تحولات كبيرة.. هذه أبرز محطات العلاقات بين أنقرة ودمشق منذ عام 2011
تاريخ النشر: 8th, July 2024 GMT
تسارعت خطى تركيا على مسار التقارب مع النظام السوري خلال الآونة الأخيرة، حيث توالت تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان التي أعرب خلالها عن رغبته بتطبيع العلاقات واللقاء مع بشار الأسد، مع إمكانية توجيه دعوة للأخير لزيارة أنقرة في أي لحظة، وذلك في انعطافة كبيرة بالموقف التركي الذي تدرج خلال السنوات الـ13 الأخيرة من المطالبة برحيل الأسد إلى السعي للاجتماع معه ورفع اللقاءات للمستوى العائلي.
الأحد، أوضح أردوغان خلال حديثه من الصحفيين على متن طائرة العودة من ألمانيا، أن بلاده تنتظر اتخاذ رئيس النظام السوري بشار الأسد خطوة لتحسين العلاقات معها، حتى تستجيب "بالشكل المناسب"، مشيرا إلى أن أنقرة قد توجه دعوة للأسد في أي لحظة.
وقبل ذلك، تحدث الرئيس التركي عن عدم وجود سبب يمنع بلاده من إقامة علاقات دبلوماسية مع النظام السوري، مبينا أنه من الممكن رفع تلك العلاقات أيضا إلى المستوى العائلي مع "السيد" الأسد، في إشارة إلى العلاقات القوية التي جمعت البلدين قبل الثورة السورية عام 2011.
ويأتي حديث أردوغان، بالتزامن مع إعلان زعيم حزب "الشعب الجمهوري" أكبر أحزاب المعارضة التركية، أوزغور أوزيل، تواصله مع النظام في دمشق وعزمه التوجه إلى هناك عبر لبنان في وقت لاحق من شهر تموز /يوليو الجاري من أجل لقاء الأسد.
وعلى عكس المعتاد، تتفق الحكومة والمعارضة في تركيا على ضرورة اللقاء مع الأسد، كما تصعدا من تصريحاتهما في هذا الصدد بشكل غير مسبوق، في مقابل صمت شبه مطبق يسود دمشق.
وكانت تركيا وسوريا تتمتعان بعلاقات قوية على الصعيد السياسي والاقتصادي قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011، لتتحول منذ ذلك الحين دفة أنقرة بشكل متسارع إلى القطيعة والمطالبة برحيل الأسد الذي وصفه أردوغان غير مرة بـ"القاتل"، قبل أن يشهد الخطاب التركي تحولات استراتيجية ازدادت ملامحها وضوحا بوتيرة متفاوتة خلال السنوات الأخيرة.
فما هي أبرز المحطات التي مرت بها العلاقات الثنائية بين دمشق وأنقرة منذ عام 2011؟
في الأشهر الأولى من 2011، ومع تصاعد الاحتجاجات الشعبية ضد النظام السوري، اكتفت أنقرة بالتأكيد على ضرورة إجراء إصلاحات سياسية
في آب /أغسطس 2011، وصل وزير الخارجية التركي آنذاك أحمد داود أوغلو إلى العاصمة دمشق محملا "برسالة حازة" للأسد، في حين قال النظام إن الوزير التركي سيتلقى "ردا حازما" أيضا.
وخلال الاجتماع المغلق، يُعتقد أن داود أوغلو قال للأسد إن "الفرصة المتبقية له قصيرة جدا، وأن عليه الاستجابة للمطالب الشعبية أو يلقى مصير صدام حسين أو القذافي، وأن إيران لن تنفعه حينها".
في آذار /مارس 2012، أغلقت تركيا سفارتها في دمشق وسحبت الطاقم الدبلوماسي في رسالة احتجاجية على بطش النظام بالمحتجين.
قطع العلاقات وإغلاق السفارة
في أيلول /سبتمبر 2012، قال أردوغان، وكان حينها رئيسا للوزراء، إن "حياة الأسد السياسية انتهت، والأسد حاليا لا يعمل كسياسي، وإنما كلاعب أو ممثل ثانوي في الحرب الداخلية في سوريا".
