رحالة أوروبيون يوثقون تاريخ نجران بنقوش الأخدود
تاريخ النشر: 11th, March 2024 GMT
زيارة موقع الأخدود الأثري بنجران تجربة لا تُنسي، تعيد السياح لتاريخ يمتد لمئات السنين، وتمنحهم فرصة للتعرف على التاريخ، والتأمل والاستكشاف، بل وابتكار أعمال فنية وأدبية، مستوحاة مما يحتويه المكان من صخور وتشكيلات عجيبة تحمل نقوشاً ورسومات تبرز أسرار وكنوز حضارات قديمة وتراثاً ثقافياً استوطن المكان.
هذا الموقع، كانت تقف عليه مدينة نجران القديمة التي ورد ذكرها في نقوش جنوب الجزيرة العربية بحروف (ن ج ر ن)، كنموذج للمدن المميزة للحضارة في الجزيرة العربية، ومن أهم المحطات التجارية على طريق التجارة القديم.
ويتمثل الموقع في مدينة مركزية يحيط بها سور بطول 235م، وعرض 220م، وفق نظام تحصين كان معمولاً به في مدن جنوب الجزيرة، ويحتوي على نتوءات وتجاويف عشوائية وغير منتظمة بمساحات متفاوتة.
المباني في مدينة الأخدود الأثرية، أساساتها من الأحجار المنحوتة بارتفاعات من 2 إلى 4 أمتار، ويشكل الحصن العنصر الأبرز في الموقع، إذ يعود تاريخه إلى الفترة الممتدة من منتصف القرن الأول قبل الميلاد وحتى منتصف الألف الأول الميلادي، وهي فترة الاستيطان الرئيسية للموقع.
وفي داخل الحصن تنتشر مجموعة كبيرة من المباني التي تتفاوت حالاتها من حيث درجة تأثير عوامل التعرية والزمن عليها، وبنيت أجزاؤها السفلية من كتل حجرية منحوتة على شكل واجهات مستطيلة أو مربعة بأحجام متفاوتة يبلغ طول واجهات بعضها نحو 350 سم، أما الأجزاء العلوية من هذه المباني على الأرجح، فكانت مبنية من الطين اللبن أو الطوب واللبن، وفي خارج السور تنتشر تلال أثرية تحتوي على أساسات مبانٍ من الحجر والطين.
ويحظى موقع الأخدود الأثري كغيره من المواقع الأثرية بالمملكة، باهتمام وحرص من قبل المسؤولين بالإدارة العامة للآثار في هيئة التراث بوزارة الثقافة، عبر إظهار القيمة التاريخية والأثرية للموقع من خلال إجراء أعمال المسح والتنقيب الأثري، التي انطلقت منذ عام 1399هـ/1979م، وكانت بدايتها بإجراء مسح أثري، ثم تلته مواسم التنقيب الأثري، لتتحقق نتائج ملموسة من أهمها الكشف عن عدد من الوحدات المعمارية المختلفة في أسلوب بنائها.
وكشفت أعمال التنقيب الأثري في الجهة الشمالية الشرقية من الموقع عن أقدم مسجد في منطقة نجران، كما تم العثور على جرة فخارية مليئة بالعملات الفضية “كنز نجران”، وتبين من خلال تنظيف بعضها أنها تعود إلى الملك القتباني (يدع أبينف) الذي حكم في النصف الثاني من القرن الأول الميلادي، وعثر في الموقع على أوانٍ فخارية عبارة عن جرار وأطباق وطاسات وأباريق، كما عثر على أجزاء من أوانٍ صنعت من الفخار.
كما أثمرت أعمال المسح والتنقيب الأثري بالموقع عن العثور على أوانٍ نحتت من الحجر الصابوني والرملي مثل المباخر والأحواض، وأجزاء من التماثيل لحيوانات صنعت من المعادن، وألواح معدنية عليها كتابات بارزة بحروف المسند الجنوبي تتضمن نصوصاً دينية تعبدية، ومسلات من الأحجار كتبت بالقلم المسند، وتتحدث عن تشريعات دينية، إضافة إلى العثور على خواتم من الذهب لأول مرة تظهر في موقع الأخدود، لكل خاتم منها فصّ ذهبي على شكل فراشة وله قفل صغير لربط طرفه.
