يدرك أعداء الأمّة أنّ وعي الشعوب يقلّص نفوذهم، ووحدة العلماء تهدّد عروش طواغيتهم، فما كان لهم أن يتركوا هيئة علمائية عالمية أن تنهض وتقوى، أو تثبت وتستمرّ، فحاربوها ووقفوا في وجهها.

وواجه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين حرباً ضروساً صامتة، استهدفت أسسه البنائية، ومبررات وجوده الفكرية، فانشغل عن طموحاته الكبرى في تنظيم الدعوة والدفاع عن مكتسبات الأمّة وتقوية ركائز وحدتها والعمل لرفعة رايتها، بالعمل على تثبيت بنيته الداخلية وتأكيد منظومته الفكرية، ووسطيته الدعوية، واقتصر عمله على إصدار البيانات في النوازل والقضايا الطارئة، وطباعة الكتب التأصيلية للوسطية والانفتاح على الآخر، وهي كتب لم تصدر بناءً لخطة محكمة ومستهدفات موجّهة، بل كان إصدارها على همّة مؤلفيها من علماء الاتحاد وقادته، إضافة إلى عدد من المبادرات العملية التي توجّه فيها الاتحاد إلى بعض قادة الدول في مساعي المصالحة أو المساندة وتصويب الموقف.



لكنّ الاتحاد لم ينجح، فيما بدا من حركته الميدانية، في جمع  علماء أهل السنّة والجماعة، بمشاربهم المختلفة وولاءاتهم المتعدّدة، تحت رايته، ولا استيعاب الشيعة الإثنا عشرية ضمن صفوفه، حتى لتكاد جموع المنتسبين إليه تعطيه هوية خاصة يتجانسون في الرؤية والمشرب، كما لم يستطع الاتحاد إنتاج عمل دعوي فاعل، يوجّه الدّعوة في أوساط المسلمين، فضلاً عن تنظيم البرامج لدعوة غير المسلمين، والتبشير بهذا الدين كبديل حضاري يحقّق للبشرية الأمن والرفاه والعدالة الاجتماعية والمساواة.

وكان طبيعياً، أن يتراجع دور الاتحاد عن الأهداف المرسومة والتأثير المتوقع، في ظلّ ضبابية الأهداف الكبرى والموجّهات الاستراتيجية في خطط الاتحاد، وغياب التوازن المطلوب في مشاريعه بين السياسة والدعوة، كما بين الأمر الذي جعل بيانات الاتحاد ردّات فعل للأحداث القائمة، حيث أضحت حركة قياداته استجابة آنية لما يفرضه الواقع من مواقف، وموجّهات خططه حبراً على ورق ينتظر الآليات الإدارية الديناميكية القادرة على إخراجها من حيّز الطموح إلى واقع التطبيق.

إخفاقات تحتاج إلى علاج

عندما تضيع الأهداف الكبرى ينشغل الكبار بالوسائل والأدوات، والطوارئ والإداريات! وهكذا مرّت السنوات ولم يتمكّن الاتحاد من وضع أهداف ذكية يمكنه معها قياس أدائه، أو بناء هياكّل عملية تمكّنه من استثار ما يملك من طاقات في شتى بقاع المعمورة، فظلّت خططه آنية، وإنجازاته مرحلية، ومبادرته ردّات فعل، وخططه مجرّد طموحات، وعمله الجماعي قرارات يأخذها المركز ويسعى إلى تنزيلها على الأفراد. فعلى المستوى الإداري لم ترتق اللوائح والنظم إلى الاستفادة من التطور الحضاري والتقني في نظم الإدارة وأدوات التواصل، وعلى المستوى المالي لم يتمكّن الاتحاد من الاستغناء الذي لا بدّ منه للاستقلال، وهو الذي أعلن منذ اليوم الأول انحيازه للشعوب، وابتعاده عن كلّ تأثير سلطوي أو ارتهان، وعلى مستوى الوحدة لم يتمكن من النجاح في مواجهة تحدّيات أجهزة الأمن وألاعيب السياسة وتراكم تراث خلافات القرون، فلم يستطع تجاوز الشروخ القائمة بين السنة والشيعة، كما بين المتصوفة والسلفيين، أو بين المؤسسة الرسمية والحركيين، وانعكس ذلك على الاتحاد في عضويته، حيث تداخلت رغائب الاستقطاب الداخلي في صراع بناء القوة والتأثير، مع تحدّي الاستيعاب الفكري لهذه المكوّنات، ممّا أفقد هذا الجسم الكبير التوازن المطلوب، والتماسك الهيكلي الفاعل، والأهداف العالية التي توجّه الأفراد وتحكم السلوك والمواقف والتوجّهات.

