تاريخ الكتب زمن الحرب.. من اليونان القديمة حتى حرب إسرائيل على غزة
تاريخ النشر: 5th, March 2024 GMT
في طليعة العام 1939، ومع حلول ظلام الحرب العالمية الثانية، كانت مكتبات لندن تضج بالزوار. وكان الفضول والرغبة في فهم آليات الحرب والأمم المتصارعة شغل الجميع الشاغل، بالتوازي مع الأمل والتوق للمعرفة.
وعندما أجبرت القنابل الآلاف من سكان لندن على الاحتماء في محطات قطارات الأنفاق بالمدينة، غالبًا ما كان الناس يلجؤون لإنشاء مكتبات صغيرة لدعم تماسكهم معنويا.
ونشرت مجلة "نيويوركر" الأميركية تقريراً للكاتبة كلوديا روث بيربونت تلقي الضوء فيه على كيف أن الصراعات المسلحة فتحت شهية القراء على مصراعيها للكتب التي تتحدث عن الحروب، معززة مبيعات القصص الأميركية حول الصراعات السابقة.
وتناول التقرير كذلك تاريخ الكتاب منذ القدم، مستعرضا تأثير الإلياذة ومكتبة الإسكندرية كمنارات للمعرفة والثقافة. كما تطرق إلى دور الكتب في تشكيل الهويات الثقافية والوطنية، مع الإشارة إلى الأثر المدمر للحروب على المكتبات في أوكرانيا وغزة، مؤكدا الفكرة الراسخة بأن الكتب يمكن أن تكون أدوات للسلام والتفاهم الإنساني، إذا ما وُجدت الأذهان الراغبة في استيعابها وتطبيق مبادئها.
الكتاب والحربوفي كتابه "الكتاب في الحرب" يستلهم الكاتب البريطاني أندرو بيتيجري أحداث الحرب الأهلية الأميركية مسلطا الضوء على "كوخ العم توم" الرواية الرائدة لهارييت بيتشر ستو التي غيّرت وجه التاريخ بإلهامها لحركة إلغاء العبودية عام 1852، ووصف الكاتب فريدريك دوغلاس تأثيرها بأنها كلمات نابضة بالحياة ومذهلة.
وكان دوغلاس (1818- 1895) في البداية عبدًا ثم تحول إلى كاتب وناشط بارز في مكافحة العبودية والدفاع عن حقوق الأفراد من أصول إفريقية. وعام 1845، نشر دوغلاس سيرته الذاتية بعنوان "قصة حياة فريدريك دوغلاس".
وبدأت الحرب الأهلية الأميركية عام1861، بعد انتخاب أبراهام لنكولن الذي تعهد بإنهاء العبودية، مما أثار تمرد ولايات الجنوب الزراعية التي كانت تعتمد بشكل كبير على العبيد كقوة عاملة رئيسية. وشهدت هذه الحقبة تحولات كبيرة، وكان لرواية "كوخ العم توم" دور لا يُنسى في تشكيل وعي الجمهور والدفع نحو التغيير الاجتماعي خاصة أنها نجحت في تحويل القراء الباكين إلى دعاة إلغاء عقوبة الإعدام.
النجاح الباهر للرواية منح كاتبتها، هارييت بيتشر ستو، شهرة عالمية. وعند زيارتها لبريطانيا عام 1853 لحماية حقوق نشر عملها، استُقبِلت بحفاوة بالغة، حيث استقبلتها الجماهير في الشوارع وقُدمت لها عريضة ضخمة تزن أكثر من 26 باوندا (الباوند= 0,4536 كيلوغرام) موقعة من بريطانيات من جميع أنحاء العالم، تدعو إلى إنهاء العبودية. حتى الملكة فيكتوريا نفسها أبدت رغبة في لقاء ستو، مما يدل على مدى تأثير الكاتبة وروايتها.
