مصر وقضية الإبادة.. مواجهة إسرائيل تخاطر بـ السلام الاستراتيجي
تاريخ النشر: 14th, May 2024 GMT
منذ اندلاع الحرب في غزة بين إسرائيل وحماس قبل أكثر من 7 أشهر، حاولت مصر، وفق تصريحات مسؤوليها، "احتواء الصراع ومنع المزيد من التصعيد"، كما لعبت دورا في المفاوضات المتعلقة بالإفراج عن الرهائن لدى حماس ووقف إطلاق النار.
غير إنه خلال الأيام القليلة الماضية، حدث تحول في موقف القاهرة، مع إعلان إسرائيل لعملية عسكرية شرقي مدينة رفح المتاخمة للحدود المصرية، وسيطرة الجيش على الجانب الفلسطيني من معبر رفح.
وفي خطوة "تصعيدية"، كما يعتبرها خبراء ومحللون خلال حديثهم مع موقع "الحرة"، أعلنت مصر، الأحد، اعتزامها التدخل رسميا لدعم الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، أمام محكمة العدل الدولية، للنظر في انتهاكاتها لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، والمعاقبة عليها في قطاع غزة.
وقالت وزارة الخارجية المصرية في بيان، إن التدخل في الدعوى ضد إسرائيل يأتي في ظل تفاقم حدة ونطاق الاعتداءات الإسرائيلية في قطاع غزة، والإمعان في الاستهداف المباشر للمدنيين وتدمير البنية التحتية في القطاع، ودفع الفلسطينيين للنزوح والتهجير خارج أرضهم.
لماذا هذه الخطوة؟وتثير هذه الخطوة، المزيد من التساؤلات حول زيادة حدة التوتر بين مصر وإسرائيل، ووضع القاهرة كوسيط في المفاوضات التي استأنفتها، منذ أواخر الشهر الماضي، في محاولة لإحياء إمكانية الوصول إلى اتفاق، خاصة في ظل قلقها من عملية عسكرية في رفح التي تؤوي أكثر من مليون نازح فلسطيني بالقرب من حدودها.
المحلل السياسي والأكاديمي المصري، طارق فهمي، يرى أن انضمام بلاده إلى دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، "أمر مهم للغاية"، ويمثل "أول رادع سياسي ودبلوماسي بالنسبة لمصر".
في حديثه لموقع "الحرة"، يقول فهمي: "قد ينظر البعض إلى مثل هذه الخطوة على أنها متأخرة. ولكن لدى مصر حسابات خاصة فيما يتعلق بالحرب في غزة".
ويضيف: "إذا استمرت القاهرة في إجراءات الانضمام إلى الدعوى، ربما نتوقع المزيد من مثل هذه الخطوات في وقت لاحق، بما في ذلك أيضا أمام المحكمة الجنائية الدولية"، لكنه يتوقع في نفس الوقت أن يستغرق هذا الأمر "بعض الوقت".
"ولم يعد أمامها سوى مواجهة إسرائيل واستخدام كافة الأوراق لتحجيم الحكومة المتطرفة"، حسبما يقول المحلل السياسي المصري، فادي عيد، والذي يضيف في حديثه لموقع "الحرة"، إنه "بخلاف ذلك سيكون السقوط غير مقتصر على غزة فقط"، وذلك في إشارة إلى أعداد النازحين الفلسطينيين قرب الحدود المصرية.
ويضيف عيد: "هناك ما لا يقل عن مليون ونصف المليون فلسطيني في رفح على حدود مصر دون غذاء أو ماء ... هذا المشهد يُشعل غضب الشعب المصري بأكمله، ويجعله في حالة غضب كما هو الحال أيضا بالنسبة للمسؤولين".
جاء إعلان مصر الانضمام إلى جنوب أفريقيا في الدعوى التي رفعتها أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل بتهمة ارتكاب جريمة "إبادة جماعية" بعد سلسلة من الأحداث التي انتهت بدخول الدبابات الإسرائيلية منطقة رفح الحدودية ورفع العلم الإسرائيلي.
