ثالثا: متى تتدخل الدولة؟
في الجزء الأول من هذا المقال حاولت تسليط بعض الضوء على معنى العدالة الاجتماعية من منظور إسلامي، والإجابة على السؤال: ماهي أهم مبادى العدالة الاجتماعية؟.
وفي الجزء الثاني حاولت التركيز على أهم واجبات الدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية، أما في هذا الجزء فساحاول الإجابة على السؤال:
متى يمكن للدولة أن تتدخل من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية في المجتمع؟
لعل من أهم الحالات والظروف التي يمكن للدولة أن تتدخل فيها لتحقيق العدالة الاجتماعية فيى المجتمع هي الآتي:
(1) حالة نزع الملكية الخاصه للمصلحة العامة
بمعنى يمكن للدولة أن تتدخل في نزع الملكية الخاصة للمصلحة العامة من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية في المجتمع، فبالرغم من أن الإسلام يعترف بالملكية الفردية ويضع لها ضوابط وحدود، إلا أنه يجيز نزعها للضرورة والمصلحة العامة وفقا لإجراءات قانونية واضحة وبعد دفع تعويض عادل وفوري.
(2) حالة تحقيق “التكامل” الطبقي
بمعنى طالما أن المجتمع الإسلامي يقوم على أساس “التكامل” وليس “الصراع” الطبقي، عليه من واجب الدولة أن تتدخل من أجل القضاء على شرور ومخاطر الغنى في المجتمع، ولكي يتحقق ذلك يجب ألا يكون بإفقار الغني وتجريده من أمواله وثروته، وإنما بمراقبة ما يملك من ثروة حتى لا يستطيع إلحاق الضرر والأذى بغيره، بمعنى آخر، لكي يتحقق التكامل لا بد على الدولة أن تكون عادلة وداعمة لكل المواطنيين بما فيهم الأغنياء، فقد قال رسولنا (ص) لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن، “إن هم أطاعوا لك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة (أي الزكاة) تؤخد من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم”.22
(3) حالة تأميم المصالح العامة فى المجتمع
بمعنى يمكن للدولة أن تتدخل من أجل تحقيق تأميم المصالح الضرورية والعامة في المجتمع وجعلها ملكا عام للشعب، والمقصود بالتأميم هنا باختصار شديد هو استرداد الملكية للمصلحة العامة وجعلها في متناول الجميع، فقد حرص الإسلام على أن يكون كل ما هو ضروري لحياة الناس ملكية عامة، وفي هذا الصدد يقول رسولنا (ص):
“المسلمون شركاء في ثلاث: الماء، والكلاء، والنار”.23
وعليه يجب الاتفاق بأن سياسات التأميم في الإسلام جائزة ولكن ليست مطلقة، بمعنى آخر، يمكن للدولة ممارسة سياسات التأميم عندما تقتضي الضرورة العامة ذلك فقط.
فقد ورد أن رسول الله (ص) أقطع بلال بن الحارث أرضا فاحتجرها، فلما كانت خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له:
“إن رسول الله (ص) لم يقطعك لتحتجره عن الناس،
إنما أقطعك لتعمل،
فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي”.
وفي رواية يحيى بن آّدم:
أن عمر قال لبلال: يا بلال،
إنك أستقطعت رسول الله (ص) أرضا فقطعها لك.
وأنت لا تطيق ما في يديك،
فقال بلال: … أجل،
قال عمر فأنظر ما قويت عليه منها فأمسكه،
وما لم تطق فأدفعه إلينا نقسمه بين المسلمين،
فقال بلال: لا أفعل، هذا شيء أقطعنيه رسول الله،
قال عمر: والله لتفعلن،
وأخذ منه ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين…”24
(4) حالة منع “الاحتكار” و”الربا” و”الاستغلال” و”الرشوى” و”الإسراف” و”الغش” في المجتمع
بمعنى يمكن للدولة أن تتدخل من أجل القضاء على “الاحتكار” و”الربا” و”الاستغلال” و”الرشوى” و”الإسراف” و”الغش” في المجتمع، وعليه يجب على الدولة أن تمنع احتكار الثروة وتكديس الأموال في أيدي طبقة صغيرة في المجتمع.
ففي الربا يقول تعالى: “أحل الله البيع وحرم الربا”،25
وفي الاستغلال يقول تعالى: “ولاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل…”26
وفي الإسراف يقول تعالى: “وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين”،27 والإسراف يعني الاستهلاك الزائد عن الإشباع.
