كذبة كبيرة.. كذبوها فصدقوها
تاريخ النشر: 19th, May 2024 GMT
د. قاسم بن محمد الصالحي
من يكتُب أو يُحلِّل دورات التاريخ، وتعاقُب الأزمنة، يَجِد العِبَر في تداول الأيام بين الناس، وبالاعتبار تحيا الأمم التي تسدُّ الخلل فيها، وتجبر كسرها وتكمل نقصها؛ إذا نسيت لا تجد للنسيان علاجًا إلا التذكير، واذا ما سقط قناع الزمن، تكشَّفتْ حقيقة ما جرى فيه، وأظهرت أيامه وجوها عليها غبرة، ترهقها قترة، حاولتْ التغلغل بمرور الزمن بصورتها السيئة، تنبذها وجوه نظرة، مستبشرة؛ لأنَّ المتلوِّنين يصعب العيش معهم، وكيف يمكن أن يكون التآلف والوداد مع من كذب كذبته الكبيرة، واغتصب بها الأرض، قتل بشرًا، هدم حجرًا، واقتلع الشجرة المباركة، وإذا به يهوي وتنكشف حقيقة كذبته عند سقوط قناعه المختبئ خلفه.
وأضحت معالم الكذبة الكبيرة، التي كذبها منظرو وسفسطائيو بني صهيون، استنسخوا بها كيانًا مُستعمِرًا مَسْخًا، فمال ميلًا عظيمًا نحو أخطر سلوك عدواني في التاريخ المعاصر، كذبة: "أرض بلا شعب.. شعب بلا أرض"، شوَّهوا بها حقائق الاقصى والأرض المباركة حوله، وحرَّفوا اسم فلسطين وشعبها، وغيروا معالم مهد المسيح وكنيسة القيامة، وسلبوا مسرى خاتم النبيين والرسل.
البعض قد يمل عناوين مقالاتي، والبعض الآخر قد يَرَاها شيئًا آخرَ، والبعض قد يعتبرني مُبالِغًا... التحية والتقدير لكل رأي، لعلِّي أجد من يرى مقالي أصاب هدفًا يروم الداخل والخارج في آن معا، ينشد وعيًا جمعيًّا في عناوين مختلفة والموضوع واحد، وصولا إلى الجميع بعيدا عن تعقيدات القضية المطروحة ومساراتها؛ ففي الكثير من الأحيان استخدم عنوانا يكون صَوْتًا للحق، اكشف به زيف الكذبة الكبيرة التي أعنيها... وسأبدأ بطرح سؤال على نفسي، لماذا أكتب عن قضية فلسطين؟ هل لأنَّها نتاج كذبة كذبها المستعمر منذ قرن ونيف أم لأنها القضية الأولى لأمة قسَّمها الكاذب الأشر نفسه، ونحن نكتب ونكتب مساهمة في نضال استرجاع الحقوق والحرية. هذه حزمة من الحقائق استندت في إدراجها استنباطا من مسار الكذبة التي كذبها المتصارعون على الهيمنة والثروة في زمنها، وصادق عليها وصدقها صهاينة العصر.
ولغاية حماية ذاتهم وامتدادها، بمظاهر سلوكهم العدواني، ظهرتْ هذه الكذبة بتعارض فاضح مع حقوق أهل الأرض الأصليين الذين يدافعون عن ذاتهم وخصوصيتهم في مقابل عدوان نرجسي الطبع، يمارس تقنية دعاية الكذبة الكبيرة التي كذبها آباؤهم المستعمرون الأوائل، فكررها مرارًا وتكرارًا، لدرجة الوقاحة في تشويه الحقيقة، فنشر أسطورته المزعومة، وها هو الكيان المسخ اليوم، وبعد قرن من الكذب والفشل والتخبُّط بين ضربات المقاومة الفلسطينية، وصفعات الساحات المساندة، وبعد أن أحاط به المكر السيئ من كل حدب وصوب، بات عاجزًا أمام استيعاب ما يجري من متغيرات بعد عملية أشاوس كتائب القسام يوم 7 اكتوبر 2023، وأسر جنوده ومستوطنيه، في إنجاز عسكري هو الأول من نوعه، أذهل العالم من أقصاه إلى أقصاه.