وذكر أستاذ التاريخ المشارك بجامعة نجران عوض بن عبدالله العسيري، أن أكثر من مؤرخ وبلداني مثل الهمداني والبكري، ذكروا أن موقع مدينة الأخدود لم يكن سوى مدينة نجران القديمة وسوقها التجاري الواقع على طريق القوافل التجارية القديمة، قبل أن تندثر في القرن الرابع الهجري وتنتقل إلى مكان آخر قريب، حيث وردت أول إشارة لذكر هذه المدينة قديماً في النقوش الأثرية بـ”ن ج ر ن” عام 680 ق.م.
وأضاف العسيري: ورد اسم نجران مرة أخرى في نقش آخر يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، حيث يشار إليها كاسم لقبيلة تسكن أرض نجران، ثم يرد في نقش ثالث من القرن الثاني الميلادي كاسم لـ”مدينة ظربان وواديها نجران”، وفي نقش “النمارة” الشهير بجنوب دمشق، ترد إشارة مهمة إلى نجران عام 328م.
ولفت إلى أن ذكر نجران لم يقتصر على النقوش، فقد أشار إليها عدد من المؤرخين والجغرافيين الكلاسيكيين مثل “سترابون”، و”وبليني”، وبطليموس في كتابه “الجغرافيا” أثناء استعراضه لأهم المدن الواقعة على طريق البخور القديم إلى بلاد العربية السعيدة، أي جنوب الجزيرة العربية، وفي التاريخ الحديث، حظيت منطقة الأخدود الأثرية باهتمام عدد من الرحالة الأوربيين الذين زاروها ووثقوا بعض نقوشها ونقبوا في آثارها ووثقوها في أعمال ترجم بعضها إلى اللغة العربية ومنهم على سبيل المثال لا الحصر “جوزيف هاليفي”، و “جون فيلبي”، و”فيلبيب ليبينز”.
بدوره أكد الرئيس التنفيذي لجمعية الآثار والتاريخ بنجران نايف بن حمد مسلم، أن مدينة نجران التي تقع في الجزء الجنوبي الغربي من المملكة العربية السعودية على الأطراف الشرقية من الدرع العربي؛ تعد أحد أقدم المناطق الحضارية على مستوى الجزيرة العربية، كمركز تجاري مهم، نظراً لوقوعها على مفترق الطرق القادمة من الجنوب والمتجهة نحو الشمال والشرق.
وأضاف: تمتد أصول حضارة نجران حسب آخر الاكتشافات الأثرية إلى العصر الحجري القديم الأعلى، كإحدى المدن التجارية المهمة التي ازدهرت في بداية الألف الأول قبل الميلاد، وشهدت فترات استيطان طويلة، وتشتهر بالعديد من المواقع الأثرية كمنطقة حمى الثقافية، وموقع الأخدود الأثري، كعوامل جذب سياحية وثقافية للمنطقة ومحفزة للإبداع والتطوير للإسهام في النمو السياحي والثقافي والاقتصادي لتحقيق رؤية 2030.
المصدر: صحيفة الجزيرة
كلمات دلالية: كورونا بريطانيا أمريكا حوادث السعودية الجزیرة العربیة
إقرأ أيضاً:
قصة 800 مليون سنة من تاريخ عُمان الجيولوجي
«عمان»: عندما تقف على حافة وادٍ في الجبل الأخضر، أو تتبع الالتواءات الداكنة لصخور الأوفيوليت قرب طريق وادي الجزي، لا ترى مناظر خلابة بقدر ما ترى أمامك طبقات زمن موغلة في القِدم. لا تحتاج الأرض إلى سارد خبير كي يروي قصتها؛ يكفي أن ترفع عينَك قليلا عن الطريق لتجد قاع محيط قديم فوق الجبال، وآثار جليد كوني فوق أرض كانت أقرب إلى خط الاستواء، وبحارا دافئة تراجعت تاركة رواسبها شاهدا على تحولات الكوكب.
في هذا الرصد نحاول تقديم سرد متكامل لنشأة عُمان الجيولوجية خلال ما يقرب من 800 مليون سنة.
جغرافيا تكشف ما تخفيه القارات الأخرى
تتموضع عُمان على الحافة الجنوبية الشرقية للجزيرة العربية، في نقطة التقاء مسارات كبرى لحركة الصفائح التكتونية: إلى الشمال، حزام تصادم مع إيران وسلاسل زاجروس؛ إلى الشرق، نطاق اندساس مكران؛ وإلى الجنوب والجنوب الشرقي، فضاء المحيط الهندي المفتوح. هذا الموقع الجغرافي الاستراتيجي أعطى عُمان عبر التاريخ فرادتها في كل شيء، وفي مقدمة تلك الفرادة الفرادة الجيولوجية.
