قضايا غريبة وقعت وأثارت الجدل تحول فيها القاتل إلى برئ، والجاني إلى مجني عليه، ألغاز كشفتها التحقيقات، وأزال عنها الستار دفوع المحامين في ساحات القضاء، اليوم السابع يقدم على مدار 30 حلقة خلال شهر رمضان المبارك، أبرز هذه القضايا ووقائعها المُثيرة.

"العقرب والضفدع"

يروى هذه الحلقة المستشار بهاء الدين أبو شقة فى كتابه "أغرب القضايا.

.

ويروى المستشار بهاء أبو شقة تلك القصة، أنه فى إحدى الأيام فوجىء بإحدى السيدات تنتظره على باب مسكنه وتعطيه إحدى الظروف المغلقة كرسالة من طبيبة من داخل سجن القناطر الخيرية " سجن النسا"، وأصرت على أن يقرائها أمامها للتأكد من إيصال الرسالة التى وعدت بإيصالها.

قمت بفض الرسالة.. كانت الرسالة تقتر ًحزنا وصورة مجسمة مـن الخسة والندالة والغدر وانعـدام الضـمير.. كانـت سـطورها مفعمـة بالبكـاء والأسى.

روت لى صاحبتها الطبيبة السجينة قصتها بكل ما فيها من مـرارة، أنها كارثة بل مصيبة كبرى حلت على رأسها كالمطرقة وريـح عاتيـة َّبقسوة فاقتلعت حياتها من جذورها بلا هوادة ولا رحمة.. بعد أن عانت مـرارة الاتهام ومعاناة محاكمتها التي انتهت بمعاقبتها بالإعدام ًشنقا عن تهمة تتسـم بالبشاعة والوحشية وانعدام العقل والضمير.. قتل ابنة ضرتها ً عمدا مع سـبق الإصرار والترصد وحرقها.. وأقسمت مراراً وتكراراً قسماً مغلظاً بين سطور خطابها َّبأنها بريئة وبأنها لم ترتكب هذه الجريمة البشعة الشنعاء المجـردة من كل معانى الإنسانية والرحمة.

الرسالة التى امتلئت بالغموض والحيرة دفعت المستشار بهاء أبو شقة لقبول الدفاع عن الطبيبة، وطلب كافة أوراق القضية وكل الأحداث التى مرت بها.

أوراق القضية كشفت شخصية زوج الطبيبة المتهمة، فقد كان شاباً وسيماً اعتاد على قضاء اليالى الحمراء، بستهوى النساء ويوقع من يريد فى حبه بإطلالته وحسن مظهره.

ووجد ضالته المنشودة فى إحـدى الفتيـات.. كانـت ثريـة ابنـة تـاجر كبير..دخل الأسرة ونفذ إلى قلب الفتاة َّ وكأنه ميكروب فتاك لعين ينفذ خلسة ليفتك بصاحبه فلا يحس به إلا وقد أشرف على الهـلاك.. بحديثه المعسول وأساليبه الملتوية.. اتخذ التاجرمنه ابنًا َ وزوجه ابنته ّوأعد لـه شـقة فـاخرة فى عمارته.. وكانت تغدق عليه بسخاء من مال أبيها الذى كـان لا يبخـل عليهـا بشئ.

ومرت الأيام وهو يرتع فى هذا النعيم، وقد بهر زوجته بحديثه العذب على نحو حال بينها وبين الوقوف على حقيقة واقعة، وانقضت ضائقة مالية على والدها تزايدت مع الأيام وبدأت تتكشف يوما بعد يوم .. وانتهـت  بإشهار إفلاسه وكان ذلك إيذانا بإلاسها تبعاً لذلك، ونضبت "حنفية" الثراء وجف ماؤها ، وقلت النقود فى جيبه.. هنا كشف عن وجهه القبيح وتبخرت كلمات الحب والهيام والغرام التى كان يمطر بها زوجته صباحاً ومساءً إلى سب وقذف ولعن.. وكشر عن أنيابه وفى خسة ونذالة طلقها بعد أن أتى على أخر مليم معها.. وأخذ معه ابنته الوحيدة تاركاً طليقته وحيدة مفلسة غارقة فى بحور الالم والحسرة والندم.

وبدأ يبحث عن صيد جديد.. عن بقرة حلوب يستنزفها.. عن فريسة جديدة يلتهمها، ولأنه الصياد الماهر الذى لا تخطىء سهامه فى صيد فريسته  التى تقع تحت بصره.. فقد وجه سهامه نحو تلك الطبيبة التى التقى بها فى عيادتها الخاصة بعد أن عرف كل ظروفها وجمع كافة المعلومات العامة والخاصة عناه.. كانت على وشك أن يفوتها قطار الزواج وأن تلحق بقطار العوانس.. كانت دميمة ترتدة "نظارة" سميكة متهالكة.. شعرها "اكرت".. ليس بها مسحة جمال تغرى أى شاب على التفكير فى الارتباط بها.. ولكنها فى المقابل وهو المهم بالنسبة لهذا الشاب ، كانت تملك أرصدة كبيرة فى البنوك فقد عاشت فترة من الزمن تعمل ببلاد النفط.

وبأ العنكبوت ينسج خيوطه حولها، ولم تصمد طويلاً أمام فنونه ودرايته وخبرته فى الإيقاع بالنساء.. تمت الخطة ووقعت الفريسة فى الزواج، وبرور الأيام تحولت إلى "عجينة" بين أسنانه..وزاد لين هذه العجينة حينما تبين أنها عاقر.. وبدلأ من أن تتخذ من الطفلة ابنة زوجها ابنة لها تعوضها عن أمومتها المفقودة، بدأت تفتح النيران على الطفلة وتملكتها الغيرة منها.. وكلما نظرت إليها تذكرت كلمات الجمال التى كان يرددها والد الطفلة عن أمها، وقررت منع الطفلة من الاتصال بأمها بأية وسيلة، ومنعها من الخروج والاتصال بالتليفون، بالإضافة للتجسس على زوجها خوفا من أن يتركها.

أحس الزوج أنها أصبحت كابوساً تجثم على صدره وقيداً على تزواته ومغامراته الطائشة، وذات مرة عادت الطبيبة من عملها ورأت الطفلة تتحدث مع أمهـا في التليفون فلم تتمالك نفسها وانهالت عليها بالضرب المبرح وزادت صرخات الطفلة وحضر الجيران وأنقذوها من بين يـديها.. وشـكت الطفلـة للجيـران سوء معاملة زوجة أبيها لهـا، وأنهـا تهـددها بكيهـا بالنـار والمـوت لـو َّأنهـا تحدثت مع أمها مرة أخرى.

ولم تمض على هذه الواقعة سوى أيامقليلة.. خرجت الطبيبـة لعملهـا بالمستشفى كالمعتاد وتركت الطفلـة وحـدها كالعـادة بالشـقة.. وعـادت فى الظهيرة ودقت جرس البـاب ولم يفـتح أحـد.. اعتقـدت للوهلـة الأولى  أن الطفلة نائمة وقامت بفتح الباب بالمفتاح الذى تحمله معها.. ودخلت الشقة ونادت عليها ولميرد أحد، وما إن فتحت باب إحدى الغرف الخاليـة بالشـقة تسمرت فى مكانها عندما وجدت الطفلة ملقـاة عـلى الأرض وهـى جثـة متفحمة.. وعقدت المفاجأة لسانها لبرهة يسيرة وخرجت تصـرخ وتسـتغيث بالجيران.

وحضـر الـزوج وبكـى ً بكـاء َّ مريراً بهيستيريا وهو يصرخ بأنه فقد أعز شئ لديه.. خسرابنته الوحيدة التى خرج بها من الدنيا.. أمله الوحيد في الحياة.. فلم يكن أمامه فى الحياة من أمل في الذرية سواها خاصة وأن زوجته الطبيبة عاقر.. وكال لزوجته الاتهام.. وهم في ثورته العارمة بالاعتداء عليها.. لولا إبعاد رجال الشرطة لـه، وصاح الأب وصرخ صرخة مـن أعماقه َّ اهتزت لها قلوب رجال التحقيق.. الحقيقة واضـحة مثـل الشـمس.. هى التى قتلت ابنتها وحرقتها وأنهـا مجرمـة آثمـة يـديها ملوثـة بـدماء ابنتـه.

واستشهد الزوج بالجيران الذين أيدوا روايته كاملة وشهدوا بما رأوه من إهانات واعتداءات بالضرب على الطفلة.. وأنهم كثيراً ما سمعوا صراخها وهى تستغيث من اعتداءات زوجة أبيها، وانتهى الزوج فى شهادته على الإصرار بطلب القصاص العادل منها حتى لا يضيع دم ابنته الوحيدة هدراً، وأنه لن يرتاح له بال ولن يهدأ له حال إلا وحبل " عشماوى" قد لف على رقبتها.

وبالفعل قضت محكمة أول درجة بإعدام الزوجة بالإعدام شنقاً بتهمة قتل الطفلة مع سبق الإصرار والترصد.

ويقول المستشار بهاء أبو شقة، استوقف نظرى أنه بالكشف الظاهرى على الجثة تبين أنها لفتى فى الثانية عشر من العمر.. ولأن الجثة كانت متقحمة فان الطبيب الشرعى لم بستطع أن يحدد كيفية الاعتداء الذى وقع على المجنى عليها، والالة المستخدمة فى الاعتداء، فكانت كلمة "فتى" الذى يبلغ من العمر أثنى عشر عاماً هى طوق النجاو، هى المفتاح الذى سيفتح الأبواب المغلقة على الحقيقة الى قدر لها أن تقبر خلف هذه الأبواب.

قبلت محكمة النقض الاستئناف على الحكم، وأعادة محاكمة الطبيبة أمام محكمة أخرى، وفى جلسة النطق بالحكم حضر الطبيب الشرعى ووسأله أبو شقة عما إذا كانت الجثة التى عاينها لفتى أم لولد.. فأجاب أنه عاين جثة لولد عمره أثنى عشرة عام وليس لطفلة، ثم سأل الزوج ما قولك فى أقوال الطبيب الشرعى الذى يؤكد أن الجثة التى قام بالكشف عنها لطفل فى الثاينة عشر من عمره، فى حين أن ابنتك طفلة ولم تتعدى السابعة من عمرها؟..فلم يجيب وتفوه بعبارات للطبيب الشرعى.

رفعت المحكمة الجلسة لمدة 4 ساعات.. وجاءت لحظة الحسم.. قررت المحكمة ببراءة المتهمة مما أسند إليها من اتهام.

بعد مرور فترة من الزمن وذات يوم جاءت  الطبيبة لزيارة المستشار بهاء أبو شقة كالمعتاد.. كان الحزن يمـلأ عينيهـا وهـى ترتدى ملابس الحداد, وأخبرتنى بصوت مفجوع بأن زوجها قد لقى حتفه فى الخارج فى حادث أليم.. إذاكتشفت زوجتـه الأجنبيـة التـي تكبـره بعشـرات السنين َّأنه يعبث بمشاعرها.. وبخيانتـه لهـا.. واسـتيلائه عـلى أموالهـا التـي ائتمنته عليها وألقت يده في التصرف فيها.. كما اكتشـفت وتأكـدت َّأنـه قـد أعد الخطة للتخلص منها والهرب بأموالها.. فقررت الخلاص منـه حتـى لا ينعم بثروتها.

وكانت المفاجأة الكبرى التى هزت كيانها.. وبدت شعورها نحوه وأنه كان وهماً لا يستحق أن ابنته مازالت على قيد الحياة، وأنها كانت فى صخبته فى الخارج وقد أعادتها السفارة إلى أمها.

ونشطت الشرطة بعد هذا البلاغ وأجرت التحريات ً بحثـا عـن الحقيقـة، وقد تحققت من هذه التحريات أن الـزوج هـو الـذى دبرهـا لكـى بتخلص من زوجته الطبيبة ويعيش مع صيده الجديد ويرث أموالها بعـد إعـدامها.. ودبر في ندالة وخسة بلا ضـمير لإنجـاح فكرتـه الشـيطانية فـاتفق مـع «تربى»كى يحضرله جثة فتاة فى سن ابنته توفيـت في توهـا.. موهمًـا إيـاه َّأنـه أستاذ بكلية الطب حتى يدرب الطلاب عليها، إلا أن القدرلم ينصفه ووقـف إلى جانـب زوجتـه لينقـذها مـن حبـل المشـنقة، إذ لم يتمكن «التربى» من العثور على جثة لطفلة ميتة ً حديثا.. وكل ما وقع تحت يده جثة هذا الطفل.. فقدمها إليه.. وتسلمها منه فى عجلة من أمره.. دون أن يتبين أمر هذه الجثة.. ووضعها في عجالة في الشـقة وسـكب عليهـا البنـزين ونفـذ جريمته دون أن يدرى فيما إذا كانت الجثة ً ذكرا أم أنثى وأشعل فيهـا النيـران.







المصدر: اليوم السابع

كلمات دلالية: غرائب القضايا اغرب القضايا اخبار الحوادث المستشار بهاء أبو شقة

إقرأ أيضاً:

حضرموت اليمنية… كيف تحولت من مملكة تاريخية إلى ساحة تنافس إقليمي؟

تصاعد التوتر في حضرموت شرقي اليمن خلال الأيام الماضية، ما أدى إلى توقف محدود في إنتاج النفط.

 

وانتهت الاشتباكات بانتشار قوات النخبة الحضرمية التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي داخل مواقع نفطية في منطقة المسيلة، عقب انسحاب قوات "حلف قبائل حضرموت" بموجب اتفاق تهدئة رعته السعودية.

 

وتبرز خلف هذه التطورات منافسة نفوذ بين قوى محلية مدعومة من أطراف إقليمية، إذ يحظى المجلس الانتقالي بدعم إماراتي، بينما تربط الحلف القبلي علاقات وثيقة بالسعودية.

 

وتعكس هذه المواجهات التوتر المتصاعد بين الإمارات والسعودية، اللتين كانتا شريكتين في تحالف عسكري ضد الحوثيين قبل أن تختلف أولوياتهما خلال السنوات الأخيرة، مع دعم كل منهما لقوى متنافسة في اليمن والسودان، بحسب صحيفة نيويورك تايمز.

 

ونقلت الصحيفة عن المحلل اليمني المقيم في الولايات المتحدة محمد الباشا قوله إن "السباق بدأ لتحديد خريطة مستقبل اليمن"، مشيراً إلى أن المجلس الانتقالي يرى أن السعودية تتجه نحو تسوية مع الحوثيين في الشمال، ويسعى لضمان نفوذه الكامل في الجنوب قبل أي اتفاق محتمل.

 

ولكن ماذا نعرف عن حضرموت؟

 

حضرموت منطقة واسعة تقع في شرق ووسط اليمن وتطل على خليج عدن. وتضم مرتفعات جبلية قرب الساحل، إضافة إلى واد داخلي يشغله مجرى موسمي يعرف بوادي حضرموت، الذي يمتد موازياً للساحل قبل أن يتجه إلى الجنوب الشرقي نحو البحر. وتشير دائرة المعارف البريطانية إلى أن المجرى يتحول في مراحله السفلى إلى تدفق مائي دائم على مدار العام يعرف باسم وادي المسيلة.

 

وتتميز المرتفعات بتربة فيضية تسمح بزراعة واسعة تشمل القمح والشعير، إلى جانب محاصيل أخرى مثل الفواكه والتمر والبرسيم والتبغ. وتعد المكلا المدينة الرئيسية وميناء المحافظة، فيما تضم حضرموت مدناً بارزة أخرى مثل شبام، المعروفة بمبانيها الطينية متعددة الطوابق التي يعود عمر بعضها إلى نحو خمسة قرون، وكذلك تريم والغرف والريان، ويضم بعضها مطارات محلية.

 

وتصدّر حضرموت عدداً من المنتجات، أبرزها الأسماك والعسل والجير والتبغ. وشهدت عبر التاريخ هجرات واسعة لسكانها إلى شرق أفريقيا وإندونيسيا وشبه الجزيرة العربية سعياً لتحسين ظروف المعيشة. وتعد حضرموت، وفق المصدر ذاته، واحدة من أقدم المناطق المأهولة في جنوب الجزيرة العربية، وتمثل إقليماً تاريخياً يمتد عمقه الحضاري إلى آلاف السنين، بما في ذلك حضارة مستقلة ومعالم أثرية وثقافية كان لها أثر بارز في تاريخ اليمن القديم والإسلامي.

 

تشير دائرة المعارف البريطانية إلى أن حضرموت كانت في العصور القديمة مملكة عربية جنوبية واسعة النفوذ، وتمتد في ما يعرف اليوم بالجنوب والجنوب الشرقي من اليمن، إضافة إلى أجزاء مما يشكّل حالياً سلطنة عمان.

 

وتقول إن المملكة حافظت على استقلالها السياسي حتى أواخر القرن الثالث الميلادي حين غزتها مملكة سبأ، وقد أثبتت النقوش المسندية مكانتها ككيان سياسي واقتصادي مؤثر في المنطقة.

 

وخلال العصور السبئية والحميرية، شهدت حضرموت علاقات متقلبة مع الممالك اليمنية الأخرى، إذ دخلت في صراعات على النفوذ وتبادلت السيطرة على الطرق التجارية والمناطق الحدودية.

 

وتشير النقوش المسندية إلى أن ملوك حضرموت شيدوا السدود وشقوا القنوات وأداروا نظاماً زراعياً متقدماً سمح باستثمار الواحات الخصبة في الوادي.

 

ومن أبرز مراكز تلك المملكة مدينة شبوة القديمة، التي كانت عاصمة حضرموت ومقراً لملوكها، وقد اكتشفت فيها نقوش ومعابد وآثار تكشف طبيعة الحياة السياسية والدينية والاقتصادية في تلك الحقبة.

 

وظلت حضرموت، بحسب المصدر ذاته، كياناً مستقلاً حين خضعت عدن للسيطرة الساسانية عام 571 ميلادية، واستمرت كذلك حتى دخولها في الإسلام عام 630 ميلادية.

 

دخول الإسلام

 

مع دخول الإسلام إلى اليمن في القرن السابع الميلادي، أصبحت حضرموت مركزاً مهماً لنشر الدعوة الإسلامية، إذ اعتنق سكانها الإسلام مبكراً وأسهم علماؤها ودعاتها وتجارها في نشره خارج الجزيرة العربية، ولا سيما في شرق أفريقيا والهند وماليزيا وإندونيسيا.

 

ولعب موقعها البحري وخبرة أهلها في الملاحة وصناعة السفن دوراً أساسياً في هذا الانتشار، ما جعلهم قوة تجارية مؤثرة في المحيط الهندي.

 

وأقام التجار الحضارمة تجمعات واسعة في سواحل شرق أفريقيا، وأسهموا في نشر اللغة العربية والثقافة الإسلامية، وتركوا تأثيراً ما يزال ملموساً حتى اليوم في المجتمعات الساحلية في كينيا وتنزانيا وجزر القمر.

 

وفي العصور الإسلامية اللاحقة، شهدت حضرموت بروز أسر دينية وقيادات علمية أسهمت في تشكيل الحياة الفكرية في اليمن والجزيرة العربية.

 

وكان للمدرسة الصوفية، خصوصاً الطريقة العلوية، حضور بارز في تاريخ الإقليم، إذ انتشر علماؤها في بلدان عدة وارتبط اسم حضرموت بالتصوف المعتدل والتعليم الديني.

 

وأسهم هذا النشاط الفكري في تأسيس مراكز علمية بارزة، أبرزها مدينة تريم، التي تعد إحدى أهم مدن العلم الديني في اليمن وتضم عشرات المساجد والمدارس التي استقبلت آلاف الطلاب عبر القرون.

 

العصور الوسطى والحديثة

 

في العصور الوسطى، تبعت حضرموت الدول الصليحية والرسولية والطاهرية التي حكمت اليمن من القرن الثالث عشر إلى منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، لكنها احتفظت بقدر من الاستقلال بسبب امتدادها الجغرافي الواسع وصعوبة إخضاعها لسلطة مركزية واحدة.

 

ومع مرور الزمن، ظهرت في الإقليم سلطنتان بارزتان: السلطنة الكثيرية التي قامت في أواخر القرن الخامس عشر في وادي حضرموت، والسلطنة القعيطية التي تأسست في القرن التاسع عشر على الساحل.

 

وقد أدارت كل منهما شؤونها الداخلية ووسعت نفوذها عبر القبائل والمدن، وظلت في الوقت نفسه خاضعة شكلياً للقوى الكبرى التي تعاقبت على حكم اليمن.

 

ولعبت القبائل الحضرمية دوراً مهماً في حفظ التوازنات الاجتماعية والسياسية، إذ كانت تتحكم في موارد المياه والزراعة والرعي، وتفرض حضورها عبر الأعراف القبلية التي شكلت أساس السلطة المحلية في المنطقة.

 

مع تزايد الاهتمام العالمي بالمحيط الهندي في القرن التاسع عشر، اكتسبت حضرموت وزناً أكبر بحكم موقعها الساحلي، وتشير دائرة المعارف البريطانية إلى أن هذا الموقع جعل بريطانيا تسعى لعقد معاهدات حماية مع عدد من السلاطين في جنوب الجزيرة العربية، ومنها السلطنتان الكثيرية والقعيطية في حضرموت.

 

ومع استمرار النفوذ البريطاني في المنطقة، أسست لندن عام 1962 اتحاد إمارات الجنوب العربي الذي ضم 12 سلطنة ومشيخة، غير أن سلطنتي حضرموت ظلتا خارج هذا الاتحاد بحسب الوثائق الرسمية البريطانية.

 

وفي ستينيات القرن الماضي، أثّر انقلاب عبد الله السلال في شمال اليمن على الأجواء السياسية في جنوبه الخاضع للحماية البريطانية، بما في ذلك حضرموت التي شهدت اضطرابات محدودة في المكلا.

 

وتختلف تفسيرات المؤرخين لهذه الأحداث، إذ يربط بعضها ذلك بموجة التحولات السياسية والقومية التي شهدها جنوب اليمن آنذاك، فيما ترى قراءات أخرى أنها جاءت في سياق الاضطرابات التي رافقت تلك المرحلة في مناطق النفوذ البريطاني.

 

بعد الجلاء البريطاني وقيام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الجنوب عام 1967، انتهى حكم السلطنات في حضرموت وبقية مناطق الجنوب، وأصبحت المحافظة جزءاً من الدولة الجديدة التي شهدت تحولات اقتصادية واجتماعية، ولا سيما في مجالات التعليم وتحديث الإدارة وتنظيم الحياة القبلية.

 

ومع إعلان الوحدة اليمنية عام 1990، أصبحت حضرموت إحدى المحافظات الرئيسية في الجمهورية اليمنية، مستندة إلى ثرواتها الطبيعية، خصوصاً النفط الذي يُعد من أهم مواردها.

 

تعد حضرموت مركزاً مهماً للتراث المعماري اليمني، وتشكل عمارتها الطينية أحد أبرز معالمها، خصوصاً في مدينة شبام التي تعرف بـ"مانهاتن الصحراء" بسبب مبانيها الطينية الشاهقة.

 

وصنّفتها منظمة اليونسكو مدينة تراث عالمي لما تمثله من نموذج معماري نادر يظهر قدرة البناء الطيني على مقاومة المناخ القاسي، ويعكس تطوراً حضرياً متراكماً عبر قرون. ويعد وادي حضرموت اليوم من أكبر الوديان المأهولة في اليمن، وتبرز مدينة سيئون فيه كمركز إداري مهم، وتشتهر بقصر السلطان الكثيري، أحد أكبر المباني الطينية في العالم.

 

وتمثل مدينة تريم الوجه الديني والثقافي لحضرموت، إذ ارتبط اسمها بالعلم الشرعي وبشخصيات دينية كان لها حضور واسع في العالم الإسلامي، بينما تحتفظ مدينة الشحر بتاريخ بحري عريق بوصفها ميناء نشطاً لتصدير السلع عبر البحر العربي.

 

الحرب في اليمن: قصر سيئون المبني من الطوب اللبن "مهدد بالانهيار"

 

وعلى الصعيد الاقتصادي، تعد حضرموت من أهم المناطق النفطية في اليمن، وتحتضن منطقة المسيلة عمليات استخراج وإنتاج النفط منذ تسعينيات القرن الماضي، ما منح المحافظة وزناً اقتصادياً وفر فرص عمل في بعض المدن، رغم استمرار تحديات البنية التحتية والخدمات.

 

وبفضل تاريخ طويل من الهجرة نحو شرق أفريقيا وجنوب آسيا ودول الخليج، ترك الحضارمة أثراً ثقافياً وتجارياً بارزاً في المجتمعات التي استقروا فيها، وأسهموا في نشر اللغة العربية والثقافة الإسلامية.

 

كما قدّمت حضرموت شخصيات بارزة في مجالات العلم والدين والأدب والتاريخ، ما جعلها خزاناً معرفياً وثقافياً يمتد أثره داخل اليمن وخارجه. ومع استمرار التحولات السياسية في البلاد، تبقى حضرموت محافظة ذات أهمية استراتيجية تجمع بين إرث تاريخي وثقافي عميق وثروات اقتصادية مؤثرة.

 

 


مقالات مشابهة

  • تحريات أمن الجيزة تكشف لغز العثور على جثة سمسار بحدائق أكتوبر
  • غرائب الإنترنت
  • للزمالك.. رب يحميه!
  • أحمد سيد  : أزمة ثقة.. عقدة تعرقل انطلاق برنامج الطروحات بالبورصة
  • جلسة صلح تنهي خصومة ثأرية استمرت سنوات في بنى سويف
  • الشرع: سوريا تحولت من مُصدر للأزمات إلى نموذج للاستقرار
  • حضرموت اليمنية… كيف تحولت من مملكة تاريخية إلى ساحة تنافس إقليمي؟
  • إعادة تدوير الماضى
  • الإخوان من واشنطن إلى السودان
  • الميكروباص والتوكتوك والموتوسيكلات تقتل الطب والأطباء