ربما كان الشيخ محمد الكازمي، الإمام المحبوب لجامع أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه الواقع في ساحة الشهداء بمديرية المنصورة، محظوظاً لأن أشباح الأحزمة الأمنية لم تختطفه بعيداً عن أعين الناس ولم تباغته بعملية اغتيال لحظة خروجه من المسجد أو من المنزل أو على قارعة الطريق. هذه الممارسات كان العشرات من المصلحين والساسة والقادة الوطنيين ضحيتها من أن استبيحت عدن من قبل الجماعات المسلحة الخاضعة للنفوذ العابر للحدود.

 

هذا لا يعني أن الشيخ الكازمي بخير، إنه يخضع الآن لظروف قاسية، لا سقف لإجرامها ويمكن قياسها فقط على الطريقة التي تم بها اعتقاله وجره على أنفه من المحراب الذي كان يؤم فيه الناس في فجر الخميس الحزين.

 

تأكد لعدد ممن شهدوا لحظة اقتحام المسجد بعد صلاة الفجر، وهاجموا الشيخ محمد الكازمي واقتادوه بشكل مهين أمام أعين المصلين، ووسط إطلاق للرصاص، بأن مصلح الذرحاني قائد شرطة دار سعد هو الذي قاد هذه العملية الإرهابية الإجرامية ضد الشيخ الكازمي. وتبقى هذه الأمور غير يقينية إلى إن يتم التأكد من الجهة التي تقف خلف هذه الجريمة.

 

لقد غابت الدولة في هذه العملية وأُهين القانون وانتهكت حقوق الإنسان، وتحقق مفهوم الترويع في أبشع مظاهره. لقد تركت الحادثة ندوباً يصعب التئامها في وجدان وذاكرة عشرات المصلين، وملايين اليمنيين الذين تدالوا فيديو الاعتداء على الشيخ الكازمي.

 

ما من سبب يبرر ما حصل بحق إمام جامع عمر ابن الخطاب في عدن، وما من دليل على أن هذه الجريمة الشنيعة يمكن أن تكون جزء من أجندة دولة، أو أن تتلقفها أجهزة الدولة وتعيد تكييفها على أنها مهمة مستحقة جرى تنفيذها بطريقة خاطئة. الأمر بكل تأكيد، يندرج ضمن المقاولات الأمنية الإجرامية التي اعتادت عليها عدن، وتُنفذ في الغالب لصالح جهاز استخباري شديد القسوة وأيديولوجي ويرصد الأنفاس الحرة لأبناء اليمن في المحافظات الجنوبية، ويتتبع مواقفهم.

 

لا يُراد لأحد في مدينة عدن أن يخرج عن الخطوط الحمر التي حُددت من قبل الجهات النافذة العابرة للحدود، وهي خطوط لا علاقة لها البتة بالمصالح العليا للدولة اليمنية ولا حتى للدولة "الجنوبية" التي يرفعها الانتقالي شعاراً له، بقدر ما تتعلق بإعادة ضبط المزاج السياسي العام في مدينة عدن وفق توجهات الدولة التي تمول الانتقالي وتدعمه، مما يحمل على الاعتقاد بأن الشيخ الكازمي ربما يدفع ثمن مواقفه المبدئية الوطنية والعربية والإسلامية، والتي تتسق مع الوجدان الحي والعقل السليم والفطرة السوية لكل أبناء اليمن.

 

 إن التضييق على مدينة بلا خدمات، ويفتك بها الحر الشديد والفقر الشديد، ممارسةٌ تنطوي على قدر كبير من الفجور. ليس هناك من مقابل يتلقاه الناس أمام هذا الطغيان، وهذا العنف وهذا القدر من الفتك بحرياتهم وحقوقهم ودمائهم. إنه طغيان يحدد بوضوح معالم السلطة التي يسعى المجلس الانتقالي الجنوبي إلى تأسيسها في مدينة عدن اليمنية، وهي معالم لعمري تؤذن بليل طويل في جنوب البلاد لا سمح الله.

 

مرة أخرى يقع أبناء أبين ورجالها ضحيةَ عملياتٍ أمنية قاسية، على نحو يكرس شكلاً سيئاً من العلاقات المتوترة بين أبناء البلد الواحد. على أن أقسى ما يدفعه الناس من أثمان باهظة في ساحة الإعدام المفتوحة بعدن، أن الجرائم تنفذ بلا عقاب، وأن الجماعات المسلحة لا تحمل هوية سلطوية ولا قانونية، مما يمكنها من القيام بجرائمها بالوكالة والإفلات منها بكل سهولة، في ظل هذا الانفلات، أو عبر تغيير مكان الإقامة لا أقل ولا أكثر.