على امتداد جبال الحجر، ومسندم، والحقف، وظفار، والسهول الساحلية والداخلية، تنكشف على السطح وحدات صخرية تمثل حلقات متصلة من تاريخ الأرض: رواسب جليدية، وصخور أعماق المحيط، وكربونات الرفوف البحرية، وأحواض عميقة، وحقول كثبان حديثة. الكثير من المفردات التي تختفي في العادة في معظم القارات يبدو هنا في عُمان مكشوف على الهواء الطلق الأمر الذي يدعو الجيولوجيين والزوّار، المصابين بالدهشة، التأمل في المشهد وقراءة الزمن طبقة بطبقة.
حين غطّى الجليد خط الاستواء
منذ نحو 725 إلى 635 مليون سنة مضت، مرّ الكوكب بمرحلة استثنائية توصف أحيانا بـ«الأرض الثلجية».. وهذا الأمر ليس نظريا في كتب الجيولوجيين لكنه يتجسد بشكل واضح جدا في وسط عُمان وفي جنوبها.
في الجبل الأخضر، وفي بعض مكاشف الحقف وظفار، تظهر تتابعات سميكة من الصخور الفتاتية المختلطة؛ كتل مختلفة الأحجام من الصخور، محمولة في matrix ناعم، مكدّسة دون انتظام. هذه «الركامات الجليدية» تسجل مرور أنهار جليدية أو أغطية ثلجية فوق المنطقة، ثم ذوبانها وتوقفها المفاجئ. المفارقة أن هذه المنطقة من العالم كانت تقع آنذاك في عروض منخفضة، أقرب إلى ما نعدّه اليوم نطاقا دافئا. لكن الترتيب الطبقي، وطبيعة الرواسب، يؤكدان أن موجات جليدية كونية وصلت إلى هنا!
مجموعة أبو مهارة، وهي اسم لوحدة صخرية من صخور عُمان القديمة، تعتبر جزءا من ملف عالمي يثبت أن الأرض دخلت في أزمنة قاربت فيها الأغطية الجليدية حدود المناطق المدارية، ثم خرجت منها عبر تحولات مناخية حادة. من هذه الزاوية، يتحول واد صخري في الجبل الأخضر إلى ما يشبه اللوحة الفنية تشكلت في مرحلة سحيقة من تاريخ المناخ الكوني.
من الجليد إلى البحار الدافئة
فوق تتابعات أبو مهارة الجليدية تبدأ صفحة أكثر استقرارا تتمثل في الوحدات اللاحقة من سوبرجروب الحُقْف، حيث تحل البحار الضحلة الدافئة محل البيئات الجليدية وتترسخ الكربونات والتبخرات والوحدات الغنية بالمواد العضوية.
تتراكم الكربونات بأشكالها المختلفة، وتظهر طبقات تبخّرية من الأملاح، وتتشكل وحدات غنية بالمواد العضوية. هذه البيئات البحرية الهادئة، التي سبقت مباشرة الانفجار الحيوي في الكمبري، سجّلت بدايات عالم جديد من التنوع الميكروسكوبي. في الصخر، يتجمد أثر كائنات دقيقة، وطحالب، وفُتات عضوي، سيصبح لاحقا جزءا من الصخور المصدرية التي غذّت مكامن النفط والغاز في عُمان.
الانتقال من صخور جليدية فوضوية إلى طبقات كربوناتية منتظمة فوقها مباشرة يعطي القارئ صورة بصرية بليغة؛ كأن الأرض طوت صفحة أقصى التجمد، وفتحت صفحة بحر داخلي هادئ يحضّر المسرح لانفجار الحياة المركّبة.
ملايين السنين من الهدوء البنيوي:
بناء الرف العربي
منذ بدايات الكمبري وحتى أواخر البرمي، تقف عُمان على هامش قارة غوندوانا في استقرار نسبي طويل. لا تصادمات كبرى هنا، بل حافة قارية تتنفس مع تذبذب مستوى سطح البحر وتغير المناخ العالمي.
تترسب رمال وأنهار ودلتا في المراحل الأقدم، ثم تغمر البحار الضحلة المنطقة مرة بعد أخرى، لتبني منصات كربوناتية متسعة. في هذه البحار، تعيش وتندثر كائنات بحرية لا فقارية، وتُشيَّد هياكل جيرية، وتتراكم رواسب متدرجة تشكل حجرا رمليا، وجيرا، ودولوميت، وطفلا بحريا.
