قال علماء الفلك إن الكسوف الكلي للشمس الذي سيحدث في 8 أبريل القادم، سيبهر المتفرجين بـ"حلقة" فريدة من نوعها بسبب والانفجارات والتوهجات المنبعثة من الشمس. وسيحدث الكسوف الكلي للشمس الشهر المقبل على مدار بضع ساعات. ويقول علماء الفيزياء الشمسية إنه أثناء الكسوف الكلي، وهي اللحظة التي يحجب فيها القمر رؤية الشمس تماما، يمكن رؤية رشقات من البلازما المشحونة كهربائيا التي تنفجر من الشمس وتمتد عدة أضعاف قطر الأرض إلى الفضاء، مشيرين إلى أن هذه الرشقات ذات اللون الوردي الداكن، والتي تسمى "الشواظ"، قد تكون جزءا من النشاط المرئي.



وفي حين حدث كسوف كلي للشمس في الولايات المتحدة في عام 2017، فإن الكسوف القادم في أبريل سيكون مميزا بشكل خاص نظرا لأن الكسوف الكلي التالي لن يحدث قبل 20 عاما أخرى، حتى أغسطس 2044.

وفي 8 أبريل، سيبدأ مسار الكسوف الكلي في المكسيك ويمتد عبر تكساس وأوكلاهوما وأركنساس وميسوري وإلينوي وإنديانا وأوهايو ونيويورك وبنسلفانيا وفيرمونت ونيوهامبشاير وماين قبل أن يتوجه فوق شمال الأطلسي.

وتم إدراج دالاس وكليفلاند ضمن أفضل المواقع لمشاهدة الكسوف، إذا سمحت الأحوال الجوية، وفقا لوكالة ناسا.

وتظهر حسابات ناسا أن فترة الكسوف الكلي تختلف حسب الموقع، وسوف تستمر ما بين دقيقتين وأربع دقائق ونصف.

وبحسب علماء الفلك، فإنه من المتوقع أن "الشواظ" (أو كما تسمى أيضا النتوء الشمسي) ستظهر أثناء الكسوف الكلي في أمريكا الشمالية في 8 أبريل، لأن الشمس من المحتمل أن تكون في ذروة دورتها الشمسية التي تبلغ 11 عاما، والمعروفة باسم الحد الأقصى للطاقة الشمسية.

وتعرف "الشواظ" بأنها مادة مشعة غازية ضخمة مقذوفة من سطح الشمس وتمتد باتجاه الفضاء وتعود ثانيا إلى السطح قي نقطة أخرى قريبة، وغالبا ما تكون على شكل حلقي.

وإلى جانب "الشواظ"، هناك أيضا بعض الظواهر المثيرة الأخرى التي قد تكون قادرا على مشاهدتها أثناء الكسوف الكلي:

1. الانبعاثات الكتلية الإكليلية

إحدى الظواهر التي قد تكون مرئية خلال الكسوف الكلي هي الانبعاث الكتلي الإكليلي (CME).

ويقول ريان فرينش، عالم الفيزياء الشمسية في المرصد الوطني للطاقة الشمسية في بولدر، كولورادو: "إذا حالفنا الحظ، فإن الانبعاث الكتلي الإكليلي سيقدم نفسه كهيكل ملتوي حلزوني الشكل، مرتفع في الغلاف الجوي للشمس".

ويعرف الانبعاث الكتلي الإكليلي بأنه انبعاث ضخم للمجال المغناطيسي وكتلة البلازما من هالة الشمس، ويتحرك بسرعة ولكنه يبدو ثابتا على مدار بضع ساعات.

وأوضح فرينش: "ما يعنيه هذا هو أنه يمكن رؤية نفس الثوران في روتشستر كما كان في دالاس، في مراحل مختلفة من نفس الثوران طويل الأمد".

وسوف يستغرق ظل القمر 100 دقيقة لعبور أمريكا الشمالية، لذلك يمكن أن ينفجر الانبعاث الإكليلي قبل ذلك مباشرة ويكون مرئيا للجميع تحت سماء صافية.

2. التوهجات الشمسية

التوهجات الشمسية عبارة عن انفجارات قوية من موجات الراديو والضوء المرئي والأشعة السينية وأشعة غاما على سطح الشمس والتي تنتقل بسرعة الضوء وتستغرق ثماني دقائق فقط للوصول إلى الأرض.

وعلى الرغم من أن ثلاثة توهجات شمسية وصلت إلى الفئة X (أعلى مستوى من الشدة) قد انفجرت خلال أسبوع واحد في شهر فبراير، إلا أنه من غير المرجح أن يتم رؤية توهجات مماثلة أثناء الكسوف الكلي.

وبحسب فرينش فإنه التوهجات الشمسية يمكن أن تكون مرئية لبضع دقائق فقط، وستبدو مشابهة للنتوءات (أو الشواظ) على ارتفاعات منخفضة، "ويمكن رؤيتها على شكل حلقات حمراء أقرب إلى سطح الشمس".

وأكد فرينش: "لكي يكون مرئيا من الأرض، يجب أن يكون موجودا فوق حافة الشمس - حتى لا يحجبه القمر - خلال الدقائق القليلة من الكسوف الكلي".

المصدر: السومرية العراقية

إقرأ أيضاً:

شذرات استراتيجية.. القومية العربية بين الانبعاث والاحتضار

نحو رؤية استراتيجية لمستقبل الهوية والمشروع العربي

القومية العربية لم تكن يوماً مجرّد شعار طوباوي يردّده الحالمون، ولا خطاباً مؤقتاً زُجَّ به في زوايا التاريخ، بل كانت -ولا تزال- أحد أعمق التعبيرات عن أزمة الوجود والبحث عن الذات في فضاء عربي تمزّقه التناقضات وتتنازعه المشاريع العابرة للحدود.

هي مشروع انطلقت جذوته من رحم المعاناة التاريخية، حيث التمزّق الاستعماري، والانكسارات الكبرى، وضياع القرار العربي بين مطرقة التدخلات الخارجية وسندان الصراعات الداخلية.

