فتحي الضَّو
يتذكر عُشاق كرة القدم الذين عاصروا فترتي الستينيات والسبعينيات في السودان، لاعباً موهوباً هو نصر الدين عباس المُلقب بــ (جكسا) وهذا اللقب هو تحوير لإسم جده لأبيه السير هاربرت هنري جاكسون، والذي تقلد مناصب عديدة في حقبة الاستعمار البريطاني، آخرها حاكم الإقليم الشمالي، وقد عاش في مدينة مروي التي أحبها وتزوج منها إلى أن دُفن فيها.
(2)
طافت بذهني تلك التداعيات وأنا استمع لمقابلة أجرتها قناة الجزيرة الفضائية مع الفاتح عروة فيما يشبه المذكرات أو هكذا شاء لها الجنرال. أما أنا فقد شئت الربط بين ما قام به المذكور وتعليق اللاعب العملاق نصر الدين عباس جكسا أعلاه، هذا على الرغم من أن ما بين الشخصيتين لمُختلف جداً. فقد حق لجكسا أن يضع ذلك التعليق اللطيف فخراً واعتزازاً بتاريخٍ تليدٍ كان أحد صانعيه. وأزعم بلا أدنى شك أنه كلما طافت سيرة هذا اللاعب الأسطورة، ترحم الناس عليه - حياً أو ميتاً - فقد انزوى منذ أمدٍ بعيد، شأن الذين أعطوا ولم يستبقوا شيئاً في بلادي. بيد أنه على نقيض ذلك، ينهض الجنرال الفاتح عروة على أكتاف تاريخ مالح كالح مُثقل بالآثام، فقد أراد في أزمنة الضلال (أن يصنع من الفسيخ شربات) كما يقول المثل الدارج. فظنَّ وهماً أن الجنرال في لقطة رائعة!
(3)
لعل أكثر ما يثير الدهشة أن يقدم جنرال يعده البعض من أساطين الأجهزة الأمنية على وضع الحبل حول رقبته، وذلك في الاعتراف بالمشاركة في جرائم إرهابية مُشينة. ففي معرض حديثه عن عملية أديس أبابا التي وصمت تاريخ الحركة الإسلامية بالإرهاب، قال عروة: (وصلتني معلومة عبر السيستم بتاعي تشير إلى أن هناك محاولة اغتيال سوف تتم ضد الرئيس حسني مبارك في أديس أبابا، من قبل الجماعات الإسلامية) وأضاف مؤكداً (نحن الذين دربنا هؤلاء الجماعة الذين قاموا بالعملية، دربناهم عمليات خاصة، وكنت أنا المشرف على تدريبهم) لقد داهمني العجب، فالجنرال الذي يُفترض فيه الحرفية والمهنية يُجرِّم نفسه بنفسه، وهو لا يعلم أن جرائم الإرهاب في كل التشريعات الجنائية اتخذت طابعاً دولياً ولا تسقط بالتقادم. وهب أننا افترضنا جدلاً أن الجهلاء أسقطوها عنوةً، فهل يُعقل أن تُنسى أو تُمسح من ذاكرة السودانيين، خاصةً وأن هذه العملية كانت ذات تكلفة باهظة، إذ نجم عنها ضياع أرض عزيزة من الوطن، هي مُثلث (حلايب وشلاتين وأبي رماد) وأرواح مُغرر بها. بل وحتى لو نسي السودانيون أرضهم، فهل يستطيع الجنرال – بعد اعترافه - أن يبرئ نفسه ويمسح تاريخه من قائمة المجرمين الذين شاركوا في تلك العملية الرعناء، علماً بأن الذين خططوا لها وهندسوها ونفذوها ما زالوا ينكرون ويُكابرون!
