لجريدة عمان:
2025-05-29@14:48:16 GMT

المدن الجنائزية.. في كدم وبَهلا

تاريخ النشر: 28th, May 2025 GMT

كدم وبَهلا.. حوزتان متجاورتان بداخلية عمان؛ يفصل بينهما حوالي 7كم، كانتا في الألفية الثالثة قبل الميلاد تتّبعان «نظام المدينة الدولة» المنتشر بالمنطقة. وقفنا نتيجة البحث المتواصل في آثارهما على ظواهر عديدة وآثار فريدة، ففي كدم.. اكتشفتُ والابن عبدالرحيم سورها الممتد حوالي 26كم، وصور ملوكها الأقدمين، والسدود التي تغذي جانباً منها.

وعثرنا على أربعة محاجر؛ اثنين لتشذيب الحجارة الصغيرة للاحتياجات اليومية، واثنين لقطع الأحجار الضخمة. وتوسعنا في اكتشاف «معبد ني صلت»، الذي حدد الآثاريون بأنه يعود إلى تلك الأزمنة الغابرة، ووقفنا على معالمه الدينية كنُصب إلهَي الخصب، واللوحة التذكارية لأضاحي الأبقار، ومكان تقديمها وكهوف حرقها والاحتفالات الدينية، كل ذلك يحصل لأول مرة.

درج العمانيون على تسمية مقابرهم بـ«المدينة»، وكانوا إذا أطلقوا «المدينة» دون إضافة أو وصف انصرفت إلى المقبرة، والمدينة.. عموماً هي البلد الذي يستقر فيه الناس، وسميت يثرب بالمدينة لأنها كانت دار هجرة النبي الأكرم والمؤمنين ومستقرهم.

إن معظم الحضارات توجد فيها مدن جنائزية كالحضارة الفرعونية في مصر، والدول المعاصرة تستغل هذه المدن في السياحة وغيرها، فأرجو من بلادنا أن تستثمر في مدنها الجنائزية.

المقال.. يتتبع المدن الجنائزية في كدم وبَهلا، والمدينة الجنائزية.. هي المنطقة المخصصة لدفن الموتى وفقاً للمعتقدات السائدة في كل حقبة، ومنذ الألفية الثالثة قبل الميلاد حتى الميلاد انتشر في شبه الجزيرة العمانية ثلاثة أنواع من القبور البرجية «الركامية»: نوع يبنى فوق الجبال، يرجع إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد. ونوع يبنى على سطح الأرض، شاع في الألفية الثانية قبل الميلاد. ونوع في الألفية الأولى قبل الميلاد؛ حفر له في بطن الأرض. هذا التطور في الدفن يعود -فيما أرى- لتغيّر المعتقدات، والتي خضعت لأبعاد اجتماعية ونفسية، فعندما كان الناس يعتقدون أن أرواح أسلافهم تحرسهم جعلوا قبور موتاهم على قمم الجبال، لترصد من تسول له نفسه الاعتداء عليهم وعلى مملكتهم وأملاكهم. وعندما اعتقدوا أنهم بحاجة أن يستأنسوا بأروح أحبتهم الراحلين، دفنوهم بالقرب منهم على مستوى الأرض. وعندما حصل التعدي على الأموات ولوازمهم إلى العالم الآخر؛ حفروا لهم في بطن الأرض. ولا يحصل التبدل إلا بتجديد في أحكام الدين، أو تحول عنه.

أهالي بَهلا.. اعتادوا دفن موتاهم خارج سور بلادهم، فلا توجد مقابر داخله، إلا بعض قبور دفن فيها لظروف استثنائية كالخوف أو الليالي المطيرة والعاصفة. عادة الدفن خارج السور قديمة، حيث اعتاد أهالي كدم القدماء كذلك على دفن موتاهم خارج سور حوزتهم، لكن عادتهم انقطعت، وأصبحوا يدفنون مواتهم قريباً من قراهم، بسبب تغيّر المعتقدات، وضخامة الحوزة ونقصان عدد سكانها، والأودية الكبيرة التي تخترقها، مما جعلهم يستبعدون الدفن خارج السور؛ لاسيما أنه تهدّم حتى ذهب رسمه ونُسي ذكره. ورغم تغيّر المعتقدات في بَهلا إلا أن أهلها استمروا يدفنون مواتاهم خارج سور بلادهم لصغر مساحتها مقارنة بكدم، ولعدم وجود أودية تقطع عليهم، وللكثافة السكانية التي تجعل الدفن داخل الحوزة يضيق بسكناها وببساتينهم وسائر مرافقهم الحيوية.