في تشرين الأول /أكتوبر 2012، وافق البرلمان التركي على منح الحكومة صلاحية القيام بعمليات عسكرية على الأراضي السورية.
مع نهاية عام 2012 وبداية عام 2013، بدأت تركيا في تقديم السياسي واللوجيستي للمعارضة السورية، حيث افتتح الائتلاف السوري مكتبه في مدينة إسطنبول.
عام 2014، تصاعدت لهجة أنقرة تجاه النظام السوري حيث وصف أردوغان الأسد بـ"الإرهابي والمجرم"، كما تصاعدت مخاوف تركيا من تداعيات الأزمة السورية بسبب اقتحام تنظيم الدولة البلاد في ذلك العام.
وأغلقت تركيا في العام ذاته معابرها الحدودية مع سوريا بالتزامن مع اشتباكات بين القوات التركي ومجموعات تركية مسلحة.
ومع نهاية العام، وافق البرلمان التركي على مذكرة تسمح للجيش بدخول الأراضي السورية لمدة عام واحد قابلة للتجديد.
في عام 2015، حافظت تركيا على نهجها بالوتيرة ذاتها ضد الأسد ونظامه، وقال أردوغان إن "الأسد لا يمكن أن يضطلع بأي دور في مستقبل سوريا".
وذلك بالتزامن مع تصاعد مخاوف أنقرة من "المليشيات الكردية" التي تعتبرها أنقرة خطرا وجوديا على تركيا، بالإضافة إلى تواصل تدفق اللاجئين السوريين إلى الأراضي التركية.
في أيلول /سبتمبر 2015، تدخلت روسيا عسكريا في سوريا دعما للأسد الأمر الذي تسبب في توترات العلاقات بين موسكو وأنقرة، إلى أن بلغت أشد تدهورها بعد إسقاط تركيا طائرة عسكرية فوق الأراضي السورية بسبب "انتهاكها المجال الجوي التركي".
مع بداية عام 2016، تراجعت حدة التوترات بين تركيا وروسيا في خطوة كانت بداية لانطلاق تحال روسي تركي في سوريا تجلى في مسارات أستانا وسوتشي التي هدفت إلى إيجاد حل سياسي للأزمة السورية.
التدخل العسكري
وفي العام ذاته، قال أردوغان إن "تركيا قررت الدخول إلى سوريا مع الجيش السوري الحر بعد أن رأت أن الأمم المتحدة لا تفعل شيئا".
أعقب ذلك شن تركيا ثلاث عمليات عسكرية في سوريا، أولها عملية "درع الفرات" بين عامي 2016 و2017 التي هدفت إلى تأمين الحدود التركية من وجود عناصر تنظيم الدولة ووحدات حماية الشعب الكردية التي تراها أنقرة امتدادا لحزب "العمال الكردستاني" المدرج على قوائم الإرهاب في تركيا وعدد من الدولة الأوروبية.
والثانية، عملية "غصن الزيتون" في عام 2018، وهدفت إلى الحد من نفوذ وحدات حماية الشعب الكردية وطردها من منطقة عفرين شمال غربي سوريا، وذلك بالتعاون مع فصائل المعارضة السورية.
والثالثة، عملية "نبع السلام" في عام 2019، وهدفت إلى إنشاء "منطقة آمنة" شرق نهر الفرات تمتد من تل أبيض إلى رأس العين، من أجل منع إقامة كيان كردي مستقل، بالإضافة إلى توطين اللاجئين السوريين هناك.
مسار التطبيع
بدأت مساعي التقارب بين تركيا ونظام الأسد في أعقاب تدخل روسيا عسكرية في الأزمة السورية، حيث دعت موسكو في تموز /يوليو 2016 إلى اتصالات عسكرية بين الجانبين والعمل على إيجاد حل سياسي.
في كانون الثاني /ديسمبر 2022، التقى وزير الدفاع التركي بنظيره في حكومة الأسد بموسكو حيث اتفقا على تشكيل لجان مشتركة من مسؤولي الدفاع والمخابرات.
في أيار/ مايو 2023، عقد أول اجتماع بين وزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران والنظام السوري، في العاصمة الروسية موسكو، وذلك ضمن ما عرف بـ"الصيغة الرباعية".
