمية."
الإيقاد منظمة تمّ إنشاؤها عام 1986 بواسطة دول شرق أفريقيا (إثيوبيا وجيبوتي وكينيا ويوغندا والسودان والصومال) لمواجهة التصحُّر والجفاف في الإقليم. عدّلت هذه المنظمة أهدافَها لِتُركّز على التنمية (والتي تشمل محاربة التصحّر والجفاف بالطبع)، والتعاون السياسي والاقتصادي. وقد انضمت إليها إريتريا عام 1993، ثم دولة جنوب السودان في عام 2011 ليرتفع عدد أعضاء المنظمة إلى ثمانية.
تُعدِّد المادة السابعة من الاتفاقية المنشئة لمنظمة إيقاد (والتي وافق وصادق السودان عليها مع بقية دول الإيقاد السبعة الأخرى) أهداف المنظمة. وتشمل هذه الأهداف في الفقرة السادسة من المادة السابعة الأتي:
"الترويج لاستتباب السلام والاستقرار في الإقليم وإنشاء آلياتٍ لمنع وإدارة وحلِّ المنازعات داخل الدولة العضو، وبين دول المنظمة."
استناداً على هذه المادة من اتفاقية إيقاد، فقد لعبت المنظمة دوراً مُعتبراً في حل النزاع الصومالي-الصومالي، والإثيوبي -الاريتريي، والإثيوبي- الإثيوبي، وشارك السودان في عددٍ من اللجان التي تم تكوينها لكلٍ من هذه المهام. وقد كان دور الإيقاد أكبر في حلِّ قضية جنوب السودان، و قادت وساطتها إلى التوصّل إلى بروتوكول مشاكوس عام 2002، ثم اتفاقية السلام الشامل (اتفاقية نيفاشا) عام 2005. واستمراراً لهذا الدور المنوط بها بمقتضى دستورها وتجربتها السابقة فقد تدخّلت الإيقاد في حرب السودان الحالية.
3
بعد أسابيع قليلة من نشوب الحرب في السودان بدأت دول الإيقاد الاتصال فيما بينها للاتفاق على مبادرةٍ لوقف الحرب في السودان استناداً على المادة السابعة من اتفاقية إيقاد التي أوردناها أعلاه. نتج عن تلك الاتصالات عقد قمة طارئة لإيقاد في دولة جيبوتي في 12 يونيو عام 2023. تم الاتفاق خلال ذلك الاجتماع على مبادرة نصّت على تشكيل لجنة (أو آلية) رباعية شملت كينيا وجيبوتي وإثيوبيا وجنوب السودان، برئاسة الدكتور ويليام روتو رئيس جمهورية كينيا. انبنت المبادرة على تعزيز سبل الحل السلمي التفاوضي لوقف الحرب في السودان، مع إعطاء الأولوية لمشاركة المدنيين وقيادتهم لعملية الحل السياسي الذي ينهي الحرب ويؤسس لمخاطبة جذور الأزمة السودانية. شملت المبادرة تنظيم لقاءٍ بين قائد الجيش السوداني وقائد قوات الدعم السريع لتفعيل المبادرة والمضي بها قُدماً. يُلاحظ أن هذه هي نفس الأهداف التي ظلت القوى الوطنية السودانية تعمل من أجلها منذ بداية الحرب.
4
بعد أسبوعٍ من اجتماعها الأول بخصوص الحرب في السودان دعت إيقاد طرفي الحرب في السودان إلى اجتماعٍ يتم عقده يوم 10 يوليو عام 2023 في العاصمة الإثيوبية مع اللجنة الرباعية لمبادرة إيقاد. وصل وفد حكومة البرهان إلى أديس أبابا يوم 9 يوليو 2023 وتم استقباله بواسطة مسئولين إثيوبيين رفيعين. غير أن حكومة البرهان قررت في الساعات الأخيرة مقاطعة اجتماعات الإيقاد احتجاجاً على رئاسة كينيا للجنة الرباعية المفوّضة من الإيقاد لحل النزاع السوداني، وإلى ما اسمته "عدم حيادية الرئس روتو في الأزمة القائمة." حدث هذا الرفض، كما ذكرنا أعلاه، رغم وصول وفد البرهان إلى أديس أبابا، وعلمه التام بعضوية ورئاسة اللجنة الرباعية منذ حوالي الشهر. من الواضح أن الحركة الإسلامية التي تملك خيوط الحل والربط في قضايا السودان في حكومة البرهان تدخّلت في اللحظات الأخيرة واتخذت قرار مقاطعة اجتماع إيقاد.
