كل ما تريد معرفته عن اليوم العربي للثقافة
تاريخ النشر: 24th, July 2024 GMT
في الخامس والعشرين من يوليو كل عام يحتفي العالم العربي باليوم العربي للثقافة وذلك من أجل التأكيد على أهمية الثقافة ودورها المحوري في توحيد الجهود العربية.
ويرجع الاحتفال بهذا اليوم عندما أعلنت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم" الألكسو" عن هذا اليوم للتكاتف من أجل النهوض بالمجتمعات العربية وثقافتها، والتي تمثل الهوية الأساسية لاي شعب من الشعوب.
وتتكون الثقافة العربية من أمرين رئيسيين: اللغة العربية، والإسلام، ومن هنا يأتي إصرار بعضهم على تسميتها "الثقافة العربية الإسلامية"، فاللغة وعاء العلوم جميعاً، وأداة الإفهام والتعبير العلمي، والفني والعادي، ووسيلة التأثير في العقل والشعور بأدبها ونثرها وشعرها وحكمها وأمثالها وقصصها وأساطيرها، وسائر ألوانها وأدواتها الفنية.
كما تلعب الثقافة العربية دورًا كبيرًا في الوحدة والتكاتف من أجل النهوض بالمجتمعات العربية وبثقافتها، وهو ما يمكن أن تحققه الثقافة، إضافة إلى إشراك المجتمع المدني في النهوض بالثقافة، بصفته "معبِّرا عن الشعوب، حيث تعد الثقافة من أحد الأمور المهمة في حياة الأمم.
المصدر: بوابة الوفد
إقرأ أيضاً:
رسالة اللاغفران.. جحيم المثقف العربي وتكسير أصنام الثقافة
في زمن عربي يتسم بالسيولة الشديدة، حيث تنهار السرديات الكبرى وتتحول الأوطان إلى صناديق سوداء مغلقة على الجثث والأسئلة المعلقة، يأتي كتاب "رسالة اللاغفران: نقد ثقافي على تخوم مضطربة" للكاتب السوري حسام الدين محمد، والصادر حديثا (2025) عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ليشكل صرخة معرفية وجمالية في وجه النسيان و"الغفران" المجاني.
إنه ليس مجرد تجميع لمقالات ثقافية، بل هو حفر أركيولوجي في طبقات الوعي العربي المأزوم، ومحاولة لتفكيك المتاهة التي بدأت من "دار العلوم" (مطبعة والد المؤلف في دمشق) وانتهت في منافي اللجوء الباردة.
يتجاوز هذا الكتاب وظيفته كإصدار ثقافي ليصبح بيانا ضد التواطؤ، وضد "الأصنام" التي عبدتها النخبة العربية زمنا طويلا، سواء كانت أصناما سياسية (الاستبداد) أو ثقافية (أدونيس وغيره).
في هذه المقالة، سنحاول تفكيك بنية هذا الخطاب النقدي، وفحص أدواته، وتحديد موقعه ضمن خارطة النقد الثقافي المعاصر.
عتبات النص والحقل الثقافيلا يمكن العبور إلى متن الكتاب دون التوقف مليا عند عتبته الأولى وهو العنوان، حيث إن "رسالة اللاغفران" تحيلنا فورا وبشكل صادم إلى "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري.
لكن، إذا كان المعري قد صعد برحلة خيالية إلى العالم الآخر لمحاكمة الشعراء والأدباء في سياق لاهوتي/أدبي ينتهي بالغفران أو الجحيم، فإن حسام الدين محمد ينزع "الغفران" من العنوان، ليؤكد أننا أمام "محاكمة أرضية" لا تقبل الصفح عن الجرائم الثقافية والسياسية التي أودت بالمشرق العربي.