والجمعة، بثت قنوات حكومية مصرية، احتجاجات في ميدان الحصري بمحافظة الجيزة عقب صلاة الجمعة، قالت إنها "مؤيدة لفلسطين وداعمة للدولة والجهود المصرية"، وذلك للمرة الأولى منذ احتجاجات دعت إليها السلطات، أكتوبر الماضي، رفضا "لفكرة تهجير الفلسطينيين"، لكنها تحولت إلى تظاهرات مناهضة للنظام، وأدت إلى حملة اعتقالات واسعة.
في المقابل، يصف أستاذ العلوم السياسية بالجامعة العبرية في القدس عضو اللجنة المركزية لحزب "العمل"، مئير مصري، قرار القاهرة بالانضمام إلى دعوى جنوب أفريقيا بـ "التآمر على إسرائيل".
ويقول مصري لموقع "الحرة" إن بلاده "دعمت مصر بشكل غير مسبوق في مكافحة الإرهاب في شبه جزيرة سيناء خلال السنوات التي تلت وصول(الرئيس المصري عبدالفتاح) السيسي إلى السلطة".
كما أن "إسرائيل وافقت على إدخال تعديلات على الملحق الأمني لمعاهدة السلام تسمح بزيادة حجم التسليح في المنطقة منزوعة السلاح. وبدلا من أن يرد لها الجميل، فإذ بالنظام المصري يتآمر على إسرائيل في وضح النهار واضعا كل أنواع العراقيل أمامها في حربها على حماس"، وفقا لمصري.
وفي الاتجاه ذاته، اعتبر المحلل السياسي الإسرائيلي، مردخاي كيدار، أن الخطوة المصرية تشير إلى "موقف عدائي واضح بوجه إسرائيل، ويمثل خيبة أمل كبيرة".
ويرى كيدار خلال اتصال هاتفي مع موقع "الحرة" أن مصر تريد الضغط على بلاده للتراجع عن "الهجوم الضروري" على آخر معاقل حماس في غزة، حيث ستكشف "العملية العسكرية عن أنفاق تربط غزة بمصر، وهي التي تستخدمها حماس في تهريب السلاح".
ويقول إن "كل السلاح الذي تستخدمه حماس ضد إسرائيل، لا يأتي من (المريخ)، بل عن طريق الأنفاق التي تربط سيناء، وهناك تواطؤ من القاهرة فيما يتعلق بهذا الأمر. لهذا ترفض العملية العسكرية خوفا من اكتشاف الأنفاق".
والشهر الماضي، نفت مصر وجود أنفاق تربط أراضيها بقطاع غزة وتستخدم لتهريب الأسلحة، إذ قال رئيس هيئة الاستعلامات، ضياء رشوان، في بيان، إن مصر اتخذت خلال السنوات الماضية، خطوات واسعة للقضاء على الأنفاق بشكل نهائي، بعد أن "عانت كثيرا من هذه الأنفاق خلال المواجهة الشرسة مع المجموعات الإرهابية في سيناء في الفترة بين يونيو 2013 وحتى 2020".
هل يتأثر دور مصر كوسيط؟في القضية القائمة التي رفعتها جنوب أفريقيا، ديسمبر الماضي، وتتهم فيها إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة جماعية بحق الفلسطينيين، أمرت المحكمة في يناير، إسرائيل بالامتناع عن أي أعمال يمكن أن تندرج تحت اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية وضمان عدم ارتكاب قواتها أعمال إبادة جماعية بحق الفلسطينيين.
في المقابل، تقول إسرائيل إنها تتصرف وفقا للقانون الدولي في غزة، ووصفت قضية الإبادة الجماعية المقدمة من جنوب إفريقيا بأنها "بلا أساس" واتهمت بريتوريا بالعمل "كذراع قانونية لحماس".
