منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، لم يدَعْ رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو محاولةً للتوصل إلى صفقة لوقف إطلاق النار في غزة إلا وأفسدها. وقد زاد مؤخرًا من حدة التصعيد ضد المدنيين النازحين؛ سعيًا لدفع حركة حماس إلى الانسحاب من مائدة التفاوض، فيُخلي بذلك مسؤوليته عن الإفشال المتعمّد، إلا أن حماس نجحت في إحباط مخططه، ووضع الكرة دائمًا في ملعبه.
سعْي نتنياهو إلى إفشال خطط وقف إطلاق النار متوقع؛ إذ يعلم أن اليوم التالي للصفقة سيكون نهاية حياته السياسيّة، وبداية رحلته إلى السجن. وقد منعه خوفه من هذا المصير من التجاوب مع عروض المعارضة الإسرائيلية التي اقترحت توفير شبكة أمان له في الكنيست في حال مرّر الصفقة رغمًا عن حلفائه.
أجواء الأسابيع الأخيرة كانت تدفع إلى بعض التفاؤل، فضغوط إدارة جو بايدن عليه تزايدت، وكأنما كانت تقوم بمحاولة أخيرة لإنجاح اقتراح الرئيس الأميركي الذي أعلنه قبل أسابيع. كما عملت الإدارة الأميركية على إحاطة أجواء التفاوض بتصريحات إيجابية. وأبدت حركة حماس مرونة أكبر لتحقيق وقف إطلاق النار، وبقيت الكرة في ملعب الحكومة الإسرائيليّة.
أما على المستوى الداخلي الإسرائيلي، فكانت هناك محاولة لعزل نتنياهو باعتباره حجر العثرة الوحيد أمام صفقة معقولة ومقبولة، وأظهرت المؤسّسات الأمنيّة والعسكرية الإسرائيلية جرأة أكبر في دعم الصفقة والضغط على نتنياهو، الأمر الذي زاد من عزلته.
الشهور الماضية شهدت العديد من التغيرات إلا في موقف نتنياهو، فقد راوحت الولايات المتحدة بين دعمه المطلق، وبين بذل جهد محدود للضغط عليه، لكنها لم تفلح في جرّه إلى توقيع صفقة. وانسحب الوزيران بيني غانتس، وغادي آيزنكوت من مجلس الحرب، وزادت ضغط عوائل الأسرى عليه، وتكررت زيارات وزير الدفاع يوآف غالانت إلى الولايات المتحدة؛ دعمًا للصفقة، كما تصاعد اختلافه مع نتنياهو في عدة ملفات، منها ملف مشروع قانون تجنيد الحريديم.
ومع تزايد تلك الخلافات بين نتنياهو وغالانت، راهن البعض على حدوث تصدّع في حزب الليكود الذي ينتمي له الرجلان. وحظي غالانت بدعم أطراف من المعارضة، لكن ثبت حتى الآن أنه ليس قويًا بما فيه الكفاية لمواجهة نتنياهو.
وقف نتنياهو صامدًا في وجه كل ما سبق، فلا هو رضخ لضغوط إدارة بايدن، ولا اهتزّ لخروج حلفاء الأمس؛ غانتس، وآيزنكوت من حكومته، ولا تأثر بالمظاهرات المتواصلة لعوائل الأسرى، واستطاع أيضًا إدارة الخلافات بين حلفائه بشكل يمنعها من التوسع. أي أنه بقي قادرًا على إدارة المشهد متحكمًا في عناصره، والظهور في صورة صاحب القرار الأخير الذي تنفرج العُقد بكلمة منه، وتتحطم الجهود على صخرة لاءاته المتكررة، وهي صورة لطالما كان من أهدافه الشخصية أن يحافظ عليها.
والحقيقة، ما كان يجب أن ينشغل أحدٌ بسؤال: هل سينجح نتنياهو أم يفشل في الوصول إلى صفقة؟ فليس في عقل الرجل خياران، ولذلك فالسؤال الصحيح في حالته هو: ما الذي سيفعله نتنياهو هذه المرّة ليعطل الصفقة؟ وإلى متى سيعطلها؟
الوقت عامل مهم في حسابات نتنياهو، وساعته مضبوطة على توقيت الانتخابات الأميركية، فهو يدرك أن التوصّل إلى صفقة في ظلّ إدارة ديمقراطية في الولايات المتحدة قد يؤدي إلى الإطاحة به، عبر تهيئة الساحة الداخلية الإسرائيلية لصالح شخصية تزيحه. لذا يعوّل على تضييع الوقت لحين وصول المرشح الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ومن المرجّح أن يحمل خطابه المجدول أمام الكونغرس الأميركي الكثير من رسائل الدعم للجمهوريين.