يقع الكتاب في منطقة التخوم المضطربة، وهي منطقة وسطى بين الصحافة الثقافية العميقة والنقد الأكاديمي، وبين السيرة الذاتية والهمّ العام. يبدأ الكاتب من "أسطرلاب المتاهة"، مستعيدا سيرة والده والمطبعة في دمشق، ليرسم خطا بيانيا لرحلة التيه العربي من "محطة الحجاز" التي كان مأمولا أن تكون مركز أعصاب دولة عربية موحدة، إلى شتات المنافي في لندن وغيرها.
إعلانيندرج الكتاب ضمن ما يمكن تسميته بـ"نقد النكبات المستمرة"، فالكاتب لا يكتب من برج عاجي، بل من قلب الزلزال الذي ضرب المنطقة، وتحديدا الزلزال السوري الذي كشف عورات المثقفين. لذا، فإن موقع الكتاب في الحقل الثقافي هو موقع "المنشق" لا موقع المؤسسة، إنه موقع الذي يرى في "المخاطرة جزءا من النجاة" كما يقتبس عن النفري صاحب "المواقف".
يقدم كتاب "رسالة اللاغفران" رحلة فكرية ونقدية تمزج بين السيرة الذاتية والتحليل السياسي والنقد الأدبي، ويحاول الكاتب تفكيك أزمات الواقع العربي الراهن، وعلى رأسه المأساة السورية، عبر تشريح البنى الثقافية والسياسية التي أنتجتها.
ويتوزع الكتاب على 4 فصول رئيسية تتناول القضايا التالية:
محاكمة المثقف والسلطة: يشن الكاتب نقدا لاذعا لما يسميه "أصنام" الثقافة العربية، وفي مقدمتهم الشاعر أدونيس، حيث يفكك خطابه المتعالي ومواقفه من الثورة السورية، معتبرا إياها نوعا من "الطائفية الثقافية". كما يعيد قراءة التراث العربي، مفاضلاً بين نموذج أبي العلاء المعري (العقل والشك) ونموذج المتنبي (شاعر القوة والسلطة)، ليرى كيف انحازت الثقافة العربية غالبا لنموذج السلطة. تشريح الاستبداد والأيديولوجيا: يخصص الكتاب مساحة واسعة لنقد تجربة "حزب البعث" في سوريا والعراق، ويتتبع كيف تحولت شعارات "الوحدة والحرية" إلى أدوات للقمع حوّلت الأوطان إلى "خراب". ويميز الكاتب لغويا وسياسيا بين مفهومي "الثورة" و"الانقلاب"، ويحلل كيف زوّرت الأنظمة العسكرية المعاني والمفاهيم. الأدب في مواجهة الطغيان: يستحضر الكاتب نماذج عالمية لفهم الواقع العربي، مثل جورج أورويل وروايته "1984" التي يراها الكاتب وثيقة تنطبق تماما على "سوريا الأسد". كما يسرد قصصا عن معاناة الأدباء مع الدكتاتورية، مثل الشاعر الروسي أوسيب ماندلستام مع ستالين، والروائي الألباني إسماعيل كاداريه. نقد الظواهر الثقافية: يتناول الكتاب مواضيع متنوعة تمتد من السينما (مارلون براندو وفيلم العراب) إلى الرواية العالمية (جيمس جويس، همنغواي). كما يناقش قضايا الهوية، والاستشراق (مع إشارة لإدوارد سعيد)، والعلاقة الملتبسة بين الشرق والغرب، ومفاهيم مثل "النوستالجيا" و"الحداثة المعطوبة". وثمة أيضا فصول مطولة يناقش فيها رموزا ثقافية عربية إضافة إلى ظواهر ثقافية شغلت المثقفين العرب طوال السنوات السابقة. سنجد المؤلف يناقش الماغوط وحيدر حيدر، والخلاف حول أهمية صالح علماني والجدل بشأن تأييده لدكتاتورية الأسد. تحليل بنية الخطاب النقدي: الموزاييك المفخخيعتمد حسام الدين محمد في بناء كتابه "رسالة اللاغفران" على بنية "الموزاييك" أو الفسيفساء المعقدة، حيث تتداخل المقاطع النقدية والتحليلية لتشكل لوحة واحدة متكاملة.