وفي العام ذاته، أبدى الرئيس التركي انفتاحا على التقارب مع النظام السوري قبل أن يطرأ الجمود على ملف التطبيع مع دخول تركيا في فترة الانتخابات العامة.
في المقابل، اعتبر الأسد خلال لقاء أجراه مع شبكة "سكاي نيوز عربية"، أن هدف أردوغان من الجلوس معه هو "شرعنة وجود الاحتلال التركي في سوريا"، زاعما أن الإرهاب في سوريا "صناعة تركية"، ومطالبا بسحب القوات التركية بشكل كامل من شمال غرب البلاد.
في حزيران /يونيو 2024، بدأت تركيا تسارع خطاها مجددا بهدف التقارب مع نظام الأسد في أعقاب إعلان وحدات الحماية التركية شمال شرقي سوريا عن عزمها إجراء انتخابات محلية في مناطق نفوذها، الأمر الذي رفضته أنقرة واعتبرته محاولة لإقامة "دويلة إرهاب" على حدودها.
كما تحدث الرئيس التركي عن إمكانية عودة العلاقات مع النظام إلى المستوى العائلي كما وصف الأسد لأول مرة بـ"السيد".
في تموز /يوليو 2024، أعرب أردوغان عن تخطيط بلاده لدعوة الأسد إلى زيارة تركيا في "أي لحظة"، وقال: "وصلنا الآن إلى مرحلة، بحيث إنه بمجرد اتخاذ بشار الأسد خطوة لتحسين العلاقات مع تركيا، فسوف نبادر بالاستجابة بشكل مناسب".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي اقتصاد تركي منوعات تركية تركيا أردوغان الأسد سوريا روسيا سوريا الأسد تركيا أردوغان روسيا سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة النظام السوری مع النظام فی سوریا ترکیا فی عام 2011
إقرأ أيضاً:
المفاوضات السورية-الإسرائيلية: تاريخ من الأخطاء والدروس
لطالما كانت المفاوضات السورية الإسرائيلية فصلا غامضا. تارة يُنفى وجودها، وتارة يُسرب منها ما يكفي لإثارة الجدل العام. اليوم، يبدو أن إسرائيل تسعى لنقل ملف الجولان إلى منطقة تفاوضية أخرى عبر استغلال ملف الدروز حاليا و"قسَد" لاحقا، بهدف جعل المنطقة الجنوبية السورية برمتها خالية من السلاح، وهو ما يمثل تحديا جديدا ومعقدا للدولة السورية الناشئة.
من الضروري أن نتوقف اليوم، بوعي نقدي وتحليل عميق، أمام دروس الماضي التفاوضي الطويل لنفهم بوضوح: هل كانت السلطات السورية حقا تفاوض من أجل الوطن وسيادته، أم كانت تناور فقط من أجل بقائها؟
وقد بدأت قصة التفاوض السوري الإسرائيلي فعليا مع احتلال إسرائيل مرتفعات الجولان 1967، ليصبح هذا الاحتلال نقطة الارتكاز لأي حديث عن السلام أو الصراع.
جدلية الأرض والسلطةمحطات ما قبل المفاوضات ما بين 1967 و1973:بين عامي 1967 و1973، وقبل أن تندلع حرب أكتوبر/ تشرين الأول، هل شهدت العلاقة السورية الإسرائيلية أي مفاوضات؟ الجواب الصريح: لم تحدث مفاوضات مباشرة، لكن جرت محاولات دبلوماسية متعددة، فشلت جميعها في تحقيق أي اختراق.
قرار أممي ضاع أدراج الرياح: القرار 242 (نوفمبر/تشرين الثاني 1967)بعد احتلال الجولان وسيناء والضفة الغربية في حرب 1967، صدر قرار مجلس الأمن 242. هذا القرار دعا إلى مبدأين أساسيين: انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة، والاعتراف بحق كل دولة في العيش بسلام داخل حدود آمنة.
كان موقف سوريا حاسما ورافضا للقرار، خاصة أنه يحكمها حزب قومي أيديولوجي [البعث] تسلم السلطة بحجة أن الحكم قبل 1963 كان انفصاليا، والقرار الصادر لم يُشر صراحة إلى "الانسحاب الكامل"، واعتبرته مساويا بين الجلاد والضحية.
