حمد الناصري

 

قد تصنع جغرافيا صغيرة، تاريخًا كبيرا، وهذا ما حدث في غزة على مدار عقود طويلة، أكدتها في السابع من أكتوبر 2023، استطاعت تلك المساحة الضئيلة أن تشكّل مُجتمعا صامدا، مُجتمعا لم يضعف ولم يهن ولم يخضع؛ بل يزداد صُمودًا إلى درجة أنه حُرم من العيش الآمن ونال من قسوة الاحتلال الصهيوني ما لم ينلهُ شعب عبر امتداد طويل وواقع سياسي صعب وقاسٍ، وتلقى النكبات تلو الأخرى، ولم يجزع ولم يهِن ولم يضعف ولم يُظهر غير الصبر والثبات.

77 عامًا من النكبات والشتات، بدءًا من نكبة 1948، والتي شهدت أكبر عملية تهجير أولى عرفها الشعب الفلسطيني بعد أن دُمّرت قراهم ومُدنهم، فعانى الشعب الفلسطيني الويلات والنكبات المُتتالية ومن القسوة والشتات في كل بقاع الأرض.. في هذا اليوم المشؤوم أعلن تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين.

ولم يتكيّف الفلسطيني مع الوضع ولم يرضخ له أو يعترف به، وظلت الأجيال تتوارث فكرة المقاومة من جيل إلى جيل برغم قسوة التهجير والحرب غير المُتكافئة في معظم الأحيان، فمضت نكبة التهجير المريرة وتلتها نكبة الصراع الطويل. وفي هذا الواقع المرير لعِب رجال هذه الأرض المباركة دور المُواجهة الدائمة مع الاحتلال الإسرائيلي، وبقي الفلسطيني صامدًا مُحتسبًا مدافعًا عن أرضه ووطنه، وأسّس حركة الفداء للأرض والوطن، حركة عُرفت بـ"الفدائيين"، ثم جاء بعدها العُدوان الثلاثي عام 1956، ثم نكسة أكبر من التي قبْلها، نكسة الخامس من يونيو 1967، وفي هذه النكبة المُدمّرة، التهمتْ الصهيونية الإسرائيلية الأراضي والمباني وعيْنها على ما تبقى من المساحة الخضراء لغزة.

77 عامًا لا هدوء فيها ولا فرح؛ بل هي سِنين من أسرار المُواجهة الصامدة من أجل الأرض والوطن وبحرها الذي أصبح النافذة الوحيدة لكل قطاع غزة.. احتلال غاشم مُتطفّل لا كيان له، سوى "وعد بلفور" الصادر بتاريخ 2 نوفمبر 1917، وعْدٌ صدر من المُستعمر البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى، دعمًا لتأسيس "وطن قومي لليهود" في فلسطين، نصّه كالتالي: "تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قوميّ للشعب اليهوديّ في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليًا أنه لن يُؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر".

وعد بلفور المشؤوم في 1917، والذي يُنسب إلى آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا العظمى وأيرلندا وهو رسالة إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد؛ وهي عائلة بريطانية يهودية، مُهيمنة على الوعد وحوّلته إلى واقع شرّاني بائس وقبيح، وصار يُعرف بالاتحاد الصهيوني البريطاني.

ومن وسط ركام الحروب يُولد دائمًا الأمل؛ فمن بين المحن التي توالت على الأمة عامة، وعلى فلسطين خاصة، استطاعت حركة حماس التي أسسها الشهيد القعيد الشيخ أحمد ياسين، أن تتجاوز التوقعات المرة، وأن تصنع أملًا جديدًا تحيا عليه الأمة حتى الساعة، تصنع فيه المعجزات التي صنعها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، وتتفوق على آلة الحرب الصهيونية في الأراضي المقدسة، فمنذ القرن العشرين وحركة حماس في تحدٍّ يفوق الخيال؛ إذ أصبح الغرب مدهوشًا بالأفكار السريالية التي تقوم بها حركة حماس وركّزت المقاومة على تحرير العقل الغزّاوي، ودعتهم إلى تجاوز واقع القسوة والشتات إلى واقع فيه لبُوس من العزة والكرامة.. فحرّرت غزة رغم التواطؤ العالمي والمحلي، ورغم أنّ الجيش الإسرائيلي المُتطور تقنيًا والمدعوم بقوة غربية أوروبية وأسلحة حديثة، لم يستطع تحقيق هدفه أو الدخول إلى عُمق مساحة غزة لأكثر من 630 يومًا من بدء طوفان الأقصى في 7 أكتوبر.. حيث شهدت هذه الفترة دمار مُستشفيات، وقتلا وحشيا للأطفال، وهدم منازل، وحصارا شاملا، وتجويع شعب كامل أمام أنظار العالم، ولم تُحرك عواطف الإنسانية فيه، قيد أنْملة.

