كي لا تصبح #الأكاذيب #حقائق
المهندس : عبدالكريم أبو زنيمه
لطالما تمنيت أن أتفاخر وأكتب شيئا عن عالمي العربي ، لكني وكأيِّ مواطنٍ عربي أُفجع يوميا بمذلة ومهانة تسببها أنظمة حكمنا التي تجاوزت ما كان يتم بالأمس سراً وخفية إلى الاصطفاف علناً مع الكيان الصهيوني والدفاع عنه بل وذهب البعض منهم إلى المشاركة في إبادة أخوتنا في غزة ، هذا التظهير العلني الفجّ لجوهر وحقيقة ارتباط النخب العربية الحاكمة مع المشروع الصهيوأمريكي جاء بعد عقود من الضخ الإعلامي الكاذب والمزيف والدسائس لغسل أدمغة الأجيال لتحسين صورة هذا الكيان اللقيط وإيجاد عدو وهمي بديل له ، هذه الأنظمة التي كانت بالأمس صديقة وحليفة ومطيعة لشاه إيران الحليف الاستراتيجي والصديق لدويلة الكيان سرعان ما انقلبوا على الثورة الإسلامية الايرانية التي اعلنت مباشرة وبأجراءات عملية عدائها للكيان ومناصرتها للقضية الفلسطينية .
لبلوغ هدف إيجاد العدو الوهمي للكيان أنفقت المليارات ، ولغايات تحقيقه كان لا بد من أن تكون أهم ادواته وأنجحها أقلام ووجوه عربية إسلامية ، ومن عايش حقبة العقود الأربعة الماضية شاهد وعايش كيف أُججت النعرات والفتن المذهبية والطائفية التي لم تكن موجودة أصلاً ، وكيف نشطت الحركات والأحزاب الإسلامية المتطرفة في بث سموم الفرقة والعداء بين جناحي العالم الإسلامي وضلّلت وتضلّل بخطابها الديني وسلوكها المتطرف أجيالاً من الشباب العربي والإسلامي ، وهي ذاتها من قاتلت في الخنادق الأمريكية شرقاً وغرباً ولم تُطلق رصاصة واحدة ضد الكيان الصه..يوني .
رافق ذلك شراء أقلام وكتبة وإعلاميين مأجورين وُظِّفوا لسوق أكاذيب وتصنيع فبركات إعلامية ودسائس لتشويه الصورة الحقيقة لإيران على مدار تلك العقود ومنها وجود مؤامرة وتحالف بين إسرائيل وإيران ، المواجهة الأخيرة بين إيران والكيان واعتراف كل قادة الكيان ورعاتهم الغربيين بأنَّ إيران تشكل خطراً وجودياً حقيقياً على الكيان الصه..يوني ، هذه المواجهة فضحت زيف ودسائس وارتهان وارتزاق أصحاب ودور تلك الأقلام ومدى ارتباطهم وخدمتهم للمشروع الصهيوأمريكي ، اليوم لم يعد بمقدورهم أن يتحدثوا عن المؤامرة وتحولوا للحديث عن النوايا العدائية الإيرانية لعالمنا العربي ، والمفارقة أنَّهم لا يتحدثون مطلقاً عن مخاطر احتلال الغرب وانتشار قواعده العسكرية على كامل جغرافيا وطننا العربي ولا عن التوسع الصهيو..ني ولا عن مخاطر التطبيع .
الحقيقة أن هناك ثلاثة مشاريع تتصارع في عالمنا العربي ، المشروع الصهيوأمريكي والتركي والإيراني ، للأسف أنّه ليس لنا نحن العرب أيّ مشروع سوى التآمر على بعضنا ، والمؤسف أكثر بل والمخزي أنَّ غالبية أنظمة حكمنا تصطف مع المشروع الصهوأمريكي ” معاهدات ، اتفاقيات وتعاون أمني ، تطبيع ، ناتو عربي إسرائيلي ، مشاريع إستراتيجية مشتركة ” ، المشروع التركي عضو الناتو المتحالف مع الكيان بعلاقات إستراتيجية وأهمها الامنية والعسكرية وهو من هبَّ لتقديم كل أشكال الدعم للكيان العنصري حين حوصر في البحر الأحمر يصفق له ويتغنى به ! إيران التي سلَّحت وموَّلت حركات المقاومة العربية في فلسطين ولبنان واليمن والعراق نلعنها ونسبها ونتكهن بسوء نواياها بل وننعت حركات المقاومة بأذرع إيران ! حزب الله الذي قدم من التضحيات ما لم تقدمه الكثير من الدول العربية مجتمعة ننعته بحزب اللات ! رمز المقاومة وبطل التضحيات والشهيد ووالد الشهيد ننعته بأوصاف ومسميات يخجل من ذكرها حتى الصهاينة أنفسهم ، أنصار الله العرب الأقحاح الذين حاصروا الكيان في البحر الأحمر ويقصفونه شبه يومي وواجهوا امبراطورية الشر الأمريكية ننعتهم بالحوثيين ! أي مأجورين أنتم ؟!