عثرنا على مدينتين جنائزيتين: إحداهما في كدم، والأخرى في بَهلا، ترجعان إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، تقعان على جبلين غير مرتفعين كثيراً، وإن كانت الأخيرة أكثر ارتفاعاً من الأولى.

المدينة الجنائزية ببَهلا.. أقيمت في الطرف الجنوبي لسلسلة جبال كيد، القريبة الآن من جامع السلطان قابوس، وتقع على بُعد 3كم تقريباً شمال سور بَهلا. فُصِلتْ السلسلة بالطريق المتفرع من الطريق العام والمتجه غرباً نحو السهول الغربية لكيد؛ التي سرى إليها العمران في زماننا بسرعة كما سرى قبلها إلى السهول الشرقية، وقد أدركت كيد من دون عمران. أما اليوم.. فالعمران يصعد إلى المدينة الجنائزية، ويلتهم قبورها البرجية التي تبلغ المئات، وهذا ما بقي منها، فقد أعيد استعمال حجارتها خلال آلاف السنين الخالية.

المدينة الجنائزية ببَهلا.. توجد فوق سلسلة جبال كيد، وهي من النوع الأول من القبور البرجية التي تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، يمر تحت السلسلة وادي الحُمدات، ولعله كان دائم الجريان في تلك الحقب، وقد وجدنا في ممر الوادي أساسات لمبانٍ زائلة، لم نعرف طبيعتها، وتحتاج إلى تنقيب بحفر الأرض من قِبَل البعثات الأثرية. وعثرنا كذلك فوق قمة السلسلة بين القبور على أرض مستوية، يبدو أنها مهدت لإقامة طقوس الدفن.

توجد كذلك قبور من النوع الثالث العائدة إلى الألفية الأولى قبل الميلاد، قريباً من المقبرة الأقدم، عدد قبورها المنكشفة خمسة، تقع الآن بجوار مكتب الوالي بالمعمورة. ولأن الحياة متواصلة في بَهلا؛ فقد وجدت قبور من النوع الثاني التي تعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، إلا أنه قد سفتها القرون المتوالية، ولم نعثر على أثر لها قريباً من حوزة بَهلا، إلا أنه توجد آثار لها في الولاية على الجنوب من الحوزة بحوالي 25كم. وللبُعد الكبير عن حوزة بَهلا فلا أخال أنها لموتاها، وإنما لسكان عمروا تلك الأماكن، ثم انقرضوا.

المدينة الجنائزية في كدم.. تقع جنوب بلادسيت ببَهلا، غرب سور كدم بأقل من كيلو متر، وتبعد عن «المنطقة الإدارية» القديمة لكدم في منطقة المحمود بحوالي كيلو مترين، في نتوء جبلي منفرد، يضم حوالي 50 قبراً، ونظراً لكبر كدم؛ فهذه المدينة فيما يبدو واحدة من مدن جنائزية أخرى، لم نقف عليها؛ وربما أزيلت لإعادة استعمال الحجارة. و«سيت».. هو إله القوة في اللغة العمانية القديمة «اللغة السلوتية»، وقد تكون هناك علاقة بين اسم «سيت» واختيار مكان المقبرة؛ باعتبار صفة القوة للإله القابض للأرواح. كما وجدنا على الغرب من المدينة الجنائزية محجرين لقطع الأحجار الضخمة، اللذين أشرت إليهما أعلاه؛ مما قد يؤيد هذا التصور.

توجد في هذه المقبرة بعض الرسمات الصخرية، وعثرنا كذلك على قطع فخار، وبالمقارنة للمكتشفات الآثارية المعروضة في متحف سلّوت بولاية بَهلا فهي تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، وهي قطع لا زالت تحتفظ بنعومة ملمسها إلى حد ما، ورسم عليها خطوط متموجة باللون الأسود، ولا توجد عليها نقوش محززة عند الصنع. وعثرنا كذلك على صَدَف من النوع الذي يوضع في القبور خلال تلك الحقبة.

