عبد السلام فاروق يكتب: شيء من فيض الكتمان!
تاريخ النشر: 29th, April 2024 GMT
سعدت باستضافتي بالندوة التي أقيمت بمركز الحضارات المعاصرة بكلية الآداب جامعة عين شمس لمناقشة كتابي: (مصر في عالم مضطرب)..
وبرغم أن الكتاب قد تم نشره في الهيئة المصرية العامة للكتاب منذ نحو عام ونصف، إلا أنه كما يبدو ما زال يحظى باهتمام المثقفين والقراء، وهُم مَن هم؟ إنه جمعٌ من أرقي العقول الأكاديمية البارزة ذات التأثير على جيل قادم من المواهب الشابة.
نضح الصدور
في اعتقادي أن أهم وأجل ما يمكن أن يحظى به أي كتاب هو التفاعل.. أي النقد والأخذ والرد والسؤال؛ لأنه دليل على أنه حرك راكداً في الآراء والأفكار..
الندوة في ذاتها نوع من التفاعل الراقي، والنقد الفكري نوع آخر، ثم الأسئلة التي تأتي في أعقابها بمثابة مؤشر حساس جداً عن مدي عمق فهم ما تطرحه من أفكار في الكتاب. وكثرة الأسئلة في هذا القسم من الندوة معناه أن هناك شواغل في الصدور والعقول تريد أن تفصح عن مكنون ما بها من ضجيج وزحام أفكار ورؤى..
إنني أحب انتهاز فرصة أي ندوة لأستمع أكثر مما أتكلم؛ لأني أعلم أن الناس، لاسيما المثقفين وأصحاب الفكر الأكاديمي المنضبط، يريدون أن يتكلموا ويعرضوا وجهات نظرهم فيما يجري حولهم من أحداث تستفز الاهتمام لأقصي درجة.
الأحداث في مصر والمنطقة العربية ثم في هذا العالم الواسع الممتد أحداث متقدة متلاحقة لا تترك فرصة للتأمل في مآلات الأمور. والعمل الصحفي يكتفي في صورته الإخبارية بنقل الأنباء من هنا وهناك، لكن ماذا عن التحليل والاستشراف واستشفاف ما بين السطور للخروج باستنتاجات قد يكون لها دور تنبؤي مصيري؟ هذا الدور قد يكون في أوقات سابقة فرض كفاية، أما في ظل ما يخيم على منطقتنا من تهديدات ومخاطر وأحداث ملتهبة يصبح التفكير في مستقبلنا شعوباً وقيادات فرض عين.
عصر مضطرب
نعم هو عالم مضطرب يضج بالأحداث والتحولات المحورية..
ومصر دولة مركزية ذات دور عظيم، ثم إنها تتأثر بكل ما يجري حول العالم، لا أقول حولها. فكيف يمكن أن تحقق التوازن في خضم مثل ما يعج به العالم من اضطراب؟ سؤال سيظل يشغل عقول المنظرين والمفكرين في مصر وخارجها لسنوات طويلة قادمة. وإذا كنت طرحت السؤال في كتابي فإنها مجرد بداية لأمر سوف يطول ويمتد. لهذا تراني في مقالاتي أعيد طرح نفس الأفكار أحياناً لا من باب التكرار بل من باب التذكير والتأكيد..
تحدثت في كتابي مثلاً عن الإعلام ودوره العظيم في تشكيل الوعي الجمعي، وهو الأمر الذي نشاهد اليوم آثاره في أحداث كأحداث غزة. وتابع إن شئت ما يجري من تحولات هائلة في الرأي العام الغربي تجاه القضية الفلسطينية لدرجة أن جامعات الولايات المتحدة الأمريكية انتفضت ضد العدوان الإسرائيلي الغاشم في مشهد لا يتوقعه أكثر المتشائمين من صفوف الكيان المحتل أو المتفائلين من صفوف مناهضي الظلم وكارهي الحرب. الإعلام العالمي والذي برعت المقاومة في استغلاله لصالحها رغم نقص إمكانياتها لعب الدور الرئيسي في هذا التحول الهائل في العقل الجمعي العالمي!