يتجسد هذا التصميم في تقسيمه للكتاب إلى 5 فصول كبرى تحمل عناوين ذات دلالات عميقة وتكثيف رمزي: "ديني/ دنيوي"، "بحر الظلمات"، "حدائق بابل"، و"شجرة الحبر، و"حوارات". هذه العناوين لا تمثل مجرد تقسيمات شكلية، بل تعمل كإطارات مفاهيمية يجمع فيها الكاتب شتات الظواهر والأفكار، محولا المتن إلى خريطة لـ "التيه المعرفي" العربي.
إعلانيتميز الخطاب النقدي في هذا العمل بـ3 محاور أساسية تمنحه تماسكه وقوته التفكيكية:
أولاً- يتمثل في الربط الجدلي بين اليومي والمعرفي. فالكاتب لا ينطلق من نظريات مجردة، بل يبدأ من حدث يومي أو واقعة سياسية ملموسة، كالحديث عن الثورة السورية أو حتى حدث ثقافي عالمي مثل فوز بوب ديلان بجائزة نوبل، ليصعد بهذا الحدث إلى مستوى التنظير الفلسفي والثقافي العميق، جاعلا من التجربة الحية مختبرًا للتحليل النقدي.
لا يقتصر طموح "رسالة اللاغفران" على محاكمة الثوابت الكبرى فحسب، بل يتغلغل النقد فيه إلى أدق تفاصيل الحياة والظواهر الثقافية الهامشية، ليكشف كيف يتجذر الاستبداد في اليومي
بواسطة حسين جلعاد
ثانيًا: يعتمد الكاتب على التفكيك الجيني للمفاهيم، فمحمد لا يقبل المفاهيم الثقافية والسياسية الجاهزة، بل يخضعها لعملية تشريح جذرية. فعندما يتناول اللغة العربية، على سبيل المثال، يفكك علاقتها بالسلطة والاستبداد ويشرح كيف تم توظيفها كأداة للإخضاع. وبالمثل، يحرص على التمييز جذريا بين مفهومي "الثورة" و"الانقلاب" على المستويين اللغوي والسياسي، مانعا التباس المعنى الذي كرّسته الأنظمة الشمولية.
ثالثًا: يتسم الخطاب بالمثاقفة النقدية الغنية والموظفة ببراعة، فالنص محتشد بالمرجعيات الفلسفية والأدبية الكبرى، من نيتشه وفوكو وأورويل وماركيز، إلى المعري والمتنبي والجابري وطرابيشي.
لكن استحضار هذه الأسماء ليس استعراضيا، بل وظيفيا بامتياز؛ إذ يستحضر نيتشه أساسا لنقد "الأصنام" الثقافية التي عبدتها النخبة، بينما يستدعي أورويل وروايته "1984" كأداة تشريحية لتفكيك آليات الاستبداد البعثي و"الرقابة الذاتية" التي يفرضها. هذه المثاقفة تمنح الخطاب النقدي عمقا فلسفيا وعالميا في الرؤية.
لا يقتصر طموح "رسالة اللاغفران" على محاكمة الثوابت الكبرى فحسب، بل يتغلغل النقد فيه إلى أدق تفاصيل الحياة والظواهر الثقافية الهامشية، ليكشف كيف يتجذر الاستبداد في اليومي. وفي سياق تحليل البنية تتحول النوستالجيا لمكان الماضي (دمشق، محطة الحجاز) إلى أداة لفهم التيه الحالي.
هذا التناقض بين الحلم والواقع المتردي هو ما يولّد الطاقة النقدية. كما أن الكاتب يستخدم سيرة مطبعة والده كـ"أركيولوجيا المطبعة"؛ أي حفر في تاريخ صناعة الوعي المأزوم ذاته، وكيف ارتبط إنتاج المعرفة بالسلطة ثم بالمنفى.