ولم يصدر أي تعليق رسمي من إسرائيل حول بيان الخارجية المصرية وموقف القاهرة من دعوى جنوب أفريقيا أمام العدل الدولية، غير أن المحللين والخبراء اجتمعوا على أن القرار سيؤثر على دور مصر كوسيط وكذلك على المفاوضات، حيث يرى كيدار أن مصر "تخلت عن دورها كوسيط"، معربا عن اندهاشه "من موقف مصر التي ذاقت الويلات في سيناء قبل أعوام، في ظل تعاون حماس مع الجماعات الإرهابية".
ويستشهد كيدار خلال حديثه أيضا بتعامل مصر مع جماعات الإسلام السياسي "عقب الإطاحة بحكم جماعة الإخوان في البلاد قبل أكثر من 10 أعوام"، ويتساءل: "هل نكون ألطف من مصر في التعامل مع حركات الإسلام السياسي؟".
ويضيف: "حماس فعلت في إسرائيل ما لم تفعله حركات الإسلام السياسي في مصر، من ارتكاب مجازر وقتل في حق الإسرائيليين في السابع من أكتوبر".
وانتهت جولة جديدة من المفاوضات في القاهرة هذا الأسبوع دون التوصل إلى اتفاق يقضي بإطلاق سراح الرهائن المحتجزين لدى حماس ووقف إطلاق النار في قطاع غزة.
وذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" نقلا عن مسؤولين مصريين المحادثات قد تستأنف في الدوحة هذا الأسبوع، في وقت قال فيه رئيس الوزراء القطري، الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، إن محادثات وقف إطلاق النار في غزة "وصلت لطريق مسدود" وإن "عملية رفح أعادت الأمور للوراء".
بدوره، يعتبر فهمي أن تدخل مصر في الدعوى سيؤثر "بكل تأكيد" على المفاوضات ودورها كوسيط، لكنه يقول إن "المحادثات بطبيعة الحال كانت خلال الفترة الماضية بمثابة كر وفر بين الأطراف".
ويضيف: "المفاوضات ستتأثر، لكن إسرائيل ستعود إلى هذه المفاوضات في وجود مصر لا محالة؛ لأنها ستحتاج إلى ترتيبات أمنية وعسكرية واستراتيجية فيما يتعلق بعمليتها العسكرية في رفح، والتي لا يوفرها أي طرف سوى الوسيط المصري والأميركي".
فيما يؤكد أستاذ العلوم السياسية بالجامعة العبرية في القدس على ضرورة "التمييز بين المواقف الاستعراضية التي اعتاد النظام المصري اللجوء إليها لاعتبارات داخلية معروفة، وواقع العلاقات الأمنية بين البلدين والمحكومة بضوابط جامدة لا تخضع للمؤثرات السياسية والآنية".
أما عيد فينتقد خلال حديثه ما يصفه بـ"استراتيجية إسرائيل التفاوضية، التي تشبه الطريقة الإيرانية"، والتي تسعى من خلالها إلى "استغلال الوقت من أجل تحقيق كافة أهدافها العسكرية ليس أكثر".
ويضيف عيد: "أكبر دليلا على ذلك أنه رغم جهود القاهرة والدوحة خلال الأسابيع الماضية، فإن محصلة المحادثات في النهاية (صفر)، وربما قد تبقى دون نتائج أيضا في المستقبل".
والأسبوع الماضي، انتهت جولة جديدة من المفاوضات في العاصمة المصرية القاهرة، دون التوصل إلى اتفاق يقضي بإطلاق سراح الرهائن، ووقف إطلاق النار في قطاع غزة، حيث قالت إسرائيل إن الاقتراح الذي قدمه وسطاء قطريين ومصريين يتضمن بنودا "غير مقبولة".