77 عامًا من القتل والدمار والتشريد والتهجير، يُقابلها صنف من الرجال الصامدين، يُسطرون أعمالًا بطولية كل يوم، رغم ألوان من العذاب والتنكيل، وهم يقولون الأرض الأرض..

تُذكّرني أحداث معركة أُحُد العظيمة، زمن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الثالث للهجرة المُباركة والمعركة تُنسب إلى جبل أُحُد العظيم، الذي قال عنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "أُحُد يُحبنا ونحن نحبّ أُحُد"، وتذكّرني حادثة ارتباط الغزّاوي بأرض الأقصى المباركة وتمسّكه بوطنه الفلسطيني بحرًا وأرضًا، بالصحابي الجليل بلال بن رباح وهو يتلقى أشد العذاب وألوان التنكيل من سيّده أمية بن خلف ليترك الإسلام، ولكنه يُواجهه بكلمة "أحد أحد" رافضًا الاستسلام ورافضًا التخلي عن الإسلام بتاتًا، وقد ثبت على إيمانه، حتى اشتراهُ أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم أعتقه لوجه الله.

ويظل الأمل باقيا في رجال الأمة ما بقي الزمان..

خلاصة القول.. تظل أعمال البطولة الشامخة تاريخًا لا يُنسى، وستذكُره الأجيال المُتعاقبة جيلا بعد جيل.. لقد صدق الغزّاويون حين ثبتوا على الأرض وصمدوا لأجْل الأقصى المبارك وتحدّوا الظالمين بقوة بما كانوا يعلمون بأنّ العدو الغاشم خاسر لا محالة وأن وعد الله قريب، فما حدث في المشهد البطولي، الذي هو مثار حديث بطولة جبّارة لا تُستنسخ، مُقاتل غزّاوي تسلّق مجنزرة تابعة لوحدة الهندسة الإسرائيلية وألقى بداخلها عبوة ناسفة أدت إلى مقتل سبعة جنود إسرائيليين كانوا بداخلها.

إنه لمشهد بطولي من مسافة صِفر، جهاد في سبيل الأرض المباركة ووقفة صُمود وعِزة من رجال صدقوا ما عاهدوا عليه الله، وقفة بُطولية عالية، وقفة الأحرار في زمن الصّفقات والخيانات.. الغزّاويون أمة مُؤمنة بربّها، أمة لا تنكسر، شامخة، أمة صابرة، عقيدتها جهادٌ من أجل الأقصى المبارك ومن أجل الوطن والأرض، عقيدة لا مساومة عليها، أمّة الصُمود أثبتت للعالم أجمع أنّ المدرعات لا تُهيب الرجال وأنّ القوة التي لا تُقْهر، قُهِرت بأيدي رجال غزة الأوفياء، وإنه لحديث له ما بعده، بعد أن غيّرت حماس وجه الشرق الأوسط وترسم خريطته من جديد.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الأهلي المصري يعلن موقفه من رحيل الفلسطيني وسام أبو علي

حسم النادي الأهلي المصري موقفه من مستقبل مهاجمه الفلسطيني وسام أبو علي، بعد تألقه اللافت في كأس العالم للأندية 2025 في الولايات المتحدة، وتلقيه عدة عروض احترافية مغرية من أندية أوروبية وخليجية.