هذا «الهدوء» الظاهري كان في الحقيقة ورشة عمل بطيئة لبناء ما سيعرف لاحقا بالرف العربي وهو نظام رسوبي سميك ومعقد، سيكون له دور مركزي في تخزين النفط والغاز والمياه الجوفية. في هذه المرحلة تشكّل الجزء الأكبر من البنية العميقة التي تستند عليها تضاريس عُمان الحالية، حتى وإن لم تكن الجبال قد ولدت بعد.
من الهامش الهادئ
إلى الحافة المفتوحة
مع تفتت غوندوانا وتحرك كتلها، يبدأ محيط نيو-تيثيس في الانفتاح إلى الشمال من الرف العربي. تصبح عُمان حافة قارية سلبية تطل على محيط شاسع: أرض قارة تهبط ببطء، يغمرها بحر دافئ عميق تدريجيا دون أن تصطدم بقارة أخرى.
في الترياسي والجوراسي والطباشيري المبكر تتكون سلاسل سميكة من الصخور الكربوناتية على الرف، فيما يزداد عمق الحوض باتجاه الشمال الشرقي. هناك تترسب صخور حوضية أعمق، ستُعرف لاحقا في وحدات مثل صخور الحواسنة. يتشكل تدرج بين منطقة رف ضحل غني بالشعاب، ومنحدر، ثم حوض أعمق؛ هذا التدرج سيصبح عاملا حاسما في فهم ما سيحدث عندما ينغلق هذا المحيط.
المنظر آنذاك أقرب إلى بحر طويل العمر يلامس ساحلا مستقرا: شواطئ، ومنصات مرجانية، ومياه نقية، في الخلفية حوض عميق هادئ يخفي رصيده من الطين والمواد العضوية. تحت هذا السكون تتجمع شروط دراما قادمة.
الأوفيوليت السمايلي
وارتفاع قاع المحيط فوق الجبال
في أواخر العصر الطباشيري، ينقلب المسرح. يبدأ محيط نيو-تيثيس في الانغلاق، وتتكون منطقة اندساس إلى الشمال من عُمان. في العادة، تغوص القشرة المحيطية تحت القارية في صمت طويل، لكن ما حدث هنا كان مختلفا ومذهلا: قطع واسعة من قاع المحيط، مع جزء من الوشاح العلوي، لم تهبط إلى الأعماق، بل اندفعت إلى أعلى فوق حافة الصفيحة العربية.
هكذا تكوّن الأوفيوليت السمايلي؛ واحد من أكمل وأضخم الأوفيوليتات في العالم. في جبال الحجر اليوم يمكن للزائر أن يلمس بيده صخورا تعود إلى الوشاح العلوي، فوقها صخور قشرة محيطية، فوقها رواسب بحرية، كلها جاثمة على صخور الرف العربي الأقدم. تبدو هذه البنية وكأنها مشهد حي مكشوف على مد البصر.
الدفع الأوفيوليتي لم يكن حادثة عابرة. لقد أنهى مرحلة الهامش الهادئ، وغيّر توازن الكتلة في شمال عُمان، وأطلق سلسلة من الطيات والصدوع والرفع، ممهدا لولادة جبال الحجر بالشكل الذي نعرفه. منذ تلك اللحظة، أصبحت عُمان مرجعا عالميا لفهم كيفية دفع قاع المحيط فوق القارة، ولتفسير آليات تشكل سلاسل جبلية على حواف الصفائح.
ولادة جبال الحجر
بعد أن استقر الأوفيوليت فوق صخور الرف، بدأت الطبيعة عملا طويل الأمد؛ تعرية، ونقل، ونحت أودية، وملء أحواض. الكتل المرتفعة تعرضت للحت الشديد، فاندفعت الرواسب نحو المساحات المنخفضة، وتكونت أحواض داخلية وحواف رسوبية جديدة.
في الوقت ذاته، واصلت الصفيحة العربية رحلتها شمالا، ودخلت في تصادم تدريجي مع الصفيحة الأوراسية في نطاق زاجروس. هذا الاصطدام البعيد أعاد توزيع الإجهادات في القشرة، فأسهم في رفع إضافي غير متجانس لجبال الحجر، وفي إعادة تنشيط بعض الصدوع، وخلق القوس الجبلي المميز الممتد من مسندم حتى شرقي عُمان.