في المقابل، قالت حماس التي قبلت الاقتراح خلال وقت سابق من الأسبوع الماضي، إن "رفض (إسرائيل)... أعاد الأمور إلى المربع الأول". وكانت الحركة أعلنت قبولها مقترح وقف إطلاق النار في غزة الذي تقدمت به مصر وقطر.
لكن وزارة الخارجية الأميركية، أكدت أن حماس لم تقبل بمقترح وقف إطلاق النار، "بل حمل ردها عدة اقتراحات، وهو ليس مساويا للقبول".
إلى أين تتجه العلاقات؟تربط مصر وإسرائيل علاقات سياسية ودبلوماسية وأمنية واقتصادية منذ اتفاقية السلام الموقعة قبل نحو 44 عاما. كما لعبت القاهرة دور الوساطة في أكثر من مناسبة بين إسرائيل وحماس لوقف الصراعات التي جرت في غزة، منذ أن سيطرت الحركة الفلسطينية المصنفة إرهابية، على القطاع عام 2007 في أعقاب اشتباكات دامية مع قوات الأمن الموالية للسلطة الفلسطينية.
لكن مع بدء إسرائيل عملية عسكرية في شرق رفح يوم السادس من مايو الجاري، قال مسؤولون مصريون لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، إن مصر "غاضبة"؛ لأن إسرائيل "أعطتها مهلة قصيرة قبل السيطرة على الجانب الفلسطيني من معبر رفح الحدودي"، كما "هددت بالتوقف عن العمل كوسيط في المفاوضات".
وبينما كانت تحدثت تقارير إسرائيلية خلال هذا الأسبوع، عن وجود تنسيق بين مصر وإسرائيل فيما يتعلق بمعبر رفح، فإن مصادر مصرية وصُفت بـ "السيادية"، نفت ذلك، ونقلت عنها وسائل إعلام محلية، الاثنين أن "محددات الموقف المصري واضحة ومعلنة للجميع ومثل هذه التقارير ليس لها أي أساس من الصحة".
لهذا يعتبر الأكاديمي المصري أن "العلاقات المصرية الإسرائيلية متوترة بالفعل، وهناك تجاذب وحالة احتقان بين البلدين"، إذ يشير فهمي إلى أن "هناك تهديدات بضرب منظومة كامب ديفيد نفسها سواء اتفاقية السلام وملحقاتها أو البروتوكول الأمني وغيرها من الاتفاقيات بين البلدين".
ومصر أول دولة عربية وقعت معاهدة سلام مع إسرائيل في 26 مارس 1979، بعد عام من توقيع اتفاقية كامب ديفيد في 1978.
لكن فهمي عاد ليقول إن "القاهرة ستمضي قدما في إجراءات منضبطة دون توتر أو تصعيد كبير، وهذا الأمر مطمئن للغاية ويجري في سياقات مختلفة".
ويضيف: "القاهرة تستخدم أدوات الضغط بشكل تدريجي؛ لأن السلام خيار استراتيجي بالنسبة لكل من مصر وإسرائيل". لكنه يتوقع أيضا "تأثر التنسيق الأمني والاتصالات بين المسؤولين من الجانبين حتى تتضح الرؤية".
كما يعتقد فهمي أن "إسرائيل ستستثمر هذا الواضع في توسيع عمليتها العسكرية في جنوبي القطاع".
في المقابل، يحمل أستاذ العلوم السياسية بالجامعة العبرية في القدس، النظام المصري المسؤولية في الإضرار بالعلاقات، إذ يقول مصري خلال حديثه إن "مثل هذه المواقف العبثية وغير المسؤولة تتعارض مع نص وروح معاهدة السلام الإسرائيلية المصرية، وبالتالي فهي تؤثر سلبا على العلاقات بين البلدين".
لكنه عاد ليؤكد أن "التنسيق الأمني بين البلدين متواصل بغض النظر عن الخلافات السياسية القائمة والمتزايدة، بحكم الجغرافيا والمصالح الاستراتيجية المشتركة".
