سودانايل:
2025-05-16@17:37:07 GMT

السودان ومآلات الحرب المفتوحة

تاريخ النشر: 21st, March 2024 GMT

ناصر السيد النور
يبدو أن الحرب في السودان لم تستكمل دورتها بعد وصولاً إلى نصر يحققه أحد الطرفين عسكرياً أو وصولاً إلى سلام بالحوار بعد عام من حرب ضروس مما يرشحها إلى حرب كما بدأت مفتوحة على كل الاحتمالات بما يتوقع منها بالمعني العسكري والإنساني. فالمسار الذي يجري على الأرض يتأرجح بين حالة إنسانية مزرية وتصميم على مواصلة القتال ورفضاً لأي هدنة في شهر رمضان استجابة لدعوات شعبية وأممية.

ومن أبرزها الهدنة التي كان قد أعتمدها مجلس الأمن الدولي في شهر رمضان الجاري بتصويت أغلبية أربعة عشر دولة وامتناع روسيا عن التصويت للقرار رقم 2724 بدعوة أطراف الصراع إلى وقف القتال وحل الصراع عن طريق الحوار. ولم يكن للهدنة كعادة سلسلة الهدن في الصراع أي أثر في إيقاف الحرب أو دخول القرار حيز التنفيذ بالتعبير القانوني، وإن لم يكن قرار الهدنة غير ملزمٍ للطرفين فإن وحشية الحرب وقبل كل شيء ذهبت بالحالة الذهنية والنفسية والعقدية لقادة الحرب من أن تستجيب لاي دعوة وتحت أي ذريعة كانت دينية (شهر رمضان)، أو سياسية (هدنة مجلس الأمن).
ومن المستغرب أن رفض الدعوة للهدنة أن يأتي من تصريحات يدلي بها علي كرتي الأمين العام لما يسمى بالحركة الإسلامية في السودان، وهو من العناصر المتشددة ومن أبرز قيادات النظام السابق. وبهذا التصريح الذي استبق به أجهزة الدولة أو جيشها المعني بالتخاطب في هذا الشأن العسكري، فالرجل من خلفية مدنية عمل وزيراً للخارجية ومناصب أخرى في النظام السابق ويتمتع بنفوذ كبير. ولكن بهذا التصريح تكون الاتهامات التي تزعم بأن الحرب الدائرة يتستر خلفها فلول النظام السابق باتت محل تأكيد وحقائق متجسدة فيما يعرف بكتائب المساندة المدنية ذات الطابع المليشي التي تتبع للحركة الإسلامية. وما يخشى أن تكون لتداعيات هذا الموقف المعلن من الحركة الإسلامية وامساكها بزمام المبادرة في الحرب من وراء الجيش انتكاسة في السبيل نحو الحل. فما خسره قادة النظام السابق بسقوط دولتهم عقب ثورة ديسمبر 2019م سوف لن يوقفوا الحرب إلا بالمعنى الذي يفسره المنحى الذي اتخذته الحرب مؤخراً من تمدد واستقطاب بين المكونات الجهوية ولذلك بما يضمن استمرارهم أو عودتهم إلى السلطة بطريقة أخرى أيا تكن الكلفة السياسية أو العسكرية والإنسانية.
وقد فاقم مؤخراً من تعقيدات الحرب وفي رمضان أيضاً الكارثة الإنسانية والمجاعة التي ضربت البلاد، وما تداخل فيها وعرضها لمناورات سياسية فيما يتعلق بمرور المساعدات الإنسانية بين الحكومة السودانية ومنظمات الغوث الدولية. فالفراغ الذي احدثته الحرب على مستوى البلاد لا يعنى فراغاً دستورياً قابلاً للملء من قبل أطراف سياسية لا تحكمها آلية تداول للسلطة في ظل انهيار شبه كامل للدولة. فالحرب وما أحدثته من شرخ لم يقتصر على الأضرار الهامشية في بنية الدولة، بل أحدثت شرخاً وتحولاً على مستوى البنية الاجتماعية والاقتصادية محولة الصراع من صراع على السلطة إلى صراع من أجل البقاء.
وبعد التطور الذي شهده الأسبوع المنصرم من نصر رمزي حققه الجيش السوداني بوصوله إلى مباني الإذاعة والتلفزيون بعد عام من سيطرة الدعم السريع عليها، وهو تحرك يحمل من قيمة رمزية في الذاكرة السياسية السوداني وما تعنيه الإذاعة أكثر من أي قيمة عسكرية في الوقت الذي لم تزل بقية المواقع من مؤسسات وقواعد وولايات بقبضة قوات الدعم السريع. وقد يعطي هذا الانتصار المحدود وما رافقه من زخم وسط قيادات الجيش وحلفاؤهم محفوفاً بالحذر المشوب لما يمكن أن يشكل ردة فعل انتقامية من قبل الطرفين تزيد مما خلفته الحرب من جراحات اجتماعية وتشوهات طبقت فيها كل وحشية بربرية الحروب. ولم يعد من الممكن في الحالة السودانية العودة إلى طبيعة الأمور في وقت قريب، إذ إن حالة الحرب الشاملة ورثاثتها تفوق كل تصورات يمكن أن تؤدي سياسياً إلى إنهائها كما ينبغي أن يكون.