وإذا كان نقص الإمكانيات لا يحول دون التميز الإعلامي، فإن هذا معناه أن النجاح إعلامياً له مقومات أهم بكثير من مجرد الإنفاق المادي والتفوق الشكلي، بل المضمون هو الضامن الأكبر للنجاح. لقد تحدثت كثيراً في هذا الجانب سواء في مقالاتي القديمة أو الحالية، والتكرار هنا للاهتمام والضغط على المعني المراد.
الكتاب في معظمه ضم عدداً من أهم مقالاتي التي نُشرت على صفحات عدة جرائد ومجلات ومواقع إليكترونية صحفية متخصصة. فآثرت أن أجمعها في إطار واحد يضمها معاً هو اهتمامي بمصر وحبي لها وخوفي على مستقبلها ومستقبل أهلها.. إن الفارق بين المقال الصحفي وبين الكتاب كالفارق بين هطول المطر وبين جريان النهر، الأول يغيب في بطن الأرض والثاني يبقي على السطح لينتفع به الناس الآن وغداً..
أفكار ومفكرون
الدكتور سامر قنديل أستاذ التاريخ الحديث يعود إليه الفضل في دعوتي للندوة. وأنتهز الفرصة في هذا المقام لشكره على هذه الدعوة الكريمة. غير أن دعوته تلك هي دليل اهتمام وانشغال بقضايا الوطن على كل مستويات المثقفين بدءاً من قمة الهرم، أي المستوى الأكاديمي، نزولاً إلى سائر مستويات الثقافة والعلم. الجميع مشغول مهموم بقضايا الوطن ويريد أن يكون له دور في حلها بما يستطيع.
وإذا كان الكتاب قد عرض طرفاً من قضايانا اليومية الشاغلة، فإن مثل هذه الندوات تفتح المجال واسعاً لمناقشة أكثر عمقاً واتساعاً. الدليل على هذا ما كنا نقرأ عنه في العصر الذهبي للأدب والفكر أيام طه حسين والعقاد والمازني ومحمد مندور وسلامة موسي من ساحات الصراع الفكري والتلاقح الثقافي بين رموز الفكر والأدب آنذاك. وأغلبهم كانوا من أساتذة الجامعات. التلاقح الذي كان ينتج عنه زخم وتفاعل ونشاط عقلي واسع النطاق امتد أثره حتى وصل إلينا الآن فبات مضرباً للأمثال!
إن أفكار كتابي هي أفكار بسيطة متداوَلة يقولها رجل الشارع البسيط لكن بطريقته وأسلوبه. الفارق بيننا أنني أطرحها وأنشرها وأضعها في متناول التداول الفكري، كأنني حكم لمباراة أضع الكرة بين الأقدام تقاذفها وتتناوب على تقليبها ودحرجتها. الأفكار عندما تتدحرج وتندفع للأمام قد تأتيها الفرصة مرة للتهديف!
لا يهمني كثيراً إن اقتنع أحد بما أطرحه من أفكار، لكن يهمني أن يناقشني ويتفاعل معي فيضيف لأفكاري ووجهة نظري الضيقة نوافذ جديدة أري منها بصيصاً من نور.
أقول إني قد سعدت سعادة جمة بالندوة، وأكثر بهذه الكوكبة المشرقة من المفكرين والمثقفين من أساتذة كلية آداب عين شمس. كيف لا وقد أضافوا لي أفكاراً جديدة بما طرحوه من رؤي وما عرضوه من محاور لمناقشات عميقة تشير بالتأكيد لمدي اهتمامهم بما جاء في الكتاب من قضايا وطنية وثقافية مؤثرة في تشكيل الوعي والوجدان. وقد أعجبتني المداخلة الذكية للدكتورة هدي أباظة رئيس قسم اللغة الفرنسية بالكلية.
كما أخص بالذكر الدكتورة حنان سالم وكيل كلية الآداب لشئون المجتمع وخدمة البيئة، والمؤرخ الكبير الدكتور محمد عبد الوهاب مدير الندوة. ويتصل الشكر لكل من الدكتور خالد حسين رئيس قسم التاريخ والدكتور محمود عبد الله رئيس مركز الحضارات المعاصرة والدكتور وليد محمد مصطفي والدكتور أحمد فاروق والدكتورة راندا جمعة .
