وهو كهل.. وضع جان جاك روسو كتابه الشهير «الاعترافات» وهو في أواخر الخمسين من عمره، ومن أولى صفحات الكتاب نتعرّف إلى رجل نبيل صان نفسه عن الوضاعة والدّنس، فكانت شخصيته الإنسانية العالمية: الأدب، والفكر، والفلسفة، وفي جانب منه عالم نبات، أحب في طفولته الحكايات والغناء والموسيقى.. فهل من امرأة وراء هذا التكوين البشري – الأنيق؟؟.
يقول، إنه مدين لها بالميل إلى الموسيقى بل ولعه بها، ويقول إنها كانت تعرف قدراً من الألحان، وتغني بصوت عذب.. وكان صفاء روح هذه الفتاة الكريمة «عمّته» يقيها ويقي كل ما يحيط بها من أحلام اليقظة والأحزان»، ويقول إنه كلّما تذكر ذلك بالغناء كان حتى وهو كبير في السن يفاجئ نفسه بالبكاء، وحين تسعفه ذاكرته على استعادة بعض الكلمات لأغنية كانت تغنّيها عمّته كان يشرق بالدموع..، وهو يقول في مكان آخر من «الاعترافات» إن حواسّه منسجمة ومزاجه الحيّ، ويقول، إن روحه كانت رومانسية.
جاءت كل هذه الينابيع الجميلة إلى تكوين «روسو» من عروق تلك العمّة الشابة، وهو تأسيس نفسي نظيف كان كفيلاً وحده بأن يحوّل صاحب «العقد الفريد» إلى شاعر، ولكنه لم يكتب الشعر،.. ولكن من قال إن الشعر يقوم فقط على اللغة والصور والوزن، لا بل الشعر نسغ حيّ في النور الذي ينبعث من الفكر والفلسفة.
كثير من الشعراء كانوا محظوظين بأمّهات وعمّات وخالات من نوع سوزان التي كانت تغني وتظرّز من أجلها أولاً أو من أجل شبابها، وإذ بها من دون أن تعرف تفعل كل هذه الأشياء الجميلة الحميمة من جان ابن أخيها الذي كان آنذاك في نحو الثامنة من عمره.. أساسية، بل، خطيرة تلك الصبية أو الشابة أو المرأة التي تقع في حياة الطفل، ذلك أنها ستبقى قنطرة من الضوء في كل حياته، وسيظل يشرق بالدمع كلما ابتعد عن تلك القنطرة.. الكتب، والسفر، والتجارب، المغامرة، والبطولة والشجاعة. الحب والنجاح والثروة.. كل هذا وحده لا يجعل من المرء شاعراً أو رسّاماً أو فيلسوفاً في مثل شفافية روسو.. لا بد من امرأة، تومض كالجوهرة بهذه الشفافية التي تشبه الدموع، التي شرق بها «روسو» وهو كهل.
يوسف أبولوز – صحيفة الخليج
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً: