ما أجمل خلق ” العفو والمسامحة ” وما أعظم أثره في حياة الأفراد والمجتمعات، ولعل هذا الخلق أسمى ما يكون في صورته الإسلامية التي حض عليها القرآن الكريم وتجسدت في خلق وسيرة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، فقد ورد توجيه المؤمنين وأمرهم بالعفو عن الناس والصفح وقبول الأعذار في الكثير من مواضع القرآن الكريم، وذلك مقتضى الإيمان بأحد أسماء الله الحسنى “العفو”، فالله عز وجل هو الذي يحب العفو ويعفو عن الناس ويغفر السيئات ويتجاوز عن المعاصي، قال الله تعالى: ﴿فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء: 99]، وقال عز وجل: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30]، بل إن الله تعالى جعل عفو العباد عن بعضهم مقروناً بعفوه سبحانه عن عباده، فمن أراد أن يعفو الله عنه ويغفر له فليغفر لعباد الله ويعفو عنهم، قال تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور: 22]، وقال سبحانه: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [ سورة الشورى: 40]، وقال عز وجل في موضع آخر من سورة آل عمران: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ** الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 133-134].
وقد أمر الله تعالى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بالتحلي بهذا الخلق العظيم فقال تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ** وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [ فصلت: 34-35]. وكان صلى الله عليه وسلم خير من يمتثل لهذا الأمر وخير قدوة للمسلمين من بعده في العفو والصفح عن الناس، ومواقف سيرته تشهد على ذلك، ومنها ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “” كُنْتُ أَمْشِي مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعليه بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فأدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حتَّى نَظَرْتُ إلى صَفْحَةِ عَاتِقِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ أَثَّرَتْ به حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِن شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قالَ: مُرْ لي مِن مَالِ اللَّهِ الذي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ له بعَطَاءٍ “”. قال الإمام النووي رحمه الله معلقاً: ” فيه احتمال الجاهلين والإعراض عن مقابلتهم، ودفع السيئة بالحسنة، وإعطاء من يتألف قلبه .. وفيه كمال خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلمه وصفحه “. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: “ما ضَرَبَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ شيئًا قَطُّ بيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا؛ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ في سَبيلِ اللهِ، وَما نِيلَ منه شَيءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِن صَاحِبِهِ؛ إلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيءٌ مِن مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ”.
ولأن رمضان شهر العفو وموسم المغفرة الذي يمنّ الله تعالى به على عباده كل عام، فيضاعف فيه حسناتهم ويغفر فيه ما تقدم من ذنبهم إذا صاموه إيماناً واحتساباً، فعباد الله المؤمنين أحرى الناس بأن يعفوا عن الناس ويتجاوزوا عمن أساء إليهم وأخطأ بحقهم في هذا الشهر الفضيل، حتى ينالوا بذلك عفو الله تعالى ومغفرته ومرضاته. فيجب أن يكون رمضان موسماً للعفو والتسامح بين المسلمين أنفسهم ومع غير المسلمين أيضاً، حيث تتآلف القلوب وتختفي الضغائن والأحقاد ويتصالح المتخاصمون، والحقيقة أن التحلي بهذا الخلق ليس سهلاً، فلا يمارسه ويطبقه إلا من كمل إيمانه وإحسانه، وهذا ما دل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ** وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: 34-35].
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: صلى الله علیه وسلم الله تعالى عن الناس اه ا إ ل
إقرأ أيضاً:
أعمال العشر الأوائل من ذي الحجة .. تعرف عليها
قالت دار الإفتاء المصرية، إن زيادة عمل الخير والبر بشتَّى أنواعه خلال العشر الأوائل من ذي الحجة يُقرِّبُنا إلى الله تعالى، فعلى المسلم أن يغتنم الفرصة في العشر الأوائل من ذي الحجة بالإكثار من الصلاة والصيام والصدقة.
كما يستحب لكل مسلم في العشر الأوائل من ذي الحجة ألا يغفل عن موسم من مواسم الخيرات والبركات، وعليه التصدق وبذل الإحسان للناس خلال العشر الأوائل من ذي الحجة له أجر عظيم، ولا ينسى الإكثار من ذكر الله والدعاء خلال العشر الأوائل من ذي الحجة.
أعمال العشر من ذي الحجةومن أعمال عشر ذي الحجة ما يلي:
- الدعاء يوم عرفة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له» أخرجه مالك في الموطأ.
- لبس الثياب الحسن يوم العيد:
عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العيدين أن نلبس أجود ما نجد، وأن نتطيب بأجود ما نجد، وَأَنْ نُضَحِّيَ بِأَسْمَنِ مَا نَجِدُ» أخرجه الحاكم في المستدرك.
- الأضحية:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما عمل آدميٌّ من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها -أي: فتوضع في ميزانه- وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفسًا» أخرجه الترمذي.
- كثرة الذكر:
كما يستحبُّ الإكثار من الذكر في العشر من ذي الحجة، قال الله عز وجل: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: 28].
- التَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّحْمِيدُ:
قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمَ عِنْدَ اللَّهِ وَلاَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ» رواه الإمام أحمد.
- الصوم:
يسن صوم أول تسعة أيام من ذي الحجة؛ «وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ وَالْخَمِيسَ» أخرجه أبو داود.
ويستحب لمن أراد أن يضحي، ألا يقص شيئًا من شعره أو أظفاره.
- صيام يوم عرفة لغير الحاج:
قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ» أخرجه مسلم.