ومنذ بدايات القرن العشرين، اختلطت مشاعر الانتماء القومي بأحلام الوحدة، وتعثرت خطوات بناء دولة عربية جامعة تحت وطأة الانقلابات، التجزئة، والتحالفات المتقلبة.

اليوم، ونحن نعيش واحدة من أكثر اللحظات هشاشة في التاريخ العربي الحديث — دول تتصدع، كيانات تنهار، هويات فرعية تتناحر، وخرائط تُعاد رسمها بإرادات أجنبية — يعود سؤال القومية العربية كجرس إنذار واستفهام وجودي في آنٍ معاً:

هل لفظت القومية العربية أنفاسها الأخيرة، واندثرت كغيرها من المشاريع التي تجاوزها الزمن؟ أم أن رماد الخيبات يخفي جمرة كامنة، يمكن بعثها برؤية جديدة، تتجاوز الرومانسيات القديمة وتعيد تعريف المشروع العربي بأدوات العصر ومنطق الواقع؟

إن اللحظة الراهنة ليست لحظة رثاء أو إنكار، بل لحظة مراجعة جذرية وشجاعة، فالمشروع القومي العربي يحتاج إلى انبعاث فكري، وإعادة صياغة عميقة، بعيداً عن الشعارات المرهقة، والجمود الأيديولوجي، ليصبح إطاراً استراتيجياً مرناً، يستوعب تعقيدات الزمن، ويستنهض الهوية الجامعة كحاضنة استقرار وتنمية، لا كحلم معلّق في الفراغ.

مـــصـــطــفـــى بن خالد

من هنا، تأتي هذه الرؤية الاستراتيجية لتضع القومية العربية في ميزان التقييم الواقعي، بين احتضار المشروع بصيغته التقليدية، وفرص بعثه كخيار مستقبلي، شرط أن يُعاد تعريفه، هندسته، وتكييفه مع ضرورات البقاء، ومتغيرات البيئة الإقليمية والدولية، بعيداً عن العواطف المجرّدة والطرح الأحادي.

وذلك أن القومية العربية مشروعاً وجدانياً وسياسياً ووجودياً تشكلت حوله أحلام الناس، وتعثرت فيه محاولات البناء، واختلطت فيه مشاعر الانتماء بخيبات الواقع.

اليوم، في ظل تصدع الدول، صعود الهويات المتصارعة، واستباحة القرار العربي إقليمياً ودولياً، يعود السؤال: هل ماتت القومية العربية؟ أم أن رمادها يخفي جمرة يمكن بعثها بشكل جديد؟

أولاً: الجذور الفكرية والوجدانية للقومية العربية

لم تنبع القومية العربية من فراغ، ولم تكن وليدة تنظيرات نخبوية معزولة عن الواقع، بل تشكّلت في عمق لحظة تاريخية عاصفة، حين تصدّعت الروابط التقليدية، ووجد العرب أنفسهم بين فكيّ هيمنة عثمانية متآكلة واستعمار غربي يتقاسم أوطانهم كغنائم حرب.

1- نشأة الفكرة:

من التمرّد على التبعية إلى البحث عن الذات

في مطلع القرن العشرين، ومع انهيار الإمبراطورية العثمانية ودخول القوى الغربية إلى قلب العالم العربي، ولدت فكرة القومية العربية كردّ فعل وجودي على التهميش، السلب، والاستلاب الثقافي والسياسي. لم يكن المشروع القومي مجرد حنين إلى الماضي، بل محاولة حثيثة لتأسيس وعي جماعي يُعيد للعرب مكانتهم كأمة فاعلة في سياق دولي يعيد رسم الخرائط بالقوة.

القومية العربية في جذورها كانت استجابة للعجز لا تعبيراً عن فائض قوة، وبحثاً عن هوية موحّدة في وجه التشرذم والاحتواء.

2- القومية كحركة تحرر وهوية جامعة لشعوب مفصولة بالحدود ومتصلة بالوجدان

رغم أن الاستعمار رسم حدوداً جغرافية حادة فصلت بين الأقطار العربية، إلا أن اللغة، الثقافة، التاريخ، والوجدان المشترك ظلّ يشكل نسيجاً غير مرئي يقاوم التجزئة.

هنا تجلّت القومية العربية كحركة تحرر تتجاوز جدران الدولة القُطرية، وكهوية جامعة تُعيد الاعتبار لروح الانتماء الواحد، في زمن باتت فيه الهويات الفرعية تُستغل لتفكيك المجتمعات من الداخل.

القومية، إذن، لم تكن مجرد تنظير سياسي، بل مشروع تحرري يتغذّى من تراث مشترك، ويبحث عن وحدة إرادية تُبنى على أسس المصالح والتكامل، لا الفرض القسري أو إلغاء الخصوصيات.

3- العلاقة المعقدة بين القومية والدين:

من التداخل الحضاري إلى الصدام الأيديولوجي

لم يكن المشهد القومي يوماً خالياً من التعقيد، خاصة في علاقته بالدين، كأحد أبرز مكونات الهوية اليعربية.

ففي بدايات المشروع القومي، تداخلت الدعوة للوحدة مع إرث الحضارة الإسلامية، باعتبار الدين عنصراً روحياً وثقافياً يُعزّز اللحمة.

لكن مع تطوّر الصراعات الفكرية، تحوّل هذا التداخل في بعض اللحظات إلى صدام أيديولوجي، حيث رأت بعض الحركات الدينية في القومية مشروعاً علمانياً يُقصي الدين، بينما خشي القوميون من توظيف الدين سياسياً لتفتيت الأمة على أسس طائفية ومذهبية.

هذه العلاقة المتأرجحة بين القومية والدين تُعد من أعقد إشكاليات المشروع العربي، وتُحتّم اليوم قراءة جديدة تضع الدين في موقعه الحضاري والثقافي الجامع، بعيداً عن استغلاله كأداة صراع أو إقصاء.