الاتحاد بين الشعوب والحكومات

لطالما أكّد الاتحاد في اجتماعاته وتصريحات قياداته حياديته واستقلال قراره، وأنّه فوق الحكومات، لا يتبع لإحداها، ولا يتأثر بسياسات بعضها، فالعالِم يوقّع بفتواه عن رب العالمين، وينطق بأمر الشرع والدين، دون حسابات  السّاسة ومصالح  هذا المسؤول أو ذاك، إذ همّه خير الأمّة دون الالتفات للاعتبارات القطرية لهذه الدولة أو تلك، وما يحرّكه هو نصوص الشريعة واجتهاد العلماء الربّانيين، وشؤون الأمّة العليا ومصالح المسلمين، وخير البلاد والعباد في كلّ وقت وحين، وهو لا يدخل في لعبة التنافس على المواقع والتصارع على المكاسب، فليس لقيادته أو أفراده عند الدول والحكومات مطامح أو مطامع، وما يحكم فتواه أمران اثنان: نصوص الشرع ومصالح العباد، وهذه ضوابط دونها تحدّيات جسام، فالسياسة التي تتحكّم بحركة الأفراد وموارد المؤسسات، لن تترك الأفراد بعيداً عن استهداف التأثير فيها، ولا المؤسسات خارج مرمى نيران الرغبة بالسيطرة عليها، الأمر الذي يضع رئيس الاتحاد وأمينه العام، وكلاهما يحمل الجنسية القطرية، أمام تحدّي النزاهة والتجرّد والحياد، وسط تجاذبات المحور ورغبات الاستقطاب الجامحة فيه.

التحدي الكبير أمام مؤسسات الاتحاد القيادية في هذه المرحلة التنظيمية ليس إحداث خروق في مستهدفات عالمية، بل في المحافظة على هوية الاتحاد وثوابته التي قام عليها، واستثمار الطاقات العلمائية العالمية الهائلة في خدمة هذه الأهداف.المراجعات المطلوبة

لقد نجح الاتحاد في المحافظة على تماسك بنيته الهيكيلة وصورته العالمية رغم التصدّعات العميقة التي أصابته، والأمراض التي ضربت جسده، لكنّ التحدي الكبير أمام مؤسسات الاتحاد القيادية في هذه المرحلة التنظيمية ليس إحداث خروق في مستهدفات عالمية، بل في المحافظة على هوية الاتحاد وثوابته التي قام عليها، واستثمار الطاقات العلمائية العالمية الهائلة في خدمة هذه الأهداف.

ويمكن اختصار ذلك في عناوين ثلاثة هي الوحدة والاستقلال والفاعلية.

ـ أمّا الوحدة فتتطلب من قيادة الاتحاد التي أعطيت تلك الثقة العالية في اجتماع الجمعية العمومية، الجرأة في إجراء مراجعات صريحة حول الهوية والثوابت، وعدد من القرارات والإجراءات التي اجتهدت فيها القيادة السابقة، سواء كان ذلك بالاستجابة للتحديات الموجّهة، أو القرارات التي أدّت إلى تلك الشروخ العميقة في جسم الاتحاد وبنيته، وتأكيد الرغبة وأخذ المبادرات التي تسعى لجمع الأطياف الإسلامية المتنوعة: الفكرية والمذهبية تحت مظلة الاتحاد، وعودة السلفي والرسمي والشيعي ليكون جزءاً فاعلاً في مسيرة بناء الأمّة القوية.