لا أحد ينكر بأن من مصلحة إيران إيجاد حلفاء لها لتحصين أمنها القومي ومواجهة المخاطر ، فهي لم تجد أنظمة عربية تكنُّ العداء وتقاوم وتتصدى للتوسع الصهيوأمريكي ، وكلنا يعرف أنَّ غالبيتها تابعة أمريكيا ، إيران لم تجد إلّا بعض الأحزاب وحركات المقاومة المصنفة عربياً بأنَّها منظمات إرهابية لتتحالف معهم وتسلِّحهم وتموِّلهم ، ولولا هذا المحور المقاوم وتضحياته الجسام وفي مقدمتها غزة لنُفِّذتْ صفقة القرن ولما بقيت هناك قضية فلسطينية ولكننا نعيش اليوم في الشرق الأوسط الجديد الذي بشَّرت به كوندا ليزا رايس وتبناه نتن ياهو وسعى لتحقيقه .
المقال يطول ويطول ، فكفاكم تضليلاً ، أكاذيبكم لن تصمد طويلاً أمام الحقائق ، ففي عالمنا العربي والإسلامي لم يعد هناك من يتصدَّى للمطامع الاستيطانية التوسعية للمشروع الصهيوأمريكي إلّا إيران وحلفائها ، ومن يعتقد أنَّ الكيان العنصري وصل إلى هذا الحد من الديمومة والبطش والبلطجة والتوحش والإبادة في فلسطين بفضل عوامل داخلية ودعم غربي مخطيء تماماً ، فالفضل أولاً وأخيراً للرعاية العربية له وليس لإيران .
مقالات ذات صلة
المصدر: سواليف
إقرأ أيضاً:
الناجون في غزة: حين تصبح النجاة شكلاً آخر للموت
#الناجون في #غزة: حين تصبح #النجاة شكلاً آخر للموت
الدكتور #حسن_العاصي
باحث أكاديمي وكاتب فلسطيني
في غزة، لا تنتهي #الحرب حين تسكت المدافع، ولا يُعلن النصر حين تُرفع الرايات، ولا يُحسب النجاة بعدد الأحياء. في غزة، الحرب ليست حدثاً طارئاً، بل زمنٌ مقيم، ينسج تفاصيل الحياة كما ينسج الموت ملامحه. حين يُقال إن الحرب قد تتوقف بعد ساعات أو أيام، لا ينهض الأمل من تحت الركام، بل يتساءل الناس: من بقي؟ من لم يُفقد؟ من لم يُكسر؟ من لم يُدفن حيًا في ذاكرته؟
مقالات ذات صلةفي غزة، لا يُقاس البقاء بالنبض، بل بما تبقى من الإنسان في الإنسان. الأحياء ليسوا بالضرورة ناجين، فقد يكون الناجي هو من رحل قبل أن يرى أطفاله يتناثرون كأوراق الخريف، أو من لم يشهد بيته يتحول إلى غبار، أو من لم يسمع صراخ أمه وهي تُسحب من تحت الأنقاض. الناجون في غزة لا يحملون وسام الحياة، بل يحملون عبء الشهادة المؤجلة، وذاكرة لا تُشفى، ووجوهاً تبحث عن ملامحها في المرايا المكسورة.