رفض رؤساء الإيقاد موقف حكومة البرهان. فالمادة السابعة من اتفاقية إيقاد لا تعطي أيّاً من طرفي النزاع الحق في تحديد كيفية تكوين اللجان ورئاستها. عليه فقد تم عقد الاجتماع في موعده وأصدر الاجتماع بياناً حثّ فيه طرفي النزاع على وقفٍ لإطلاق النار غير مشروط والسماح بوصول المساعدات الإنسانية للمدنيين في مناطف الحرب.
5
تواصلت جهود الإيقاد ومحاولاتها لعقد لقاءٍ بين طرفي الحرب السودانية. غير أن حكومة البرهان أكدت في 10 سبتمبر عام 2023 رفضها التام لوساطة الإيقاد. واعتبرت حكومة البرهان تكوين اللجنة ومخرجاتها انتهاكاً صريحاً لسيادة السودان، وذكرت في بيانها أن استضافة دولة كينيا لهذه المهمة ورئاسة الدكتور روتو للجنة "تعني سيطرة مجموعات من خارج أفريقيا على جهود تسوية الأزمة السودانية." ويبدو أن عبارة "مجموعات من خارج أفريقيا" قُصِد منه الإشارة إلى مشاركة الممثل الأمريكي الخاص وممثل الاتحاد الأوروبي للقرن الأفريقي كمراقبين لاجتماع إيقاد بخصوص الحرب في السودان.
تم الرفض لوساطة الإيقاد لهذا السبب في الوقت الذي كان منبر جدة الذي تقوده المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية يواصل مساعيه واجتماعاته لوقف إطلاق النار بحضور ممثلين للبرهان، وهو الذي رفض مبادرة الإيقاد لمشاركة دول من خارج أفريقيا. وواصلت حكومة البرهان هجومها على الرئيس روتو وتكرار التهمة بعدم حياديته، وأنه يخدم مصالح دولٍ بعينها.
6
في تلك الأثناء تواصلت الحرب في السودان، وتواصلت معها انتصارات الدعم السريع التي استولت على أربع من ولايات دارفور الخمسة. كما أحكمت قوات الدعم السريع قبضتها على أجزاء كبيرة من ولاية الخرطوم وبدأت في الاتجاه جنوباً نحو ولاية الجزيرة.
أجبرت هذه التطورات في الساحة العسكرية حكومة البرهان في بداية نوفمبر عام 2023 على العودة إلى مبادرة الإيقاد. سافر البرهان في 13 نوفمبر إلى كينيا التي كان قد كالَ لها ولرئيسها دكتور روتو في الأشهر الماضية النقد والهجوم بصورةٍ تفتقر إلى أبسط قواعد الدبلوماسية. لا بد أن القيادات الإسلامية التي تقف وراء البرهان وسياسة مواصلة وتصعيد الحرب قد أحسّت أنها بحاجةٍ إلى التقاط أنفاسها بعد تلك الانتصارات لقوات الدعم السريع. كما أن هذه القيادات لها خبرة واسعة في إرباك وتشتيت جهود إيقاد في السودان، اكتسبتها خلال فترة حكم البشير، كما سنوضح في المقالات القادمة.
رغم ذلك الهجوم على الإيقاد وعلى الرئيس روتو فقد طلب البرهان في تلك الزيارة، وبالحاحٍ شديد، العودة إلى وساطة الايقاد لحل مشكلة الحرب في السودان. وافق الرئيس روتو على عرض الأمر إلى بقية أعضاء الآلية الرباعية، وكذلك على رؤساء دول وحكومات الإيقاد. لا بد من الإشارة إلى التمثيل الدبوماسي الرفيع الذي تم استقبال ووداع البرهان به عند زيارته لكينيا، رغم نقده وتجريحه لدولة كينيا ورئيسها.
7