ـ وأمّا الاستقلالية فقضيّة في غاية الخطورة والأهمية، ويمكن مقاربتها من خلال سياسات مالية متخصّصة، واستثمارات وقفية منتجة، وآليات إدارية شورية شفافة، تحقّق الحوكمة، وتتيح المساءلة، وتعزّز التشاركية، وترشّد القرارات، وتحرس الحياد والتجرّد والاستقلالية، مع التأكيد على أقصى درجات الشفافية والحياد والابتعاد عن المصالح الشخصية والمطامح الدنيوية، فبذلك نبني الاتحاد الحرّ في قراره، المستقلّ في خياراته.

ـ وأما الاستثمار في طاقات الأمّة فيعني بالضرورة الاستفادة من تقنيات العصر، ووسائل التواصل، وطرائق الإدارة الحديثة، لابتكار الآليات التي تيسّر الاستفادة من آراء جميع أعضاء الاتحاد، فيساهم الجميع في أخذ القرار، ويغتني القرار برأي الكلّ، بدلاً من الواقع الذي يُطلب فيه من الجميع الانقياد للرأي الذي يأخذه الرئيس أو مجلس إدارته.

هي تحدّيات جسام ومسؤوليات عظام، لكنّ الثقة بالقامات الكبيرة التي يضمّها الاتحاد، والالتفاف الواسع من علماء الأمّة حول القيادة المنتخبة، يفتح الباب واسعاً لآمال نرجو أن نراها واقعاً يساهم في عودة الإسلام إلى موقع التأثير والاستخلاف، والشهود الحضاري وفق تعاليم الوحي.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الأهداف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين رأي خطاب أهداف مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد سياسة مقالات سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الأم ة

إقرأ أيضاً:

وزير الداخلية السوري السيد أنس خطاب: في اليوم العالمي لمكافحة المخدرات نُجدّد في وزارة الداخلية التزامنا بمواجهة هذه الآفة التي تهدّد الأمن المجتمعي وسلامة شبابنا وبلادنا، وزارة الداخلية تواصل بحزم وعزم تنفيذ حملات مكثفة لضبط شبكات التهريب والترويج وضرب أ

2025-06-26Zeinaسابق المعهد العالي لإدارة الأعمال يمدد تسجيل ماجستير إدارة الرعاية الصحيةالتالي وزير الداخلية السوري السيد أنس خطاب: مكافحة المخدرات جزء من معركتنا لحماية حاضر سوريا ومستقبلها وندعو الأهالي والمجتمع المدني للوقوف معنا ودعمنا في هذه المواجهة فالحرب على المخدرات ليست أمنية فقط، بل هي واجب أخلاقي واجتماعي ووطني لا تهاون فيه. (تغريدة عبر X) انظر ايضاًوزير الداخلية السوري السيد أنس خطاب: مكافحة المخدرات جزء من معركتنا لحماية حاضر سوريا ومستقبلها وندعو الأهالي والمجتمع المدني للوقوف معنا ودعمنا في هذه المواجهة فالحرب على المخدرات ليست أمنية فقط، بل هي واجب أخلاقي واجتماعي ووطني لا تهاون فيه. (تغريدة عبر X)