ولعل في زيارة رئيس الوزراء السابق الذي أطاح به انقلاب الفريق البرهان وحلفائه من الإسلاميين أكتوبر 2021م الدكتور عبد الله حمدوك إلى مصر مؤشراً آخراً على مساعي الحل السلمي المحكوم بالطقس السياسي الإقليمي السائد، ويأتي حمدوك إلى القاهرة مترأسا لجناح سياسي يضم القوى المدنية السياسية مجموعة الحربة والتغيير التي تحولت بعد الحرب إلى تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) تنشط إقليميا في دول شرق أفريقيا، ولعلها المرة الأولى عربياً أن يحدث اختراق على صعيد الأزمة السودانية لطرف من خارج الدائرة العسكرية للصراع. والزيارة مهما تكن دعاويها وأثرها في الراهن السياسي السوداني إلا أنها تعد تحركاً كان مطلوباً من مصر تجاه القوى المدنية وهي التي لم تقارب الأزمة السودانية إلا من خلال منظور عسكري واستراتيجي. فظل حمدوك يوجه الدعوات لأطراف الصراع دون أن يجد أي استجابة خاصة من جانب الجيش وتواصلت مساعيه للسلام على مستوى المبادرات الإقليمية والدولية وإن تكن دون نتائج واضحة.
خرج صراع الجنرالين بعد عام من معادلات السياسية والعسكرية كحرب قابلة لتقييم الحساب والجرد سوى من استطالة تعصف بكل الجهود والمبادرات للحل أو التوصل إلى أدنى ما يمكن أن يقرب من نهاية مرغوبة بحكم ضرورة الواقع الإنساني. ولكن بما أن أطراف الأزمة السودانية على مستوى المبادرات والوساطات المتكاثرة تؤكد على وحدة أراضي السودان وسيادته وفق ما تثبته تشريعات نصوص القانون الدولي أو القرارات الأممية على مستوى المؤسسات الدولية الأمم المتحدة وجلس أمنها، إلا أن أزمة حرب الصراع السوداني قد حولت عسكرياً هذا المفهوم وفق تفسير كل طرف ما تعنيه السيادة من جغرافيا جهوية وهوية اجتماعية جديدتين. وبهذا تكون الحرب بعد عامٍ من الاقتتال المستمر قد شكلت سوداناً فاق في تكويناته الفعلية كل ما راكمته التجارب السياسية والعسكرية في تاريخ البلاد.
ويقف المجتمع الإقليمي والدولي أمام أزمة مركبة بين معضلة حكم داخلية وتكتلات إقليمية محتشدة تعمل على زيادة رفع وتيرة المستوى العسكري بغير نهايات قابلة للتنبؤ بها. فإذا كانت هذه الحرب قد مثلت ذروة الصراع على السلطة بين أطراف عسكرية ومن ثم اتخذت منحى اجتماعياً كحرب أهلية وما خلقته من حالات إنسانية من نزوح وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، فإن المسئولية السياسية والعسكرية التي يمثلها الجيش الوطني برئاسة الفريق البرهان أو طرف الصراع الآخر قوات الدعم السريع بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو ستكون محل اختبار كبير أمام التحديات الإنسانية والقانونية والسياسية لوضع نهاية للحرب. فالحرب المفتوحة التي اتخذت ملامحها منذ انطلاقها في الخامس عشر من ابريل الماضي كان من الممكن ألا تستمر بذات الوتيرة التي تتصاعد يوما بعد آخر لتكون حرباً مفتوحة لا تحدها معايير أو ضوابط أخلاقية وليس هذا ما يخشي منه وقد تجاوزت المعايير الإنسانية والقانونية بما لا تماثلها حرب أخرى في تاريخ الحروب داخل الدولة؛ ولكن يخشي بعد أن بلغ التقاطع والتداخل الدولي ما بين التقارب الإيراني والأوكراني والروسي في الأزمة أن تكون حرب السودان فضاء جديداً ومختبراً فاعلاً للأسلحة الفتاكة التي ربما لم تجرب إلا في هذه الحرب كما تكشف تقارير صحافية.
نشر بصحيفة القدس العربي اللندنية _٢٠ مارس ٢٠٢٤م

nassyid@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: النظام السابق على مستوى بعد عام