(4)
ليس هذا فحسب، فالجنرال الذي اختلطت عليه حسابات الحقل والبيدر، تبرع باعتراف آخر من نفس الشاكلة الإرهابية وبذات المفردات التي وضعت الحبل حول رقبته في عملية أديس أبابا، إذ قال: (نحن الذين دربنا مجموعة جبهة الإنقاذ الليبية على العمليات الخاصة، وذلك للقيام بعملية باب العزيزية لاغتيال القذافي في عقر داره، وكنت أنا المشرف عليها.. كنت جزء أساسي فيها) وهو اعتراف رغم تقادم سنينه، ورغم أن الديكتاتور الذي استهدفته ذهبت روحه إلى بارئها وكذا الديكتاتور الذي كان الجنرال أحد سدنته، إلا أن هذا وذاك لن يُبرآه من وصم الإرهاب، ولن ينقص من هوية العملية حبة خردل، فالاعتراف سيد الأدلة، كما هو معلوم.
(5)
الجنرال الذي أكثر من الضحك فيما لا طائل يُجنى من حواره، أضفى بعض المفاهيمً المنفرة لعمل الأجهزة الأمنية، وإن كانت تتسق وطبيعة الأنظمة الديكتاتورية. ففي رده على سؤالٍ عن طبيعة العمل في الظلام - على حد تعبير مُحاوره – قال: (الحكاية دي للشخص الذي تعود عليها هي في حد ذاتها فيها متعة الشعور بالذات.. بالراحة وأنت تمسك بالخيوط، تصنع الأحداث، تأثر في كل حاجة حولك، تنظر للناس وهم مشغولين بحاجة عملتها وأنت جندي مجهول ومافيش حد عارفك، متعة ذاتية جميلة) وأفزعني أكثر بقوله: (إن رئيسه في جهاز الأمن علي عبد الرحمن النميري كان يشرح لهم عند بداية التحاقهم بالعمل في جهاز الأمن القومي وقال: (إن حكاية الغبن غير موجوده في القاموس السوداني بتاعنا، لكن انت بتتدرب عليها، ولما تتعود عليها زي ما قلت بتستمتع بيها) وفي واقع الأمر تلك صورة مقاربة لمن يُريد أن يعرف معنى مصطلح السادية Sadism
(6)
شأن كثير من المُتنطعين في الأجهزة الأمنية لم تخل المقابلة من كذب بواح. ففي سياق حديثه عن النهاية الدرامية لعلاقة أسامة بن لادن بنظام الإسلامويين، قال الجنرال: (تكفلت شخصياً بأمر ترحيله وجماعته في سرية تامة، وتعاملنا معه أخلاقيا، وقلنا للأمريكان لا تسألونا عن وجهته، فنحن لا نخون العهد مهما حدث. لا نقبل لا دينياً ولا أخلاقياً في تسريب معلومات عنه أو من معه في تأمين خروجهم) وكأن الجنرال لا يعلم أن جماعته قاموا بتسليم 27 كادراً من الجماعة الإسلامية الليبية الذين استجاروا بهم، وقد قام النظام الليبي بتصفيتهم وقبرهم في صحراء بيوضة قبل أن يصلوا طرابلس؟ وعلى ذات النمط ألا يعلم الجنرال الدُفعات التي قاموا بتسليمهما للحكومة المصرية تباعاً وحكومات أخر؟ دعك من إزهاق الأرواح فذلك أمر لا غرابة فيه، لكن ماذا عن الثلاثمائة مليون دولار التي غنموها من (الشيخ) وفشل في استردادها منهم؟ ولمَّا لم يجد مبتغاه جردهم حتى من (الإسلاموية) التي يتدثرون بها، فوصفهم بقوله: (إنهم خليط بين الجريمة المنظمة والدين) ألا يعلم الجنرال أن رفيقه صلاح قوش حملته طائرة خاصة من مطار وادي سيدنا إلى مقر الاستخبارات الأمريكية السي آي أيه في (لانغلي) حاملاً كل أوزار الجماعة؟
(7)
وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، كنت قد قمت ببحث استقصائي حول عملية أديس أبابا الإرهابية، والتي هدفت لاغتيال الرئيس المصري حسني مبارك. وقد حصلت فيها على معلومات ثرة، غاية في السرية والإثارة، بل ما تزال مصدر جدل حتى اليوم. وقد قمت بنشرها في كتابنا الموسوم بعنوان (الخندق/ دولة الفساد والاستبداد في السودان) فأصبح الكتاب مرجعاً للباحثين عن الحقيقة، خاصة بعد أن أفصح الدكتور حسن الترابي عرَّاب التنظيم بذات المعلومات التي نشرتها وكانت أقل منها قيمةً. المفارقة أن ذلك جاء بعد ما يناهز العامين من صدور الكِتاب، وذلك في حواره التوثيقي المُتسلسل مع الإعلامي أحمد منصور في قناة الجزيرة الفضائية. وما تزال هذه المعلومات التي أوردتها شاخصة أبصارها ليوم كان شره مُستطيراً.
