إن الخيال قادرٌ، إن لم يتعامل معه الكاتب بحذر، على التهام إبداعه وإحالته إلى هذيان ضبابيّ المعنى. هذا هو الاختبار الذي وضع يسري الغول فيه نفسه في مجموعته القصصية «جون كيندي يهذي أحيانًا». حاول الروائي والقاص الفلسطيني الغزّي أن يتناول آماله ومخاوفه ومتعه وعذاباته وحتى اسمهُ وصنعته عبر الخيال، فظلّ يطرق أبواب عوالم ما بعد الموت قصّةً تلو الأخرى.
كما تمكّن الغول من اللعب في ملعب دانتي ومن قبله شيخنا أبو العلاء، عبر المقهى المفترض كما أطلق عليه في إحدى القصص وهو ما بدا لي كمكان تجتمع فيه الشخصيّات التي علقت في ذاكرة الكاتب، بينما وضع الكاتب ذلك المكان مطلًّا على «الكوثر» من جهة، ومطلًّا على «بركان يتلظّى وقفصٍ كبير لصقورٍ بمناقير معقوفة» من جهة أخرى، وتتفاعل في المقهى شخصيّات بارزة في ذاكرة الكاتب على وجه الخصوص، وفي الذاكرة الإنسانية بشكلٍ عام، فتجد فيه من تشتاق أن تراه وتحاوره، وتجد فيه من تتمنى أن يعود للحياة مرّةً أخرى ليموت ميتةً شنعاء، لا شيء عدا ذلك.
لكن ما يثير الفضول حقًّا هو مغامرة الكاتب بزجّ اسمه وشخصه وحتى فعله -أي استنطاق الشخصيات عبر قصصه- في مجريات عدد من قصص المجموعة. الأمر الذي أرى فيه مغامرة أثارت فضولي وتعجبّي لاعتبارين متضادين؛ أولًا، لجرأة المغامرة في كسر القالب الخياليّ المعتدل الذي تنبع منه كل شخوص القصص بطريقة سلسة في كثير من الأحيان، وثانيًا لفجاجتها وتأثيرها السلبي على انسيابية القصّة المعنيّة في أحيانٍ أقلّ. إلا أن الكاتب تمكّن في المجمل من إيجاد حواراتٍ ممتعة وطريفة بين الشخصيات التي عمل على استحضارها من عالم الموت، أو التي عمل على الذهاب إليها كمراسلٍ أو معلّق قادم من الحياة لمزيد من الدقة. فتارة نجده يستنطق شخصيات عُرفت بعدائها اللدود لبعضها في حوارٍ يجمعها على ودٍّ متخيّل أضفى شيئًا من الظرافة على التاريخ، بل وأتى مصداقًا مُتخيّلًا على مقولة كارل ماركس -الذي نجا من أنياب يسري «المفترضة»: «التاريخ يعيد نفسه مرتين، المرة الأولى كمأساة والثانية كمهزلة». وتارةً أخرى نجد الغول «يجمع الشتيتين بعد أن ظنّا ألّا تلاقيا»، كما في قصة «سلفادور أليندي يلقي خطابه الأخير»، حينما جمع بين السياسي التشيلي، وبين شاعر تشيلي الخالد، في لقاء أسطوري لم يكن ليليق بسواهما، لولا أن يسري اختار أن يظهر أبو عمّار وهو يدفع أحمد ياسين على الكرسي المتحرك، ليُسكن الأولُ الرصاصة المؤجلة منذ عقود في قلب شارون، هكذا كان الكاتب يحلم وينتقم متنقلًا بين طبقاتٍ أثيرية من خيالٍ مُتخيَّل، جامعًا ما استطاع أن يجمع من آماله وأحلامه وذكرياته ومخاوفه ورغباته وأسراره، ليصبّها على لسان موتى لا صوت له بدونهم، أو كما قال الشاعر السعودي سليمان المانع «أحسّ بداخلي عالم حرام أقتل مخاليقه --- حرام أسكت وأنا صوتي نذرته وجه لاتباعي»، موتى لا صوت لهم إلا صوت يسري الغول.
اقتنيتُ هذا الكتاب من معرض مسقط الأخير، جلست مع أحد الأصدقاء بعد نهاية المعرض مستعرضًا حصيلة الكتب من دورة هذا العام، فنبّهني إلى نقطة مهمّة حول هذه المجموعة القصصية بقوله: «لا بد من دراسة يُستقصى فيها أثر منصة «نتفليكس» على الكُتّاب العرب». فكما يمكن للجميع الملاحظة، يبدو الاسم الذي أطلقه الكاتب على المجموعة القصصية هوليووديًّا/نتلفكسيًّا بامتياز، وكذلك كان بالنسبة لعدد من القصص. بطبيعة الحال، لم يخلُ الكتاب من بعض القصص الباهتة، التي أشير إليها هنا لأعود إلى الاختبار الذي وضع الكاتب نفسه فيه. اختبار فيه الحَكَم ميزانٌ بكفة من خيال وأخرى من هذيان، ولا شكّ أن كفة الخيال ترجح لصالح هذه المجموعة القصصية، إلا أن عددا من القصص جاءت كهذيانٍ خاوٍ من المعنى، أو كما يقول الإخوة في السودان «كلام ساكت»، هكذا وجدت بعض قصص هذا العمل الجيّد في المجمل، لا تقول شيئًا.