أما إسرائيل، فقد قبلت القرار نظريا لكنها رفضت الانسحاب الكامل، وخاصة من القدس والجولان. وهكذا، وُلد القرار كبذرة أمل للحل في المنطقة، لكنه سرعان ما ضاع أدراج الرياح بين تباين التفسيرات ورغبة إسرائيل في السيطرة على القدس ومرتفعات الجولان الإستراتيجية.
إعلان جهود أممية بلا ثمار: مهمة غونار يارنغ (1967-1971)كُلف غونار يارنغ بمتابعة تنفيذ القرار 242، وقام بجولات مكوكية بين دمشق وتل أبيب، محاولا جس نبض الطرفين.
أبدت إسرائيل استعدادا للنقاش دون الالتزام بالانسحاب الكامل، فقد كانت راغبة في تسويق نفسها كدولة عقلانية قابلة للتفاوض. في المقابل، أصرت سوريا على مبدأ عدم التفاوض مع إسرائيل قبل الانسحاب الكامل من الجولان، لأسباب بنيوية في النظام.
كتب يارنغ في تقريره أن إسرائيل ترفض الانسحاب الكامل، وسوريا ترفض الاعتراف أو التفاوض مع الاحتلال. كانت الجهود الدولية عبثية بين إرادتين متناقضتين.
التركيز على جبهات أخرى: وساطات أميركية (نيكسون وكيسنجر)في تلك الفترة، لم يركز الرئيس الأميركي نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر على المسار السوري بشكل جاد، كان تركيزهما ينصب على مصر والأردن، بينما ظلت سوريا متشددة في خطابها ورفضها التفاوض دون انسحاب إسرائيلي مسبق.
لم تكن دمشق مستعدة للتنازل عن أوراقها قبل أن تفرض واقعا جديدا على الأرض.
مسار المفاوضات بين سوريا وإسرائيلاتفاق فض الاشتباك (1974): تهدئة الجبهة وترتيب البيت الداخليكان هذا الاتفاق، الذي توسط فيه وزير الخارجية الأميركي الأشهر هنري كيسنجر، نقطة البداية العلنية للمفاوضات بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول.
يومها، لم يكن هدف النظام السوري تهدئة الجبهة بهدف استعادة الجولان فورا، بل كان هدف حافظ الأسد الأساسي إعادة ترتيب بيته الداخلي الذي لم يستقر بعد، وتعزيز شرعيته الإقليمية والدولية بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول التي أحدثت تحولا في المشهد الإقليمي.
أما هدف إسرائيل من الاتفاق، فكان باعتباره خطوة نحو تحييد الجبهة السورية جزئيا، وضمان أمن حدودها بعد قضمها أراضي واسعة من دول الجوار والتفرغ لملف مصر والأردن.
مؤتمر مدريد (1991): مناورة لكسب الوقت وتجنب العزلةبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتغير موازين القوى العالمية، جاء مؤتمر مدريد كمحاولة أميركية طموحة لجمع الأطراف العربية والإسرائيلية. دخلت دمشق المفاوضات بخطاب قومي حاد، لكنها في الواقع التزمت بقواعد اللعبة الدولية.
كان واضحا أن حافظ الأسد يفاوض ليكسب الوقت ويتفادى العزلة السياسية، ويستوعب المتغيرات الدولية وحرب الخليج، لا ليكسب الأرض. أما الهدف الإسرائيلي، فكان يكمن في كسر العزلة الإقليمية دون تقديم تنازلات جوهرية.
مفاوضات جنيف (1999-2000)في عهد حافظ الأسد، وتحت رعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون، بلغت هذه المفاوضات السرية ذروتها. كادت دمشق أن توقع اتفاقا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، لكن في لحظة درامية عُرفت لاحقا، رفض الأسد الأب التوقيع على الخريطة بعد اكتشافه أنها لا تعيده إلى خط الرابع من يونيو/ حزيران 1967 بالكامل.
