عبدالباسط عبدالصمد.. فى حضرة «الطاهرة»
تاريخ النشر: 28th, March 2024 GMT
أطلق عليه لقب الشيخ «مارلون براندو» لاهتمامه بوسامته وأناقته طوال حياتهسوريا تكرم القارئ الكبير.. وصحبة كريمة فى صلاة الفجر مع ملك المغرب المتصوفالرئيس الباكستانى يستقبله فى المطار.. وأنديرا غاندى تستمع لصوته فى احتفال كبير
لم يحلم محمد عبدالصمد سليم حماد، ذلك الرجل البسيط المولود فى أرمنت بقلب الصعيد يوم أن ولد ابنه «عبدالباسط» أن هذا الصبى سيكون له شأن كبير وسيصبح قارئًا لا مثيل له، بل وأحد أركان دولة التلاوة فى العالم الإسلامى، وأنه سيلتقى الملوك والرؤساء وينال التكريم من دول العالم المختلفة.
ولد الصبى الصغير «عبدالباسط» بقرية المراعزة التابعة لمركز أرمنت بمحافظة قنا بجنوب مصر على مقربة من مدينة الأقصر عام 1346هـ يناير 1927م، نشأ الصبى فى كنف جده الشيخ عبدالصمد سليم وكان تقيًا ورعًا من الماهرين بالقرآن، كما أن والده الشيخ محمد عبدالصمد كان أحد المجودين المجيدين للقرآن حفظًا وتجويدًا.
سنوات قليلة أتم خلالها حفظ القرآن الذى أصبح يتدفق على لسانه سلسبيلًا، وتلقى القرآن على يد الشيخ محمد سليم حمادة المنشاوى الذى جاء من سوهاج ليستقر فى أرمنت، وتلقى القراءات السبع وحفظ متن الشاطبية، وسرعان ما اشتهر القارئ الصغير فى أنحاء الصعيد حتى انهالت عليه الدعوات للقراءة فى محيط قنا وأسوان وسوهاج وأسيوط والمنيا حتى الجيزة، ثم حضر إلى القاهرة وعمره (19) عامًا وفى رحاب الطاهرة شهد احتفالًا بمولد السيدة زينب حيث امتلأ المسجد بآلاف الناس فقدمه إمام المسجد الشيخ «على سبيع» وكان يعرفه وطلب منه القراءة وكان ذلك (1950) وبدأ يتلو بفاتحة الكتاب وعاش روحانيات القرآن، حتى زاد على الساعة فى القراءة، ومنذ ذلك الحين سطع اسم الشيخ عبدالباسط عبدالصمد وأصبح يحصل على عشرين جنيهًا أجرًا لليلة.
تقدم الشيخ للإذاعة المصرية بعد عام من حضوره للقاهرة تحديدًا أواخر عام 1951م وتشكلت له لجنة من كبار العلماء ضمت الشيخ الضباع شيخ عموم المقارئ المصرية، والشيخ محمود شلتوت قبل أن يتولى مشيخة الأزهر والشيخ محمد البنا، وقد أجازته اللجنة فورًا واعتمدته قارئًا فى الإذاعة المصرية، وكانت أولى تلاواته من سورة فاطر فى تمام الساعة السادسة صباح أحد أيام الثلاثاء بعدها صار له وقت محدد مساء كل سبت وعين قارئًا لمسجد الإمام الشافعى عام 1952، ثم قارئًا لمسجد الإمام الحسين عام 1958 خلفًا للشيخ محمود على البنا.