رحبت الإيقاد بطلب البرهان، وعقدت يوم السبت 9 ديسمبر عام 2023 الاجتماع 41 الاستثنائي لرؤساء دول وحكومات منظمة الإيقاد في مدينة جيبوتي، عاصمة دولة جيبوتي، لمناقشة الوضع في السودان. ترأس الاجتماع السيد إسماعيل عمر جيلى (أو جيلة كما تُكتب أحياناً أخرى) رئيس جمهورية جيبوتي ورئيس منظمة إيقاد في ذلك الوقت. حضر الاجتماع أربعةٌ من رؤساء الدول والحكومات هم الدكتور أبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا، والدكتور ويليام روتو رئيس جمهورية كينيا، والسيد حسن شيخ محمود رئيس جمهورية الصومال والفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني. حضر الاجتماع أيضاً كلٌ من وزرير الخارجية من دولة جنوب السودان، ووزير الدفاع من دولة ويوغندا. كما حضره كلٌ من السكرتير التنفيذي لمنظمة إيقاد، ورئيس الاتحاد الأفريقي، والمبعوث الخاص للسكرتير العام للأمم المتحدة للسودان (السيد رامتاني العممارة)، وسفير دولة المملكة العربية السعودية لدولة جيبوتي، والمبعوث الأمريكي الخاص للقرن الأفريقي، والمبعوث الخاص للاتحاد الأوروبي لجمهورية جيبوتي ولمنظمة إيقاد، والممثل الخاص للإيقاد بجنوب السودان.
هذا التمثيل الكبير ومستواه الرفيع يوضحان بجلاء الأهمية التي أولتها وتوليها هذه الدول والمنظمات للدور الذي يمكن أن تلعبه الإيقاد في حل مشكلة الحرب المشتعلة في السودان.
حضر الفريق البرهان الاجتماع ونسي (أو تناسى) تماماً هجومه الحاد على الإيقاد واتهامها بانتهاكاتها لسيادة السودان. كما نسي أيضاً أثناء جلوسه مع هذا العدد الكبير من الدبلوماسيين من خارج أفريقيا اتهامه للإيقاد بالسماح بمشاركة دول من خارج أفريقيا في قضية السودان.
8
أصدر الاجتماع الاستثنائي بياناً مطولاً عن الحرب في السودان، وعن ما تم الاتفاق عليه في ذلك الاجتماع. أشار البيان بوضوح إلى اتفاق الجنرال البرهان والجنرال حميدتي على مقترح الوقف الدائم لإطلاق النار بدون شروطٍ مسبقة، وحلِّ النزاع من خلال الحوار السياسي، وعلى عقد اجتماعٍ مباشرٍ بينهما. كما أكد البيان ضرورة مساعدة السودان في الوصول إلى حكمٍ بقيادة مدنية تقوم بتحديد سبل ووسائل الحكم الرشيد للمجتمع السوداني، وتأخذ بالبلاد إلى الديمقراطية المدنية، وتساعد السودانيين في إجراء حوارٍ سوداني بغرض الوصول إلى إجماعٍ وطني لفترةٍ انتقاليةٍ مدنيةٍ تقود إلى انتخابات نزيهة وشفافة. كما أقرّ الاجتماع إنشاء إطارٍ للإيقاد يتكون من دبلوماسيين وسياسيين ذوي خبرة يتم تعيينهم بواسطة رؤساء دول وحكومات منظمة الإيقاد للقيام بالوساطة في السودان، وتعيين مبعوث خاص للإيقاد في السودان.
9
غير أنه وقبل أن يجفَّ الحبرُ الذي كُتِبَ به البيان الختامي للإيقاد أصدرت وزارة الخارجية السودانية التي تسيطر عليها المجموعات الإسلامية تماماً بياناً مطّولاً متضمّناً ما أسمته عدة ملاحظات على الاجتماع الاستثنائي والبيان الختامي لمنظمة إيقاد. ذكر بيان وزارة الخارجية أن ملاحظاتها وتحفظاتها على بيان الإيقاد لم يتم تضمينها "وبالتالي فإن السودان لا يعتبر هذا البيان يمثل ما خرجت به القمة "وأنه غير معنيٍ به حتى تقوم رئاسة إيقاد وسكرتاريتها بتصحيح ذلك." واختتمت وزارة الخارجية بيانها بالفقرة الآتية: "بما أن أياً من هذه الملاحظات لم يتم الأخذ بها، فإن البيان يفتقد للتوافق وهو بالتالي لا يعتبر وثيقة قانونية من إيقاد."
سوف نناقش ببعض التفاصيل في المقال القادم بيان وزارة خارجية البرهان الرافض لبيان الاجتماع 41 الاستثنائي لرؤساء دول وحكومات منظمة الإيقاد. وسنوضح أن هذا الرفض هو امتدادٌ للارتباك والتخبط الذي ظلت حكومة البرهان ومجموعتها الإسلامية تتعامل به مع مبادرة الإيقاد منذ صدورها في يونيو عام 2023.