وفي الرشوة يقول (ص): “الراشي والمرتشي في النار”،
وفي الغش يقول (ص): “من غشنا ليس منا”،
وفي الاحتكار يقول رسولنا (ص) “لا يحتكر إلا خاطىء”،
ويقول: “من احتكر طعاما أربعين يوما فقد برئ الله منه”.
من كل هذا وغيره الكثير، يمكن استخلاص “حق الدولة” في التدخل في الشؤون الاقتصادية لمنع الضرر والفساد وتحقيق المصلحة العامة.
(5) حالة توفير “حدّ الغناء” في المجتمع
بمعنى يمكن للدولة أن تتدخل من أجل تأمين السلع الضرورية والحيوية وتولي بيعها للشعب حتى لا تترك الفقير تحت رحمة الغني، فقد اتفق جُل علماء المسلمين على أن الإسلام يكفل للمواطن الفقير في الدولة حدا أدنى من الدخل يسميه فقهاء الإسلام بـ: “حدّ الغناء” تمييزا له عن “حد الكفاف“.
وفي هذا الصدد وتعليقا على حديث رسولنا (ص) “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه”، يقول ابن حزم في كتابه المحلى، في باب الزكاة: “… إن للجائع عند الضرورة أن يقاتل في سبيل حقه في الطعام الزائد عند غيره… فإن قُتل الجائع، فعلى قاتله القصاص، وإن قُتل المانع فعليه لعنة الله!!…
ويستطرد ابن حزم قائلا:… وفُرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين ما يكفي ذلك، للقيام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه ومن اللباس في الشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يحميهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة”،28
والحقيقة أن هناك أحداث وآراء كثيرة تؤكد حق الدولة في التدخل وأخذ أموال الأغنياء من أجل خدمة مصالح عامة وضرورية، فقد اتفق علماء الأمة أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد فريضة الزكاة يحق للدولة فرض ضرائب من أجل تحقيق الأهداف العامة، فقد أفتى الإمام مالك، على سبيل المثال، بأنه يجب على الناس فداء أسراهم وأن استغرق ذلك أموالهم.
في الجزء الرابع (والأخير) من هذا المقال سوف احاول الإجابة على السؤال التالي:
ما هي أهم الفروق بين عدالتنا الاجتماعية والمدارس الاقتصادية الأخرى؟
يتبع ..
والله المستعان.
هوامش
رواه الخمسة22
الشيخ مححمود الصواف (1979) “لا أشتراكية فى الاسلام.” القاهره, مصر. دار الانصار. ص9 23
الخراج ليحى بن اّذم, نقلا عن كتاب . دز محسن عبد المجيد, ص96 24
سورة البقرة: اّية 27525
سورة البقرة: اّية 188 26
سورة الاعراف: اّية 31 27
عماد الدين خليل (1979) “مقال فى العدل الاجتماعى” دار الرسالة. بيروت. الطبعة الاولى. ص 78 28
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: تحقیق العدالة الاجتماعیة من أجل تحقیق فی المجتمع رسول الله
إقرأ أيضاً:
وزيرة التضامن تطلق أعمال إعداد الإطار الوطني للحماية الاجتماعية: نحو نظام شامل ومستدام للفئات الأولى بالرعاية
افتتحت الدكتورة مايا مرسي، وزيرة التضامن الاجتماعي، فعاليات ورشة العمل التي نظمتها الوزارة لإطلاق أعمال إعداد الإطار الوطني للحماية الاجتماعية، بحضور ممثلين عن الوزارات والهيئات الشريكة، وعدد من الشركاء الدوليين والخبراء في مجالات الحماية الاجتماعية والتنمية.
وأعربت الوزيرة عن سعادتها بإطلاق هذا المسار الوطني المهم، الذي يمثل خطوة محورية في بناء إطار متكامل يعكس جهود الدولة المصرية ورؤية الخبراء في استشراف مستقبل الحماية الاجتماعية، بما يخدم أهداف التنمية المستدامة ورؤية مصر 2030.
تنسيق وتكامل لبناء إطار يعكس واقع الدولة ورؤيتها المستقبلية
وأكدت الوزيرة أن الورشة تأتي في سياق تنسيقي جامع بين الجهات والوزارات المعنية، بهدف بلورة إطار عملي يعكس الاحتياجات الواقعية ويستفيد من الخبرات المتراكمة محليًا ودوليًا. وأضافت: "الدولة المصرية تملك رصيدًا ضخمًا من الخبرات في ملف الحماية الاجتماعية على المستويين العربي والدولي، ويجب استثماره في هذه المرحلة المهمة".
وشددت الوزيرة على أهمية تعزيز البحوث والدراسات العليا المتخصصة في الحماية الاجتماعية، والعمل على إعداد كوادر وطنية تقود هذا الملف في المستقبل، مع الاستفادة من التجارب الدولية الناجحة والدروس المستفادة.