انطلق الشيخ بعدها سفيرًا للقرآن إلى دول العالم المختلفة، فكانت أولى زياراته خارج مصر إلى السعودية لأداء فريضة الحج ومعه والده، واعتبر الأشقاء فى السعودية أن هذه الزيارة مهيأة من قبل الله، فطلبوا منه تسجيل القرآن للمملكة ليذاع عبر موجات الإذاعة هناك وأن يقرأ فى البلاط الملكى، ولم يتردد الشيخ وقام بتسجيل عدة تلاوات للمملكة العربية السعودية أشهرها التى سجلت بالحرم المكى والمسجد النبوى الشريف، لقب بعدها بـ«صوت مكة» جاب الشيخ العالم شرقًا وغربًا شمالًا وجنوبًا وصولًا إلى المسلمين فى كل مكان، ومن أشهر المساجد التى قرأ فيها المسجد الحرام والمسجد النبوى والمسجد الأقصى بالقدس، والمسجد الإبراهيمى بالخليل والمسجد الأموى بدمشق.
وفى العراق قام بإحياء ليالى رمضان أيام الرئيس عبدالسلام عارف، واستقبله الرئيس الباكستانى ضياء الحق فى أرض المطار ضاربًا بكل البروتوكولات الرسمية عرض الحائط وصافحه على سلم الطائرة، وفى إندونيسيا قرأ القرآن بأكبر مساجد عاصمتها جاكرتا، وفى جنوب أفريقيا استقبله وفد إعلامى من رجال الصحافة والإذاعة والتليفزيون لإجراء لقاءات معه، وله قصة لا تنسى فى هذا البلد فكان وهو فى الطريق إليها مكث ليلة كاستراحة فى إحدى الدول بأحد الفنادق وعندما وصل المطار بحث الشيخ عن جواز سفره وأوراقه فلم يجدها، فقد نسيها بالفندق الذى لا يذكر اسمه ولا مكانه، وفوض أمره وبث حزنه لله، وفجأة وقبل قيام الطائرة بدقائق جاءت سيارة مسرعة، ونزل منها شخص، وأسرع وقدم له جواز سفره وكان ذلك فى مدينة «جوهانسبرج» ثم تابع الشيخ رحلته إلى مدينة «درين» وكان أول قارئ يصل إليهم، وفى المطار لم يستطع القيام من مكانه بسبب آلاف المستقبلين والموسيقى التى كانت تعزف طربًا لوصول قارئ القرآن، وهناك أمضى بينهم شهرًا يتلو القرآن.
وفى المركز الإسلامى بواشنطن التقى بالملك فيصل رحمه الله الذى بادره قائلًا: ماذا أتى بك إلى هنا، رد الشيخ قائلًا: القرآن الكريم وتلاوته أمام مسلمى أمريكا وقدم له الملك فيصل هدية قيمة لجلال القرآن وطلاوة صوته، ورحم الله الملك محمد الخامس، فقد كان معروفًا بالتقوى والورع.. وكان يتهجد قبل صلاة الفجر، وقلبه معلق بالمساجد وبتلاوة القرآن وبالشيخ عبدالباسط عبدالصمد، فقد كان فى زيارة للقاهرة، وغير ملابسه الوطنية إثر وصوله للقصر وارتدى بدلة عادية ومعطفًا وكوفية وقصد مسجد السيدة نفيسة بصحبة مستشاره الصحفى والشيخ عبدالباسط وزار ضريح السيدة نفيسة ثم جلس فى محراب المسجد يتلو آى الذكر الحكيم، وحينما بدأ يقرأ الشيخ عبدالباسط القرآن كان يستمع فى خشوع، وقد دعا الشيخ عبدالباسط لزيارة المغرب لترتيل القرآن طوال شهر رمضان فى قصر الملك محمد الخامس بالمغرب، وقد ربطته صداقة كبيرة مع الملك. أيضاً قرأ الشيخ عبدالباسط القرآن فى 14 ولاية أمريكية، وحينما زار الهند لإحياء احتفال دينى كبير أقامه أحد الأغنياء المسلمين حضرته رئيسة الوزراء «أنديرا غاندى» رغم أنها هندوسية، فوجئ جميع الحاضرين يخلعون الأحذية ويقفون على الأرض وقد حنوا رؤوسهم لأسفل ينظرون محل السجود وأعينهم تفيض من الدمع يبكون إلى أن انتهى من التلاوة وعيناه تذرفان الدمع تأثرًا بهذا الموقف الخاشع.