4- أبرز رموز الفكر القومي:

من الحلم الثقافي إلى المشروع السياسي

القومية العربية عبر تاريخها لم تكن محصورة في الشعارات، بل صاغ ملامحها مفكرون وزعماء تركوا أثراً عميقاً، من ساطع الحصري، الذي وضع الأسس الفكرية لمفهوم الانتماء العربي كوحدة ثقافية وتاريخية، إلى ميشيل عفلق، الذي مزج بين الروح الثقافية والطرح السياسي، مقدماً القومية كفلسفة نهوض جماعي.

ساطع الحصري

وفي قمة المشروع السياسي، برز جمال عبد الناصر، الذي حوّل الحلم القومي إلى برنامج سياسي عملي، رغم ما شابه من تعثّر وانكسارات، ظلّ الرجل رمزاً لمعادلة التحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية.

الرئيس جمال عبد الناصر

هؤلاء الرموز، برغم اختلاف مشاربهم، شكّلوا ملامح القومية العربية كهوية جامعة تبحث عن التحرر، النهوض، والكرامة.

الخلاصة:

القومية العربية ليست مجرد مقولة عاطفية وُلدت من رحم الانفعال، بل مشروع فكري، وجداني، وسياسي استجابت له شعوب تبحث عن وحدة قرارها، وسيادتها، وكرامتها، في وجه مشاريع الهيمنة والتمزيق.

واليوم، حين نبحث في جذور هذا المشروع، ندرك أن إعادة بعثه تستدعي مراجعة تلك الجذور، تحديث الرؤية، وتجاوز صراعات الماضي نحو هوية عربية معاصرة تستوعب الدين، التنوع، والمصلحة الجماعية، بدل الانغلاق في ثنائيات الصدام والتجاذب العقيم.

ثانياً: من الحلم إلى الأزمة… إخفاقات التجربة القومية

القومية العربية، رغم ما حملته من أحلام التحرر والوحدة، لم تنجُ من مطبّات الواقع وصراعات السلطة، لتتحوّل في لحظات فارقة من مشروع نهضة جماعية إلى سلسلة من الإخفاقات المريرة، التي تراوحت بين الانفصال، الاستبداد، وخيانة جوهر الفكرة لصالح شعارات فضفاضة استُهلكت حتى فقدت بريقها.

هذا التحوّل من الحلم القومي إلى الأزمة البنيوية لم يكن نتيجة مؤامرات خارجية فحسب، بل جاء أيضاً نتيجة أخطاء ذاتية، وخلل في البنية الفكرية والعملية للمشروع ذاته.

1- تجربة الوحدة المصرية السورية:

من صدمة التكوين السريع إلى الانفصال المفجع

قليل من الأحداث في التاريخ العربي الحديث جسّدت بقدر تجربة الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 التناقض الصارخ بين الحلم والواقع.

ففي لحظة استثنائية، توحّدت القاهرة ودمشق تحت راية الجمهورية العربية المتحدة، لتصبح تلك التجربة رمزاً لأعلى درجات الطموح القومي … لكنها أيضاً تحوّلت إلى درس قاسٍ في سوء الإدارة، غياب التخطيط المؤسساتي، وتجاهل خصوصيات الكيانات القُطرية.

الوحدة التي ولِدت بسرعة بفعل الحماسة الشعبية والضغوط السياسية، انهارت بعد 3 سنوات فقط، لتكشف هشاشة البناء القومي عندما يُفرَض من فوق، دون توافق داخلي، رؤية استراتيجية واضحة، أو احترام التباينات البنيوية بين الشعوب والدول.

انفصال سوريا عن مصر في 1961 لم يكن مجرد حدث سياسي، بل لحظة انهيار رمزية جعلت الأمة العربية تواجه مرآة فشلها الذاتي، وتضع المشروع القومي أمام تحدي إعادة تعريف الممكن بدل البقاء في أسر الأحلام المجردة.

2- الأنظمة القومية.. بين مقاومة الاستعمار والتورط في الاستبداد الداخلي

لا يمكن إنكار أن الحركات القومية لعبت دوراً محورياً في مواجهة الاستعمار، ودفع مشاريع التحرر الوطني في عدة دول عربية.

غير أن المفارقة التاريخية كانت في أن هذه الأنظمة، بعد تحقيق الاستقلال، وجدت نفسها تقع تدريجياً في فخ الاستبداد الداخلي، حيث تحوّلت شعارات التحرر إلى أدوات شرعنة للقبضة الأمنية، وأصبحت السلطة القومية تُدار بعقلية الحزب الواحد، القائد الأوحد، والرقابة الشاملة على الشعوب.

من الجزائر إلى العراق، ومن سوريا إلى ليبيا، تكشف التجربة القومية عن ازدواجية قاتلة:

انتصار في مواجهة الاستعمار، يقابله فشل في بناء أنظمة ديمقراطية شفافة قادرة على ترجمة شعارات التحرر إلى ممارسة يومية تضمن الحقوق، الحريات، والتنمية المتوازنة.

القومية العربية 3- التناقض بين الشعارات الكبرى وغياب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية

لم تُقصّر الحركات القومية في صياغة شعارات كبرى، من الوحدة العربية، إلى محاربة الصهيونية، إلى بناء مجتمع العدالة والتنمية.

لكن الواقع الملموس كان مختلفاً تماماً، فقد تحوّلت الشعارات إلى مجرد أدوات تعبئة جماهيرية، بينما ظلت أنظمة الحكم أسيرة النزعة السلطوية، وقاصرة عن تحقيق العدالة الاجتماعية الحقيقية، أو إرساء قواعد الشفافية والمساءلة.

هذا التناقض العميق بين الخطاب والممارسة فجّر فجوة خطيرة بين الشعوب والسلطات القومية، وأدى إلى اهتزاز الثقة الجماهيرية، ليصبح المشروع القومي في كثير من الأحيان غطاءً لفظياً لواقع سياسي مأزوم.

4- تغوّل السلطة باسم القومية وتحولها إلى غطاء للديكتاتوريات العسكرية

في نهاية المطاف، دفع المشروع القومي، أو بالأحرى، تحريفه السياسي، ثمناً باهظاً حين استولت الأنظمة العسكرية على الفكرة القومية، ووضعتها في خدمة بقائها وسلطتها المطلقة.