وتكرست بعدها مقولة: "لا مفاوضات دون سيادة كاملة". لكن السؤال الجوهري الذي طرحه السوريون: هل كنا نفاوض حقا من أجل السيادة الوطنية الكاملة، أم من أجل تعزيز صورة "الزعيم" وشعار الممانعة؟ خاصة أن حافظ الأسد كان مريضا ويريد تخليد ذكراه كزعيم عروبي.
مفاوضات غير مباشرة عبر تركيا (2008): بحث عن شرعية دولية لا اختراق حقيقيفي عهد الرئيس بشار الأسد، بدأت وساطة تركية مباشرة من الرئيس رجب طيب أردوغان لعقد اتفاق سوري إسرائيلي. حينها، قدمت دمشق وثيقة غير مسبوقة تضمنت تنازلات أمنية، وحتى ترتيبات مشتركة محتملة في الجولان المحتل.
إعلانكان الهدف الرئيسي لبشار كسر العزلة السياسية بعد مشاركته في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لكن فجأة انهارت المحادثات بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في نهاية العام، ليتحول الخطاب الرسمي إلى شعار "الممانعة".
الواقع أن مفاوضات بشار الأسد، شأنها شأن مفاوضات والده، لم تكن أبدا تدور حول الأرض بمعناها الكامل، بل كانت تدور في جوهرها حول السلطة والبقاء.
كان التفاوض مجرد تكتيك لرفع العقوبات الدولية، وكسب الاعتراف الإقليمي، وشراء الوقت، باعتبارهم عائلة عروبية مقاومة ممانعة للتطبيع.
تجارب مفاوضات إقليمية: دروس يجب أن نتعلمهامقارنة بتجربتنا، مضى الرئيس المصري أنور السادات إلى كامب ديفيد بجرأة غير مسبوقة، فاستعاد سيناء بالكامل مقابل السلام المنفرد، ودفع ثمنا سياسيا باهظا على الصعيد العربي بتفكيك المنظومة.
أما الفلسطينيون فقد دخلوا أوسلو مضطرين، في لحظة انهيار إقليمي وعربي، لكنهم أخطؤُوا حين تنازلوا عن جوهر قضيتهم مقابل وعود مستقبلية لم تتحقق. أما الأردن في وادي عربة، فقد فاوض بهدوء وواقعية باعتباره دولة ضعيفة الموارد تحيطه دول إقليمية كبرى، وحافظ على حدوده، وربح استقرارا هشا في ظروف إقليمية معقدة.
تُظهر هذه التجارب الإقليمية بوضوح أن النية الصادقة بالتفاوض، ومعرفة سقف المطالب الواقعي، وفهم طبيعة الخصم ونقاط قوته وضعفه، كلها شروط حاسمة لأي نجاح تفاوضي مستقبلي.
أخطاء المفاوض السوري: بوصلة للمستقبلمن كل هذه التجارب، يبرز الخطأ الأكبر في أداء المفاوض السوري تاريخيا، وهو خطأ مركب ومتجذر في بنية النظام وطريقة تعاطيه مع قضايا الوطن المصيرية:
الخطأ الأول: المفاوضة بلا خريطة طريق واضحة، وبلا سند شعبي حقيقي يُضفي الشرعية على قراراته. هذا الغياب للرؤية الإستراتيجية والشرعية الشعبية جعل المفاوض السوري يدخل الطاولة وهو يخشى من كشف نواياه الحقيقية، أو ربما لا يمتلك نوايا واضحة من الأساس. في المقابل، يبدو الخصم أكثر وضوحا منه في تحديد الأهداف والمطالب، مما يمنحه اليد العليا في أي جولة.التفاوض من موقع ضعف داخلي، أو من خلف ظهر الشعب، هو وصفة مضمونة للفشل، لأنه يفقد المفاوض أهم أوراقه: الإرادة الوطنية الجامعة.
الخطأ الثاني: أن التفاوض كان لذاته، لا من أجل تحقيق نتيجة ملموسة. لم يكن الهدف هو الوصول إلى حل شامل وعادل، بل كان الهدف هو "الجلوس على الطاولة" بحد ذاته.جلس الأسد الأب أكثر من عقد من الزمان في مفاوضات لا يريد منها حلا شاملا، بل تسكينا مؤقتا للأوضاع، أو استخدامها كواجهة دبلوماسية لتخفيف الضغوط الدولية. والابن استخدم التفاوض كورقة في لعبة الأمم المعقدة، لرفع العقوبات أو كسب اعتراف إقليمي، لا كورقة في مشروع وطني للتحرير واستعادة الحقوق.