وخلال جولتها الأوروبية، استقبلت ستو بالترحاب والاحتفال نفسه الذي لاقته في بريطانيا، مما يؤكد مكانتها كرمز للنضال ضد العبودية والعنصرية. وأصبح اسمها معروفًا عالميًا، مع تغطية من كبرى الصحف والمجلات مثل "نيويورك تايمز" و"إندبندنت" وأصبحت حضورها ثابتًا بالفعاليات الدولية التي تناهض العنصرية.
ووصف الرئيس لينكولن رواية ستو بأنها "المرأة الصغيرة التي كتبت الكتاب الذي أشعل شرارة هذه الحرب العظيمة".
وأثارت الرواية أيضًا عاصفة من الردود في الجنوب، حيث تم حرق نسخ منها وظهرت روايات مضادة تصور العبودية بإيجابية محاولة دحض الصورة الواقعية التي رسمتها ستو.
وخلال الحرب العالمية الثانية، أدرك الرئيس روزفلت أن الكتب تمثل أسلحة قوية، وشارك الآلاف في مسيرات احتجاجية ضد حرق الكتب النازية. وتم إصدار طبعات خاصة لخدمة القوات المسلحة والجنود، موفرةً لهم الراحة والتسلية وأحيانًا السلام أوقات الحرب، وكنوع من التأكيد على قوة الكتب في التنوير والترفيه.
وبرزت رواية "شجرة تنمو في بروكلين" كمثال بارز على الكتب التي لاقت استحسانًا واسعًا بين الجنود، وتلقت المؤلفة بيتي سميث آلاف الرسائل سنويًا من معجبيها في صفوف الجيش، مما أكد على الدور العميق والمؤثر الذي تلعبه الكتب في حياة الأفراد، حتى في أحلك الأوقات.
الإلياذةوتشير الكاتبة إلى أن ملحمة "الإلياذة" -التي تحكي قصة غضب أخيل وانتصاره الدموي على طروادة- لا تعتبر فقط ركنًا أساسيًا في التقليد الغربي، بل كانت أيضًا الكتاب الأكثر شعبية في اليونان القديمة. وما يضيف إلى روعتها أن الناس كانوا يأخذون أجزاء منها معهم إلى القبور والتوابيت، تقديرًا لها كنص مقدس.
واستمرت الإلياذة في إلهام الجنود والقادة الأوربيين عبر التاريخ، بما في ذلك الإسكندر الأكبر الذي رأى في نفسه أخيلًا جديدًا، ويقال أنه اصطحب الملحمة الشعرية عندما غزا الأراضي الشاسعة من مصر إلى الهند.
وتنوه الكاتبة كذلك بدور "الفُرس" وهي مسرحية كتبها اليوناني إسخيليوس وعُرضت لأول مرة عام 472 قبل الميلاد. وقد تميزت بكونها لا تتناول الأساطير كغيرها من المآسي، بل تحكي قصة حقيقية حدثت بعد معركة سلاميس، حيث شارك إسخيليوس نفسه في الدفاع عن أثينا ضد الفرس. وبشكل مبتكر، يقدم إسخيليوس الأحداث من وجهة نظر العدو، مظهرًا اليونانيين وهم يتغلبون على خصومهم بإنسانية وعمق.
تطور الكتابة والكتبفي سياق آخر، تسلط الكاتبة الضوء على التطورات التكنولوجية التي ساعدت في الحفاظ على النصوص القديمة والمخطوطات والرقع المصنوعة من جلود الحيوانات التي بدأت تحل محل ورق البردي منذ القرن الثاني قبل الميلاد، ممهدة الطريق لظهور المخطوطة، وهي نوع من الكتب يسهل حفظه ويمكن قلب صفحاته. وهذا التطور لم يكن يعني فقط تحسنًا في المتانة وإمكانية الكتابة على كلا الجانبين، بل أيضًا كان له دور كبير في نشر الثقافة التي استفادت من سهولة نقل وقراءة المخطوطات.