ومنذ السابع من أكتوبر، يتعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، بالقضاء على حماس، حيث يقول إن هجوم رفح ضروري من أجل تحقيق ذلك.
كما يرفض الحديث عن خطط اليوم التالي للحرب "دون تدمير آخر معقل للحركة"، وذلك رغم مخاوف المجتمع الدولي بشأن السكان المدنيين.
وتعارض الولايات المتحدة هجوما واسع النطاق في رفح، حيث تقول إنها "لا يمكنها تأييد" اجتياح كبير للمدنية الجنوبية في غياب ما تصفها بخطة ذات مصداقية لحماية المدنيين، بحسب ما نقلت رويترز.
واندلعت الحرب في قطاع غزة إثر هجوم حركة حماس غير المسبوق على إسرائيل في السابع من أكتوبر، مما أسفر عن مقتل 1200 شخص، معظمهم مدنيون وبينهم نساء وأطفال، وفق السلطات الإسرائيلية.
كما خُطف خلال الهجوم نحو 250 شخصا ما زال 130 منهم رهائن في غزة، ويُعتقد أن 34 منهم لقوا حتفهم، وفق تقديرات رسمية إسرائيلية.
وردا على الهجوم، تعهدت إسرائيل بـ"القضاء على حماس"، وتنفذ منذ ذلك الحين حملة قصف أُتبعت بعمليات برية منذ 27 أكتوبر، أسفرت عن مقتل نحو 35 ألف فلسطيني، معظمهم نساء وأطفال، وفق ما أعلنته السلطات الصحية في القطاع.
ويرى كيدار أن من الضروري "تغليب لغة العقل" من أجل تخفيف التوترات بين مصر وإسرائيل خلال الفترة المقبلة، لكنه يشير في نفس الوقت إلى حرص إسرائيل على استمرار العملية العسكرية في رفح من أجل "القضاء على حماس".
فيما يعتقد عيد أن بلاده "تحتاج إلى صياغة أدوات جديدة للتعامل مع إسرائيل، خصوصا بعدما أظهرت الشهور الماضية استخفافا بكل الأطراف".
ويضيف: "العلاقات تدهورت نتيجة ما يقوم به رئيس الوزراء الإسرائيلي تجاه غزة دون أن يكترث لأحد".
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: أمام محکمة العدل الدولیة ووقف إطلاق النار إطلاق النار فی إبادة جماعیة جنوب أفریقیا مصر وإسرائیل المفاوضات فی هذا الأسبوع بین البلدین التی رفعتها فی قطاع غزة خلال حدیثه إسرائیل فی فی المقابل فیما یتعلق ضد إسرائیل إلى اتفاق فی الدعوى على حماس معبر رفح یقول إن أکثر من من أجل فی رفح فی غزة
إقرأ أيضاً:
بوصلة الأمة بعد الإبادة في غزة.. تحديد المصير أو مواجهة الحقيقة
كل قذيفة سقطت، وكل صرخة طفل ارتفعت، وكل قطرة دم سُكبت في غزة، لم تكن مجرد أخبار عابرة أو صور تُعرض على الشاشات، بل مثّلت زلزالا استراتيجيا ضرب صميم وعينا ومستقبلنا كأمة عربية وإسلامية.
لقد انكشفت حقيقة مُرة؛ لا يمكن لجسد الأمة أن ينعم بالسلامة والأمن ما دام قلبها، المتمثل في القضية الفلسطينية، ينزف ويُستباح. لم يعد الأمر يحتمل التردد أو التغاضي، فالخطر اليوم ليس مجرد احتلال لأرض مقدسة، بل هو تحدٍ وجودي صريح يهدف إلى تفكيك الركائز الأخلاقية والأمنية للأمة بأسرها، لم تعد فلسطين قضية للتعاطف فحسب، بل أصبحت المفتاح الأوحد للأمة، وإهمالها إعلان ضمني ببدء التآكل الداخلي، وعقليا واستراتيجيا، يتجاوز التعامل مع هذا الخطر مرحلة إصدار بيانات الإدانة العابرة إلى ضرورة تبني عقيدة عمل شاملة وواضحة.