باسم القومية، جرى تبرير عسكرة الدولة، قمع الحريات، وتفكيك المعارضة السياسية، حتى باتت القومية العربية، في أذهان كثيرين، مرادفاً للديكتاتوريات العسكرية، والأنظمة الأمنية المتغلغلة في تفاصيل الحياة اليومية.

هذا التحريف الممنهج للفكرة القومية أفرغها من جوهرها التحرري والإنساني، وحوّلها إلى قناع سياسي يُخفي خلفه مشاريع فردية للحكم المطلق، بعيداً عن المشاركة الشعبية أو بناء مؤسسات الدولة الحديثة.

الخلاصة:

لم يكن فشل التجربة القومية قدراً محتوماً، بل نتيجة تراكمات من الأخطاء الفكرية، الاستعجال السياسي، والاستغلال السلطوي للمشروع.

ومن هنا، فإن بعث القومية العربية اليوم لا يمكن أن يتم إلا عبر نقد جريء لتجربتها السابقة، يعترف بإخفاقاتها، ويضع خارطة طريق تُعيد للفكرة القومية نقاءها الأول، بعيداً عن الاستبداد، العسكرة، والتناقضات الشعاراتية التي أضاعت بين طياتها حلم أمة كانت ولا تزال تبحث عن ذاتها.

ثالثاً: القومية العربية في مواجهة التحديات الجديدة

إذا كانت القومية العربية قد نشأت استجابةً لتحديات الاستعمار وتفتت الأمة، فإنّها اليوم تواجه موجة أكثر تعقيداً من التحديات الداخلية والخارجية التي تهدد ليس فقط مشروعها السياسي، بل جوهرها الثقافي والوجداني كهوية جامعة.

المشهد العربي المعاصر يتسم بتصدع الدولة الوطنية، صعود الهويات الانقسامية، وتآكل الثقة في النخب القومية، في ظل غياب مشروع متجدد يواكب التحولات العميقة.

1- تفكك الدولة الوطنية وتراجع الولاء العربي لصالح الهويات الطائفية والجهوية

تعيش المنطقة العربية حالة انهيار بطيء في مفهوم الدولة الوطنية، حيث تحوّلت كثير من الدول إلى ساحات نزاعات مفتوحة، يتفكك فيها النسيج الاجتماعي لحساب الهويات القبلية، الطائفية، والمناطقية، على حساب الولاء للأمة أو للمشروع القومي الأشمل.

الحروب الأهلية في سوريا، اليمن، ليبيا، السودان، الصومال، والتوترات الطائفية الممتدة في العراق ولبنان، ليست سوى أعراض واضحة لانحسار فكرة الدولة الجامعة، وانهيار الإحساس بالانتماء المشترك الذي كان يفترض بالقومية العربية أن ترسّخه.

الحروب الأهلية في سوريا

الأخطر من ذلك أن التصدعات الداخلية باتت تُدار وتُستغل من قوى إقليمية ودولية، تعيد رسم الولاءات، وتزرع الانقسامات، في ظل فراغ قومي عربي عاجز عن استعادة زمام المبادرة.

2- صعود الحركات الدينية المتشددة كمنافس للهُوية الجامعة

منذ العقود الأخيرة، وجدت الحركات الدينية المتشددة، سواء بنسختها السنيّة أو الشيعية، أرضاً خصبة للتمدّد في الفراغ الذي تركته القومية العربية، مقدمة نفسها كبديل إيديولوجي وهوياتي، قادر على استنهاض الجماهير وتعبئتها في مواجهة الإحباطات السياسية والاقتصادية.

المفارقة أن بعض هذه الحركات تستثمر الخطاب الديني لتفكيك الهوية الوطنية الجامعة، حيث تستبدل الانتماء القومي بمفاهيم طائفية أو أممية دينية متشددة، غالباً ما تتغذى على العنف، الإقصاء، وتكفير الآخر.

ظهور تنظيمات مثل " الإخوان “ داعش ”، “ القاعدة ”، وامتدادات الحركات المذهبية المسلحة المرتبطة بإيران أو غيرها، كشف هشاشة البنية الفكرية والسياسية القومية، التي لم تعد قادرة على تقديم رؤية حضارية بديلة تُلبي احتياجات الناس وتحصّنهم من الانجراف نحو الأيديولوجيات المتطرفة.

3- أزمة الثقة في النخب القومية بعد فشل المشاريع السياسية

تاريخياً، أرتبطت القومية العربية برموز ونخب قدّمت نفسها كطليعة الأمة، لكنها في كثير من الأحيان انزلقت إلى مواقع السلطة المطلقة، أو فشلت في بناء أنظمة ديمقراطية قادرة على تحقيق وعود التنمية والوحدة والعدالة.

هذا التراكم من الإخفاقات أفرز أزمة ثقة عميقة في النخب القومية، التي باتت تُنظر إليها، في أعين كثير من المواطنين، كجزء من النظم السلطوية أو القوى المتحجرة فكرياً، غير القادرة على تجديد المشروع القومي ليتناسب مع متطلبات القرن الحادي والعشرين.

غياب الوجوه الشابة، انعدام التجديد الفكري، وافتقار النخب القومية لرؤية عملية تستند إلى الديمقراطية، التعددية، وإحترام التنوع داخل الوطن العربي، كلّها عوامل أدت إلى انكماش المشروع القومي وتآكل جاذبيته لصالح تيارات دينية، مناطقية، أو حتى نزعات فردية معزولة.

خلاصة استراتيجية:

بين التآكل الداخلي وحتمية إعادة البناء

القومية العربية اليوم تقف أمام مفترق طرق تاريخي، إما أن تبقى أسيرة الماضي، عاجزة عن مخاطبة التحولات الاجتماعية والسياسية، وإما أن تعيد بناء نفسها من الداخل، عبر مراجعة نقدية صادقة، تضع في الحسبان هشاشة الدولة الوطنية، التعددية الاجتماعية، مخاطر التطرّف، وضرورة إشراك الأجيال الجديدة في صياغة هوية عربية جامعة، واقعية، قابلة للحياة.