كما أودّ أن أشير إلى سؤال خطر ببالي لاعتبارات عدة، منها أن يسري الغول مواطن غزّاوي، وكذلك ما تشهده غزة اليوم من إبادة بالتجويع، والقصف، والتهجير، والاغتيالات. هل كان الأمر أسهل على يسري الغول حينما قرر الكتابة من خلف ستار الموت؟ هل كان الأمر أيسر، لأنّه ومنذ ما يقارب العقدين من الزمن كانت غزة عالمًا من عوالم ما بعد الموت، أو برزخًا داخل الأرض؟ وهل على الكاتب الغزّيِّ أن يُسيلَ حبره كما دمه، دائمًا لصالح الموت؟
جديرٌ بالذكر أن المجموعة القصصية هذه صادرةٌ عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2023.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المجموعة القصصیة
إقرأ أيضاً:
“كوتارد”.. رحلة بصرية داخل متلازمة الموت الوهمي
يأتي الفيلم القصير “كوتارد” للمخرج أيمن السنبختى والذى شارك فى مهرجان بورسعيد السينمائي الدولى فى دورته الأولى ونال جائزة جمعية بورسعيد للفنون الثقافية والمسرحية لشباب السينمائيين ، كواحد من الأعمال اللافتة التي تقتحم منطقة شائكة ونادرة التناول في السينما، إذ يسلط الضوء على متلازمة نفسية معقدة تُعرف بـ “كوتارد”، وهي حالة يعتقد المصاب بها أنه ميت بالفعل أو فقد بعض أعضائه الحيوية.
ينطلق الفيلم من لحظة فارقة في حياة طبيب نفسي، يبدأ أول يوم له في عيادته بمواجهة مريض يعاني من هذه الحالة الغريبة، ليجد نفسه في مواجهة غير متوقعة مع فكرة الموت بوصفه حضورًا دائمًا في الحياة اليومية.
سرعان ما تتسع الدائرة لتشمل خطيبته ومساعدته وحتى رجلًا بسيطًا يدير كشكًا، وكلهم يتوهمون أنهم أموات أو فاقدون لأجزاء من أجسادهم.
المدهش أن الأمر لا يظل محصورًا في نطاق المرضى، بل يأخذ بعدًا اجتماعيًا واسعًا، يتجسد في مشهد صدور بيان رسمي من وزارة الصحة يؤكد وجود هذه الظاهرة، وكأنها وباء يتفشى في المجتمع.
ومع توالي الأحداث، يصبح الطبيب نفسه جزءًا من هذه الدائرة المظلمة، حيث يبدأ في الانزلاق داخل الحالة وكأنه يعيش عدوى نفسية أو انعكاسًا لمدى هشاشته الداخلية.
هنا يطرح الفيلم سؤالًا فلسفيًا جوهريًا: كيف يمكن للإنسان أن يواجه الموت كفكرة، لا كحدث بيولوجي فقط، وكيف يمكن للمرض النفسي أن يبتلع حتى من يُفترض أنهم معالجون له؟
على المستوى البصري، اعتمد المخرج على أسلوب تصوير يضاعف من التوتر النفسي الذي يعيشه أبطال العمل. فقد ركزت الكاميرا على ملامح الوجوه في لقطات مقربة Close-ups عميقة، تكشف عن أدق التفاصيل الانفعالية للشخصيات، وكأننا نغوص في داخلهم.
هذه المعالجة البصرية منحت الفيلم صدقًا نفسيًا وشحنة وجدانية قوية، جعلت المشاهد يعيش بدوره ارتباك الشخصيات ومخاوفها.
كذلك ظهر بوضوح الانتقاء الجيد للممثلين، حيث جاءت اختيارات الشخصيات ملائمة جدًا لطبيعة القصة، سواء في ملامحهم أو في طريقة تعبيرهم، الأمر الذي عزز من واقعية العمل، وجعل التداخل بين الواقع والخيال أكثر إقناعًا.
الممثل الذي جسد شخصية الطبيب عكس الحيرة والارتباك بخطوط وجهه ونظراته القلقة، بينما جاءت شخصية الرجل البسيط صاحب الكشك لتضيف بعدًا شعبيًا يعكس انتشار الفكرة خارج النطاق النخبوي أو الطبي.
من الناحية الفنية، حافظ الفيلم على إيقاع متوازن بين السرد النفسي والبعد الرمزي، دون الوقوع في فخ المباشرة أو المبالغة.
الإضاءة الخافتة والألوان الباردة لعبت دورًا مهمًا في تكثيف الشعور بالعزلة والخوف من الفناء، بينما جاء المونتاج ليخدم إيقاع التوتر الداخلي المتصاعد حتى ذروة الأحداث.
يُحسب للفيلم جرأته في خوض منطقة غير مألوفة، وقدرته على تقديم رؤية بصرية وفكرية حول معنى الموت والوجود، في قالب قصير مكثف.
“كوتارد” ليس مجرد فيلم قصير عن مرض نفسي، بل هو رحلة فلسفية تبحث في هشاشة الإنسان أمام فكرة العدم، وعن كيف يمكن أن تتحول العدوى النفسية إلى وباء يطال المجتمع بأسره ، العمل تمثيل مصطفى رشدى ، سالى سعيد ، كريم عادل ، يوستينا أشرف ، وائل أبو طالب ، حنان حمدى ، محمد يوسف ، أحمد محمد ، ضيف الشرف أشرف سرحان ، اكسسوار محمود طعيمه ، مساعدين مهندس ديكور سمسم ، إنجى اسحاق ، منفذين ديكور بسام خالد ، حسن هاشم ، مخرج منفذ كريم عادل .