وينتقل الكاتب ببراعة من قضايا السياسة المعقدة إلى تحليل الظواهر الثقافية الصغيرة التي تحمل دلالات كبرى. ففي فصول مثل "برج بابل"، نجد انشغالا عميقا بقصص "القطط والنساء والمجتمع". هنا، لا تُرى هذه القصص كحكايات عابرة، بل كمرآة تعكس البنية الاجتماعية القمعية.
الكاتب يحلل كيف أن معاملة المجتمع للحيوان الأليف، أو وضعه للمرأة في حيز معين، تتطابق مع آليات النظام القمعي في التعامل مع الفرد والمواطن. هذا التكنيك يؤكد منهج الكتاب في ربط المايكرو بالماكرو، واليومي بالبنيوي.
لعل السؤال المركزي الذي يهيمن على الكتاب هو: كيف وصلنا إلى هنا؟ وكيف تحولت الأوطان إلى "صناديق سوداء"؟
للإجابة، يستخدم الكاتب منهجا يجمع بين النقد الثقافي (Cultural Criticism) وتاريخ الأفكار والتحليل المقارن.
ويتجلى المنهج المقارن بوضوح في تحليله لبنية الاستبداد الشمولي، حيث لا يكتفي الكاتب بتشريح نموذج البعث السوري، بل يقارنه بظواهر عالمية لتعميق الفهم. ويتطرق الكتاب بالتحليل المقارن إلى ظاهرة الزعيم الكاريزمي الشمولي، محللاً خطابات شخصيات مثل ماو تسي تونغ ومعمر القذافي في سياق نقد الحركات "الثورية" التي انتهت إلى قمع شامل.
ويرى أن هذه الزعامات، رغم اختلاف سياقاتها، تشترك في آليات "تأميم الحقيقة" وتلغيم اللغة، محولة الأيديولوجيا إلى دين سياسي جديد. ويقدم الكاتب نقدا جذريا للثنائيات التي شوهت المشهد العربي، وفي مقدمتها الثنائية الدينية/الدنيوية، وفق تعبير المؤلف.
إعلانويبرز هذا المنهج بوضوح في "قتل الأب" الثقافي والسياسي وانتقاد رموز ثقافية وسياسية بعينها، حيث يشن الكاتب هجوما نقديا كاسحا على أدونيس، لا بوصفه شاعرا فحسب، بل بوصفه "مؤسسة ثقافية" كرّست نوعا من "الثابت" الذي يدعي الحداثة بينما هو يمالي الاستبداد. ويرى حسام الدين محمد أن "الثابت والمتحول" عند أدونيس لم يكن سوى تنظير لإقصاء الآخر، وأن موقفه من الثورة السورية كشف عن "طائفية ثقافية" مضمرة.
كذلك، يعيد الكاتب قراءة التراث العربي قراءة ضدية. إنه ينتصر لـ"أبي العلاء المعري" (العقل والشك) ضد "المتنبي" (شاعر السلطة والقوة). ويرى أن الثقافة العربية رفعت المتنبي لأنه يمثل "الأنا المتضخمة" و"القوة"، وهمّشت المعري لأنه يمثل "النقد والعقل"، وهذا الانحياز التاريخي هو الذي أسس لثقافة الاستبداد لاحقًا.
ومن الأسئلة المركزية أيضًا سؤال "الهوية" و"اللغة"، حيث يناقش الكتاب كيف تحولت اللغة العربية إلى "لغة خشبية" على يد الأنظمة الشمولية، وكيف تم "تأميم" المعاني لصالح السلطة.
يحتل كتاب "رسالة اللاغفران" موقعًا سجاليًا لافتًا في المشهد الثقافي العربي الراهن، فهو ينتمي بوضوح إلى موجة الكتابات النقدية والمراجعات الجذرية التي تلت أحداث الربيع العربي. هذه الموجة تتميز بالجرأة في محاكمة الثوابت والخطابات التي هيمنت على الساحة لعقود طويلة
بواسطة حسين جلعاد
المشهد العربي والنقد الثقافي المعاصريحتل كتاب "رسالة اللاغفران" موقعا سجاليا لافتا في المشهد الثقافي العربي الراهن، فهو ينتمي بوضوح إلى موجة الكتابات النقدية والمراجعات الجذرية التي تلت أحداث الربيع العربي. هذه الموجة تتميز بالجرأة في محاكمة الثوابت والخطابات التي هيمنت على الساحة لعقود طويلة.