وزار الشيخ دول أوروبا والصومال والسنغال ونيجيريا وماليزيا، وزار بعضها مرافقًا للإمام الأكبر د. عبدالحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق ود. عبدالرحمن بيصار شيخ الأزهر الأسبق والشيخ جاد الحق شيخ الأزهر وزار معه دولة المالديف.
تزوج الشيخ فى التاسعة عشرة من ابنة عمه التى أنجبت له أحد عشر كوكبًا كما كان يحب أن يطلق عليهم أربعا من الإناث وسبعة من الذكور جميعهم يحفظون القرآن الكريم، ولم يعمل فى مجال التلاوة سوى «طارق» لواء شرطة فى التنظيم والإدارة بوزارة الداخلية، والشيخ «ياسر» خريج كلية الآداب قسم الدراسات الشرقية.
حصل الشيخ عبدالباسط على عشرات الأوسمة المحلية والدولية منها وسام الاستحقاق من سوريا 1956م ووسام الأرز من الجمهورية اللبنانية، والوسام الذهبى من رئيس حكومة ماليزيا فى احتفال شهده ربع مليون ماليزى عام 1965 م، ووسام الاستحقاق من إندونيسيا، ومن السنغال، ووسام الكفاءات الفكرية من المغرب، ووسام العلماء من الرئيس الباكستانى عام 1984م، وآخر الأوسمة التى حصل عليها قبل رحيله وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى تسلمه من الرئيس مبارك فى عيد العلم عام 1987م ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى فى ليلة القدر عام 1990م، والوسام الفلسطينى من الرئيس ياسر عرفات تسلمه نجله اللواء طارق عام 2001م وعدد من النياشين من تونس ولبنان والعراق.
ولما آن الأجل زاد تأثره بمرض السكر رغم مقاومته لكنه تزامن مع الكسل الكبدى ثم تطور إلى التهاب فلم يستطع أن يقاوم وسافر إلى لندن للعلاج ومكث بها أسبوعا، وحينما شعر بدنو أجله طلب من ابنه طارق الذى رافقه فى رحلته الأخيرة أن يعود به إلى مصر، حيث فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها يوم الأربعاء 21 ربيع الآخر 1409هـ 30 نوفمبر 1988م عن عمر يناهز الواحد والستين عامًا قضاها فى خدمة كتاب الله سفيرًا للقرآن الكريم ترتيلا وتجويدًا، وبعد أن ملأ صوته العذب الأرض، وصارت له مدرسة فريدة فى عالم التلاوة، وترك لمصر والأمة الإسلامية ثروة من التسجيلات الصوتية إلى جانب المصحفين المرتل والمجود، ومصاحف مرتلة لبلدان عربية وإسلامية. وأقيمت صلاة الجنازة عقب صلاة الظهر بمسجد مصطفى محمود بالمهندسين بحضور كبار رجال الدولة على رأسهم شيخ الأزهر جاد الحق على جاد الحق، والسيد فكرى مكرم عبيد مندوبًا عن رئيس الجمهورية ود. محمد على محجوب وزير الأوقاف، وجمع غفير من القراء والعلماء وأعضاء السلك الدبلوماسى وسفراء الدول العربية والإسلامية وورى جثمانه الطاهر مقبرة أنشأها بجوار مسجد الإمام الشافعى بالقاهرة.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: سوريا صلاة الفجر ملك المغرب الرئيس الباكستاني حفظ القرآن سوهاج السعودية الشیخ عبدالباسط شیخ الأزهر قارئ ا
إقرأ أيضاً:
هل ذكر الجيش المصري في القرآن؟.. أكثر من 100 مرة مباشرة وغير مباشرة
لاشك أن السؤال عن هل ذكر الجيش المصري في القرآن الكريم؟ يعد من الاستفهامات المطروحة الآن بمناسبة ذكرى نصر أكتوبر 73 ، حيث بدأت الاحتفالات بنصر أكتوبر والتي ستمتد لنهاية الأسبوع ، ولعل ما يطرح الاستفهام عن هل ذكر الجيش المصري في القرآن الكريم؟ هو كثرة التهاني بمرور 52 عام على النصر المجيد الذي حققه الجيش المصري بفضل الله تعالى، ومن ثم ينبغي معرفة هل ذكر الجيش المصري في القرآن الكريم؟.