يدرك نتنياهو أنّ إدارة بايدن ليست في هذا التوقيت أكثر من نمر من ورق، وأنها تعيش مأزِقًا حقيقيًا. فمن ناحية، هي لا تستطيع التوقف عن مدّ الاحتلال الإسرائيلي باحتياجاته العسكرية لأسباب إستراتيجية. ومن ناحية أخرى، تريد التخلص من التبعات الأخلاقية والقانونية لدعمه في هذه الحرب التي خلقت لها أزمة داخلية تؤثر على حظوظها في الانتخابات المقبلة، لكنها لا تجد صيغة ناجحة للجمع بين هذه الأضداد.
داخليًا، يحظى نتنياهو حتى الآن بتكتل ائتلافي صلب وداعم، وهو يحافظ على تماسك هذا الائتلاف المشكل من أحزاب اليمين المتطرف عبر مغازلتهم بتأكيد التصلب في مواقفه. ومع أن استمرار تماسك هذا الائتلاف لفترة طويلة هو أمر مشكوك فيه، فإن أطرافه لا يبدو أنهم يملكون بديلًا آخر. فنتنياهو لا حليف له إلا هؤلاء، وهؤلاء – الذين يبتزونه أحيانًا – لا يستطيعون العمل مع غيره إذا ما سقط. ومن التقاء هذه المصالح يستمد نتنياهو قوته الداخلية التي ساعدته ليصمد حتى الآن أمام التحديات الداخلية والخارجية.
بدء الإجازة السنوية للكنيست – التي تستمر 3 أشهر ابتداء من 28 يوليو/تموز الجاري- تمثل هي الأخرى فرصة لنتنياهو، البعض يتوقعون أن يغتنمها ليقيل غالانت من منصب وزير الدفاع فيتخلص مما يسببه له من متاعب، أما حليفه أفيغدور ليبرمان فيخشى أن يلجأ نتنياهو إلى حل الكنيست خلال فترة إجازته، ولذلك فقد دعا نواب حزبه؛ "إسرائيل بيتنا" إلى إلغاء إجازة الكنيست.
هذه التكهنات تكشف إلى أي مدى يبدو نتنياهو مستعدًا لفعل أي شيء في مقابل البقاء في مقعده، وتقليل الضغوط عليه، لا يفرق في ذلك بين خصوم وحلفاء، ومهما كان لخطواته من تداعيات ضارة لدولة الاحتلال ذاتها. وكلما واصل تنياهو تعنته، زاد التآكل في بنية الدولة والمجتمع، وأصبح الموقف الإسرائيلي أضعف.
لماذا لا ينسحب نتنياهو إذن من المفاوضات، ما دام لا ينوي التوصل لاتفاق؟
يدرك نتنياهو أن استمرار المفاوضات يوفر الحد الأدنى لإدارة بايدن التي تملأ الدنيا بتصريحات حول رعايتها جهودَ التوصل لوقف إطلاق النار. وهو يوفر لها هذا الحد الأدنى، ويحرص على استمرار المفاوضات؛ لينتزع المزيد من التنازلات، لكنه في النهاية لا يريد التوصل لاتفاق إلا إذا تزامن مع ظروف تضمن استمراره.