وتحدثت الكاتبة عن كيف أن الإمبراطور قسطنطين أمر بكتابة النصوص المقدسة على الرق، وهو ما سمح بتصنيع كتب خفيفة يمكن حملها بسهولة. وهذه الخطوة لعبت دورًا هامًا في توسيع نطاق القراءة والكتابة، مما جعل الكتب أكثر انتشارًا وتأثيرًا.
ومع تقدم الزمن، زاد الأمل في نمو المعرفة بفضل انتشار الكتب.
ووجد الورق، الذي استخدمته الصين لألف عام، طريقه إلى الغرب ببطء، مع انتشار الإسلام ومن ثم في أوروبا. لكن القفزة الحقيقية كانت باختراع المطبعة من قبل يوهانس غوتنبرغ في القرن الـ15، والتي جعلت الكتب متاحة وبأسعار معقولة للأغنياء. وهذا الاختراع لم يكن مجرد تسهيل للحياة، بل كان نورًا يبدد ظلمات الجهل، محققًا "الخلاص على الأرض" كما قال أحد الرهبان.
ولكن التاريخ يعلمنا أن القراءة لا تؤدي دائمًا إلى النتائج الإيجابية المرجوة. ففي كتابي "مكتبة ستالين" و"مكتبة هتلر الخاصة" نرى كيف أن الاهتمام العميق بالكتب من قبل هذين الديكتاتورين لم يمنعهما من ارتكاب الفظائع. وحتى الشاعر السوفيتي أوسيب ماندلستام، الذي أثار غضب ستالين بقصيدة ساخرة، وجد نفسه مضطهدًا ومنفيًا، مما يبرز الفجوة بين الأمل في الكتب وواقع السلطة القمعية. ومع ذلك، استمرت زوجته ناديجدا في الحفاظ على إرثه الأدبي، مذكرةً بقوة الأدب في مواجهة القمع.
الحرب ودمار المكتباتتشير الكاتبة إلى أن نظرة واحدة حولنا قد تجعلنا نعتقد أن القليل منا فقط قد قرأ تلك الكتب التي تلمس القلب وتلينه، لكن الزمن الراهن يحمل صورة مناقضة، إذ تظهر صورة معبرة من كييف نافذة شقة محمية بكتب مكدسة تحول دون دخول الشظايا والزجاج المتكسر، وتقدم مثالًا على شعب يقاوم العنف بالثقافة، مماثلًا لصورة متصفحي الكتب في لندن بمبنى دون سقف خلال الحرب العالمية الثانية.
وفي أوكرانيا، شهدت المكتبات دمارًا جعلها تتلاشى في الأنقاض. وفي غزة كذلك، حيث تعرضت المكتبات العامة ومكتبة سمير منصور للتدمير مرتين، تجسيدًا لهجوم على الثقافة والهوية.
وقبل الحرب، كانت مكتبة منصور تحتضن تنوعًا ثقافيًا، من كنفاني إلى "آن في المرتفعات الخضراء" للكاتبة الكندية لوسي مود مونتغمري، مرورًا بكتب "هاري بوتر" وتعكس الكتب في مثل هذه الأوقات السلام الغائب، وتشير إلى أن صفحاتها تحمل إجابات وحلول مشاكل لا نزال نبحث عنها.
وتحكي حكاية تدمير المكتبات قصة هجوم لا يرحم على الثقافات الفريدة، ليس فقط الأوكرانية والفلسطينية، بل وأيضًا الهوية الثقافية العالمية نفسها. فقبل أن تحل الحرب ظلماتها، كانت مكتبة سمير منصور ليست مجرد ركن لعرض الأدب الفلسطيني الكلاسيكي كأعمال غسان كنفاني، بل كانت أيضًا موطنًا لكتب من شتى الأنحاء بما في ذلك أعمال بالإنجليزية لشيماماندا نجوزي أديتشي وكاري فيشر وغيرهم. وفي هذه المكتبات، كانت الكتب تعد بسلام بعيد المنال، مثل لحظات هدوء في الإسكندرية العتيقة.