في غزة، كل لحظة حياة هي اختبارٌ للنجاة، وكل نجاة هي خيانةٌ للموتى الذين لم يُودَّعوا، ولم يُدفنوا كما يليق بالشهداء. حين تتوقف الحرب، لا يعود الناس إلى بيوتهم، بل إلى أطلالٍ يتعلمون كيف يسكنونها من جديد، كيف يربّون أطفالاً بلا مدارس، كيف يزرعون أرضاً بلا ماء، كيف يكتبون رسائل بلا بريد، كيف يحبّون بلا مستقبل.
في غزة، لا تنتهي الحرب، بل تتخذ شكلاً آخر، أكثر خفاءً، أكثر قسوةً، أكثر استنزافاً. فهل نجا أحد؟ وهل من بقي حياً يمكن أن يُسمى ناجياً؟ أم أن النجاة في غزة هي شكلٌ آخر من الموت، مؤجلٌ، متكررٌ، لا يُعلن في نشرات الأخبار، بل يُكتب في العيون، ويُحفر في القلوب، ويُروى في صمت الأمهات؟
هذه ليست مقدمة لمقال، بل نداءٌ من قلبٍ لا يعرف كيف يهدأ، من روحٍ لا تعرف كيف تنسى، من ذاكرةٍ لا تعرف كيف تتوقف عن النزيف. هذه غزة، حيث الحياة لا تشبه الحياة، وحيث الموت لا يشبه الموت، وحيث النجاة لا تشبه النجاة.
ما بعد الصمت: حين تتوقف الحرب
حين يُقال إن الحرب انتهت، لا يعلو التصفيق في غزة، بل يهبط الصمت كستار ثقيل على مدينة لم تعد تعرف كيف تُعرّف نفسها: هل هي حيّة؟ هل هي ميتة؟ أم أنها عالقة بينهما، تتنفس من تحت الركام وتختنق من فرط الذكرى؟
الصمت لا يشبه السكون، بل يشبه المقابر حين تنسى أسماء من فيها، حين تتشابه القبور وتضيع الوجوه.
في اللحظة التي يُعلن فيها انتهاء القصف، لا يخرج الناس من بيوتهم، بل من بين الأنقاض، لا يحملون حقائبهم، بل يحملون ما تبقى من ملامحهم، من أصواتهم، من ذكرياتهم التي لم تُدفن بعد، من صورٍ كانت على الجدران واختفت.
الشوارع لا تستعيد ضجيجها، بل ترتجف تحت الغبار، والبيوت لا تفتح أبوابها، لأنها لم تعد تعرف من كان يسكنها، ولا من سيعود إليها. الأطفال لا يركضون نحو المدارس، لأن المدارس لم تعد موجودة، وإن وُجدت، فهي بلا جدران، بلا سبورة، بلا طمأنينة، بلا طفولة.
في غزة، حين يُقال إن الحرب انتهت، لا يعني ذلك أن الحياة بدأت، بل أن الموت غيّر شكله، وتخفّى في التفاصيل الصغيرة: في نظرة أمٍ تبحث عن ابنها بين القوائم، في يد طفلٍ ترتجف حين يسمع صوتاً يشبه الطائرة، في رجلٍ يجلس أمام بيتٍ لم يعد بيتاً، يحاول أن يتذكر كيف كان شكل الباب، كيف كانت رائحة المطبخ، كيف كانت ضحكة زوجته قبل أن تُسكتها القذيفة.
الصمت في غزة ليس راحة، بل سؤالٌ لا جواب له: من بقي؟ ومن لم يبقَ؟ ومن بقي ليحمل وجع من لم يبقَ؟ هذا هو ما بعد الحرب في غزة: زمنٌ لا يُقاس بالساعات، بل بالندوب، لا يُكتب في التقارير، بل في العيون، لا يُعلن في نشرات الأخبار، بل في صمت الأحياء الذين لم يعودوا يعرفون إن كانوا أحياء حقاً.
الناجون: هل هم أحياء؟ أم شهود على موتهم؟
النجاة في غزة ليست انتصاراً، بل لعنة معلّقة بين السماء والأرض. تشعر أن من بقي حياً يخفض رأسه خجلًا، كأن الحياة نفسها توبّخه على نجاته. الناجون لا يتحدثون عن أنفسهم، بل عن من رحلوا، كأنهم مجرد شهود على موتٍ لم يُكتمل، على قصةٍ لم يُكتب لها خاتمة، على وجوهٍ كانت معهم ثم اختفت، تاركةً خلفها فراغاً لا يُملأ.