لقد فرضت الأحداث المزلزلة الأخيرة حقيقة لا تقبل التأويل، بوصلتنا الاستراتيجية بحاجة إلى إعادة ضبط جذرية تخرج بها من ردود الفعل إلى صناعة الفعل المنهجي المُحكَم، من خلال رؤية استراتيجية، ووضع مرتكزات متكاملة، تشكل معا خارطة طريق لا غنى عنها لضمان أمننا ومستقبلنا المشترك، بدءا من مسؤولية الشعب الفلسطيني نفسه تجاه توحيد الصف ووصولا إلى تفعيل قوة الردع الموحدة للأمة.
إننا أمام لحظة فارقة تحدد مصير الأجيال، فإما أن نتحول من مُتلقين للصدمات، متجاوزين بها ردود الفعل إلى صناعة الفعل الاستراتيجي، وإلى مهندسين وفاعلين للمستقبل، ويتحمل الجميع مسؤولياته، وإما أن نستسلم لحتمية التآكل والاندثار.
لنتجاوز الأوصاف المضللة ونقف على حقيقة الأمر:
1. الكيان الصهيوني لا يمثل مجرد نزاع حدودي أو أزمة إنسانية عابرة، بل هو التناقض الأساسي والتهديد الوجودي لاستقرار وسيادة الأمة بأسرها. إن استمرار احتلاله وعدوانه الوحشي ليس قنبلة موقوتة محلية، بل هو المحور الذي تتوالد وتدور حوله جميع دوائر التوتر في المنطقة. فلسطين هي صمام الأمن القومي، ولا يمكن تحقيق أي استقرار إقليمي مستدام إلا عبر تفكيك هذا التناقض الوجودي وحلّه جذريا ونهائيا.
2. مسؤولية الفلسطينيين الذاتية: إن الالتزام العربي والإسلامي لا يمكن أن يكتمل أو يُثمر دون وحدة وتفعيل الدور الفلسطيني المحوري، لذلك يتوجب على القيادة والمؤسسات الفلسطينية العمل بجدية على:
- إنهاء الانقسام الداخلي وتوحيد الصف تحت مظلة وطنية جامعة لا تُقصي أحدا.
- تفعيل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية المعٌطلة والعمل على بناء استراتيجية عمل موحدة توازن بين المقاومة بجميع أشكالها وبين الحنكة السياسية والدبلوماسية، مما يمنح الدعم العربي والإسلامي أساسا صلبا للانطلاق.
3. خط الدفاع الأول؛ شرعية ودعم المقاومة الاستراتيجية في مواجهة آلة الاحتلال والحرب: تظل المقاومة الفلسطينية هي الجدار الأخير في وجه مشاريع الهيمنة والتذويب، هي ليست مجرد فصائل، بل هي التعبير الحيّ والمشروع عن حق الشعب في الدفاع عن نفسه وخط الدفاع الأول عن مقدسات الأمة.
4. هندسة الأمن الجماعي الجديد؛ من التشتت إلى التكافل الفعّال: لا يمكن للأمن المشترك أن يُقام على أعمدة التبعية أو التفرقة، يجب على دول الأمة العربية أن تنتقل فورا من حالة التشرذم إلى تطوير آليات فاعلة للتعاون العربي والإسلامي. المطلوب صياغة منظومة أمن جماعي جديدة وذات مخالب، تضمن التكافل والتنسيق المنهجي في المجالات السياسية، والاقتصادية، والأمنية، التهديد لأي جزء من الأمة يجب أن يُعتبر تهديدا مُعلنا للكل، وهذا هو الدرع الاستراتيجي الحقيقي في وجه الأطماع الخارجية والعدوان الصهيوني المتكرر.