(8)
على صعيدٍ آخر، يعلم الجنرال أن الوصمة التي تضعها الأنظمة الديكتاتورية في وجوه سدنتها يستحيل محوها. ولعله شخصياً قد ذاق مرارة هذا الكأس، وتحديداً فيما يخص وقائع فضيحة اليهود الفلاشا. فقد أصبح معلوماً مدى ارتباطه بها لدرجة أنها لا تُذكر في محفل إلا وكان اسمه يتصدرها، وأحياناً يعلو حتى على الذين كانت لهم أدوارٌ أكبر منه. وقد بذل جهداً كبيراً في المقابلة للالتفاف حول تلك القضية بلا جدوى، لا سيَّما وأن فضيحته فيها كانت مركبة. فهو من جهة باع النظام الذي عاش في كنفه سنين عدداً بتسريب معلومات الفضيحة للإسلامويين، وذلك عن طريق أبناء عمومته المنتمين للتنظيم، أما الجهة الثانية فقد تمثلت في محاولته النفاد بجلده حين وافق أن يكون (شاهد ملك) الأمر الذي أدى لتوريط آخرين من زملائه. ولما كانت تلك وقائع يصعب نُكرانها أو الهروب منها، لم يجد الجنرال في المقابلة تبريراً لفعلته تلك سوى أنه كان غضباناً!
(9)
الجنرال الذي بدأ لي مستمتعاً بضعف معلومات محدثه (أحمد فال ولي الدين) تمادى في الكذب بإضافة كذبة أخرى بلقاء كانت رداً على سؤالٍ حول ما إذا كانت لديهم علاقة مع دولة الكيان الإسرائيلي فقال: (السودان عمره لم يكن يوماً لديه علاقة مع الحكومة الإسرائيلية لا في زمن نميري ولا غير نميري) وأضاف (السودان عمره ليست لديه علاقات مع إسرائيل ولا الموساد) ونظراً لهذا القول المثير للشفقة والمضحك في آنٍ معاً، لن أمضي بعيداً حتى لا أرهق ذهن الجنرال. ففي كتابي الذي ورد ذكره أعلاه، والذي نُشر قبل عدة سنوات كما ذكرت، تضمن وثيقة دامغة بطلها هو شخصياً تؤكد علاقتهم الراسخة بدولة الكيان الإسرائيلي، الأمر الذي لم ولن يستطيع له دحضاً. على كلٍ، كنت أُريد أن أمضي أكثر في تشخيص أدواء الجنرال الفاتح محمد أحمد عروة، إلا أنني أشفقت على نفسي وقرائي من تناول مقابلة كثيرة الثقوب والذنوب معاً. فقد هرمنا ونحن نتابع سوءات الأنظمة الديكتاتورية وخُدامها من الإنس والجن!
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر!!
[email protected]
6 مارس 2024م
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الجنرال الذی أدیس أبابا لا یعلم
إقرأ أيضاً:
هل كانت جاسوسة؟.. قصة صعود لونا الشبل إلى دائرة الأسد ونهايتها الغامضة
#سواليف
بعد ظهورها في تسريب مصور تداولته مواقع إخبارية مؤخرا إلى جانب الرئيس السوري #بشار_الأسد، حلّت #لونا الشبل، مستشارة الإعلام السابقة للقصر الجمهوري السوري التي توفيت بشكل غامض في يوليو 2024، صدر الأخبار في المواقع والصحف، ونشرت مجلة «المجلة» تفاصيلا مثيرة تمتد من نشأتها في عائلة بعثية إلى تدرجها في المناصب، وصولا إلى صراع النفوذ الحاد داخل الدائرة الضيقة للرئاسة، والذي يرجح أن يكون وراء النهاية المأساوية لها ولشقيقها «مُلهم» الذي اختفى قبل أشهر من وفاتها.