المصدر: الموقع بوست

كلمات دلالية: اليمن عدن مليشيا الانتقالي امام مسجد حقوق على أن

إقرأ أيضاً:

سلطة في الظل.. هل حلّ "الشيخ" مكان الدولة في سوريا؟

في سوريا الجديدة، حيث رُفعت شعارات “التحرير” و”عودة القانون”، "وعقلية الدولة" تتكشف على الأرض وقائع صادمة تُفرغ تلك الشعارات من مضمونها. حوادث متفرقة، ترسم ملامح واقع أمني متشظٍ، تحكمه شخصية واحدة لا يحمل صاحبها صفة رسمية، لكنها تتكرر في كل قصة: "الشيخ". اعلان

في أعقاب التفجير الذي استهدف كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بدمشق، برزت ملاحظات لافتة على هامش الحدث، تعكس قلقًا متزايدًا من طبيعة السلطة الفعلية على الأرض.

 ففي تصريح علني أمام أحد المسؤولين، قال الأسقف رومانوس حنات، الوكيل البطريركي في الكنيسة الأنطاكية الأرثوذكسية: "المسؤول عني الشيخ فلان والشيخ علان"، قبل أن يضيف مستنكرًا: "ما في شي اسمه شيخ... في دولة، وإلا يروح كل واحد يفتح دكانتو لحالو".

تصريح رجل الدين هذا لم يكن مجرد احتجاج عابر، بل تعبيرا صريحا عن شعور متزايد لدى شرائح مختلفة من المجتمع السوري بأن ما يُفترض أنه جهاز دولة بات يُدار من خلف ستار، وبأدوات غير رسمية.

صورة من صحفي تتحول إلى محكمة ميدانية

الصحفي السوري أمجد الساري، وفي منشور مؤلم على حسابه في فيسبوك، روى قبل حوالي أسبوع عن حادثة وصفها بأنها "أسوأ موقف تعرض له في بلده منذ التحرير". بدأت القصة بصورة عادية التقطها لواجهة السفارة الإيرانية في حي المزة الدمشقي، لكنها لم تنتهِ إلا باتهامات بالخيانة والعمالة، وتهديد صريح.

يقول أمجد سألني العنصر: "صورت؟ قلت نعم. طلب هاتفي فرفضت، فصرخ ساخرًا: مفكر حالك بلاس فيغاس؟ قلت له: وليش لا؟ ما منستحق قانون متلهم؟"، هكذا بدأت القصة.

 بعد دقائق، وبتسلسل يشبه سيناريوهات الاستدعاء الأمني في أفلام قديمة، حضرت دراجة نارية يستقلها عنصران، أحدهما عرّف عن نفسه بأنه مسؤول في الأمن الدبلوماسي. طلب الهوية، ثم قال: "تعاون معنا لنساعدك!"، فكان الجواب الصادم من الصحفي: "أنا متهم؟ على شو؟ صورة؟"

 عندها، أُطلقت التهمة: "أنت ممكن تكون عميل للموساد الإسرائيلي".

 ضحك الصحفي من هول المفاجأة، قبل أن يسمع العبارة التي اختزلت عقلية من يتولون السلطة على الأرض: "أنا بنظري كل الناس مجرمون حتى يثبتوا العكس."

وبعد جدال طويل يقول أمجد إنه استجاب لطلب عنصر الأمن وقام بحذف الصورة، لكن التحقيق استمر وزادت الضغوط، وكررت العناصر تهديدها بـ”الشيخ” أو "الأمير"، ويضيف العنصر: "لهلأ نحنا متعاونين معك، بس إذا أجا الشيخ... ما بتعرف شو بصير فيك."

في حلب: عاد بعد 11 عاماً فاستقبلوه بالضرب والسلاح

 في مدينة حلب، لم تختلف الصورة كثيرًا. فخليل العموري، شاب مغترب أمضى أكثر من 11 عامًا خارج البلاد بسبب ملاحقات أمنية، قرر العودة إلى مدينته بعد ما ظنه "سقوط النظام" القمعي واستقرار الأحوال. لكنه لم يكن يعلم أن ما ينتظره في سوريا اليوم قد يكون أشد من ما فرّ منه.

 في آخر يوم له في حلب، وبينما كان يهم بتوديع عائلته، توقف بسيارته في أحد شوارع المدينة. دخل في نقاش بسيط مع أحد الأشخاص حول موقف للسيارات، لكن سرعان ما تدخل شخص يُعرف في المنطقة باسم "الشيخ" وطالبه بإزاحة سيارته. وعندما رفض، بدأ الاعتداء اللفظي، ثم جاء التهديد: "بدّي أدقك" بالتعبير الدارج.

Related تحمل اسم "باقري".. العثور على حطام مُسيّرة إيرانية في جنوب سورياسوريا: تفجير انتحاري يودي بحياة 23 شخصًا على الأقل في كنيسة وسط دمشقسوريا.. تجارة وصناعة الكبتاغون مستمرة رغم سقوط النظام

وبعد لحظات، انقض عليه عدد من الأشخاص ممن قيل إنهم يتبعون للأمن العام، وقاموا بضربه بوحشية أمام أخيه، وصوّب أحدهم فوهة سلاحه إلى رأسه وهو يصرخ: "راح أقوّصك".