في المستشفيات، تمشي أمٌ بين الأسرّة، لا تبحث عن علاج، بل عن اسمٍ في قائمة، عن وجهٍ بين الوجوه، عن يدٍ صغيرة كانت تمسك بها قبل أن يُفصل بينهما صوتُ انفجار. تسأل الأطباء عن ابنها، فيجيبونها بأسى: “لم يصل إلينا أحد بهذا الاسم”، فتخرج وهي تحمل في قلبها موتاً لا يُعلن، وجنازة لا تُقام، ودمعة لا تجد مكاناً لتسقط فيه.
في أحد الأزقة، يقف طفلٌ أمام جدارٍ مهدوم، يسأل أباه: “هل هذا بيتنا؟”، فيصمت الأب، لا يعرف كيف يشرح لطفله أن البيت ليس الجدران، بل الذكريات، وأن الذكريات احترقت مع القصف، وأن ما تبقى ليس بيتاً، بل شاهد قبرٍ كبير. الطفل لا يفهم، لكنه يشعر أن شيئاً ما انكسر، شيئاً لا يُصلح، شيئاً سيبقى معه إلى الأبد.
رجلٌ يعود إلى حيّه بعد إعلان وقف إطلاق النار، يمشي بين الركام، يبحث عن بيته، عن جيرانه، عن صوتٍ مألوف. لا يجد شيئاً. فقط لوحة صغيرة على جدارٍ نصفه مهدوم، كُتب عليها اسمه. يقف أمامها طويلاً، لا يعرف إن كان هذا شاهداً على بيته، أم على قبره. يلمس الحروف كمن يودّع نفسه، ثم يجلس على حجرٍ ويحدّق في الفراغ، كأنما ينتظر أن يخرج أحدهم من تحت الأرض ليقول له: “أنت حيّ، لكنك لم تنجُ”.
في غزة، كل حيّ يحمل موتاً داخلياً. الناس يمشون، لكنهم لا يتحركون. يتكلمون، لكنهم لا يسمعون أنفسهم. يضحكون أحياناً، لكنهم لا يعرفون لماذا. النجاة ليست حياة، بل استمرارٌ في الألم، في الذكرى، في الحيرة. من نجا، لم ينجُ من الخوف، من الذنب، من السؤال الذي لا إجابة له: لماذا أنا؟ لماذا بقيت؟ لماذا رحلوا؟
الناجون في غزة لا يحملون قصصاً عن النجاة، بل عن الفقد. لا يتحدثون عن كيف هربوا، بل عن من لم يستطيعوا إنقاذه. لا ينامون ليرتاحوا، بل ليهربوا من الصور التي تطاردهم. كل حيّ في غزة هو متحفٌ للموت، وكل حيّ هو شهادةٌ على أن النجاة ليست إلا شكلاً آخر من الفقد، من الانكسار، من الموت المؤجل.
الذاكرة كجبهة قتال: نحن الذين لم نُدفن بعد
في غزة، الذاكرة ليست ملاذاً، بل جبهة قتال لا تهدأ. من نجا من القصف، لم ينجُ من الصور التي تسكن رأسه، من الأصوات التي تقتحم نومه، من الروائح التي تعيده إلى لحظة الانفجار، إلى اللحظة التي تغيّر فيها كل شيء. الذاكرة في غزة ليست تذكّراً، بل استمرارٌ للحرب، حربٌ داخلية لا تُرى، لا تُسمع، لكنها تفتك بالبشر كما تفتك القذائف بالجدران.
الطفل الذي رأى أخاه يُسحب من تحت الأنقاض لا ينسى، لا يلعب، لا يضحك. كلما سمع صوتاً عالياً، اختبأ تحت الطاولة، ظنًا أن السماء ستسقط من جديد. حين يُطلب منه أن يرسم، لا يرسم شمسًا أو شجرة، بل يرسم بيتاً مهدوماً، وجسداً بلا رأس، ودماً يسيل من الجدران. هذا الطفل لا يعيش طفولته، بل يعيش ذاكرة موتٍ لم يُفهم، لكنه سكنه.
