«لا ينشأ الشر إلا عن الجهل» كما قال سقراط، لكني أجزم لو عاش بيننا هذه الأيام لجن جنونه ورمى ألواحه وهام في شوارع أثينا حاسرًا، وهو يشاهد الأشرار والشر وأعتى المجرمين، وقد اعتلوا منصات العالم، وهم ليسوا جهلة بل ذوو معرفة وثقافة وبكامل درايتهم ومعرفتهم، وأن المعرفة التي لديهم لم تمنعهم من ارتكاب الجرائم، ولا الخير منعهم من ارتكاب الشر كما قال أفلاطون، وهم ليسوا جاهلين بآثاره، يرتكبون الشر وهم يعرفون أنه يجلب الضرر والمعاناة، لكنهم يتمادون في غيهم وطغيانهم.
أما تفاهة الشر أو عادية الشر، مصطلح نحتته الفيلسوفة الألمانية حنة آرندت في كتابها الموسوم بعنوان (أيخمان في القدس.. تقرير عن تفاهة الشر) الذي نشرته عام 1963 وهو في الأصل تقرير كتبته لمجلة (نيويوركر) عن محاكمة المسؤول النازي السابق أدولف أيخمان عام 1961. راقبت آرندت ذلك الرجل القابع داخل القفص وخلصت في تقريرها إلى أن «أيخمان كان مجرد موظف ينفذ الأوامر التي توكل إليه دون تفكير أو وعي ولا أيديولوجيا حقيقية تحركه، إنه مجرد رجل تافه كان على استعداد أن يفعل أي شيء، لكن ليس من أجل الأيديولوجيا أو الفكر النازي، وإنما فقط لأجل الحفاظ على وظيفته في الجيش».
تقوم نظرية حنة آراندت في عمقها ومدلولاتها على فكرة تفاهة الشر أو عاديته وهي في حد ذاتها تطرح فكرة مختلفة عن الشر ومفهوما آخر له، تقول: إن الإنسان قد يرتكب الشر دون أن يكون شريرا أو شيطانا أو مجرما، مختلفة في ذلك مع مانويل كانط الذي يقول: إن الشر متجذر في الطبيعة البشرية وهو متأصل جذريا في الإنسان. في تفاهة الشر يرتكب الإنسان جريمته وهو إنسان عادي جدا وتافه لا يفكر فيما يقوم به من أعمال ويعتقد بأنه عندما يرتكب تلك الأفعال بأنه يقوم بعمله الوظيفي وتنفيذا لأوامر صادرة إليه من مسؤولين أعلى سلطة منه. فهم ليسوا مذنبين وإنهم ضحايا تنفيذ أوامر الآخر وواقعون تحت سيطرته وتأثيره، يرتكبون الشر دون دراية منهم ودون أن يعوا بذلك ويعتقدون أنهم يمارسون عملهم ووظيفتهم المقدسة، سواء كانت وظيفة إدارية أو سياسية أو حتى وظيفة دينية، لكنهم في الحقيقة هم ضحلون تافهون لا يفهمون شيئا، وشخصياتهم بسيطة لا عمق فيها.
نحن بلا شك نعيش هذه الأيام عصر تفاهة الشر، العصر الذي يبرر فيه الإجرام والدمار وسحق الإنسانية، لا عدالة فيه، يفلت فيه أعتى المجرمين من العقاب والقصاص، فهم ليسوا أشرارا ولا شياطين ولا هم مجرمين بل هم بكل بساطة ينفذون ما يُطلب منهم بكل برود متجردين من إنسانيتهم وأخلاقياتهم، ينفذون أوامر ويخضعون لإرادة أشخاص أو هيئات أو منظمات أو سلطة أو نصوص دينية، فهم في الحقيقة ليسوا إلا أناسا عاديين تافهين عديمي المسؤولية. أمريكا بجلالها وعظمتها عندما غزت العراق ودمّرته وقتلت أهله فهي فعلت ذلك ليس حبًا في القتل والدمار ولكن تنفيذا لتعليمات كما قال الرئيس بوش الابن كان ينفذ تعليمات الرب (حاشاه عن ذلك) لإنقاذ العراقيين من الظلم ولنشر الديمقراطية وجلب الأمن والحرية لهم. وإسرائيل لا تقتل ولا تدمر إلا تنفيذا لتوصيات دينية كالأرض الموعودة وشعب الله المختار والتطهير العرقي، كما وردت في سفر التكوين، وسفر يشوع، وسفر الخروج، كما أوردها روجيه جارودي في كتابه (الأساطير المؤسس للسياسة الإسرائيلية) لذلك فهم عندما يدمرون ويقتلون فلأنهم ببساطة ليسوا إلا منفذين ويقومون بوظيفة أوكلت إليهم ويتلقون تعليماتهم، وبالتالي هم ليسوا إلا حفنة من البريئين المساكين الذين سُلبت إنسانيتهم وأخلاقهم. هنا تتجلى عادية الشر وتفاهته (حسب حنة آراندت) فهذه التفاهة التي نرى اليوم عليها أمريكا وربيبتها إسرائيل ومن خلفهما أوروبا، فهم لا يعملون ذلك إلا في سبيل إنقاذ البشرية من الأشرار والإرهابيين. فهم بالتالي ليسوا مجرمين أو أشرارا، بينما يقبع المجرم الحقيقي في مكان ما من هذا الكون. لم يكونوا سوى ضحية؛ فالمسؤولون الحقيقيون وحدهم الذين يستحقون العقاب. أو بمعنى آخر ليس هم إلا أكباش فداء أو كبش فداء، وما يفعلونه ما هو إلا استجابة لإرادة للآخر. فالمجرم الذي يرتكب الجريمة ليس إلا منفذا تافها أو نكرة مُبرمجا على السمع والطاعة لأشخاص أو لنظام حوله لما يشبه كائنا مسلوب القدرة على التفكير بعدة وسائل منها الترهيب والتلقين ومنزوعة منه إنسانيته وأخلاقيته فهو تافه.
في الجانب الآخر، هناك نوعية أخرى من المجرمين الشريرين القتلة أولئك الذين نراهم يوميًا على شاشة التلفزة وهم في كامل أناقتهم يلبسون أرقى ما عندهم مهندمين يزينون أعناقهم بربطات ذات ألوان زاهية، ويضعون المساحيق على وجوههم، يتكلمون كل الوقت عن المبادئ والأخلاق وحقوق الإنسان، لكن في حقيقتهم لا يتورعون عن القتل والدمار ويرسلون لذلك أطنانا من الأسلحة والذخائر لقتل الناس والفتك بهم، وما أكثرهم.
يتجلى تفاهة الشر أيضا فيما أصبح يُعرف على نطاق واسع بـ(الحرب بالوكالة) وهو ما تقوم به دول وظيفية أو منظمات إجرامية كمنظمة (بلاك ووتر) الأمريكية التي ارتكبت أبشع الجرائم في العراق وغيرها من الدول ومنظمة (فاغنر) الروسية وغيرها، فهم ليسوا إلا مجرمين تافهين يرتكبون الشر والقتل والدمار وتعيث في العالم الفساد والتدمير وهي لا تفعل ذلك لكونها مجرمة بل لأنها تنفذ تعليمات من جهة أو منظمة أو دولة أو أي كيان يطلب منها ذلك. وهو ما اصطلح على تسميته (الحرب بالوكالة) ومن أنواع الشر والإجرام هو ما تقوم به بعض المنظمات الإجرامية المتخصصة في القتل والإجرام.
هل يفلت المجرم التافه من العقاب والعدالة؟ حسب نظرية تفاهة الشر ليس المجرم الذي يقترف الجريمة بيده هو المسؤول المباشر وإنما المجرم الحقيقي شخص أو هيئة أو نظام يتوجب أن يوجّه العقاب والمسؤولية إليه، أما المجرم التافه الذي قام بالعمل ليس لأنه لاإنساني أو لاأخلاقي أو لأنه شرير بطبعه، بل لأنه جزء صغير وتافه لا يمتلك الفكر أو القدرة على القرار وكان ضحية يعاقب على وضعه نفسه في هذا الموضع من التفاهة والسذاجة.
يحيلنا ذلك إلى ما يُعرف في القانون بالمسؤولية التقصيرية وفي السياسة إلى المسؤولية الأخلاقية وهي أن ترتكب جريمة في موقع ما يكون الشخص مشرفا عليه أو مسؤولا عن ذلك الموقع لكنه لم يتدخل لمنع ذلك أو غض الطرف عنه أو لم يعلم بحدوثه أو سمح بذلك، كل ذلك دون أن يكون هو مشاركا فعليا في تلك الجريمة فيُدان (طبعا هذا في الدول التي تحترم القانون في الدول الديمقراطية) بمسؤوليته التقصيرية أو المسؤولية الأخلاقية ويعاقب على ذلك. وقد يرمى ككبش فداء يضحى به.