من #الفضائيات إلى #قصر_النظام_السوري
ولدت لونا الشبل في دمشق عام 1974 ونشأت في بيئة بعثية، بدأت مسيرتها الإعلامية في التلفزيون السوري قبل أن تنتقل إلى قناة فضائية عربية في عام 2003، حيث تزوجت بالإعلامي سامي كليب وحصلت على الجنسية اللبنانية.
مذيعة
نقطة التحول الكبرى في مسيرتها بحسب «المجلة» كانت عام 2011، عندما عادت إلى #سوريا وأعلنت ترك الشاشات العربية، ووضعت خبراتها في خدمة النظام السوري، حيث بدأت العمل في مكتب الأمن الوطني، ثم انتقلت إلى #القصر_الجمهوري عام 2012، لتصبح #مستشارة_إعلامية شديدة القرب من بشار الأسد.
صراع النفوذ في القصر
بعد عودتها إلى سوريا دخلت الشبل سريعا في صراع نفوذ مع شخصيات لها ثقلها في القصر، أبرزها بثينة شعبان، السياسية السورية ومستشار الرئاسة السورية سابقا، واستطاعت السيطرة على الدائرة القريبة من الرئيس، كما تقربت من #أسماء_الأسد، وشاركت في أدوار سياسية حساسة، بما في ذلك وساطات ولقاءات مع قادة من حركة حماس.
في المقابل، واجهت الشبل تحذيرات قاسية، أبرزها من #ماهر_الأسد ومن #قاسم_سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني الراحل، الذي وصفها صراحة بـ« #الجاسوسة »، مستندا إلى تركها راتبا كبيرا في الفضائيات العربية مقابل آخر ضعيف في سوريا.
طموح السيدة الأولى
رغم التحذيرات، قرّبها الأسد من دائرته، وضمّتها أسماء الأسد إلى مجلس أمناء جامعة خاصة، لكن عملية تحجيم وإقصاء بدأت تطولها منذ عام 2023، خاصة بعد خلاف مكتوم مع أسماء، بالتزامن مع تصاعد طموح الشبل، الذي وصل إلى حد التعبير عن رغبتها في أن تصبح السيدة الأولى.
وفي الفترة ذاتها، ظهر عليها ثراء كبير شمل عقارات بملايين الدولارات في دبي ومشروعات باسم زوجها عمار ساعاتي، وسط تشكيك في مصادر ثروتها التي كانت مسجلة باسم زوجة شقيقها ملهم الشبل، وهو ضابط سابق تم تعيينه في مركز البحوث العلمية الحساس.
عُرفت لونا وشقيقها ملهم بعدائهما لإيران وحزب الله، ما فتح باب اتهامات داخل النظام وحلفائه الإيرانيين بصلتهما بإسرائيل، خاصة بعد اغتيالات طالت شخصيات إيرانية ولبنانية في دمشق.
اختفاء مُلهم ثم وفاة لونا
وفي 26 أبريل 2024، تم اعتقال شقيقها مُلهم وزوجته، وسط أحاديث عن تعاونهما مع إسرائيل بعد قصف إسرائيلي لقنصلية إيران، بعدها اختفى ملهم وسط توقعات بأنه قُتل على الأرجح داخل أحد الأفرع الأمنية.
بعد أسابيع قليلة، وفي الثاني من يوليو 2024، تعرضت لونا لحادث سير غامض على طريق الديماس، وبيّنت شهادات أنّ سيارتها تم دهسها عمدا، وأنّ شخصا ضربها في مؤخرة الرأس ما سبب لها شللا كاملا، ثم توفيت في السادس من يوليو،فضلا عن أحاديث عن القبض على مرافقها عمار، واختفاء أحد هواتفها ثم العثور عليه في القمامة فيما بعد..
وقبل وفاتها أُجبرت لونا على بيع معظم ممتلكاتها، وأعلنت السلطات السورية الخبر ببيان مقتضب، وكانت جنازتها محدودة دون مظاهر رسمية، ليختتم التقرير بالوصف بأنّ تصفية لونا وشقيقها هي نتاج صراعات داخل القصر واتهامات بالجاسوسية وتصفية حسابات على النفوذ والثراء.