المرأة التي فقدت زوجها وابنها في لحظة واحدة، لا تبكي أمام الناس. تمشي بثبات، تتحدث بهدوء، لكنها حين تغلق باب غرفتها، تنهار. تتحدث معهم بصوتٍ خافت، كأنهم ما زالوا هناك، كأنهم يسمعونها. تضع الطعام على الطاولة، وتنتظر. لا أحد يأتي. لكنها تنتظر. لأن الذاكرة أقوى من المنطق، أقسى من الحقيقة، أصدق من الواقع.
الرجل الذي نجا من القصف، يحمل في ذاكرته صوت أصدقائه وهم يصرخون، يحمل وجوههم حين كانوا يضحكون قبل دقائق، يحمل رائحة الدم، وحرارة النار، وارتجاف الأرض. حين يسير في الشارع، لا يرى الناس، بل يرى من فقدهم. حين يجلس في المسجد، لا يسمع الدعاء، بل يسمع صراخاً داخلياً لا يتوقف. هذا الرجل لا يحتاج علاجاً جسدياً، بل يحتاج من يصدق أن ذاكرته هي ساحة حرب، وأنه ما زال يقاتل.
في غزة، لا أحد يملك ذاكرة عادية. الصور لا تُرتب في ألبومات، بل تُحفر في القلب. كل لحظة جميلة تُقابلها لحظة فقد، وكل ضحكة تُرافقها دمعة، وكل اسم يُقال يُخشى أن يكون قد أُضيف إلى قائمة الشهداء. الناس لا يتحدثون عن الماضي، لأن الماضي ليس خلفهم، بل يسكنهم، يلاحقهم، ينهشهم.
الذاكرة في غزة ليست ترفاً، بل عبءٌ يومي. من يحملها، يحمل موتاً لا يُدفن، يحمل وجعاً لا يُقال، يحمل حرباً لا تنتهي. وكل من نجا، هو جنديٌ في هذه الجبهة، يقاتل كي لا ينهار، كي لا ينسى، كي لا يُجنّ. النجاة في غزة ليست خروجاً من الموت، بل دخولٌ في ذاكرة لا ترحم، لا تُشفى، لا تُسامح.
حين تصبح النجاة خيانة
في غزة، النجاة ليست هدية، بل عبءٌ ثقيل، لا يُحمل على الظهر بل يُحمل في القلب. من بقي حيًا لا يحتفل، بل يختبئ من نظرات الآخرين، من صور الشهداء، من صوت الأمهات، من ذاكرة البيوت التي سقطت. النجاة هنا ليست خلاصاً، بل خيانةٌ صامتة، لا يُعاقب عليها القانون، بل يُعاقب عليها الضمير.
الناجون لا يقولون “نجونا”، بل يهمسون: “لم نكن هناك”، “تأخرنا دقيقة”، “كنا في الطابق السفلي”، “خرجنا لشراء خبز”. كل جملة تحمل اعتذاراً غير منطوق، كأنهم يبرّرون بقاءهم، كأنهم يطلبون إذناً من الموتى ليواصلوا الحياة. بعضهم يخجل من النظر في عيون أمٍ فقدت أطفالها، أو أبٍ دفن زوجته بيديه، أو طفلٍ لم يعد له أحد. النجاة هنا ليست امتيازاً، بل وصمة، لا تُرى، لكنها تُشعر، تُحس، تُلاحق.
رجلٌ نجا من قصفٍ دمّر بيته، وقف أمام الكاميرا وقال: “أنا حيّ”، ثم بكى. لم يبكِ لأنه نجا، بل لأنه لم يستطع إنقاذ زوجته، لأنه لم يحمل ابنته قبل أن تُسحق، لأنه لم يكن هناك حين احتاجوه. كل يوم يمر، يشعر أنه خانهم، أنه اختار الحياة بينما لم يُعطَ لهم الخيار. هذا الرجل لا ينام، لا يأكل، لا يتحدث. فقط يعيش، كأن الحياة عقوبة.