ها هي أصوات الشعوب الحرة، جاءت ضِيَاء للحقيقة، لتفجر زيف الكذبة الكبيرة، وترسم الأمل الصادق على وجه الأرض المباركة الشاحب، وتثبت للتاريخ والكتب والحكم أن حبل الكذب مهما طال، حتى ولو لقرن من الزمان، فإنه قصير وقصير جدًّا أمام معاول مقاومة أهل الحق، الذين يحطمون صخرة الكذبة الكبيرة يومًا بعد آخر، لتبقى نواتها منبوذة مطرودة مدحورة لا تقبلها الأرض ولا الإنسانية، بعد أن خلع "طوفان الأقصى" غشاء الزيف الذي ألصقَه الكَذَبَة بأدمغة المجتمعات الغربية والشرقية، ليرى بأم عينيه صخرة كذبته وهي تتدحرج تحت أقدام الحق الصادق وأهله، تتناثر شظاياها الزائفة إلى الهاوية، هذه الصخرة التي جثمت على الأرض والشعب بطغيانها، وسدَّت كل عين ماء تنبع بالإبداع والقيم والمبادئ، لم تفتح غير هوة الشيطان واتباعه، ليصب النار على كل ورقة خضراء في أرض فلسطين.
لا أعلم كيف استطاع كَذَبة الكَوْن أن يحيكوا كذبتهم، فمهما قرأت عن دوائر التاريخ، وتعاقب الأزمنة والأحداث التي دارت على الأمة بأكملها، لمدة طالت عقودًا، أحداث تَحيَّر زعيمُ الشياطين نفسه منها، لعل الأسباب متباينة ومتعددة، ولكن أهمها بروزا: خبرة أهل الكذب وكفاءتهم اللامحدودة في صناعة الأكاذيب، ارتكز عليها صنيعهم، كما أنَّ الأمة صاحبت القضية، وهنت رغم كثرتها وغناها، بحيث استطاع الصهاينة أن يرسموا معالم الكذبة الكبيرة في جسدها، فأضحَت مجتمعتها تستقبل الكذبة تلو الأخرى، بصدر تطبيعي وترحيب غير قابل للنقض أو تكذيب الأكذوبة، وما زلنا إلى اليوم، نشهد قصصا من الأكاذيب الملفَّقة من الكيان المسخ الجاثم على حياة الفلسطينيين؛ بل ووصلت عدوى كذبته إلى بعض المُتصهْيِنين رغم أنَّ كيان الكذبة الكبيرة لم يعد يحمل أيَّ مؤهلات لقبوله بل حتى بقائه، مهما اهتمَّ بطرح زيفه، وكرَّس وسائله في صقل موهبته الفذة، التي آمن العالم الحر بأنها هي من ولَّدته كيانًا مسخًا في أمتنا العربية.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
التاريخ لا يُقرأ من لوحة الغطرسة الصهيونية
تمر العين سريعا على أخبار عربية، فتقع على بؤس لم يتبدل في المشهد الفلسطيني، جرائم حرب وإبادة تستهدف كل شيء، وتستمر على نفس الوقع من الانحطاط والانحدار في المواقف، وفي بقية فلسطين يتشاطر المستعمرون في الضفة والقدس مع جيشهم المجرم في غزة، جرعة قوية من الإرهاب، فيكرر سموتريتش وبن غفير ونتنياهو مقولات ثابتة في العقل والسلوك الصهيوني، عن إبادة "الأغيار"، والتفاخر بتحقيقها في غزة. وما تحقق من نتائج للعدوان على غزة والضفة وإيران وسوريا ولبنان، دفع لُعاب العنصرية الصهيونية إلى السيلان نحو وحشية أكثر وتطرف في الضفة والقدس، وبعدم الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني وبحقه، والإسراع بالسيطرة والاستيطان والتهجير لدفن أي كيان فلسطيني يمكن البناء عليه أو الحديث عنه مستقبلا.