ورد في مسألة هل ذكر الجيش المصري في القرآن الكريم؟ ، أنه بالرجوع إلى كتب حسن المحاضرة للإمام السيوطي، أكد أن مصر ذكرت في القرآن الكريم أكثر من 30 مرة مباشرة، ونحو 70 مرة بشكل غير مباشر، وهذا دليل على علو مكانة هذا البلد، ويشعر أي شخص فيها بالفخر، حيث أن البلد يظل ثابتا، رغم التحديات التي حدثت في الماضي والحاضر، رغم اختفاء دول بالكامل، بسبب أحداث كثيرة.
وقد شرَّف اللهُ -عز وجل- مصر، وكرَّمها، وجعلها كنانته في أرضه، ووهبها مكانة سامقة إلى يوم الدين، فهي أم البلاد، وغوث العباد، وعلى الرغم من أن مصر تعرضت عبر تاريخها المديد لحروب وضغوط واستعمار ومحاولات استلاب من أعدائها ومن الطامعين فيها والمتربصين بها، فإنها لا تزال تعيش وتقاوم وستظل.
وورد أنها تتقلص حينًا، لكنها ما تلبث أن تنتفض عزة وكرامة وحضارة، تتآمر بعض الأنظمة عليها بعد أن أدبرت عنها، لكنها أيضا تفاجئ الدنيا ببنيها يصححون الأخطاء ويرتفعون بها. عجيبة هي مصر!! في ضعفها وقوتها وهبوطها وارتفاعها، والتفاف الناس حولها وانصرافهم عنها، وعجيبة في صلابة أهلها، وقوة نسيجها، ومتانة مكوناتها الثقافية والدينية والحضارية.. عجيبة تلك التي علَّمت الدنيا الحضارة وأضاءت مشاعل النور.
ونشرت العلوم والآداب والفنون في كل مكان.. نعم.. إنها مصر التي استبقاها الخالق العظيم وسط العواصف شامخةً.. إنها مصر الكنانة التي اختصها الله تعالى بخصائص فريدة لم تكن لغيرها.
ذكر مصر في القرآنوورد أن المتأمل في مظاهر تكريم الله تعالى لها يرى أن مصر هي البلد الوحيد الذي ذُكر في القرآن الكريم أربع مرات صراحة؛ إذ قال تعالى: "وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ" (يونس: ٨٧).
وقال: "وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (يوسف: ٢١).
وقال سبحانه: "فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ" (يوسف: ٩٩).
وقال: "وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ" (الزخرف: ٥١).
أما في قوله تعالى: "وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ" (البقرة: ٦١). فإن كلمة "مِصْرًا" جاءت بالتنوين، وهي قراءة الجمهور.
و قال ابن جرير: ".. ولا أستجيز القراءة بغير ذلك لإجماع المصاحف على ذلك". وقال ابن عباس: "(اهْبِطُوا مِصْرًا) أي من الأمصار". وبناء عليه لا تدل على مصر الكنانة، وإنما تعني أي مدينة متحضرة في أي مكان، حيث جاءت مفعولا به منصوبا وهي منونة (مِصْرًا) وهو موضع واحد فقط.
يقول ابن كثير: "والحق أن المراد: مصر من الأمصار، وليس مصر فرعون كما رُوي عن ابن عباس وغيره، والمعنى على ذلك؛ لأن موسى (عليه السلام) يقول لهم: الذي سألتموه ليس بأمر عزيز؛ بل هو كثير في أي بلد دخلتموه وجدتموه" كما جاء في تفسير ابن كثير.
وفي المواضع الأربعة الأخرى جاءت كلمة (مِصْرَ) ممنوعة من الصرف (أي غير منونة)؛ لتدل على (مِصْرَ) الكنانة، أي: الوطن الذي يعيش فيه المصريون. وهذه تفرقة لغوية دقيقة بين (مِصْرَ)، و(مِصْرًا).
ويسجل القرآن الكريم اعتراف اللغة العربية بعراقة مصر وحضارتها التي تضرب بجذورها طولا وعرضًا وعمقًا في أعماق التاريخ. والناظر في حال الأمم والدول التي ورد ذكرها في كتاب الله الخالد، يلحظ أن التاريخ طواها في وثائقه وجسَّد آثارها في متاحفه، وبقيت مصر معززة مُكرمة مُشرَّفة في كتاب الله الخالد.
- أن مصر ذُكرت بالتلميح كما ذُكرت بالتصريح في القرآن الكريم، في أكثر من ثلاثين مرة، وهو أمر لم يكن لأي دولة في القرآن الكريم، وآيات التلميح لها مواطن كثيرة متفرقة، ومن ذلك قوله تعالى: "وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ" (الطور: ١ــ ٢).
وقوله: "وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ" (المؤمنون: ٢٠).
وقوله: "وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ" (التين: 1ــ ٢). وغيرها من الآيات.
- أن أغلب الآيات الكريمة التي ورد فيها ذكر مصر- تصريحًا أو تلميحا- تشع بالخير والبركة لهذا البلد الأمين، ومن بركاتها نهر النيل الذي نشأت على ضفافه حضارة شامخة، لا يزال إلى الآن لها طلع نضيد يحير الألباب.
- أن خليل الرحمن سيدنا إبراهيم -عليه السلام- عاش على أرضها وتزوج السيدة هاجر منها.
ونشأ فيها نبي الله إدريس -عليه السلام-، وبعث ومات داعيًا إلى التوحيد.
ودخلها نبي الله يعقوب -عليه السلام- وأولاده، وسبقهم إليها نبي الله يوسف -عليه السلام- الذي أمضى حياته كلها فيها، فكانت له مقامًا طيبًا، وأتى بقومه جميعا من أرض فلسطين للإقامة في مصر، قال تعالى: "ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ" (يوسف: 99).
وجعلها الله سلة غذاء العالم وخزائن الأرض، وجاء إليها الناس من كل فج عميق؛ ليأخذوا نصيبهم من الغذاء، بفضل مشورة سيدنا يوسف الذي أنقذ مصر والعالم من المجاعة حينما ادخر القمح وخزَّنه في سنابله "قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ" (يوسف: 47).
وعلى أرضها وُلد كليم الله سيدنا موسى وهارون -عليهما السلام-، وقد تجلى الله سبحانه فيها على موسى -عليه السلام-، وجعل محبته في قلوب الناس، قال تعالى: "وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي" (طه:39).
وكلَّمه الله وهو في أرض مصر بطور سيناء. يؤيد ذلك علماء الجيولوجيا إذ يقولون: إن الجبال الموجودة حول الطور كلها متصدعة من خشية الله دون غيرها من جبال سيناء.
وشُرِّفت مصر بأن أوت سيدنا عيسى -عليه السلام- وأمه السيدة مريم ابنة عمران، وانتقلا منها معززين إلى القدس الشريف.وشاء الله تعالى أن تكون مكة البلد الحرام، ومصر بلاد الأمن والأمان.
و قال تعالى: "لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا" (الفتح:27).
آيات قرآنية عن الجيش المصريوقال: "ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ" (يوسف: ٩٩). وكلمة (آمِنِينَ) - لم تأت في القرآن إلا في هذين الموضعين، ومن ثمَّ فقد خصَّ اللهُ مصرَ بما خصَّ به البلد الحرام من الأمن والأمان.
- أن مصر ذُكرت على لسان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، في أحاديث متعددة، حيث أوصى بالإحسان إلى أهلها؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون مصرَ، وهي أرضٌ يُسمى فيها القيراطُ. فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلِها. فإن لهم ذمةً ورحمًا. أو قال: ذمةً وصهرًا) (أخرجه مسلم)، فالرحم هي أمنا هاجر أم أبينا إسماعيل عليه السلام، أما الصهر فهي السيدة (مارية القبطية) التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنجبت له ابنه إبراهيم.