وقفنا كذلك على مكان مستوٍ فوق النتوء الجبلي الذي قُبر فيه، ربما أنه رتّب لإقامة الطقوس الجنائزية، مثلما هو الحال في المدينة الجنائزية ببَهلا. ومن المُتصوَّر.. أن جثامين الأموات في كلا الحوزتين كانت يُسار بها في موكب مهيب من أقارب الميت وأهالي البلد، يتقدمه الكهنة، حيث تُحمل الجنازة على الأكتاف في حالة تعبدية برجاء أن يتقبل الإله أعمال الميت، وعندما يُسجى الجسد في القبر على قمة الجبل تصعد الروح إلى السماء، بحسب المعتقد السائد قديماً.

انتهت تلك المعتقدات؛ وورثتها معتقدات أخرى، وهُجِرت المدن الجنائزية القديمة حتى نسيت، ولم يعد الناس يعرفون لماذا بنيت هذه المباني الحجرية فوق الجبال، ولا من بناها، ولا متى بنيت، وظنوها مراصد [سِيَب؛ جمع سِيْبَة] كالتي بنيت في الأعصر المتأخرة لحراسة البلد من الأعداء، أو بسبب الصراع القبلي، حتى جاء علم الآثار فنقّب فيها وقدم الدراسات حولها، وقد انتشرت هذه القبور في عمان القديمة، وبحسب تقديري.. تربو على نصف مليون قبر بأنواعها الثلاثة، في عموم الأرض العمانية؛ شاملةً مناطق عمان والإمارات، وأرجو أن تنسق الدولتان فيما بينهما للحفاظ على هذا التراث العريق.. بل أرجو أن تشكّل هيئة مشتركة لدراسة هذه الحضارة، قبل أن تسرع إليها المدنية فتجتثها من جذورها، ولا تبقي لها أثراً.

خميس بن راشد العدوي كاتب وباحث عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من النوع کذلک على

إقرأ أيضاً:

تصنيف: مراكش أفضل مدينة للإسترخاء في العالم

زنقة 20 ا مراكش | محمد المفرك

اختارت منصة “DiscoverCars.com” المتخصصة في خدمات تأجير السيارات مدينة مراكش كأكثر المدن المناسبة للباحثين عن الهدوء والسكينة متجاوزة مجموعة من المدن العالمية من بينها العاصمة البرتغالية لشبونة ومدينة إشبيلية الإسبانية.

وبذالك تواصل مدينة مراكش فرض تطورها السياحي حيث تصدرت قائمة المدن الأكثر راحة واسترخاء في العالم متفوقة بذلك على وجهات أوروبية شهيرة.

وأكدت المنصة أن مدينة مراكش تضم مزيجا فريدا يجمع بين حيوية ساحة جامع الفنا الشهيرة وهدوء وسكينة حدائقها السرية الأخاذة، مما يوفر تجربة متكاملة لزوارها
واعتمدت المنصة على عدة عوامل رئيسية من بينها سهولة الوصول إلى المدينة (متوسط تكلفة تذكرة الطيران) وأسعار الإقامة الفندقية، وعدد المطاعم ذات الأسعار المعقولة، بالإضافة إلى إمكانية استئجار السيارات، والظروف المناخية السائدة في كل مدينة.

مقالات مشابهة

  • 4 طرق مختلفة لـ استخراج شهادة الميلاد.. اعرف الخطوات
  • كيف اختفت أعياد الميلاد في غزة؟
  • سيفقد أولاد دقلو كل المدن التي سيطروا عليها وسيتحولون إلى مجرد مجرمين هاربين
  • الرئيس الشرع: نلتقي اليوم على ثرى حلب الشهباء هذه المدينة التي ما انحنت لريح ولا خضعت لعاصفة بل كانت القلعة وكانت الجدار وكانت الشاهد على الصمود
  • الركراكي: أنا لي ختاريت نلعبو فاس بعد غياب 16 عاماً
  • 80% من العراقيين مصابون بمرض التلوث الضوضائي
  • أسعار تحلّق في السماء!
  • الحكومة تقر حوافز استثمارية جديدة في الطفيلة الصناعية: وزير الاستثمار يزور المدينة بعد جلسة مجلس الوزراء
  • تصنيف: مراكش أفضل مدينة للإسترخاء في العالم