إقرأ أيضاً:

إبراهيم شقلاوي يكتب: هل بات السودان خارج الحسابات الأمريكية؟

بالأمس تابعتُ خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يزور السعودية، في المنتدى الاقتصادي السعودي-الأمريكي، باهتمام بالغ. كان المتوقع، في ظل ما تعيشه منطقتنا من تحولات، أن يتناول الأزمة السودانية بالنظر إلى الحرب المستمرة منذ 15 أبريل 2023. لكن للأسف، لم تكن حاضرة في كلمته، لا تصريحًا ولا تلميحًا. هذا التجاهل يُعد مؤشرًا صريحًا على موقع السودان في الخارطة الجديدة التي ترسمها واشنطن للمنطقة.

إما أن الخرطوم باتت خارج الحسابات، أو أن ملفها قد أُحيل إلى طاولات تفاوض غير معلنة في عواصم أخرى، حيث تجري التفاهمات الإقليمية.

كانت رسائل ترامب واضحة في تركيزها على ملفات كإيران، وسوريا، وغزة، والعلاقة مع تركيا وإسرائيل. أما السودان، الذي يواجه حربًا مدمّرة ، فلم يحظَ حتى بمجرد ذِكر، وهو ما يعكس تبدلًا نوعيًا في المقاربة الأمريكية للمنطقة. لم تعد واشنطن تنخرط في تفاصيل كل ملف، بل تميل إلى تفويض شركائها الإقليميين لإدارته، وفق ما يخدم مصالحها الأمنية والاقتصادية الكبرى، دون انخراط مباشر.

فالاستجابة الدولية للأزمة السودانية اتسمت بالبطء والارتباك، فيما اكتفى الأمريكيون ببيانات دبلوماسية لا تتجاوز حدود التعبير عن القلق، أو المطالبة بوقف إطلاق النار، دون طرح مبادرات ملموسة. حتى وجودهم كوسيط في منبر جدة مع السعودية كان باهتًا، وفشل في الضغط على مليشيا الدعم السريع وداعميها في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في 11 مايو 2023.

في الأثناء، برزت أبوظبي كأحد مراكز الثقل الإقليمي المؤثرة في الملف السوداني، سواء عبر دعمها لمليشيا الدعم السريع ـ بحسب الحكومة السودانية التي صعدت معها إلى درجة قطع العلاقات ووصفها بدولة “عدوان” ـ أو عبر محاولتها صناعة مسارات تفاوضية سرية، يُعتقد أن واشنطن تراقبها من بعيد.

في هذا السياق، يُنظر داخل السودان بعين الريبة إلى موقف الإدارة الأمريكية السابقة إبان فترة الرئيس بايدن من الحرب، حيث يرى كثيرون أن الديمقراطيين لم يُظهروا جدية كافية في التعامل مع الأزمة، بل ويذهب بعض المحللين إلى القول إن واشنطن، عبر صمتها أو تواطئها الضمني، ربما كانت ضالعة ـ مع أطراف إقليمية ودولية ـ في خلق بيئة سمحت بانفجار الحرب. هذا الإحساس العميق بالخيانة السياسية دفع قطاعات واسعة من السودانيين إلى التطلع لعودة الجمهوريين، وعلى رأسهم دونالد ترامب، الذي سبق أن صرّح عند توليه الرئاسة بأنه جاء “لوقف الحروب لا إشعالها”.

ويبدو أن هناك من لا يزال يراهن على أن إدارة ترامب، لو عادت، ستكون أقل تورطًا وأكثر قابلية للتعامل مع السودان كدولة، لا كأزمة. هذا الانكفاء الأمريكي يفتح الباب لتحولات أوسع. فالسودان رغم أزمته، لا يزال يحتفظ بعناصر قوة جيوسياسية قد تجعله هدفًا للمنافسة الدولية، وليس مجرد هامش جغرافي يُدار بالوكالة. موقعه الاستراتيجي على ساحل البحر الأحمر، قرب مضيق باب المندب، يمنحه مكانة متقدمة في معادلات أمن الملاحة الدولية.