وتختم الكاتبة بلحظة تأمل، تصف الصدمة العميقة التي نشعر بها عندما نرى هذه الملاذات الثقافية تحت القصف.
وتلمح إلى أن الكتب الأكثر أهمية عن الحرب ربما لم تُكتب بعد، تلك التي تحمل الأمل في تغيير مسار الأحداث، مثل آمال كنفاني بمستقبل واعد.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
تأهيل إسرائيل لعضوية الشرق الأوسط
بقدر ما أظهر استمرار حرب الإبادة تصاعُد الخلاف بين إسرائيل وبين الغرب الأوروبي، بقدر ما أظهرت تداعيات وقف الحرب خلافاً متنامياً مع آخر حليف لتل أبيب أي واشنطن، وكما قدرنا سابقاً ومنذ أكثر من شهرين مرا على البدء بتنفيذ خطة ترامب بشأن غزة، فإن حكومة بنيامين نتنياهو، لم تلتزم تماماً بتلك الخطة، التي وافقت عليها على مضض، ليس من سبب إلا لأن وقف الحرب جرى دون ان تحقق هدفها بعيد المدى، وهو تهجير سكان قطاع غزة، وضم أرضه تالياً لدولة إسرائيل الكبرى، وتجلى عدم التزام إسرائيل بوقف النار من خلال قتل نحو أربعمائة مواطن، ومواصلة تدمير ما تبقى من منازل، كذلك عبر تعميق ما يسمى بالمنطقة الصفراء التي تحتلها دون ان يكون فيها سكان سبق لها وان أجبرتهم على النزوح، والأهم ان مواصلة إطلاق النار، تبقي على احتمال مواصلة الحرب قائماً في مخيلة أركان الحكومة الإسرائيلية، بما يعني بأنها منذ البادية راهنت على وقف تنفيذ الخطة عند حدود الخط الفاصل بين مرحلتيها الأولى والثانية.
والحقيقة هناك كلام كثير يمكن أن يقال، لنؤكد على أن إسرائيل اليمينية المتطرفة حالياً، تعتقد بأنها وصلت إلى اللحظة التي أعدت لها أولاً أوضاعها الداخلية، وثانياً العلاقة مع الجانب الفلسطيني، وثالثاً الشرق الأوسط برمّته ليكونوا قد باتوا جاهزين لقيام دولة إسرائيل العظمى، عبر مصطلح خادع قال به بنيامين نتنياهو علناً وصراحة قبل أكثر من عام، وهو تغيير الشرق الأوسط، والأهم هو أن نتنياهو وطاقم الحكم المتطرف يعتقد بأنه إن لم يحقق ما يصبو اليه الآن، فلن ينجح في ذلك لاحقاً، أي ان هذه الحرب ليست كما كانت سابقاتها، حيث دأبت إسرائيل على شن الحروب سابقاً بمعدل مرة كل بضع سنوات، تحتل خلالها أراضي عربية إضافية، او تحقق أهدافاً أمنية_سياسية، وحين تواجه عقدة مستعصية توافق على وقف لإطلاق النار، لتقوم بالتحضير لتحقيق ما عجزت عنه فيما بعد، هذه المرة يعتقد المتطرفون الإسرائيليون أصحاب مشروع إسرائيل العظمى والكبرى، بأن العالم يتغير بسرعة في غير صالحهم، لذلك فهذه هي فرصتهم الأخيرة، لذلك يمكن القول بأنهم غامروا لدرجة ان يخسروا تأييد الغرب الأوروبي، ويغامرون اليوم بالمراهنة حتى آخر رمق من تأييد ودعم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ذلك أن أميركا بعد ترامب ستكون ذات موقف مختلف.