وخطف اللاعب الفلسطيني، البالغ من العمر 26 عامًا، الأنظار خلال مشاركته مع الأهلي في مونديال الأندية، حيث سجل "هاتريك" في مرمى بورتو البرتغالي، في مباراة انتهت بالتعادل (4-4) في ختام دور المجموعات.

وعلى الرغم من خروجه المبكر من البطولة، بعد احتلاله المركز الأخير في المجموعة الأولى خلف بالميراس وإنتر ميامي، وبورتو البرتغالي إلا أن وسام أبهر الجماهير والنقاد بأدائه الحاسم وقدرته على التهديف من أنصاف الفرص.


ردًا على التكهنات بشأن مستقبله، أصدر الأهلي بيانًا رسميًا نقل فيه تصريحات مديره الرياضي محمد يوسف، قال فيه: "وسام أبو علي تلقى العديد من العروض خلال الأيام الماضية، لكن بعد اجتماع ثلاثي ضم الكابتن محمود الخطيب، والمدير الفني البرتغالي خوسيه ريبيرو، تقرر عدم التفريط في اللاعب، نظرًا لحاجة الفريق إلى جهوده في الموسم المقبل".



وانضم وسام إلى الأهلي في كانون الثاني / يناير 2024 قادمًا من نادي سيريوس السويدي، ووقع عقدًا يمتد حتى عام 2028، وقبل انتقاله للدوري المصري، لعب في صفوف عدة أندية في السويد، منها هالمستاد وأوريبرو، وسبق له تمثيل منتخب فلسطين الأول في عدة مناسبات.

وبحسب تقارير صحفية، فإن اللاعب تلقى عروضًا من أندية في الدوري التركي والسعودي، أبرزها من نادي قاسم باشا التركي ونادٍ سعودي لم يذكر اسمه، لكن إدارة الأهلي فضلت الإبقاء عليه، خاصة في ظل توجه الإدارة لتجديد دماء الفريق، وبناء تشكيلة تعتمد على عناصر واعدة وفعالة.


وكان الخطيب قد عقد اجتماعًا فنيًا مع ريبيرو ويوسف عقب نهاية البطولة، وتم خلاله مناقشة خطة الاستعداد للموسم الجديد، والذي يشمل إقامة معسكر إعداد خارجي، وتجديد عقود عدد من اللاعبين.

يذكر أن الأهلي يسعى لاستعادة هيبته على المستوى القاري، بعد موسم مخيب في دوري أبطال إفريقيا، ويسعى لبناء فريق أكثر توازنًا يجمع بين الخبرة والشباب، ويُتوقع أن يكون وسام أبو علي أحد أعمدته الهجومية الرئيسية في المرحلة المقبلة.

مقالات مشابهة

  • مجلس الوزراء الفلسطيني يُصدر عدة قرارات عقب جلسته الأسبوعية
  • هل ورد ذكر يوم عاشوراء في القرآن الكريم؟.. تعرف الآيات التي أشارت له
  • ما قصة السحابة المتوهجة التي ظهرت في السماء الليلة وكيف تشكلت؟
  • الأهلي المصري يعلن موقفه من رحيل الفلسطيني وسام أبو علي
  • فلسطين تطالب بتحرك عربي عاجل لوقف استخدام الجوع كسلاح ضد الشعب الفلسطيني
  • سفارة فلسطين: الدكتور “ناكر” وعد بتوفير حلول مناسبة لجاليتنا في ليبيا
  • مركز فلسطين يؤكد استمرار العدو الصهيوني في القتل الممنهج والتعذيب بحق الأسرى
  • للمواطنين.. لا عمل في دوائر الدولة حتى هذا التاريخ
  • رئيس مجلس إدارة شركة المها الدولية محمد العنزي: على بعد كيلو مترات من هذا القصر ولدت أول أبجدية عرفتها البشرية وعلى هذه الأرض خط الإنسان أولى الحروف التي تحولت لاحقاً إلى حضارات وتراث إنساني لا يزال نوره يهدي العقول والأمم ومن هنا من دمشق نطلق مشروعنا الث