5. بناء جدار الردع؛ تحديد كلفة باهظة للعدوان: كيف يمكن لآلة العدوان أن تتوقف عن التمادي في القتل والتهجير؟ الإجابة تكمن في خلق معادلة ردع استراتيجية حقيقية وذات مصداقية مؤلمة. هذه المعادلة تتطلب إيصال رسالة قاطعة للكيان المحتل بأن ثمن أي جريمة أو توسع جديد سيكون باهظا وفوريا على كافة المستويات الإقليمية والدولية؛ الردع هو اللغة الوحيدة التي يفهمها الاحتلال، ويجب أن تُصاغ أدواته عبر قوة موحدة ومُفعلة تستخدمها الأمة بأسرها.
6. تفعيل السلاح الصامت؛ الحصار والعزل السياسي والاقتصادي الشامل: لا يجب أن يستمر العالم العربي والإسلامي كممر آمن أو سوق مفتوح للكيان المعتدي، يجب استخدام أوراق القوة الاقتصادية والسياسية التي نمتلكها، وأولها العزل الشامل والضغط الممنهج غير القابل للتراجع:
- الإلغاء الفوري والكامل لكل أشكال التطبيع الاتفاقيات الموقعة أو المجمدة مع هذا الكيان.
- الوقف التام والشامل للتجارة بكافة أشكالها وتحت أي غطاء.
- حظر الطيران الصهيوني في سماء دولنا، خاصة وأن المجال الجوي الإقليمي يُستغل كجسر حرب لتسهيل العدوان، التناقض بين القصف الذي يمر فوقنا وبين السيادة يجب أن يُحسم الآن.
7. العدالة تنتظر؛ ملاحقة مجرمي الحرب بلا حصانة: لا يجب أن يظل مجرمو الحرب الصهاينة يتمتعون بأي شكل من أشكال الحصانة فوق القانون، يجب علينا تفعيل ودعم الأطر القانونية الدولية والوطنية العاملة على ملاحقة وتقديم هؤلاء المجرمين إلى العدالة الدولية.
كل قطرة دم لها ثمن، ويجب أن يواجه القتلة المحكمة، من أصغر جندي إلى أعلى رأس في هرم الكيان الصهيوني. هذه الخطوة ليست مجرد واجب أخلاقي، بل هي جزء لا يتجزأ من استراتيجية الردع والعزل الدولي طويل الأمد.
8. الدبلوماسية الهجومية؛ تفكيك الرواية وتأطير الحق: على الصعيد الدولي، يجب تبني دبلوماسية مضادة نشطة وهجومية، مهمتها تفكيك الرواية الصهيونية التي تُغلف الاحتلال بالشرعية الزائفة، وتأطير القضية الفلسطينية كـقضية تحرر وطني، وفقا للقانون الدولي الواضح، ويجب استثمار كافة المنابر الدولية (الأمم المتحدة، محكمة العدل الدولية، المحكمة الجنائية الدولية)، لـتجسيد الحق الفلسطيني واستصدار القرارات التي تُجرم الاحتلال وتُعزله.
ختاما، إن الأولوية الفلسطينية ليست ترفا سياسيا، بل هي ضرورة وجودية وشرط أساسي لضمان استقرار ومستقبل الأجيال القادمة، لقد أثبتت صدمة الأحداث الأخيرة أن أمننا القومي لا يمكن أن يُبنى إلا على أسس متينة من التكافل والردع في مواجهة هذا الخطر المتجذر.
إن إعادة تفعيل هذه المرتكزات الثمانية هي بمثابة إعلان عن بداية مرحلة جديدة من الوعي والعمل الجماعي العربي والإسلامي، الذي يضع المصير المشترك فوق كل المصالح الضيقة. فالحماية الحقيقية لانتصار المقاومة ولصمود الشعب الفلسطيني تبدأ من هنا، من خلال استراتيجية جامعة تُفضي إلى عزل الاحتلال، وتقديمه للعدالة.