 يقول خليل في منشور على "فيس بوك" مرفق بصورة لكتفه وتبدو عليه آثار الضرب: "كلما رفعت رأسي لأتحدث، كانت الضربة جاهزة. شتائم، إهانات، وصفونا بالشبيحة والخنازير، وضعونا في أرضية السيارة كأننا أسرى حرب."

نُقل خليل وأخوه إلى مخفر قرب جامع الحسن، بتهمة النيل من هيبة الدولة، حيث استُكمل الضرب والإهانات، وصُوّروا كمجرمين، ثم أُدخلوا إلى غرفة موقوفين دون أي تهمة رسمية. وعندما طالب خليل بعرضه على قاضٍ أو جهة قضائية محايدة، جاءه الجواب من أحد العناصر بعبارة تلخص الذهنية السائدة: "هاد الشعب ما بيفهم غير بالدعس."

 رغم أن أحد المعتدين كان من معارف والده، لم يُقدّم أي اعتذار، بل قال له لاحقًا: "عمك ضربك، وشو بدك بعد؟".

حي القصاع: "التحقيق بعد التستر" في اللباس

 المشهد في حي القصاع، الدمشقي لم يكن مغايراً أبداً للقصص السابقة، قد يختلف السيناريو، لكن البطل واحد "شخصية الشيخ".

بدأت القصة بدخول عصابة مسلحة إلى منزل عائلة من أهالي الحي بقصد السرقة في وضح النهار، ليتم بعدها تبليغ الجهات الأمنية التي حضرت على الفور يتقدمها الشيخ بذاته، وقبل البدء بالتحقيقات طلب من سكان المنزل طلباً غريبا تمثل في ضرورة احتشام السيدة التي بالبيت حتى يتسنى له بدء التحقيق، قائلاً.. "إذا بدنا نبلّش بالتحقيق، لازم الست تتستر أول!".

يروي الشاب ثائر في حديثه ليورونيوز أنه فوجئ قبل أيام باقتحام ثلاثة عناصر من الأمن العام منزله في إحدى ضواحي دمشق، بحجة أن المنزل "يعود لضابط سابق في نظام بشار الأسد"، وبعد سلسلة من الأسئلة الاستجوابية، كان أحدها السؤال عن طائفته ووظيفته. أحضر ثائر عقد الإيجار، ليتبيّن للعناصر أنه مستأجر للمنزل من امرأة مدنية، وليس من أي جهة عسكرية. ومع ذلك، لم تُغلق القضية، بل طُلب منه الحضور في اليوم التالي لمقابلة شخصية تُدعى "الشيخ".

يتابع ثائر في حديثه أنه انتظر نحو ساعتين حتى وصل "الشيخ"، ليتفاجأ بحضوره المهيمن وسلطته المطلقة على عناصر الأمن العام، وكأنه الآمر الناهي في المنطقة. لم يطلب فتح تحقيق، ولم يناقش التفاصيل، بل اكتفى بقول واحد: "اترك عقد الإيجار الأصلي عندي، واحتفظ بصورة فقط."

ويختتم حديثه: " بصراحة استغربت السلطة المطلقة لهذا الرجل وتحكمه بأدق تفاصيل الحياة المدنية خارج أي غطاء قانوني أو مؤسساتي".

هذه القصص وغيرها تكشف عن معادلة باتت مألوفة لدى السوريين في الآونة الأخيرة: القانون لا يُطبق إلا في حالات معينة، الهوية الأمنية لا تُظهر، المساءلة غير موجودة.

والسلطة الفعلية تُمارس باسم شخص مجهول يُدعى "الشيخ"، يوجد نسخة منه في جميع مؤسسات الدولة المدنية منها والعسكرية، لا أحد يعرف من هو، ولا ماهي رُتبته، ومن أين يأتي بسلطته.

انتقل إلى اختصارات الوصولشارك هذا المقالمحادثة

مقالات مشابهة

  • اختطاف إمام مسجد بعد صلاة الفجر في عدن.. ووكيل الأوقاف الرباش يوجه رسالة نارية للقيادة العليا
  • الهجرة النبوية: ضمان اجتماعي في إطار الدولة بين مهاجر ونصير
  • إبراهيم عثمان يكتب: مسلمات وقواعد ومعادلات
  • وزيرة البيئة: الحكومة بذلت جهوداً كبيرة لتجعل شرم الشيخ مدينة خضراء
  • الزعاق للطلاب: استمتعوا بالأشياء التي تمتلكونها ولو كانت بسيطة..فيديو
  • رئيس جهاز مدينة الشيخ زايد تتفقد مشروع جنة 4 السكني لمتابعة معدلات التنفيذ والاستعداد للتسليم
  • سلطة في الظل.. هل حلّ "الشيخ" مكان الدولة في سوريا؟
  • مدينة طبية متكاملة بجامعة كفر الشيخ لخدمة محافظات الدلتا
  • محاولة اختطاف تتحول لاشتباكات مسلحة بين الحوثيين وقبليين في رداع البيضاء