لحظة موافقة نتنياهو على صفقة ستأتي عندما يقتنع أن أوراق بقائه في السلطة تتفوق على أوراق خصومه الذين يريدون نزعها منه، ولن يمتلك هذه الأوراق إلا في حالة من اثنتين:
فإما أن يحقق جنوده المنتشرون في غزة إنجازًا يستحق الذكر فيستخدمه للحصول على تنازل كبير في المفاوضات، وهو ما لم يحدث حتى الآن. وإما أن يصل الجمهوريون إلى الحكم في الولايات المتحدة، فيهيئون له ظروف البقاء، وهذه الحالة الثانية لا يملك ضمانات جدية بشأنها، فلا يوجد ما يلزم تلك الإدارة على الوقوف معه قلبًا وقالبًا في حرب لا يتحقق منها إلا الخسارة، كما أنّها حال فوزها في الانتخابات قد تواجه هي الأخرى تركة داخلية ثقيلة في مجتمع يتزايد فيه الانقسام والاضطرابات، وهي إذ تتبنّى شعارًا يضع "أميركا أولًا"، قد ترى في الموقف الحالي لدولة الاحتلال وقائدها عبئًا لا ذخرًا.قد ينجح نتنياهو في كسب بعض الوقت على المستوى الشخصي، لكن التآكل في مؤسسات ومكونات دولة الاحتلال يتزايد منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول بدءًا من الجيش ووصولًا إلى المعسكر المتشدّد، وهو مناخ يهيئ الفرص لوقوع حالة غير متوقعة تدفع نتنياهو مرغمًا إلى الاتفاق، فسياسة حافة الهاوية التي أجاد لعبها سابقًا في الساحتين الداخلية والخارجية قد لا تنجح معه مستقبلًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الولایات المتحدة إطلاق النار حتى الآن
إقرأ أيضاً:
اللكمة التي أشعلت حرب ترامب على الجامعات الأميركية
في تقرير مطول، أفادت صحيفة "وول ستريت جورنال" بأن التهديدات التي يطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومعاونوه بحجب مليارات الدولارات من أموال الحكومة الفدرالية عن الجامعات لم تكن وليدة اللحظة، بل تعود إلى ولايته الأولى.
وقالت إن إدارة ترامب تلاحق الجامعات التي يُزعم أنها ظلت تتسامح مع تنامي ظاهرة معاداة السامية في أروقتها، وتتوعد جامعة هارفارد وغيرها من الجامعات الأميركية المرموقة بحرمانها من التمويل الفدرالي للأبحاث التي تجريها.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2غارديان: أكاذيب وسائل التواصل الاجتماعي غذت اندفاع الهند وباكستان نحو الحربlist 2 of 2برلماني سابق: هؤلاء هم "الإخوان" الحقيقيون في فرنساend of listوقد اتهم البيت الأبيض الجامعات بالفشل في حماية الطلاب اليهود خلال الاحتجاجات في الحرم الجامعي ضد إسرائيل بسبب حربها على قطاع غزة التي بدأت في عام 2023.
ومع ذلك، فإن الصحيفة تشير إلى أن فكرة استهداف جامعات وكليات النخبة بحجب التمويل عنها برزت قبل سنوات، مضيفة أن العديد من المحافظين لطالما كانوا يبحثون في طرق لمكافحة ما يعتبرونها عللا ليبرالية معادية للغرب في مؤسسات التعليم العالي الأميركي، حتى إن البعض منهم الذين يحتلون مواقع في إدارة ترامب الحالية يضغطون من أجل إحداث تغيير.
ونقلت وول ستريت جورنال في تقريرها عن مسؤولين في الإدارة أن هاجس ترامب بما يدور في الجامعات بدأ منذ عام 2018، وأصبح الآن منشغلا بحملة البيت الأبيض -التي يقودها ستيفن ميلر كبير مستشاريه للسياسة الداخلية- للتأثير على الجامعات الأميركية، وخاصة هارفارد.
إعلانوقد رفعت جامعة هارفارد دعوى قضائية ضد قرار إدارة ترامب منعها من قبول الطلاب الأجانب.
ويتهم كبار الموالين لترامب الجامعات بأنها غارقة في الأفكار التقدمية لدرجة أن التغييرات التدريجية الصغيرة لن تكون كافية، وأن على الحكومة الفدرالية فرض تحول ثقافي كبير.
كبار الموالين لترامب يتهمون الجامعات بأنها غارقة في الأفكار التقدمية لدرجة أن التغييرات التدريجية الصغيرة لن تكون كافية، وأن على الحكومة الفدرالية فرض تحول ثقافي كبير.
لكن الصحيفة تقول إن الحاجة إلى ثقافة جديدة في الجامعات كانت فكرة لم تجد صدى، حتى أثارت لكمة في الوجه انتباه ترامب. ففي فبراير/شباط 2019، أقام ناشط محافظ يدعى هايدن وليامز منبرا في جامعة كاليفورنيا في مدينة بيركلي، لإقناع الطلاب بالانضمام إلى مجموعة "تيرنينغ بوينت أميركا" التي أسسها ناشط محافظ آخر اسمه تشارلي كيرك.