الحماية الاجتماعية على رأس أولويات الدولة
قالت الدكتورة مايا مرسي إن الحكومة تضع الحماية الاجتماعية على رأس استراتيجياتها، إدراكًا لأهميتها كركيزة أساسية لتحقيق العدالة الاجتماعية وحماية الفئات الأكثر احتياجًا، وضمان مستقبل آمن ومستقر لجميع المواطنين، متمنية النجاح لأعمال الورشة والخروج بتوصيات نوعية.
رأفت شفيق: نتجه للتخارج من الفقر متعدد الأبعاد
من جانبه، أكد الدكتور رأفت شفيق، مساعد وزيرة التضامن للحماية الاجتماعية وشبكات الأمان الاجتماعي والتمكين الاقتصادي، أن الدولة المصرية تستهدف من خلال منظومة الحماية الاجتماعية الوصول إلى تحقيق الأمان الشامل للفئات الأولى بالرعاية، مع العمل على تحقيق التخارج من الفقر متعدد الأبعاد.
وأشار إلى الجهود الكبيرة التي تبذلها وزارة التضامن الاجتماعي بالتنسيق مع مختلف أجهزة الدولة لتقديم الدعم والرعاية والتمكين الاقتصادي للأسر المستحقة، موضحًا أن إعداد الإطار الوطني يتم في إطار تشاركي يضمن تكامل الرؤى والخبرات.
دينا الصيرفي: "تكافل وكرامة" أصبح حقًا قانونيًا
بدورها، أوضحت الأستاذة دينا الصيرفي، مساعد وزيرة التضامن للتعاون الدولي والعلاقات والاتفاقات الدولية، أن الوزارة تعمل على إعداد هذا الإطار في ضوء رؤية شاملة تعزز الحماية الاجتماعية المتكاملة، مع الأخذ في الاعتبار أحدث الممارسات الدولية.
وأكدت أن ما أنفقته الدولة على برامج الحماية الاجتماعية خلال السنوات العشر الماضية يفوق أضعاف ما تم إنفاقه منذ خمسينيات القرن الماضي، مشيرة إلى أن برنامج "تكافل وكرامة"، الذي انطلق قبل 10 سنوات، يستفيد منه حاليًا 4.7 مليون أسرة.
وأضافت: "شهد البرنامج تطورًا كبيرًا في قاعدة البيانات وأدوات الاستهداف، كما أصبح حقًا قانونيًا بعد صدور قانون الضمان الاجتماعي وتصديق السيد رئيس الجمهورية عليه، ما يعزز استدامته ومأسسة دعمه للفئات المستحقة".
الأمم المتحدة تشيد بدور مصر في الحماية الاجتماعية
من جهتها، أعربت السيدة إيلينا بانوفا، المنسقة المقيمة للأمم المتحدة في مصر، عن تقديرها لإطلاق هذا المسار الوطني، مؤكدة أن الورشة تمثل انطلاقة لعدد من الفعاليات التي تستهدف وضع إطار شامل للحماية الاجتماعية في مصر.
وأشارت إلى أن هذه المبادرة تؤسس لشراكات واستراتيجيات متكاملة، وتسهم في تحديد أولويات العمل خلال المرحلة المقبلة، مشيدة بالجهود التي تبذلها الحكومة المصرية ووزارة التضامن تحديدًا في هذا الملف، ومعتبرة أن الحماية الاجتماعية مسؤولية تشاركية تظهر أهميتها في أوقات الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، لا سيما على المستوى الدولي.
رؤية دولية ومخرجات عملية
وشهدت أعمال الورشة استعراض عدد من الرؤى الدولية والممارسات الناجحة في مجال الحماية الاجتماعية الشاملة، بالإضافة إلى مناقشة أولويات النظام المصري، والتحديات التي تواجهه، والركائز الأساسية التي ينبغي أن يقوم عليها الإطار الوطني للحماية الاجتماعية (NSPF)، بما يحقق مستقبلًا أكثر ازدهارًا واستقرارًا.
حضور رفيع المستوى
شارك في فعاليات الورشة كل من الدكتور رأفت شفيق، مساعد وزيرة التضامن للحماية الاجتماعية، والأستاذة دينا الصيرفي، مساعد الوزيرة للتعاون الدولي، والسيدة إيلينا بانوفا، المنسقة المقيمة للأمم المتحدة في مصر، وعدد من ممثلي الوزارات الشريكة، والخبراء المحليين والدوليين، وشركاء التنمية.
1000453095 1000453094 1000453093 1000453092 1000453091