عالم اليوم عالم مليء بالشر فهو يتمدد طولًا وعرضًا بل لا يدع ثغرة إلا ونفذ، الشر أصبح صناعة وترويج مبرمج آليا وله إمبراطورية خاصة به إمبراطورية الشر وهي تعيث في الأرض فسادًا وظلمًا وجورًا، تقتل وتفتك عرضًا وطولًا، شمالًا وجنوبًا لا رادع ولا معاقب. أخطر ما في تفاهة الشر وعاديته هي قدرته على تحويل الناس الآخرين إلى متفرجين صامتين لا حول لهم ولا قوة تافهين محبطين ساذجين، يتفرجون على الجرائم والقتل يشعرون وكأنه أمر عادي تافه لا يستحق عناء الحزن والألم، وأصبح يدخل ضمن عادية الحياة والروتين اليومي لهم، وقد يصل بهم الحال إلى إيجاد مبررات للقاتل والمجرم، الذي يكون أكثر ابتذالًا وتجليًا وهو يمارس إجرامه دون أن يرف له جفن أو يشعر بوخز في ضميره، فقط لأنه يؤدي عملا روتينيا ووظيفة.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
نص اتفاق غزة الذي وقع عليه ترامب وقادة العالم في شرم الشيخ
وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقادة الشرق الأوسط على اتفاق سلام بشأن غزة، وهو ما وصفوه باتفاق وقف إطلاق نار تاريخي، بقي سؤال جوهري مطروحًا: ماذا ينصّ الاتفاق تحديدًا ؟ .
تقدم صورة التقطها مصور في الغرفة لمحة عن هذا السؤال، حيث رفع الرئيس صفحة التوقيع أمام الصحفيين.
يتضمن النصف العلوي من الصفحة عددا من المساعي والالتزامات ونصها:
الفقرة الأولى من الصفحة الأخيرة:
"نسعى إلى التسامح والكرامة وتكافؤ الفرص لكل شخص، لضمان أن تكون هذه المنطقة مكانًا يُمكن للجميع فيه تحقيق تطلعاتهم في سلامٍ وأمنٍ وازدهارٍ اقتصادي، بغض النظر عن العرق أو المعتقد أو الأصل العرقي".
ويتضمّن النصف السفلي من الصفحة توقيعات ومناصب قادة المنطقة ووسطاء اتفاق وقف إطلاق النار من الولايات المتحدة ومصر وقطر وتركيا.
وفي وقت سابق من اليوم الاثنين، وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى جانب قادة إقليميين آخرين، اتفاق سلام غزة خلال قمة في شرم الشيخ في مصر، واصفًا إياه بأنه "توقيع بالغ الأهمية".
وشكر الرئيس الأمريكي، الذي بدا مستمتعًا بقيادة القمة، موظفيه ومساعديه على إنجاز ما اعتبره "أصعب" اتفاق يمكن إنجازه.
وقال ترامب: "كنت أعتقد أن هذا سيكون الأصعب على الأرجح، وربما كان كذلك من نواحٍ عديدة، لكن لدينا كفاءات متميزة"، مضيفا "كانت لدينا مجموعة رائعة من الكفاءات، وقد ساعدنا، على وجه الخصوص، الدول الممثلة على هذه الطاولة".
وأوضح أنه سيلقي خطابًا بعد ذلك قبل أن يجتمع على انفراد مع القادة.
أشاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بالرئيس عبد الفتاح السيسي لانخفاض معدلات الجريمة في مصر.
وقال ترامب خلال لقائه بالرئيس السيسي في شرم الشيخ: "معدلات الجريمة لديهم قليلة جدًا، كما تعلمون لأنهم لا يلعبون بالمراوغات كما نفعل في الولايات المتحدة، حيث يجهل حكام الولايات ما يفعلونه"، بحسب ما أفادت به شبكة سي إن إن الإخبارية الأمريكية.
وقال ترامب: "أعتقد أنه أمر رائع لأن الناس لا يريدون أن يُسرقوا ويُسحقوا، ولا يريدون أن يكونوا أغبياء".
أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أنه يود انضمام الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى مجلس السلام لإدارة قطاع غزة، مشيرا إلى أن مصر لعبت دورا مهما للغاية في إنهاء الحرب بغزة.
وصرح الرئيس الأمريكي بأن المرحلة الثانية من خطته لوقف إطلاق النار، المكونة من 20 نقطة، لإنهاء الحرب بين إسرائيل وحماس "بدأت بالفعل"، وذلك خلال لقائه بقادة العالم في مصر لمناقشة مستقبل غزة والسلام في الشرق الأوسط.