بعد كل هذا، لا ندري أين وكيف ستتحقق رغبات إسرائيل والولايات المتحدة لشرق أوسط جديد، باتباع وصفة "الاتفاقات الإبراهيمية" التي تُبنى عليها آمال كبيرة من تل أبيب وواشنطن، وبعض الواهمين العرب، فإذا انتقلنا لنقطة متابعة ما تحقق سابقا، على صعيد تصديق الخدعة الصهيونية الأمريكية لـ"السلام" لنعرضها لمحاكمة العقل والواقع على الأرض، والاقتراب من أي منجز يمكن ملامسته ولو كان ضئيلا، فلا يجد العاقل من هامشية وهشاشة ما تحقق، سوى النتيجة "الطبيعية" لهذا البؤس المعمم عربيا وفلسطينيا والذي يفتقد حتى لكفاءة المساومة، أو إلزام الخصم بشروط "الصفقة" أو السلام والتطبيع..
من المخجل حقا أن يبتلع بعض النظام العربي الطعم الصهيوني الأمريكي، بعد كل هذه الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، وتركيز الجهد والحديث والعمل، على إزالة "بؤرة التوتر" المتصلة بمقاومة الاحتلال. والمشكلة ليست بحاجة لشرح، 75 عام من نكبة واحتلال وما أفرزته على الأرض، فجوهر القضية الاحتلال والمشروع الصهيوني، والتطبيع معه على أساس إمكانية قبول ما غنمه من حقوق في الأرض والتاريخ، والاكتفاء بما بين يديه من إنجازات أو غنائم. لكن تجربة العقود الماضية، التي كان عمودها الفقري في المقولة الأكثر عمومية التمسك "بخيار السلام" كسلاح مقابل عربدة وغطرسة صهيونية، وتوسيع للعدوان وارتكاب جرائم حرب وإبادة وعدم اعتراف بالحقوق والقانون الدولي، يفترض أن تُحدث صدمة كبرى لصحوة البعض البائس والمفجع، بحيث أنه لم يترك بين يديه من سلاح ذو قيمة لمواجهة عدوّه.
فخديعة الرئيس ترامب بالحديث المستمر عن اقتراب الحل في غزة ووقف لإطلاق النار، واستعداد البعض للانخراط في التطبيع مع وحشية المحتل، بعد القضاء على المقاومة، تمهيدا لتنصيب زعامة الغطرسة والقوة الصهيونية باستباحتها كل المنطقة، هي خديعة كل الإدارات السابقة للعرب والفلسطينيين، وهي لم تعد اليوم كذلك لما فيها من وضوح الدعم والإسناد للمشروع الاستعماري الصهيوني.
وهنا سؤال صعب يطرحه المرء على نفسه، حين يراقب معظم الموقف الفلسطيني ومن خلفه مواقف عربية ربطت كل ما يجري بسردية المحتل عن إزالة عقبة "المقاومة" من طريق رغد التطبيع القادم: هل سينتهي الإرهاب الصهيوني المنتشر على طول الأرض وعرضها في فلسطين، وصولا لسيادة عربية مستباحة؟ ألم يكن واضحا للطرف العربي والفلسطيني الرسمي الموقف الأمريكي، بعد تجربة طويلة ومفضوحة من الاستفزاز والتزوير دفاعا عن الإرهاب الإسرائيلي وتبريره وحمايته؟
لم يعد يسمع الأمريكي والإسرائيلي من ديباجة السياسة العربية كلاما واضحا وصريحا، بما يخص القضية الفلسطينية، اقتصرت السياسة في الآونة الأخيرة على إظهار ما يدور في الغرف المغلقة، أي جهر مقترن بالخذلان الكبير الذي تعيشه القضية على وقع الجرائم المستمرة، فلا تسمع نفيا عربيا مباشرا لما يدلقه ترامب من خطط بشأن فرض حليفه الصهيوني زعيما بالقوة، وبالتطبيع مع إرهابه، ولا كلاما فلسطينيا مباشرا بشأن مراجعة كل الرهانات والأوهام السابقة. قبل أيام قال مصدر سوري في تصريحات لقناة إسرائيلية إن بلاده وإسرائيل ستوقعان اتفاقية سلام قبل نهاية العام 2025، وأنها ستتضمن تطبيعا كاملا ستكون الجولان فيه "حديقة سلام". كما لا بيان عربيا يعيد التأكيد على ديباجة القرارات الدولية بشأن سورية الجولان، والتأكيد على حدود الرابع من حزيران/ يونيو عام 1967 لأي حل متعلق بمستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