بقاء القومية العربية على قيد الحياة، أو ولادتها مجدداً، مرهون بقدرتها على التحوّل من خطاب شعاراتي إلى مشروع حضاري عابر للطوائف والجهويات، يحترم الخصوصيات، ويعيد ترسيخ الانتماء العربي على أسس ديمقراطية، تشاركية، ومنفتحة على تحديات العصر.

رابعاً: التحديات الإقليمية والدولية: القومية العربية بين مطرقة النفوذ وسندان التجزئة

لا يمكن قراءة مأزق القومية العربية بعيداً عن المشهد الإقليمي والدولي المتشابك، حيث تحوّلت المنطقة العربية إلى ساحة مفتوحة لصراعات النفوذ، وتصفية الحسابات، وإعادة هندسة الجغرافيا السياسية بمعزل عن الإرادة العربية الجمعية.

فغياب المشروع القومي العربي القادر على فرض معادلاته، فتح الباب أمام قوى إقليمية ودولية تعبث بمصير الأمة، وتعمّق حالة التفتت الاستراتيجي.

1- تغلغل النفوذ الإيراني والتركي والإسرائيلي في الفراغ العربي

حين تتراجع القوة العربية الجامعة، يملأ الفراغ الآخرون. إيران، تركيا، وإسرائيل تمثل اليوم ثلاثية النفوذ الأبرز التي توغلت في الجغرافيا والقرار العربي، كلٌّ وفق أدواته ومصالحه الخاصة:

تغلغل النفوذ الإيراني والتركي والإسرائيلي في الفراغ العربي

كلّما تراجعت أدوات القوة العربية الجامعة، تسارعت قوى إقليمية ودولية لملأ الفراغ.

المشهد اليوم لم يعد خافياً، حيث تتصدّر ثلاث قوى غير عربية واجهة التأثير في القرار والجغرافيا العربية، وهي: إيران، تركيا، وإسرائيل، لكن بأدوار متباينة ومتجددة بفعل التحولات الأخيرة:

1- إيران… تراجع نفوذ “ العواصم الأربع ” وخسارة دمشق

إيران التي تغلغلت لعقود في أربع عواصم عربية ( بغداد، دمشق، بيروت، صنعاء ) عبر تحالفات مذهبية وأذرع مسلحة، تواجه اليوم انتكاسة واضحة في دمشق.

بعد سقوط نظام الأسد، وانسحاب تدريجي للأذرع الإيرانية، خسرت طهران موطئ قدمها الأساسي في قلب الشام، رغم استمرار وجودها الهش في بعض جيوب الساحل والمناطق الحدودية.

المشروع الإيراني القائم على توظيف الطائفية كأداة اختراق، تلقّى ضربة استراتيجية، لكنه لا يزال يراهن على مناطق نفوذ أخرى لإعادة التموضع.

2- تركيا… تواجد خطير للغاية في ليبيا والصومال في ظل غياب عروبي كامل.

تركيا … المنتصر الأكبر في المشهد السوري، نعم لقد استثمرت حالة الانقسام العربي وضعف المؤسسات لتعيد إحياء سردية الخلافة العثمانية، لكن بثوب قومي - إسلامي براجماتي جديد.

ومع سقوط نظام الأسد بدعم تركي - أمريكي - إسرائيلي ضمن ترتيبات إقليمية دقيقة، أصبحت أنقرة اللاعب الأبرز في سوريا:

• الجماعات المسلحة المدعومة من تركيا تسيطر اليوم على دمشق وأجزاء واسعة من شمال وغرب البلاد.

• أنقرة تمسك بزمام المبادرة في إدارة المشهد السوري عبر أدوات عسكرية، اقتصادية، ومذهبية، ممتدة حتى العمق الليبي، الخليجي، والإفريقي.

• الهيمنة التركية على سوريا تعزز مشروعها التوسعي الذي يستند إلى إعادة رسم نفوذها التاريخي في الجغرافيا العربية.

3- إسرائيل … الرابح الصامت من تفكك المنطقة

في ظل الانهيار العربي وغياب منظومة العمل المشترك، عززت إسرائيل مكاسبها:

• استثمرت في سقوط النظام السوري لتمرير ترتيبات أمنية جديدة تخدم مشروعها الاستيطاني، حيث قامت باحتلال جبل الشيخ وتقدمت في أراضي جديدة.

• وسّعت رقعة التطبيع مع دول عربية، وزادت تدخلها الأمني والعسكري في الجولان وعمق الجنوب السوري.

• استثمرت إسرائيل حالة الانقسام العربي لإعادة ترتيب وقائع على الأرض تجعل من الحلم العربي الموحد مجرّد ذكرى باهتة مؤجلة.

هذا التغلغل المتعدد الأبعاد يكشف حقيقة واحدة:

غياب مشروع قومي عربي واضح وفاعل جعل من العالم العربي ملعباً مفتوحاً للمشاريع الخارجية، بدل أن يكون لاعباً رئيسياً في تقرير مصيره.

4 - الهيمنة الدولية على القرار العربي وغياب المشروع المستقل

القرار العربي، في معظمه، لم يعد يُصنع في العواصم العربية، بل في دوائر صنع القرار الدولية، سواء عبر الضغوط الاقتصادية، التدخلات العسكرية، أو أدوات النفوذ السياسي والإعلامي.

منذ سقوط بغداد إلى فوضى ليبيا، من تجزئة السودان إلى التدخلات في اليمن والسودان والصومال وسوريا، تتكرر المعادلة ذاتها:

غياب الموقف العربي الموحد يقابله تحكّم القوى الكبرى ( الولايات المتحدة، بريطانيا، روسيا، أوروبا، الصين ) بمسارات الأزمات والحلول، غالباً بما يخدم مصالحها لا مصالح الشعوب العربية.

في ظل هذا المشهد، أصبحت القومية العربية في موقع المتلقّي، لا المبادر، وفقدت القدرة على صياغة مشروعها المستقل، القادر على تأطير التوازنات الإقليمية والدولية ضمن رؤية استراتيجية تحفظ سيادة القرار العربي.

5- مشاريع التفتيت وإعادة رسم الخرائط:

سايكس - بيكو بنسخة معاصرة

المخططات لتفتيت العالم العربي ليست محض نظريات مؤامرة، بل وقائع تتكرّر بأدوات أكثر دهاءً من الخرائط الورقية الكلاسيكية:

• تقسيم العراق فعلياً إلى كانتونات مذهبية وإثنية.

• طرح مشاريع “ الفيدرالية المقنّعة ” في سوريا واليمن والسودان والصومال وليبيا.

• النزاعات الحدودية والصراعات الهوياتية في المغرب العربي.

كل هذه التحولات تعكس مساراً ممنهجاً لإعادة إنتاج “ سايكس- بيكو ” بنسخة القرن الواحد والعشرين، حيث تُرسم حدود الولاءات والانقسامات وفق مصالح القوى الخارجية، بينما العرب منشغلون بخلافاتهم الداخلية، ومعزولون عن طاولة صياغة مستقبلهم.

الأخطر من ذلك أن التفتيت لم يعد يُفرض فقط بالقوة العسكرية، بل عبر أدوات ناعمة:

إعلام موجّه، اقتصادات مرتهنة، صراعات نُخبوية مصطنعة، وصعود نعرات الهويات الجزئية على حساب الهوية الجامعة.

خلاصة المشهد:

اليوم، الفراغ العربي العميق، وتراجع السيادة الوطنية في دول محورية، فتح الباب أمام:

• إيران التي وإن تراجعت في دمشق، لا تزال تراهن على تغذية الانقسامات المذهبية لتعويض خسائرها.

• تركيا التي باتت القوة الصاعدة الأهم على أنقاض النظام السوري، مع تواجد خطير في ليبيا والصومال، وامتداد ايدلوجي في اليمن، والسودان، متلحّفةً بمشروع عثماني مستحدث.

• إسرائيل التي تواصل قضم الأرض وتفكيك الجوار العربي بأقل تكلفة وبغطاء سياسي دولي.

وما لم تستيقظ إرادة عربية موحدة تستعيد زمام المبادرة، فإن خارطة المنطقة ستُرسم بأيدي غير عربية، بينما يبقى المشروع القومي العربي أسير الانتظار والأحلام المؤجلة

خلاصة استراتيجية:

القومية العربية أمام اختبار وجودي

التحديات الإقليمية والدولية ليست قدراً محتوماً، لكنها نتيجة حتمية لفراغ المشروع العربي المستقل.

إنقاذ القومية العربية يتطلب إدراكاً عميقاً بأن استعادة زمام المبادرة يبدأ بتوحيد الموقف العربي، بناء أدوات النفوذ الذاتي، والتحرر التدريجي من التبعية والارتهان.

أما القبول باستمرار هذه المعادلة، فمعناه المزيد من التفتت، المزيد من الانكشاف الاستراتيجي، والمزيد من اغتيال الهوية والمشروع العربي برمّته.

خامساً: هل القومية العربية مشروع قابل للإنبعاث؟… بين رماد التاريخ وشعلة المستقبل

في اللحظة التي يُخيّل فيها للكثيرين أن القومية العربية لفظت أنفاسها الأخيرة تحت ركام الهزائم والتشظي، تظل الحقيقة الأعمق أكثر تعقيداً وثراءً.

القومية ليست مجرد أيديولوجيا متحجرة تجمدت في زمن مضى، بل إطار حضاري حيّ، مرن، قادر على التكيف والتجدد، إذا ما تحرر من أعباء الماضي وأُعيدت صياغته بروح العصر ومتطلبات المستقبل.

1- القومية العربية … من أيديولوجيا مغلقة إلى مشروع حضاري مرن

القومية العربية ليست نصاً مقدساً ولا شعاراً جامداً، بل منظومة انتماء عميقة الجذور، تنبثق من وحدة اللغة، الثقافة، الجغرافيا، والتاريخ المشترك، لكنها أيضاً قابلة للتحديث وإعادة التفسير بما يتناسب مع التحولات العالمية.

التاريخ أثبت أن الشعوب الحية لا تعيد إنتاج هويتها كنسخ مكررة، بل تعيد بناءها وفق ضرورات اللحظة. هكذا ينبغي أن تُفهم القومية اليوم:

كإطار ديناميكي مفتوح، يتسع للحداثة، للتكنولوجيا، للعولمة الواعية، دون التفريط بجوهر الانتماء العربي الجامع.

2- فكّ الارتباط بين القومية والأنظمة الاستبدادية

أحد أكبر أخطاء التجربة القومية في القرن العشرين كان ربطها عضوياً بأنظمة حكم عسكرية أو سلطوية اختطفت الشعار القومي لتحوله إلى غطاء للاستبداد والقمع.

بعث القومية العربية يتطلب قطيعة واضحة مع هذا الإرث، وترسيخ القناعة بأن الانتماء القومي لا يمكن أن ينجح في ظل الديكتاتوريات، ولا أن يُفرض بالقهر، بل ينبع من إرادة الشعوب الحرة، ومن دولة المواطنة، لا دولة الشعارات الجوفاء.

القومية العربية لا ينبغي أن تعني العودة إلى الجمهوريات الأمنية ولا إلى الخطابات الفارغة، بل إلى مشروع يضع الإنسان العربي، حريته، كرامته، وحقوقه، في قلب أي نهضة قومية حقيقية.

3- القومية العربية هوية جامعة تحترم التعدد والاختلاف

في عالم متنوّع، تصبح القومية العربية مشروعاً إنسانياً يتجاوز المفهوم العرقي الضيق أو الاصطفاف الطائفي والمذهبي، لتتحول إلى فضاء جامع يحترم:

- التعدد الديني والمذهبي.

- التنوع العرقي والإثني داخل المجتمعات العربية.

- حقوق الأقليات ضمن إطار هوية مشتركة تستند إلى الثقافة واللغة والمصير الواحد.

إن القومية الجديدة يجب أن تُبنى على قاعدة “ الوحدة في التنوع ”، حيث يُحتفى بالاختلاف باعتباره مصدر غنى، لا مبرراً للفرقة.

4- من القومية الشعاراتية إلى التكامل الواقعي

لقد آن الأوان لتتجاوز القومية العربية حالة الشعارات الحماسية والبيانات الخطابية إلى مشروع عملي يترجم الانتماء إلى منجزات ملموسة، أبرزها:

• التكامل الاقتصادي العربي:

خلق فضاء اقتصادي موحد يعزز الاكتفاء الذاتي ويقلل التبعية للخارج.

• بناء منظومة دفاع عربي مشترك:

حماية الأمن القومي العربي من التدخلات الخارجية والاختراقات الإقليمية.

• التعاون العلمي والتكنولوجي والإعلامي:

استثمار الكفاءات والطاقات العربية لتحديث مجتمعاتنا وتطويرها.

القومية هنا تصبح فعلاً تراكمياً، لا مجرد تظاهرة موسمية، ومشروعاً واقعياً يبني الجسور بدلاً من تضخيم الفجوات.

5- القومية العربية رافعة للديمقراطية والعدالة والكرامة

لا مستقبل لأي مشروع قومي بمعزل عن:

- الديمقراطية:

مشاركة الشعوب في صياغة القرار، تداول السلطة، واحترام التعددية.

- العدالة الاجتماعية:

محاربة الفقر، التهميش، والتمييز بكافة أشكاله.

- الكرامة الإنسانية:

صون حقوق الأفراد، كرامتهم، وحرياتهم الأساسية.

إن القومية الجديدة ليست بديلاً عن هذه القيم، بل رافعة لها، حيث يُعاد تعريف الانتماء العربي كمسار تحرر شامل، لا كقيد إضافي على كاهل المواطن.

رؤية استراتيجية لإحياء المشروع من جديد.. من الماضي المُثقل إلى المستقبل المُنفتح

إحياء القومية العربية لا يعني استنساخ التجارب القديمة، بل قراءة الواقع بعيون المستقبل، عبر:

• التحرر من أيديولوجيا الماضي الجامدة.

• بناء مشروع تكاملي عربي تدريجي وواقعي.

• الانطلاق من قضايا الناس اليومية:

خبز، أمن، كرامة، قبل الحديث عن الوحدة الكبرى.

• الاستثمار في وعي الأجيال الجديدة بلغة العصر:

تكنولوجيا، ثقافة رقمية، اقتصاد معرفي.

• تقديم القومية كهوية رحبة تتسع لكل من يعيش في الفضاء العربي، دون إقصاء أو استعلاء.

عندها فقط، يمكن القول إن رماد القومية العربية يُخفي جمرة لم تنطفئ، وإن بعثها، وإن بدا صعباً، ليس مستحيلاً.

سادساً: ملامح استراتيجية نهوض قومي عربي جديد

من الهُوية الممزّقة إلى المشروع الحضاري الجامع

في مواجهة عواصف التمزق، التدخلات الخارجية، والصراعات الداخلية، تحتاج القومية العربية اليوم إلى مشروع نهوض جديد، أكثر نضجاً وواقعية، يُعيد تعريف الانتماء العربي بوصفه قوة توحيد وبناء، لا وسيلة للإقصاء أو الشعارات الفارغة.

إن بعث القومية العربية كحركة معاصرة يتطلب رؤية شاملة تدمج بين الهُوية، التنمية، الدفاع، الحرية، وتطلعات الأجيال الجديدة، وفق خمس ركائز مترابطة:

1- القومية كهوية جامعة … لا كأداة إقصاء أو استعلاء

القومية العربية، في صيغتها الجديدة، ليست جداراً يعزل، بل مظلة تحتضن التنوّع وتحوّل التعدد إلى مصدر قوة.

الهوية الجامعة تعني:

- الاعتراف بالهويات الثقافية الفرعية: أمازيغ، أكراد، أفارقة، وغيرهم، جزء أصيل من النسيج العربي.

- سردية تاريخية جامعة:

إعادة كتابة تاريخ المنطقة بلغة معاصرة تُنصف جميع مكوناتها بعيداً عن الإقصاء والاحتكار الهوياتي.

- الارتقاء فوق الانتماءات الضيقة:

القومية لا تلغي الانتماء الديني أو الإثني، بل تحتضنه ضمن هوية حضارية أشمل.

الخلاصة:

قومية عربية جديدة تعترف بالتنوّع، تصون الكرامة، وتوحّد الشعوب حول اللغة، الثقافة، والمصير المشترك، لا حول الاصطفافات القسرية.

2- القومية كأداة تحصين أمام الاختراقات والتدخلات الخارجية

العالم العربي لم يعد يتحمل مشاريع الوصاية والاختراق من قِبل قوى إقليمية ودولية تعبث بخرائطه ومستقبله.

لذلك، تصبح القومية ضرورة استراتيجية لبناء:

- مشروع استقلال عربي حقيقي في الأمن، الطاقة، الغذاء، القرار السياسي، بعيداً عن الارتهان للخارج.

- جبهة عربية موحدة لوقف نزيف الصراعات الداخلية، والتصدي لمحاولات التفتيت، إعادة رسم الحدود، وزرع الفتن.

- إستراتيجية ردع جماعية تُعيد التوازن للمنطقة، وتحمي المصالح العربية بعيداً عن صفقات التبعية أو التحالفات الهشة.

3- القومية كرافعة للتكامل الاقتصادي والتنمية الذاتية

القومية ليست حلماً عاطفياً فقط، بل يجب أن تتحول إلى أداة عملية تعزز المصالح المشتركة وتخلق واقعاً تنموياً جديداً عبر:

- إحياء السوق العربية المشتركة وربط الاقتصادات العربية بسلاسل إنتاج وتجارة فعّالة تخدم الشعوب.

- استثمار القوة البشرية العربية، خاصة الطاقات الشبابية والكفاءات العلمية، كمحرك للتنمية والاكتفاء الذاتي.

- توظيف الموارد الطبيعية من النفط، الغاز، المعادن، الأراضي الزراعية، والموقع الجيوسياسي، في مشروع عربي مشترك يضمن أمن الغذاء والطاقة والتنمية المستدامة.

الخلاصة:

لا وحدة سياسية حقيقية دون وحدة اقتصادية تحرر القرار العربي من التبعية وتبني أسس النهضة الشاملة.

سابعاً: القومية كرؤية ديمقراطية تحفظ كرامة الإنسان العربي

التجربة التاريخية أثبتت أن القومية لا تنجح في ظل الاستبداد، وأن الخطاب العسكري القديم فرّغ المشروع القومي من جوهره، لذا:

- لا مكان لأي مشروع قومي جديد دون احترام الحريات، حقوق الإنسان، تداول السلطة، والشفافية.

- تجاوز الخطاب الأمني والعسكري القديم لصالح رؤية مدنية حديثة تُعيد للمواطن العربي كرامته ودوره في صناعة القرار.

- القومية الجديدة ليست قيداً إضافياً على الأفراد، بل ضمانة لحريتهم، أمنهم، وعدالتهم الاجتماعية.

ثامناً: القومية كمشروع حيّ للأجيال الجديدة … بلغة العصر وأدواته

القومية العربية يجب أن تخاطب أبناء اليوم بروح عصرهم، بعيداً عن لغة الشعارات المتخشبة، عبر:

- إعادة تعريف القومية بلغة التكنولوجيا والمعرفة والفضاء الرقمي، لتصبح جزءاً من وعي الشباب اليومي، لا مجرد ذكرى أجيال الأمس.

- تقديم مشروع قومي مرن، عملي، واقعي، يتفاعل مع تطلعات الأجيال الجديدة في التعليم، الابتكار، الاقتصاد الرقمي، وريادة الأعمال.

- صناعة سردية إعلامية وثقافية جديدة تحفز الانتماء العربي بأساليب إبداعية تواكب العولمة، لا تتصادم معها.

القومية العربية… من رماد الانكسار إلى هندسة المستقبل

القومية العربية لن تُبعث في ساحات الخطب وحدها، بل في الجامعات، الشركات الناشئة، الإعلام الرقمي، ومشاريع التنمية الواقعية التي تمسّ حياة الناس مباشرة.

فالقومية العربية كخارطة مستقبل لا كنوستالجيا للماضي، مشروع نهوض قومي عربي جديد لا يبدأ من الحنين إلى الماضي، بل من قراءة الواقع بوعي، ومن الاعتراف بأخطاء التجربة، لصياغة مستقبل يُعيد للعرب مكانتهم بين الأمم، ولشعوبهم الأمل بوطن عربي قوي، متنوع، مزدهر، ديمقراطي، ومستقل القرار.

القومية العربية ليست رواية ماضٍ منسي ولا شعارات تُردَّد في فراغ، بل سؤال مصيري عن مكان العرب في عالم يتغير بسرعة مذهلة … عالم لا يرحم الضعفاء، ولا ينتظر الممزقين، ولا يحترم من فقدوا بوصلتهم.

اليوم، وسط زلازل الجغرافيا، تصدّع الدولة الوطنية، واستباحة القرار العربي من كل اتجاه، لم تعد القومية ترفاً فكرياً ولا حنيناً رومانسياً، بل معركة وجودية تستدعي:

- نفض غبار الشعارات القديمة، واستبدالها بمشروع عقلاني، علمي، واقعي.

- تجديد مفهوم القومية من فكرة مغلقة إلى إطار حضاري جامع، يوازن بين الانتماء الوطني، التنوع الثقافي، والهوية العربية الكبرى.

- إعادة تعريف القومية كمشروع تحصين أمام التفكك، وكرافعة للتكامل، وكأداة لتحرير القرار العربي من التبعية والارتهان.

القومية ليست اليوم في اختبار الخطابات، بل في اختبار الشجاعة:

هل نملك الجرأة على الاعتراف بإخفاقاتنا؟ على إعادة بناء مشروع يُترجم الهوية إلى سياسات، والانتماء إلى مصالح، والحلم إلى أدوات؟ هل يمكن للعرب أن يتحولوا من ساحات مُستباحة إلى لاعب إقليمي ودولي يُحسب له الحساب؟

الفرصة ما زالت قائمة، لكن النافذة تضيق بسرعة …

إما ولادة قومية عربية جديدة — منفتحة، مرنة، ديمقراطية، واقعية، تتقن لغة العصر وتستوعب دروس الماضي … أو استمرار الغرق في مستنقع الهويات المتصارعة، والحدود المصطنعة، والتدخلات المفروضة، والانتظار القاتل لمستقبل يصنعه الآخرون.

القومية ليست قدراً محتوماً، بل خيار استراتيجي … يبدأ من إدراك الحاجة إلى التغيير، وشجاعة البدء، ووضوح الرؤية.

المعادلة واضحة:

إما العرب مشروع، أو العرب فراغ.

إما العرب أفق مفتوح، أو العرب ساحة صراعات مغلقة.

إما العرب رقم فاعل، أو العرب وقود لأجندات الآخرين.

الاختيار يبدأ من الوعي … ويُحسم بالفعل …

الآن، الآن، لا غداً.

مقالات مشابهة

  • شذرات استراتيجية.. القومية العربية بين الانبعاث والاحتضار
  • من أبوظبي.. فيديو يرصد مذنبا دخل مجموعتنا الشمسية بعد سباحة بالفضاء لمليارات السنوات
  • «بوسنينة»: الخطوط الجوية الليبية لن تكون الشركة الأخيرة التي تتعرض لأزمة مالية
  • كل ما تريد معرفته عن يوم عاشوراء .. موعده ومتى بدأ الاحتفال به
  • اكتشاف مذنّب يتجول داخل المجموعة الشمسية
  • تعيين 64 معلما ومعلمة بمدارس الظاهرة
  • فلكية جدة: كوكب الأرض يبلغ أبعد نقطة عن الشمس غدًا ويُعرف علميًّا بـ«الأوج»
  • فلكية جدة: كوكب الأرض يبلغ أبعد نقطة عن الشمس غدًا ويُعرف علميًّا بـ”الأوج”
  • فلكية جدة توضح حقيقة البقعة الوردية في سماء شمال غرب المملكة
  • فلكية جدة ترصد بقعة وردية في سماء شمال غرب المملكة