اليوم، من يتأمل مقاطع الجبل الأخضر أو وديان سمائل ووادي بني عوف ووادي طيوي، يرى سجلا رأسيا مدهشا من صخور الأوفيوليت الداكنة في الأعلى، إلى كربونات الرف العربي الفاتحة تحتها، إلى وحدات أعمق في بعض النوافذ التكتونية. كل متر من الوادي هو سطر في قصة عمرها مئات ملايين السنين، مقروءة بلا وسيط.
ظفار وحافة المحيط المفتوح
بينما تحكي جبال الحجر قصة الأوفيوليت والتصادم البعيد، تقدّم جبال ظفار وجها آخر من تاريخ عُمان الجيولوجي. هنا نستطيع أن نرى حافة قارية مطلة مباشرة على المحيط الهندي؛ تتابعات من صخور لكريتاسي والسينوزوي ترسبت في بيئات بحرية متنوعة يغلب عليها الطابع البحري، ثم رُفعت تدريجيا لتكوّن الحافة الجبلية الحالية المطلة على بحر العرب.
هذا الرفع، بالتوازي مع ديناميكيات المحيط الهندي والرياح الموسمية، رسم مشهد محافظة ظفار المعروف؛ سفوح خضراء في الخريف، وكهوف كارستية عميقة، وأخاديد، ومنحدرات تطل على بحر العرب. في هذه التضاريس يقرأ الجيولوجي أثر تفاعل طويل بين حركات الصفائح، ونحت الأمطار الموسمية، وتبدلات مناخية تعود إلى ملايين السنين.
ملامح العصر الحديث
في العشرات الأخيرة من ملايين السنين، ومع استقرار نسبي في البنية الكبرى، بدأ المناخ يلعب الدور الأبرز في تشكيل سطح عُمان الحديث.
رمال الشرقية وأطراف الربع الخالي في الشمال تشكلت من رياح حملت الفتات الصخري عبر أزمنة مختلفة، فبنت كثبانًا متحركة وأخرى شبه مستقرة. على السواحل، تكوّنت سبخات مالحة تسجل تذبذب مستوى سطح البحر وتغير المناخ خلال العصور الجليدية والبين-جليدية. في الحجر وظفار تشكّلت نظم كارستية: كهوف، وشقوق، وحفر ذوب تتحدث عن تاريخ المياه الجوفية والأمطار.
هذه المظاهر «الحديثة» نسبيًا تكمل السلسلة: من أعمق الوشاح إلى الكثبان الأخيرة، تصبح عُمان نموذجا مكتملا لتاريخ الأرض البنيوي والمناخي.
لماذا تستحق هذه القصة أن تُروى الآن؟
لا ينتمي السرد الجيولوجي لعُمان إلى التنظير العلمي الذي تحدد المؤسسات العلمية مكان نقاشه، إنه ينتمي إلى جزء أساسي من تعريف عُمان بنفسها في سردية الهوية والمعرفة وفي بناء الصورة الذهنية الخلابة لعُمان وتاريخها العريق. تقول القصة للقارئ: إن الأرض التي يعيش عليها تنتمي إلى سجل طويل بدأ بجليد كوني، ثم بحار ضحلة دافئة، ثم محيطات عميقة، ثم قاع محيط ارتفع فوق الجبال، ثم جبال نحتتها الأودية حتى صارت كما يراها اليوم. الموارد التي يعتمد عليها الاقتصاد لا تبدو طارئة؛ هي حصيلة زمن طويل من الترسيب والضغط والتحول. والمواقع التي يقصدها السائح أو المتنزه يمكن أن تتحول إلى فصول مفتوحة لرحلة علمية: الجبل الأخضر كمختبر للأزمنة القديمة، الأوفيوليت كمتحف لقاع المحيط، ظفار كمرآة لتفاعل البحر والجبال، ورمال الشرقية كأرشيف للرياح.
يمكن أن تتحول هذه القصة إلى سردية وطنية جيولوجية تتحول فيها الجيولوجيا من علم تقني إلى جزء من الوعي العام؛ وعي بأن عُمان ليست قديمة فقط في تاريخها السياسي والحضاري، بل ضاربة الجذور في تاريخ الكوكب ذاته، وأن قراءة صخورها هي طريقة أخرى لفهم مكانها في العالم، وموقعها في مستقبل العلم والسياحة والمعرفة.