لن نعيد في هذه المقالة، ما سبق لنا وقلناه عن دوافع وتفاصيل تلك الصورة، التي اتضحت خلال حرب العامين على فلسطين وعلى ست دول شرق أوسطية، لكن بالمجمل فإن كون إسرائيل كدولة بعد نحو عشر حروب خاضتها، بل بعد ما يقارب من ثمانين عاماً، على قيامها، أي منذ نشأتها حتى اليوم، والأهم بعد اربع معاهدات سلام وقعتها مع ست دول عربية، وعدد من اتفاقيات الهدنة ووقف إطلاق النار، ما زالت في حالة حرب، ليس فقط مع فلسطين، بل مع الشرق الأوسط برمّته، والأخطر بعد ان كانت تبدو في حالة حرب مع الدول العربية، بغض النظر عن كلها أو بعضها، باتت حالياً في حالة حرب مع الدول العربية والدول الإسلامية، وباختصار، باتت الشوفينية الإسرائيلية لا تكتفي بمواصلة مطالبة واشنطن بالحفاظ على تفوقها العسكري على مجمل دول المنطقة فرادى ومجتمعين وحسب، بل باتت تقول علناً بأنها تسعى لتغيير الشرق الأوسط، ولا تنكر ان طريقها لذلك هو إفراغ الشرق الأوسط من عوامل القوة العسكرية، بما يشمل تغيير الأنظمة، وأنها في سبيل ذلك تواصل شن الحرب، وأنها لا تثق بأحد، ولهذا فهي اليوم باتت في حالة حرب مع فلسطين ولبنان وسورية واليمن وإيران، فيما علاقتها متوترة مع الآخرين: مصر، الأردن، تركيا، قطر، السعودية، أي الجميع.
والحقيقة أن كون إسرائيل ما زالت في حالة حرب، منذ نشأتها، وهذا أمر لم يحدث في تاريخ العالم، سوى مع الدول الاستعمارية، نقصد المغول والبيزنطيين الذين أقاموا في مناطق شاسعة من العالم قروناً، كذلك الاستعمار في القرن العشرين، مثال الجزائر وفيتنام، يعني أو يؤكد بأن إسرائيل ورغم انه لاح وكأن اتفاقيات او معاهدات السلام التي عقدتها مع مصر أولاً ثم فلسطين والأردن، ولاحقاً مع الإمارات، البحرين والمغرب، قد وضعت حداً، او أنها قد فتحت الباب لإغلاق باب الحروب بينها وبين محيطها الشرق أوسطي، العربي والإسلامي، لكن ذلك لم يحدث، ولا حتى في عالم الرياضة، حيث هي حقل لجمع الدول، بما بينها من خلافات، حيث كان فريق الاتحاد السوفياتي في ظل الحرب الباردة يشارك في مباريات كرة القدم مع منتخبات الغرب الأوروبي في كؤوس العالم، بينما إسرائيل تشارك ضمن المنافسات الأوروبية، رغم أنها دولة آسيوية جغرافياً، وكثيراً ما انسحب المشاركون في مسابقات رياضية دولية، من دول عربية إفريقية ودول إسلامية تجنباً لمنافسة الرياضيين الإسرائيليين.