وانتشر مقطع فيديو يظهر رجلا مجهول الهوية يسخر من وليامز -أثناء نقاش حاد- قبل أن يوجِّه إليه لكمة قوية. وظهر بعدها وليامز على قناة فوكس نيوز بعين سوداء. ولم يكن المهاجم، الذي أُلقي القبض عليه لاحقا، ولا وليامز نفسه يدرسون في الجامعة.
وأشار تشارلي كيرك إلى أنه قال لترامب إن هذه الحادثة فرصة عليه أن يغتنمها للدفاع عن الطلاب المحافظين، وأنهما تحدثا عن حجب التمويل الفدرالي عن المؤسسات التعليمية التي تنتهك حرية التعبير. وكشفت وول ستريت في تقريرها أن دونالد ترامب الابن نسب الفضل إلى كيرك في دفع هذه الإستراتيجية.
وبعد حوالي أسبوعين من الواقعة، صرح ترامب بأنه يعتزم التوقيع على أمر تنفيذي يلزم الكليات والجامعات بدعم حرية التعبير إذا ما أرادت الحصول على أموال البحوث من الحكومة الاتحادية.
وبعد مدة وجيزة، وقّع ترامب على الأمر التنفيذي، إلا أنه تم تعطيله من قبل المعارضين الذين كان من بينهم جمهوريون في الكونغرس وبعض مسؤولي البيت الأبيض.
إدارة ترامب في الولاية الرئاسية الأولى الأساس القانوني للمعركة الحالية التي تدور رحاها بينها وبين الجامعات الأميركية.
ورغم ذلك، وضعت إدارة ترامب في الولاية الرئاسية الأولى الأساس القانوني للمعركة الحالية التي تدور رحاها بينها وبين الجامعات الأميركية.
إعلانوخلال السنوات الأربع التي تفصل بين ولايتي ترامب الأولى والثانية، بدأ بعض مسؤولي إدارته السابقة في التخطيط لكبح جماح مؤسسات التعليم العالي مرة أخرى.
وقد وضع صانعو سياسات التعليم العالي المحافظون خريطة لكيفية استخدام السلطة التنفيذية، متوقعين، في ذلك الحين، أن الجمهوريين قد لا يملكون 60 صوتا اللازمة للتغلب على تعطيل مجلس الشيوخ.
ووفق تقرير الصحفية، فقد شكلت المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين -التي عمّت الجامعات في الولايات المتحدة في أعقاب هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على جنوب إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، والحرب اللاحقة في غزة- دافعا مفاجئا للإدارة الأميركية لتنفيذ تهديداتها.
ففي جلسة استماع في الكونغرس في ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام استجوب أعضاء مجلس النواب رؤساء 3 جامعات كبرى حول تقارير معاداة السامية.
واغتنمت مراكز الدراسات المحافظة، التي تعج بأنصار ترامب، هذه الفرصة للدفع بأجندتها. ففي يناير/كانون الثاني 2024، عقدت مؤسسة "هيريتيدج" فعالية لإطلاق فرقة عمل وطنية لمكافحة معاداة السامية. وانضم عدد من مسؤولي ترامب في ولايته الأولى، بمن فيهم ديفيد فريدمان، السفير السابق لدى إسرائيل.
وكان أن تشجّع فريق ترامب بفوزه بانتخابات الرئاسة 2024 وحصوله على دعم كافة الشرائح الديمغرافية تقريبا. وعقب تنصيبه بأسبوعين، أعلنت وزارة العدل عن تشكيل فرقة عمل جديدة لمكافحة معاداة السامية، وأصدرت في وقت لاحق قائمة بـ10 جامعات مستهدفة شملت جامعات هارفارد وكولومبيا وديوك ونيويورك، بالإضافة إلى جامعة بنسلفانيا وجامعة كاليفورنيا في إيرفين.
غير أن استطلاعات الرأي الأخيرة، من بينها واحد أجرته صحيفة وول ستريت جورنال، أظهرت أن الأميركيين يعارضون بأغلبية ساحقة قطع تمويل الجامعات للأبحاث الطبية.
إعلانكما أعربت مؤسسة الحقوق الفردية والتعبير في فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا -وهي من أبرز منتقدي الجامعات التي تزعم أنها تقمع وجهات النظر المحافظة- عن معارضتها لتكتيكات ترامب، بما في ذلك التهديد بقطع تمويل الأبحاث في جامعة هارفارد.