* رئيس مجلس جامعة الخرطوم

Salmanmasalman@gmail.com

www.salmanmasalman.org

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: رؤساء دول وحکومات الحرب فی السودان من خارج أفریقیا حکومة البرهان منظمة الإیقاد جنوب السودان رئیس جمهوریة الدعم السریع منظمة إیقاد السودان فی البرهان فی الإیقاد فی إیقاد فی التی تم عام 2023

إقرأ أيضاً:

أوجلان والكلمة التي أنهت حربا

آخر تحديث: 12 يوليوز 2025 - 7:24 صبقلم: فاروق يوسف تخلى حزب العمال الكردستاني عن خيار الكفاح المسلح معلنا نزع سلاحه. فهل يعني ذلك اعترافا بالهزيمة؟كان عبدالله أوجلان زعيم الحزب واضحا في كلامه. الاستمرار في ذلك الخيار يعني المشي في طريق مسدودة.لقد سبق للزعيم الكردي الذي تم اعتقاله عام 1999 في سياق صفقة سياسية مبتذلة على المستوى الأخلاقي أن دعا غير مرة من سجنه إلى طي صفحة الحرب.كان من الصعب على الحزب الذي تأسس عام 1984 أن يطوي تلك الصفحة التي انطلق منها من غير أن تتغير المعادلات السياسية في تركيا. تلك المعادلات المتحجرة التي كانت قائمة على عدم الاعتراف بوجود الأكراد جزءا من التركيبة الوطنية في تركيا.

لقد أنهى أوجلان الحرب بكلمة. غير أن تلك الكلمة ما كان لها أن تكون بذلك التأثير لولا أن الواقع السياسي التركي قد قدّم لها كل أسباب القوة قاوم الأكراد تحجّر العقل السياسي التركي بطريقة تعبّر عن معرفة عميقة بتعثر إمكانية الحوار تحت مظلة وطنية جامعة. فبغض النظر عن نوع النظام الحاكم في أنقرة، دينيا كان أم مدنيا فإن الاعتراف بحقوق الأكراد القومية كان خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه، حتى أن تركيا لم تكن تعترف بوجود الأكراد قومية مستقلة وكانت تسمّيهم بأتراك الجبل.

وعلى الرغم من أن الحرب على الساحة الكردية قد كلفت تركيا خسائر بشرية ومادية هائلة فإن دولة أتاتورك كانت مستعدة لخرق القانون الدولي واحتلال أجزاء من سوريا والعراق من أجل مطاردة المتمردين الأكراد.كان خيار السلم على الأراضي التركية التي يقيم فيها الأكراد مُستبعدا حتى بعد اعتقال أوجلان. ذلك لأن حزب العمال وقد وجد له حاضنة في شمال العراق كان يأبى أن ينضم إلى زعيمه في معتقله ويستسلم. وإذا ما كان حزب العمال قد استفاد من الاستقلال النسبي للإقليم الكردي في شمال العراق فإنه استفاد أيضا من  الظرف الإقليمي المضطرب بحيث كانت تركيا حائرة في أن تحارب على أيّ جبهة، في سوريا أم في العراق أم في الداخل التركي.ولا يخفى على تركيا وهي الضليعة بمؤامرات الناتو التي هي جزء منه ما تخطط له الولايات المتحدة وهي تعمل على تأثيث وجودها في المنطقة بأسلوب استعماري جديد. كل تفكير بتركيا قوية يبدو ساذجا في ظل استضعافها محليا من خلال المسألة الكردية. ولأن تركيا بدت عاجزة عن حل مشكلة محلية فقد بات الحل الدولي قريبا. فعلى الرغم من أن تركيا كانت حاضرة  في المعالجة الدولية للمسألة السورية فإن ذلك لم يضمن لها انحياز الجانب الأميركي.يملك الأكراد اليوم تمثيلا قويا في الحياة السياسية التركية. ذلك ما يعني أن تركيا قد تغيّرت. ولأن تركيا قد تغيّرت فقد آن للأكراد أن يتغيّروا.