أي أن معاهدات واتفاقيات السلام والتطبيع، خاصة المصرية والأردنية منها، بقيت حبراً على الورق الرسمي، بينما كان توقيعها مناسبات لرفع وتيرة مواجهة التطبيع على الصعيد الشعبي. باختصار نريد القول، بأن إسرائيل لا قبل ولا خلال ولا بعد توقيع أربع اتفاقيات ومعاهدات سلام، صارت دولة طبيعية في الشرق الأوسط، وهي ما زالت دولة لم تحظ بشرف عضوية ذلك النادي الدولي، وربما كانت هذه الحقيقة التي لا شك بأنها تنغص حياة الإسرائيليين، أحد الدوافع التي تجعل منها شعاراً لمن يطمح في الحكم، وقد كان شعار السلام منذ ما بعد إعلان قيامها عام 48 طريقاً للأحزاب التي تنافست على الحكم خلال عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات حتى توقيع معاهدة كامب ديفيد مع مصر، أما شعار الشرق الأوسط الجديد، فقد تلا انتهاء الحرب الباردة، ورافق مفاوضات مدريد التي أجبر عليها اليمين الليكودي الحاكم عام 1991، وإعلان اتفاق أوسلو من قبل آخر حكومات اليسار، وبالتحديد من عراب أوسلو الإسرائيلي شمعون بيريس، الذي حرص على ان تشمل مفاوضات الحل النهائي مع (م ت ف) مفاوصات متعددة الأطراف، إقليمية بالطبع، لتقديم ما يغري الجانب الإسرائيلي بقيام شرق أوسط جديد، كنادٍ اقتصادي تكون لها فيه عضوية فاعلة، بالتوازي مع المفاوضات الثنائية مع الجانب الفلسطيني التي ستفضي الى الانسحاب الجغرافي.
أي أن الشرق الأوسط الجديد بمفهوم بيريس الذي بشّر به قبل أكثر من ثلاثة عقود، آخذاً بعين الاعتبار المتغير الكوني بعد انتهاء الحرب الباردة، ونشوء العلاقات بين الدول على أساس الشراكة الاقتصادية، اعتمد على أن نفوذ الدول بات مرهوناً باقتصادها وليس بتوسعها الجغرافي أو قوتها العسكرية، بينما شرق أوسط بنيامين نتنياهو، هو نقيض ذلك تماماً، حتى أن السلام عند بيريس كان يستند لمبدأ الأرض مقابل السلام، بينما عند نتنياهو يعني فرض الأمن بالقوة العسكرية، وقد كان يمكن أن يتحقق شرق أوسط جديد على أساس شراكة دوله وشعوبه في الأمن والسلام والرخاء الاقتصادي، ضمن نظام عالمي قائم على هذا المفهوم أساساً، ومثل هذا الشرق الأوسط ليس بعيداً، مع ملاحظة العلاقات البينية بين دوله، العربية والإسلامية، اي دول الخليج ومصر وكل من تركيا وايران، لكن ما حال دون ذلك هو إسرائيل بحكوماتها اليمينية التي تقول بتغيير الشرق الأوسط كله ليتوافق مع طبيعتها الاستعمارية، بينما المنطقي هو ان تتغير هي لتتوافق مع شرق أوسط طبيعي متوافق مع النظام العالمي.
هذه الوجهة هي التي ستفرض على إسرائيل التغيير الداخلي، وأهم سماته لفظ اليمين المتطرف، وإعادة التأكيد على دولة المؤسسات الديموقراطية، وذلك بالشروع فوراً في تحقيق جملة من الشروط هي: الانسحاب من ارض دولة فلسطين ومن الأراضي العربية المحتلة، وتصفية كل المناطق الأمنية، وإن كان لا بد من مناطق أمنية فعلى الجانبين، ثم تطبيق حق العودة والتعويض، مع تقديم ضمانات أمنية لدول الجوار، لأن إسرائيل هي الأقوى عسكرياً وهي التي تعتدي وتحتل، كذلك نزع الصفة الدينية عنها وبث رسالة سلام وتعايش للجوار.
وأهم أمر على إسرائيل أن تُقْدم عليه او إعلان الحدود الجغرافية النهائية للدولة، وكذلك دستورها الذي يثبت بأنها دولة طبيعية مدنية تعيش مع جيرانها وفق منطق حسن الجوار، كل ذلك يتطلب أولاً إحالة نتنياهو، عراب إسرائيل الكبرى الى المعاش السياسي، ثم إسقاط اليمين المتطرف، حتى يمكن التوصل لحل الدولتين.
الأيام الفلسطينية