حياة الأفكار
أتمنى لمثل هذا التفاعل الطيب والنشاط المثمر أن يستمر..
الندوات والجلسات والمؤتمرات في حقيقتها فرصة للنقاش والحوار وتبادل الرؤي ووجهات النظر. ولابد أن تكون الأفكار متعارضة ومتباينة ليكون جو المناقشات صحياً مثمراً. هكذا نتغير ونتطور إلى الأفضل عندما نكتشف أن بعض أفكارنا في حاجة إلى إعادة هيكلة وتشكيل.
ولا أفضل من أن يناقش أفكارك علماء ومفكرون وأساتذة جامعات، هؤلاء هم قمة الهرم الثقافي في أي مجتمع، وأفكارهم هي خلاصة ما تنتجه القرائح والعقول، ولابد أن تستفيد كثيراً عندما تناقشهم وتنصت إليهم وتتعلم منهم.
لا ينبغي لأي مجتمع أن يكتم أفكاره في العقول، ولا همومه ومشاغله في الصدور فينطوي عليها ويكابد ألمها وحده، بل إن مشاركتها واستعراضها ومناقشتها مع الحكماء والعقلاء والمفكرين أمر ضروري وحيوي. وما لمسته في ندوة جامعة عين شمس كان شيئاً قليلاً من فيض ما تنطوي عليه الصدور والعقول من رؤي.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: فی هذا
إقرأ أيضاً:
ميمي جمال.. سبعون عامًا من العطاء الفني في احتفاء مؤثر بالمهرجان القومي للمسرح
في ندوة استثنائية ضمن فعاليات الدورة الثامنة عشرة للمهرجان القومي للمسرح المصري برئاسة الفنان محمد رياض، حلت الفنانة القديرة ميمي جمال ضيفة على المهرجان القومي للمسرح المصري، في احتفالية تكريمية بمسيرتها الفنية الحافلة التي تجاوزت السبعين عامًا من العطاء والإبداع، إلى جانب إطلاق الكتاب التوثيقي عنها بعنوان "ميمي جمال.. سبعون عامًا من الإبداع"، من إعداد الدكتورة مها فاروق، وبحضور نخبة من نجوم الفن والإعلام، يتقدمهم الفنان محمد رياض رئيس المهرجان، والفنان صبري فواز، والمخرجون عادل عوض وعمرو عابدين، وعدد كبير من المهتمين والنقاد.
ميمي جمال: أُهدي تكريمي لرفيق دربي الفنان حسن مصطفى
في كلمتها المؤثرة، استهلت ميمي جمال حديثها بإهداء تكريمها إلى زوجها الراحل الفنان حسن مصطفى، قائلة: كنت أود أن ألقي كلمة يوم الافتتاح لأهدي هذا التكريم لزوجي وحبيبي، هو كل شيء في حياتي، وكان السند والظهر، عشت معه عمري كله وأنجبت منه ابنتين. أتمنى أن يُكرَّم هو أيضًا، فقد كان قيمة كبيرة، الله يرحمه."
وأضافت: بدأت رحلتي في الفن منذ الطفولة، وقدمت أعمالًا مع كبار النجوم مثل محمد عوض، وعبد المنعم مدبولي، وسمير غانم، وفؤاد المهندس، والتحقت بفرق التليفزيون المسرحية، وعملت مع المخرج نور الدمرداش، وكانت بداياتي المسرحية مع محمد عوض في عروض مثل (مطرب العواطف)، و(أصل وصورة)، و(سفاح رغم أنفه)."
وأكدت جمال أنها علمت نفسها بنفسها، وأن لحظة التكريم بالنسبة لها هي لحظة شكر على العمر الطويل في خدمة الفن، مشيرة إلى أن المسرح يمثل لها كل شيء، وأنها قدمت أكثر من مئة عرض مسرحي، وقالت: في كل ليلة عرض كنت أخاف، فالمسرح ليس سهلًا، علمني الالتزام، وأن أترك المساحة للفنان الذي أمامي، وأن أكون مستيقظة طوال الوقت، والفنانة الكوميدية يجب أن تكون على وعي وحضور دائم، لأن الجمهور يشعر بكل لحظة، وهذا ما تعلمته طوال مشواري."