آخر الأخبار 2025-06-26وزير الداخلية السوري السيد أنس خطاب: مكافحة المخدرات جزء من معركتنا لحماية حاضر سوريا ومستقبلها وندعو الأهالي والمجتمع المدني للوقوف معنا ودعمنا في هذه المواجهة فالحرب على المخدرات ليست أمنية فقط، بل هي واجب أخلاقي واجتماعي ووطني لا تهاون فيه. (تغريدة عبر X) 2025-06-26وزير الداخلية السوري السيد أنس خطاب: في اليوم العالمي لمكافحة المخدرات نُجدّد في وزارة الداخلية التزامنا بمواجهة هذه الآفة التي تهدّد الأمن المجتمعي وسلامة شبابنا وبلادنا، وزارة الداخلية تواصل بحزم وعزم تنفيذ حملات مكثفة لضبط شبكات التهريب والترويج وضرب أوكار التخزين والاتجار بلا هوادة لتكون سوريا خالية من هذه السموم. (تغريدة عبر X) 2025-06-26المعهد العالي لإدارة الأعمال يمدد تسجيل ماجستير إدارة الرعاية الصحية 2025-06-26وزارة السياحة تضع برامج لإعادة إطلاق المنشآت والمشاريع المتعثرة في سوريا 2025-06-26توحيد رسوم العبور وتسهيلات جديدة لحركة النقل بين سوريا والأردن 2025-06-26وفد من الشؤون السياسية يزور كنائس عدة في حمص 2025-06-26العاملون في القطاع التربوي: زيادة الرواتب في سوريا نقلة نوعية نحو حياة كريمة 2025-06-26الجمعية الفلكية السورية: التقويم الهجري دقة علمية ومرجع لحسابات الملاحة الفضائية 2025-06-26السماح باستكمال إجراءات تسجيل الدكتوراه في الجامعات الحكومية 2025-06-26منظمة الصحة العالمية: أكثر من 666 مليون شخص يعيشون دون كهرباء

صور من سورية منوعات دراسة أمريكية حديثة: الحديد لتنقية المياه 2025-06-25 “آبل”: الذكاء الاصطناعي يفتقر للتفكير العميق 2025-06-22فرص عمل وزارة التجارة الداخلية تنظم مسابقة لاختيار مشرفي مخابز في اللاذقية 2025-02-12 جامعة حلب تعلن عن حاجتها لمحاضرين من حملة الإجازات الجامعية بأنواعها كافة 2025-01-23
مواقع صديقة أسعار العملات رسائل سانا هيئة التحرير اتصل بنا للإعلان على موقعنا
Powered by sana | Designed by team to develop the softwarethemetf © Copyright 2025, All Rights Reserved

مقالات مشابهة

  • “الأغذية العالمي”: المساعدات التي وصلت غزة منذ أيار أقل من احتياجات يوم واحد للسكان
  • وزير الداخلية السوري السيد أنس خطاب: في اليوم العالمي لمكافحة المخدرات نُجدّد في وزارة الداخلية التزامنا بمواجهة هذه الآفة التي تهدّد الأمن المجتمعي وسلامة شبابنا وبلادنا، وزارة الداخلية تواصل بحزم وعزم تنفيذ حملات مكثفة لضبط شبكات التهريب والترويج وضرب أ
  • “الأغذية العالمي”: المساعدات التي ادخلت أقل من حاجة غزة وتكفي ليوم واحد
  • مؤمن الجندي يكتب: أشرف محمود.. الذي علق فأنطق الهوية
  • محرم فؤاد.. صوت النيل الذي غنى للحب والوطن وتزوج ملكة جمال الكون
  • يورينتي: الخسارة أتليتكو مدريد أمام باريس كلّفتنا كثيرًا
  • حزب الاتحاد: يجب تحصين المنطقة من سيناريوهات الانفجار التي تهدد الشرق الأوسط
  • استاد ميتلايف يحتضن المواجهة الحاسمة بين الأهلي وبورتو.. شاهد
  • سعر الدولار يغير مساره أمام الجنيه في البنوك.. ما الذي يحدث؟
  • بن رمضان قبل مواجهة بورتو: سنحاول التسجيل لإسعاد الجماهير