امرأةٌ خرجت من تحت الأنقاض، جسدها مغطى بالغبار، عيناها تبحثان عن شيء. حين سألها الصحفي: “كيف تشعرين؟”، قالت: “أشعر أنني سرقت مكاناً في الحياة كان يجب أن يُعطى لابنتي”. ثم سكتت. لم تقل شيئاً بعدها. لأن الكلمات لا تكفي، ولأن الشعور بالخيانة لا يُقال، بل يُحمل بصمت.
في غزة، النجاة ليست نجاة. هي استمرارٌ في الألم، في الذنب، في السؤال الذي لا يُجاب: لماذا أنا؟ لماذا بقيت؟ لماذا لم أكن معهم؟ كل من نجا، يشعر أنه خان من لم ينجُ. ليس لأنه أراد، بل لأنه لم يستطع أن يكون معهم، أن يشاركهم النهاية، أن يختفي كما اختفوا. النجاة هنا ليست حياة، بل موتٌ مؤجل، موتٌ داخلي، موتٌ لا يُعلن.
الناجون لا يطلبون تعاطفاً، بل غفراناً. لا يبحثون عن علاج، بل عن مبرر. لا يريدون أن يُقال لهم “الحمد لله على السلامة”، بل يريدون أن يُقال لهم “نحن نعلم أنك تتألم”. لأن الألم الحقيقي ليس في الجرح، بل في النجاة منه.
غزة التي لا تموت تبحث عن ملامحها
غزة لا تموت. ليس لأن الموت لا يطرق أبوابها، بل لأنه حين يدخل، يجد شعباً لا ينهار، بل يتشكل من جديد. غزة لا تُهزم، لأنها لا تقاتل لتنتصر، بل لتبقى. في كل مرة يُقال إنها انتهت، تنهض من تحت الركام، لا لتثبت شيئاً للعالم، بل لتقول لأطفالها: نحن هنا، نحن ما زلنا نحاول، ما زلنا نحب، ما زلنا نحلم.
في غزة، الحياة لا تأتي بسهولة، بل تُنتزع من بين أنياب القسوة. طفلٌ يرسم على جدارٍ مهدوم، لا يعرف الألوان كلها، لكنه يعرف أن الأزرق هو السماء التي لم تسقط بعد، وأن الأخضر هو شجرةٌ لم تُقتلع، وأن الأحمر هو قلبه حين يخاف.
فتاةٌ تكتب قصيدةً في الظلام، لا تملك ورقاً، لكن كلماتها تضيء أكثر من الكهرباء الغائبة. رجلٌ يزرع وردةً في أرضٍ قُصفت أمس، لا ينتظر أن تنمو، بل ينتظر أن يراها أحد ويبتسم، ولو للحظة.
غزة لا تموت، لأن فيها من يعلّم الموت كيف يُهزم. فيها من يبني بيتاً من حجرٍ واحد، ومن يربّي أملًا في قلبٍ مكسور، ومن يضحك رغم أن الضحك صار فعلاً مقاوماً. فيها من يكتب، من يغني، من يطبخ، من يصلّي، من يحضن، من يعلّم، من يداوي، من يدفن، ثم يعود ليحيا.
غزة لا تحتاج إلى معجزات، لأنها هي المعجزة.
حين تنتهي الحرب، لا يعود الناس إلى حياةٍ عادية، بل إلى حياةٍ أعمق، أكثر هشاشة، أكثر صدقاً. كل لحظة تُعاش في غزة هي انتصارٌ صغير، لا يُحتفل به، بل يُحسّ، يُحمل، يُروى.
الأمل في غزة لا يُقال، لأنه لا يحتاج إلى كلمات. يكفي أن ترى أماً تمشط شعر ابنتها، أو أباً يصلح دراجةً مكسورة، أو طفلاً يركض خلف طائرةٍ ورقية، لتفهم أن غزة، رغم كل شيء، لا تموت.
الختام ليس نهاية، بل بدايةٌ أخرى. غزة لا تُكتب في سطرٍ أخير، بل تُروى في كل نبض، في كل تنهيدة، في كل عينٍ تنظر إلى السماء وتقول: نحن هنا. نحن ما زلنا نحيا. نحن ما زلنا نحب. نحن ما زلنا نكتب، رغم أن الورق يحترق، والصوت يُقصف، والذاكرة تنزف.
غزة لا تموت، لأنها قررت أن تكون الحياة نفسها، ولو كانت الحياة جرحاً لا يندمل.