العدوان الخطير التي يجري في مدن الضفة والقدس، يزامل وحشية الإبادة الجماعية في غزة، وهنا، كما في السابق، لم يطلب الفلسطينيون من عربهم نجدة عسكرية، حتى لا يكرر البعض نموذج الإبادة المطلوب في غزة، لكن يطالبون بالتركيز على فضح طبيعة الإجرام الصهيوني وإرهابه، وعزله وحصاره، والمطالبة بمحاكمته أمام العدالة الدولية، وهذا أضعف الانحياز لمبادئ العدالة والقانون الدولي والإنساني، لمن يعتنق ممارسة السياسة المحكومة بعدالة وأخلاق، وليس بخلط أنصاف الحقائق المفلترة سلفا.
لليوم وبعد كل هذا الإرهاب الصهيوني، الذي يواجه رفض وغضب شوارع غربية وعالمية، لم تشعر المؤسسة الصهيونية بضغط أو خطر يدفع إسرائيل للتراجع عن ممارسة الإرهاب وارتكاب الجرائم، فرغم كل الشواهد وحقائق الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، هناك على أطراف العالم العربي وداخله انهيار للمواقف، ولحظة ترقب استسلام فلسطيني لتتويج عصر "السلام" الصهيوني، لحظات مرت من قبل في محطات كثيرة من كامب ديفيد 1979، وتوجت في أوسلو 1993، ووادي عربة قبل أكثر من ثلاثة عقود، وهي حقائق تكشفت وتعري عن هذه "المعجزة" الكثير.
فكل ما يُطرح من أعجوبة التطبيع، الملحق بمعجزة "السلام" والمقدم إسرائيليا وأمريكيا على أنه مفتاح الفرج وسبب للتفاؤل بالمستقبل، يتم فوق بالأعالي، حيث التجريد والتسطيح لكل شيء، للعدالة وللقانون وللحق، بعيدا عن بديهيات التاريخ والواقع، فظن من فرح بمعجزة أمريكا وأعجوبة الغطرسة الصهيونية أن أرض الواقع الذي يتميز بصرامته وقسوته لن يصيب هذه العناصر بالتحلل، لكنها عادت لسابق عهدها وتكشفت المعجزة عن مسخ ميت في المهد.
أخيرا، المشغولون بنسيج الكلام عن التطبيع الإسرائيلي مع هذا النظام العربي وغيره، وتفجير لغة الإرهاق من القضية الفلسطينية، فقط ندعوهم لمراقبة مواقف شعوب ونخب غير عربية تجاه نظام الفصل العنصري الصهيوني، وجرائم الحرب والإبادة الجماعية، ومطالبهم بعزل وحصار إسرائيل باعتبارها كيانا استعماريا إحلاليا في المنطقة، وخطرا على السلم العالمي. فترديد نبرة وسردية صهيونية، تقتل روح الإنسان ولا توقظ من عقله شيئا في فضاء الظلم والقهر، تبقى نبرة محاصرة ومعزولة ومتفسخة، فمن صفق للهزائم التي مضت وللهزائم القادمة، سيبقى مصدوما من أيام هاربة من تاريخ الوهم الذي يحاول الانتماء له والعيش في ظله. والتاريخ والمجتمعات حركة مستمرة، والمستقبل مفتوح دوما على كل الاحتمالات، والتاريخ العربي والفلسطيني لن يُقرأ أبدا من لوحة الغطرسة الصهيونية ولا من عبرنته وتزويره.
x.com/nizar_sahli