- أن جند مصر هم خير أجناد الأرض؛ فهم في رباط وحراسة للوطن والإسلام والعروبة إلى يوم القيامة.
- أن مصر على الرغم من قوتها عبر التاريخ الإسلامي فإنها لم تكن معتدية أو غازية أبدا؛ بل كانت حامية للدين، وسندًا للعرب والمسلمين في كل مكان، يقول الإمام ابن كثير في تاريخه: ..في عام الرمادة - والجوع والفقر يحاصران الأمة الإسلامية-.
كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، لعمرو بن العاص حاكم مصر -رضي الله عنهما: "واغوثاه.. واغوثاه.. واغوثاه"، فقال عمرو بن العاص: "..والله لأرسلن قافلة من الأرزاق أولها في المدينة، وآخرها عندي في مصر". كما شرَّفها الله بأن أرسلت كسوة الكعبة المشرفة على المحمل العظيم لألف عام.
- ومن مظاهر تكريم الله لمصر أنها استضافت كثيرًا من الصحابة الكرام، فقد دخلها في فتحها مئة رجل ونيف ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تشرفت بعيش عدد كبير من التابعين، وتابعي التابعين، وأولياء الله الصالحين فيها، ونشأ على أرضها الزهاد والعباد والعلماء والفقهاء والمصلحون، ووارى رفاتَهم الميمون ثراها الطاهرُ ليشرف بهم إلى يوم الدين.
وقد حباها الله نهر النيل المبارك، الذي يعد مكرمة من الله لمصر، فعن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (سيحان وجيحان والفرات والنّيل كلٌّ من أنهار الجنّة) (رواه مسلم).
وقال الإمام النووي -رحمه الله-: "وأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة ففيه تأويلان ذكرهما القاضي عياض: أحدهما: أن الإيمان عمَّ بلادَها، أو الأجسام المتغذية بمائها صائرة إلى الجنة. والثاني: وهو الأصح أنها على ظاهرها، وأن لها –أي الأنهار- مادة من الجنة" (شرح النووي)، وهكذا "كانت البساتين بحافتي النيل من أوله إلى آخره، ما بين أسوان إلى رشيد لا تنقطع.
ولقد كانت المرأة تضع المِكتل على رأسها، فيمتلئ مما يسقط به من الشجر" كما قال د. محمد موسى الشريف في بحثه (فضائل مصر ومزايا أهلها). وهذا النيل هو سر حضارتها ورقيها وهو النهر الوحيد في العالم الذي ذكر وصفه في القرآن على لسان فرعون.
و قال تعالى: "وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ" (الزخرف: 51). وقد حافظ عليه القدماء وقدَّسوه واعتبروا تلويثه جريمة وجناية.
مصر في القرآنذكرت مصر في القرآن الكريم في ثمانية و عشرين موضعا ، خمسة منها بصريح اللفظ وتسعة عشر ما دلت عليه القرائن والتفاسير
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (61البقرة).وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (يوسف 21).فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ (يوسف 99 )وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (يونس 87)وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ( الزخرف 51)و منها ما جاء بشكل غير مباشر في قوله تعالى : قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ( يوسف55 ) ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ( القصص6) و الأرض في الآية هي مصر و قد ذكرت فى عشر مواضع باسم الأرض فى القرآن كما ذكر عبدالله بن عباس .وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (القصص20) ، أما ما روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فى ذكر مصر .وقال رسول الله - صلى الله عليه و سلم-: (ستفتح عليكم بعدى مصر فاستوصوا بقبطها خيرا فإن لكم منهم ذمه و رحما ) رواه مسلم. و قوله صلى الله عليه و سلم (إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا بها جندا كثيفا فذلك الجند خير اجناد الأرض ، قال أبو بكر لم يا رسول الله؟ قال لأنهم و أزواجهم فى رباط إلى يوم القيامة ).