وهو ما يُفسّر عودة الحديث عن الاتفاقية التي أبرمتها الخرطوم مع موسكو عام 2017 لإنشاء قاعدة لوجستية بحرية في بورتسودان. هذا الاتفاق الذي جُمِّد لغياب الحكومة المنتخبة، عاد إلى الواجهة بعد اندلاع الحرب، في ظل تقارير تشير إلى محاولات روسية لإعادة تنشيطه بهدف تثبيت موطئ قدم دائم في البحر الأحمر، بحسب صحيفة “الشرق الأوسط”.

بالمقابل، لم تغب تركيا عن المشهد. ففي عام 2017 أيضًا، أبرمت أنقرة اتفاقًا مع حكومة الخرطوم لإعادة تأهيل جزيرة سواكن، ضمن مشروع متعدد الأبعاد، اعتبره مراقبون غطاءً لتوسيع النفوذ العسكري التركي في البحر الأحمر. ورغم تجميد المشروع بعد الإطاحة بحكم البشير، فإن التحولات الراهنة قد تفتح المجال لإحياء هذه الشراكة، خاصة في ظل التقارب التركي-الخليجي، والتحول في تموضع أنقرة في السياسة الإقليمية.

وإذا كانت روسيا وتركيا تمثلان بُعدين استراتيجيين في الحسابات العسكرية، فإن الصين تُعد الامتداد الاقتصادي الذي يصعب تجاهله. فبكين، التي تُعد الشريك التجاري الأكبر للسودان، على استعداد لأن تضخ استثمارات ضخمة في البنية التحتية والطاقة، ضمن إطار مبادرة “الحزام والطريق”. هذه الشراكة ليست بديلة عن واشنطن فحسب، بل تُشكّل تحديًا لهيمنتها، خصوصًا في شرق أفريقيا، حيث تسعى الصين لتأمين طرق التجارة والإمداد عبر البحر الأحمر والقرن الأفريقي.

أمام هذا المشهد، تبدو واشنطن في موقع المراقب المتحفّظ. فهي تدرك أن تجاهل السودان تمامًا قد يفتح الباب أمام خصومها الاستراتيجيين للتمدد في منطقة شديدة الأهمية، لكنها، في الوقت نفسه، لا ترغب في الانخراط المباشر في أزمة معقدة دون ضمانات لتحقيق مصالحها. ولذلك، فإن أحد السيناريوهات المطروحة هو إبقاء السودان في حالة “توازن ضعف”، تُتيح التدخل الأمريكي لاحقًا بشروط أكثر ملاءمة لواشنطن، لا وفق ما تمليه تطلعات السودانيين.

هذه السياسة، التي تقوم على الانتظار والمراقبة، بحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، تضع السودان أمام خيار صعب: فإما أن يبقى ورقة بيد الآخرين، تتحرك حيث تُراد لها الحركة، أو أن يتحول إلى طرف فاعل قادر على إدارة موقعه بذكاء، واستثمار أوراقه الاستراتيجية دون الوقوع في فخ الاستقطاب أو الارتهان. الأمر يبدأ أولًا من الداخل؛ من إنتاج حالة سياسية متماسكة، قادرة على مخاطبة الخارج من موقع الشريك، لا الضحية. ثم يمتد إلى الخارج، عبر تنويع الشراكات، وبناء علاقات توازن ذكي تحفظ للبلاد سيادتها، وتُبرز موقعها بوصفه حيويًا في معادلات الإقليم والعالم.
إبراهيم شقلاوي
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 14 مايو 2025م Shglawi55@gmail.com

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • الحلقة الخامسة من سلسلة “من أشعل الحرب في السودان؟”
  • أهم حدث في الساحة حاليا هو العدوان الذي يتعرض له السودان من تحالف دولي يدمر في بنيته التحتية
  • هل هي “حمى الذهب والمعادن الثمينة” التي تحرك النزاع في السودان.. أم محاربة التطرف الإسلامي؟
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: هل بات السودان خارج الحسابات الأمريكية؟
  • عُمان التي أسكتت طبول الحرب
  • هذه الحرب مختلفة عن كل الحروبات التي عرفها السودان والسودانيون
  • الحرب التي أجهزت على السلام كله
  • عودة أكثر من 200 ألف سوداني من مصر طوعياً
  • ولي العهد السعودي: سنواصل جهود إنهاء الأزمة في السودان من خلال منبر جدة الذي يحظى برعاية سعودية-أميركية
  • وزير الخارجية أسعد الشيباني: نشارك هذا الإنجاز شعبنا السوري الذي ضحّى لأجل إعادة سوريا إلى مكانتها التي تستحق، والآن بدأ العمل نحو سوريا العظيمة، والحمد لله رب العالمين. (تغريدة عبر X)