وتابعت: لم أكن أهتم بحجم الدور، بل بقيمته، ما فائدة البطولة المطلقة إذا لم يكن الدور مكتوبًا بشكل جيد؟ البطولة لا تُقاس بالمدة بل بالتأثير."
وعن علاقتها بالأجيال الجديدة، قالت: أنا سعيدة بالتواصل مع الشباب، وعملت مع نجوم الجيل الجديد مثل أحمد حلمي، وتامر حسني، وهنا الزاهد، وجميلة عوض.
وأضافت : الأجيال الأكبر يجب أن تبادر بالتواصل حتى لا تتسع الفجوة، وأحب مهنتي، واليوم الذي أتعب فيه سأجلس في بيتي، لكن حتى الآن أشعر بالقوة والحب."
مها فاروق: ميمي جمال كسرت القالب الكاريكاتيري للفنانة الكوميدية
من جانبها، تحدثت الدكتورة مها فاروق عن تجربتها في إعداد الكتاب التوثيقي، مشيرة إلى أنها شعرت في البداية بالخوف من خوض التجربة لبُعدها عن تخصصها، لكنها سرعان ما اكتشفت شخصية ميمي جمال عن قرب، فوجدتها إنسانة ودودة ومتواضعة.
وقالت: لقد أحببتها أكثر حين تعاملت معها، وسعدت بأن أكون جزءًا من هذا التوثيق، فهي قدمت أكثر من 530 عملاً فنيًا، ونجحت في أن تكون أول فنانة جميلة تقدم الكوميديا، وكَسرت القالب النمطي للفنانة الكوميدية."
وأشادت فاروق بقدرتها على العمل مع كبار النجوم من الأجيال المختلفة، مع حفاظها على بصمة فنية مميزة في المسرح والسينما والتليفزيون، معتبرة إياها "بطلة من الطراز الأول".
شهادات الحب والامتنان من نجوم الفن
شهدت الندوة كلمات من عدد من رموز المسرح والفن المصري الذين تحدثوا عن القيمة الفنية والإنسانية للفنانة ميمي جمال.
حيث قال الفنان محمد رياض رئيس المهرجان: الاحتفاء بوجود الفنانة الكبيرة ميمي جمال هو تكريم لنا جميعًا، فقد كانت رمانة الميزان لأي عمل مسرحي، والكوميديا معها كانت فنًا خالصًا، فهي أستاذة في ضبط إيقاع المشهد، وتبث الراحة لكل من يعمل معها."
وقال الفنان صبري فواز: ميمي جمال لها تاريخ كبير، ومسيرة فنية غنية بالإبداع، ومحبة على المستويين الفني والإنساني."
وأضاف المخرج عمرو عابدين: عملت معها وكان ذلك شرفًا كبيرًا لي، فهي ممثلة تدخل الشخصية بروحها، وتملك القدرة على إضحاكك وإبكائك في اللحظة نفسها."
أما المخرج عادل عوض، فوصفها بأنها ممثلة من العيار الثقيل، وعملاقة مسرح حقيقية، تُعرف بأنها صاحبة (كواليس حلوة)، وتستطيع تهدئة أي توتر داخل الفرقة، وأسرع ممثلة في حفظ الدور."
ختام احتفالي لمسيرة ذهبية
شهدت الندوة تفاعلًا كبيرًا من الحضور، وأهدي شيخ المصورين محمد بكر صورة للفنانة ميمي جمال من أحد أعمالها بحضور نجله الدكتور حسين بكر الاستاذ بالمعهد العالي للسينما، وخرجت الندوة محملة بذكريات وحكايات مسرحية وسينمائية تضيء جانبًا من تاريخ الحركة الفنية المصرية، وتكريم الفنانة ميمي جمال لم يكن فقط احتفاءً بموهبة فريدة، بل أيضًا بتجربة إنسانية مخلصة لفنها، صادقة مع جمهورها، وقادرة على أن تظل في القلوب، كما كانت على خشبات المسارح، وفي بيوت المصريين عبر شاشات السينما والتلفزيون.