من المهم أن أنبه هنا إلى أن أكراد تركيا على الرغم مما عانوه من تهميش وعزل وازدراء إلا أنهم لم يطالبوا إلا بحقوقهم المدنية وهي حقوق المواطنة المتوازنة والسوية من المؤكد أن أكراد حزب العمال لم يتخلوا عن خيار الكفاح المسلح إلا بعد أن ضمنوا أن هناك حياة وطنية عادلة في انتظارهم.

من المهم أن أنبه هنا إلى أن أكراد تركيا على الرغم مما عانوه من تهميش وعزل وازدراء إلا أنهم لم يطالبوا إلا بحقوقهم المدنية وهي حقوق المواطنة المتوازنة والسوية. وكما يبدو فإن تركيا تغيرت عبر الزمن. لذلك صار على الأكراد أن يتغيّروا ويغيّروا نهجهم وطريقتهم في التلويح بمطالبهم. والأهم من ذلك أن مبدأ الكفاح المسلح لم يعد مقنعا للكثير منهم، أولئك الذين انخرطوا في الحياة السياسية التركية من خلال الأحزاب التي صار لها صوت في الشارع. كان عبدالله أوجلان حكيما ورجلا مسؤولا حين صارح شعبه بأهمية الاستجابة لتلك التغيّرات والتفاعل معها بطريقة إيجابية. فالمهم بالنسبة إليه وإلى شعبه أن يكون الهدف الذي اختاروا من أجله اللجوء إلى الكفاح المسلح قد تحقق أو في طريقه إلى أن يكون واقعا وليس الكفاح المسلح هدفا في حد ذاته. هنا تكمن واحدة من أهم صفات الزعيم العاقل. ليس من المعلوم حتى الآن ما هي الصفقة التي تخلّى حزب العمال بموجبها عن سلاحه منهيا الحرب التي أضرّت بالأكراد مثلما أضرّت بتركيا.لكن اللافت هنا أن رجلا لا يزال قيد الاعتقال منذ أكثر من ربع قرن كان قادرا على أن يقول كلمة النهاية. وهو ما يعني أن الطرفين، الكردي والتركي، يثقان بذلك الرجل الذي وهب شعبه الجزء الأكبر من عمره.لقد أنهى أوجلان الحرب بكلمة. غير أن تلك الكلمة ما كان لها أن تكون بذلك التأثير لولا أن الواقع السياسي التركي قد قدّم لها كل أسباب القوة.

مقالات مشابهة

  • عاجل | الرئيس التركي: التغيرات التي حصلت في سوريا والعراق ساعدتنا في التعامل مع الإرهاب
  • أوجلان والكلمة التي أنهت حربا
  • واشنطن تحذر.. حزب الله لا يزال منظمة خطيرة ويسعى للحفاظ على وجوده الخارجي
  • الخارجية الأميركية: حزب الله لا يزل منظمة خطيرة
  • السودان.. محامي البشير وزيرا للعدل في حكومة إدريس
  • السودان يرد على الاتهامات الأمريكية باستخدام أسلحة كيميائية أمام منظمة حظر الأسلحة
  • وزير النفط يلتقي الأمين العام لـ«منظمة أوابك» في فيينا
  • مزاعم أميركا تجاه السودان على طاولة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية
  • ديوان المحاسبة يترأس الاجتماع 62 للمجلس التنفيذي لـ«منظمة الأفروساي» في الرباط
  • بالأرقام.. القطاع الصحي في السودان ينزف في انتظار الإنعاش