هذا التكتيك، وإن منح النظام بعض الأنفاس المؤقتة، إلا أنه أضاع فرصا تاريخية لاستعادة الأرض.
الخطأ الثالث: غياب الابتكار في الطرح التفاوضي. فمعظم ما قُدم من جانب عائلة الأسد كان تقليديا، يعتمد على استرجاع المبادرة العربية للسلام، أو الالتفاف حول خطاب "السلام مقابل الأرض"، دون تفاصيل عملية أو رؤى خلاقة. لم يحاولوا طرح مبادرات حقيقية تضعنا في موقع الفاعل الذي يقترح الحلول، لا المتلقي الذي ينتظر التنازلات.في عالم التفاوض المعاصر، الابتكار في الأفكار، وتقديم حلول غير تقليدية للمشاكل المعقدة، يمكن أن يغيرا ديناميكية الجلسات ويخلقا مساحات جديدة للاتفاق، وهو ما افتقدناه بشدة.
هل نتعلم من الماضي لنصنع مستقبلا أفضل؟إذا كنا نحلم بمفاوضات مستقبلية واعدة، فإن علينا أن ندرك هذه الدروس بعمق، وأن نعمل على:
بناء موقف وطني موحد وشرعية شعبية حقيقية: التفاوض دون سند شعبي وشرعية وطنية هو مغامرة خاسرة حتما. يجب أن يكون الشعب هو صاحب القرار والداعم الأكبر للمفاوض، وأن يكون الموقف التفاوضي نابعا من إجماع وطني حقيقي. امتلاك جرأة الطرح وابتكار الحلول: يجب ألا نخجل من طرح تصورات جديدة ومبتكرة تحفظ الحقوق الوطنية وتدير الواقع بذكاء، بدلا من التمسك بالخطاب التقليدي الذي لم يعد يفضي إلى شيء. يجب أن نكون السباقين في تقديم المبادرات التي تعكس رؤيتنا لمستقبل المنطقة، لا مجرد ردود أفعال على مبادرات الآخرين. فهم الخصم كما هو، لا كما نتخيله: إسرائيل دولة لا تهادن إلا من موقع القوة، ولا تقدم التنازلات إلا عندما تشعر أن البديل الإستراتيجي سيكون أكثر كلفة عليها. يجب فهم هذه العقلية بعمق، ودراسة نقاط قوتها وضعفها، وكيفية استغلالها لصالح الموقف التفاوضي السوري. التفاوض ليس صراعا عاطفيا، بل هو عملية عقلانية تتطلب فهما دقيقا للطرف الآخر. إدراك أننا لا نفاوض من أجل السلام فقط، بل من أجل الكرامة والسيادة: السلام الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا من موقع القوة والندية.المفاوضات في هذا السياق، إذا ما تمت، يجب أن تكون ذات إستراتيجية واضحة المعالم:
إعلان هدفها الأول والأخير هو استعادة السيادة الوطنية على الأراضي المحتلة بطريقة أو بأخرى. ترسية أمن واستقرار حقيقيين في المنطقة الجنوبية، لا عبر التنازل عن السيادة أو جعلها منطقة خالية من السلاح على حساب الأمن القومي، بل عبر اتفاقيات عادلة تضمن حقوق الجميع وتنمية المنطقة. بناء دولة قوية ومستقرة داخليا، قادرة على حماية حدودها ومصالح شعبها.إن سجل المفاوضات السورية الإسرائيلية يمثل كنزا من الدروس والتجارب المريرة، ليس لاستيعاب هذه الدروس لعدم تكرارها لاحقا، بل لتشكيل بوصلة للمستقبل، تضمن تحقيق سيادة سوريا ومصالحها الوطنية العليا في أي مسار تفاوضي قادم.
المستقبل الحقيقي لسوريا يكمن في قوتها الداخلية، في وحدتها، وفي قدرتها على التفاوض من موقع المبادئ والكرامة، لا من موقع الضعف أو الحاجة للبقاء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline