«كثيرة جدا هذه اليابسة» لعبدالله حبيب
تاريخ النشر: 25th, March 2024 GMT
يندرج كتاب «كثيرةٌ جدًا هذه اليابسة» للكاتب والسينمائي العماني عبدالله حبيب -الصادر حديثا عن دار روايات بالشارقة- تحت مظلة (أدب الشذرات) أو (الكتابة الشذرية)، لكن هل هي فعلًا مجرّد شذرات؟ لا يبدو الأمر هكذا على إطلاقه؛ فالكاتب نفسه لم يكن ليحسم الأمر بهذه البساطة وإلا لم يكن ليضعها تحت ثلاثة أجناس مختلفة هي «شذرات، تأمُّلات، نصوص» في العنوان الفرعي الذي يلي العنوان الرئيس.
في الحوار الذي أجرته الكاتبة والإعلامية أمل السعيدية مع عبدالله حبيب في برنامج (الفهرس) سعى الكاتب إلى تفكيك مصطلح (الشذرة Fragment) الذي يختلف تماما -من وجهة نظره- عن مفهوم آخر قد يتداخل معه ألا وهو (الحكمة aphorism)، ومن ثَمَّ اقترح عبدالله حبيب مصطلح (شَظَرَة) -كعادته في صَكَّ كلمات جديدة واجتراح مصطلحات منحوتة أخرى- لتُعبّر عن تشظّي الشكل والمضمون معًا وتشذُّرهما؛ لينتج ذلك النص المُكَثّف دلاليًا والمُختَزَل نصيًّا والعميق شعريًا وفلسفيًا، وهو قد مارس هذا النوع من الكتابة باحترافٍ عالٍ في كتبه الأخرى.
لِنَعُد مرة أخرى إلى العنوان -باعتباره شفرة الكتاب وعتبته الأولى- لنجد أنه يحيلنا إلى اليابسة، بل وإلى الكثير منها لكننا حين نعيد البصر كرتين لن نجد في الغلاف الخارجي ما يشير إليها (أي إلى اليابسة) أو يومئ إلى أيٍّ من علاماتها، على العكس من ذلك سنجد أن الغلاف يحتوي على صورة محارة كبيرة تضم أصدافا بحرية، وبلغة السيميائيين فإن صورة المحارة هي أيقونة دالة على البحر، والبحر نقيض اليابسة، وعلى هذا الأساس فإن عنوان الكتاب المخاتل ليس كما يبدو لنا على ظاهره، وإنما يتضمن معنى دلاليا محتجبا عن القارئ. فأين يتوارى ذلك المعنى؟
سنحتاج للإجابة عن هذا السؤال إلى الانتقالَ إلى العتبة الثانية للكتاب وهي هنا (فهرس المحتويات) لنجد أن الكاتب قد عنونه بـ«خريطة اليابسة»، وإذن فلن يجد القارئ في هذا الكتاب سوى اليابسة، والدليل على ذلك أن المؤلف وضع ثلاث عتبات أخرى مُتَضَمّنة في هذه الخريطة؛ ليُدلّل بها على التنويعات النصية التي يشتمل عليها الكتاب، وهي التي كانت على غلاف الكتاب عنوانا فرعيا، وقد قسَّمها كالآتي: «شذرة أولى، تأمُّل ثانٍ، نصُّ ثالث»؛ ليعطي ملمحًا عمّا يمكن أن يشي بأمثلة لها، (مع ملاحظة أن مصطلح «نصوص» ينفتح على أجناس أدبية مختلفة فهي قد تشمل «القصيدة النثرية، والهايكو، والومضة، وق.ق.ج... إلخ»). هذه الأقسام الثلاثة تحتلُّ ثلاث ورقات من الكتاب -في فهرس خريطة اليابسة- ثم لا شيء آخر سوى (اليابسة) التي تحتلُّ الكتاب بأكمله -«فهرسيا» على الأقل- ابتداء من الصفحة (13)، وانتهاء بالصفحة (186) التي يُختَم بها الكتاب.
وإذن فما علاقة البحر بأصدافه في كتاب ينفتح على اليابسة في جميع صفحاته؟ قد لا يتمكن القارئ من الحصول على إجابة لهذا السؤال الذي سيظلُّ يشغل باله وهو يقرأ الكتاب بأناةٍ وتأمُّل ومتعةٍ إلى حين يعثر على الشذرة التي اقتُطِعَ منها عنوان الكتاب، وهي الشذرة رقم (318) في صفحة (130)، يقول فيها عبدالله حبيب: «كثيرةٌ جدًا هذه اليابسة على القواقع وسكان المياه»، وهنا تماما تنحلُّ إحدى عُقَد العنوان، فاليابسة من زاوية الرؤية هذه كثيرة جدا بالنسبة إلى أهل البحر وسكّانه، أما بالمعنى الطبوغرافي فهي ليست كبيرة إذ لا تشكل سوى 29% من مساحة الأرض، ومع ذلك فهي خواء وخلاء ويابسة حقا- بالمعنى اللغوي والفلسفي- لمن يعشق البحر ويراه كونيا ويجد فيه خلاصه وامتداده الأنطولوجي.
لِنَعُد مرة أخرى إلى العنوان، ماذا أراد الكاتب أن يقول حين اقتطع من هذه الشذرة عنوانًا كبيرًا لكتابه، ووسم به فهرس محتوياته؟ إن قراءة فاحصة ومتمعّنة في مضامين الكتاب وميكانزماته الظاهرة والخفية بكل ما فيها من أفكار ورؤى ودلالات، وعمق فلسفي، وإيقاع وصدى موسيقي، واقتباسات وتعالقات نصية...إلخ يشعر بها القارئ كلما تقدّم في قراءته، ويحسُّ بها وهي تهزّ وجدانه شعريا، بل وتزلزل مسلّماته وقناعاته، وتفتح ذهنه ووعيه على قضايا مختلفة كل ذلك -يقول الكاتب دون أن ينطق به لسانه- مجرد يابسة (لا ماء فيها ولا رواء بالمعنى اللغوي لليباس). وإذن فأين هو الماء؟ وأين هو البحر مع كل هذا العمق الدلالي الذي تكتنز به شذرات الكتاب وتأمُّلاته ونصوصه؟ يردّ الكاتب دون أن ينبس: هو هناك خارج جلدتي الكتاب، هو ذاك البحر بأصدافه وقواقعه وأرواحه وعمقه اللانهائي، هناك خارج حدود هذا الكتاب يقع الكون اللامحدود بكل اتساعه وغموضه واكتناز مدلولاته، فما يقع خارج هذه اليابسة هو أجدى نفعًا وأعمق أثرا؛ لأنه ينفتح على الحياة بأسرها.
في الحوار الذي أجراه الكاتب والإعلامي سليمان المعمري معه بمناسبة حصوله على جائزة الإنجاز الثقافي البارز في عمان لعام 2011، والمُضَمَّن في كتاب «ليس من زماننا، عبدالله حبيب» يسأل سليمان صديقه عبدالله حبيب عن علاقته بالبحر، فيجيب عبدالله: «كلا. أخشى أنني لا أستطيع ذلك. قد يمكن الحديث عن البحر حين أكون فيه وحدي. أنت تسألني هذا السؤال ونحن على اليابسة. حين أكون وحدي في البحر فإن سؤالك ملغى من الأساس. أرجوك سامحني. لا تسألني عن البحر».
وإذا كان كل ما سبق هو تأمُّلٌ في عتبة العنوان، ونحن نحاول أن نَلِجَ إلى عوالم عبدالله حبيب الرحبة والمنفتحة على فضاءاتٍ ورؤىً في شتى الموضوعات والقضايا والمواقف التي يحتشد بها الكتاب فما بالنا إذا توقفنا عند كل شذرة أو تأمُّل أو نصٍّ بالفهم والتحليل، لا بد لنا والحال كذلك إلى دراسة مُعَمَّقة مُطوَّلة لصيد اللقى الدلالية والفلسفية التي يزخر بها الكتاب، وقد قال تزفتان تودورف يوما: «إن النص الأدبي يجب أن يُنتج زلزالا دلاليا»، فما بالنا بنص تتفجر براكينه الدلالية في كل (شظرة)، وإذن فالقارئ على موعد مع وجبة ذهنية وثقافية وروحية دسمة تحتاج إلى التشمير عن ساعد الذهن للغوص في أعماق هذه اليابسة الكثيرة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: عبدالله حبیب هذه الیابسة
إقرأ أيضاً:
الكائنات الغريبة التي لم نعهدها
علي المسلمي
في عصر نستطيع أن نقول فيه إنه بلغ ذروة العلم والتمدن، مبتكرات ومخترعات، لم تخطر على بال أحد؛ لتيسير حياة البشرية جمعاء، وأخريّات لتدمير البشرية من المغلوب على أمرهم؛ من أجل المليار الذهبي من البشر.
في المُقابل توجد ثلة من الصنف الثاني من الناس، تحكمها شريعة الغاب، تمارس السّادية بحق شعب أعزل في أرضه، لا يطلب سوى العيش الكريم، والحياة الهانئة الهادئة، يطلب حريته بعدما تمت مُحاصرته برًا وجوًا وبحرًا بالقاذفات والمسيرات، والقنابل الحارقة الفسفورية المحرمة دوليًا والخارقة للصوت، والمجنزرات والبلدوزرات ودبابات الميركافا. هذه الكائنات هل هي من جنس البشرية أمْ كما تدعِي؛ بأنها شعب الله المختار، وأخذت صك الغفران من فرعون العصر، الذي أعطاها الضوء الأخضر، تبيد البشر والحجر في حمم لا تبقي ولا تذر، وتشفي غليلها بتهشيم رؤوس أطفال العرب حسب عقيدتهم التلمودية التوراتية الواردة في أسفارهم؛ حتى يهدأ بالها وتستريح قلوبها المليئة بالحقد والغل.
هيهات.. هيهات، إنَّ الله يمهل ولا يهمل، من قَبلِكِ أمم وأفراد أخذتهم العزة بالإثم، فصاروا إلى ما صاروا إليه من النكال والعذاب في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون "أَدْخِلُوا آلَ فِرْعونَ أشدَّ العذابِ". وهذه الكائنات استباحت الحرمات، ودنست الأعراض، وأهلكت الحرث والنسل، وعاثوا في الأرض الفساد، ولم تنصت لصوت العقلاء الحكماء، والمتظاهرين المناهضين لهذه الهمجية الجاهلية، ولا إلى دعوة المظلومين، ولا إلى تنهدات المكلومين والثكالى وبكاء الأطفال اليتامى، همها الأكبر التطهير العرقي، والإبادة الجماعية، وبناء ملك زائل، ونبوءات زائفة في أرض الميعاد بالتطهر بالبقرات الحمراء الشيكاغوجية السّمانْ؛ لبناء هيكلهم المزعوم، وتحقيق أهداف بروتوكولات بني صهيون الماسونية.
أمّا وبَعْدّ أن تكشفت سوءات هذه الفئة، وكشفت عن بريق وجهها، ورأى العالم صنيعها وأفعالها أنَّا له أنْ يقف العالم الحُر كما يدعي بـديمقراطيته وعدالته مكتوف الأيدي بمؤسساته التي بُنيت على أساس صون كرامة الإنسان وحريته، واحترام حقوقه بعد الحربين العالميتين المدمرتين وبَنَتْ على ذلك العهود والمواثيق، أمْ تكون بريقاً مزيفاً يستخدمه الكبار؛ لاستمالة الشعوب التي يظنونها أممًا تابعة لهم تنقاد وفق أهوائهم ورغباتهم.
لقد طفح الكيل أمّة المليار مسلم، وأمّة الدين والتاريخ واللغة والنسب، إخوانكم وأبناؤكم وبني جلدتكم وقومكم يساقون سوقًا، ويدفنون أحياء بلا رحمة ولا شفقة، يُجّوعون ويتوسلون، بطونهم خاوية، أمعاؤهم تتقطع وتصرصر كصرير النمل في وضح النهار، وأفواههم عطشى ظمأى من شدة العطش، يبكون على أطفالهم من هول الأمر ولا يستطيعون بنت شفة من شدة ما يعتصرهم من الآلام. وهذا ما تسطره لنا الشاشات المرئية، يئنون من شدة الألم، يفترشون البيوت المهشمة، ويلتحفون قطعًا بالية والفضاء الملوث. وهناك من يطبل ويزمر ويزمجر، ويفرش الورد، ويُنفق المليارات نظير وعود لا يعلم صدقها إلا أصحابها، تنثر في الهواء؛ بينما الواقع يزداد بؤسًا وشقاء، بينما الأنين والنوح لا أحد يلقي له بالاً ويلقى اللوم على هذه الفئة الصابرة المرابطة منذ خمسة وسبعين سنة في دحر هذا العدوان الغاشم بأبسط الوسائل.
ألا ينبض لنا عرق من دمٍ، أم نتوجس خيفة من أحفاد الصهاينة ولم نتكلم ببنت شفة، أينك يا فاروق الأمة، ويا صلاح الدين، وقطز، والأئمة والقادة العظام، وامعتصماه، واصلتاه، أم ندس أنوفنا في التراب، ونصُم آذاننا عن السماع، أو تشرئب أعناقنا إلى السماء ننتظر الفرج من رب السماء دون عناء. ونعم بالله الواحد القهار. "ألا إنَّ نصرَ اللهِ قرِيبٌ".
لا ضيّر لهذه الزمرة المؤمنة الصابرة أن تدفع بفلذات أكبادها؛ من أجل أن تعيش مثل بقية البشر آمنة مُطمئنة، ولكن الصمت يخيم، والجبروت يزداد من قبل الكيان وزمرته المتطرفة التي لا تبقي ولا تذر، والاتكال على سيد البيت الأبيض الحالم بنوبل للسلام إحلاله في بقاع الأرض؛ وخاصة منطقة الشرق الأوسط، لعل الصبح ينبلج بفجر جديد يعم السلام ربوع البلاد، ينفع البلاد والعباد من هذه الحرب المبيدة التي قضت على البشر والحجر، رحمة بهؤلاء البشر.
صبرًا يا آل ياسر فإنَّ موعدكم الجنة.