يتبنى الكتاب موقفا نقديا حادا موجها ضد "اليسار الثقافي" التقليدي الذي يسميه الكاتب بـ"اليسار الكافيار". ينتقد المؤلف أولئك المثقفين الذين برروا الطغيان والاستبداد باسم مفاهيم براقة مثل "المقاومة"، "العروبة"، أو حتى "العلمانية". إنه يسعى لتعرية الازدواجية الصارخة لدى المثقف الذي ينعم بحريات الغرب وديمقراطيته، لكنه في الوقت ذاته ينظر ويُنظّر للدكتاتورية والشمولية في الشرق، متجاهلا الآلام الحقيقية للشعوب.
على صعيد التنظير الفكري، لا يقف الكاتب مكتوف الأيدي أمام المشاريع النقدية الكبرى السابقة، بل يتجاوزها. ففي سياق نقد "نقد العقل العربي"، ورغم إبدائه التقدير لجهود مفكرين مثل الجابري وطرابيشي (الذي عمل معه حسام الدين في تنضيد الكتب)، فإن المؤلف يرى أن الجدل حول مفاهيم مثل "العقل المستقيل" و"العقل العربي" ظل أسيرا للأطر النظرية والفلسفية، ولم يلامس بما فيه الكفاية "الوحش" السياسي الفعلي والآني الذي ابتلع المجتمع، ما جعله نقدا يفتقر للارتباط المباشر بالديناميكيات القمعية للحكم.
أما في سياق الاشتباك مع "الاستشراق" و"ما بعد الاستشراق"، فيتناول الكاتب إدوارد سعيد لكنه يفتح آفاقا جديدة للنقد. لا يكتفي "رسالة اللاغفران" بـ"الاستشراق" الكلاسيكي، بل ينتقل بذكاء إلى نقد ظاهرة "الاستشراق الذاتي" (Self-Orientalism). يوضح الكاتب كيف أن الأنظمة العربية المستبدة تمارس شكلاً من أشكال الاستعمار والتعالي ضد شعوبها، حيث ينظر الحاكم إلى مجتمعه نظرة "مستعمِر" متعالية، وكأن الشعوب هي الأخرى بحاجة إلى "تهذيب" و"إصلاح" قسري، في عملية داخلية تحاكي آليات الخطاب الاستعماري القديم.
يتميز أسلوب حسام الدين محمد في كتاب "رسالة اللاغفران" بالسهل الممتنع، وهو أسلوب نادرا ما يتوافر في الكتابات النقدية العربية المعاصرة. هذا التميز يعود جزئيا إلى تأثره بـ"المدرسة الصحفية الأنجلو-ساكسونية"، حيث عمل الكاتب طويلاً في لندن. لغته ليست خشبية أو أكاديمية جافة وموغلة في التنظير، بل هي لغة سردية (Narrative) قادرة على جذب القارئ العادي دون التضحية بالعمق الفكري. النص مشبع بالصور والمجازات التي تخدم التحليل وتجعله أكثر حيوية.
ويعتمد الكاتب على المجازات الكبرى كأساس لتكثيف المعنى، فيستخدم استعارات قوية مثل وصف سوريا بـ"الصندوق الأسود"، وهو مجاز يعكس الانغلاق والغموض الذي يلف الأحداث المأساوية والحقائق المطمورة. كما أن العنوان ذاته، "رسالة اللاغفران"، هو مجاز مركزي يدل على استحالة المصالحة مع الماضي أو الصفح عنه دون محاسبة جذرية وشفافة.
إعلانأما على صعيد المرجعيات، فيتكئ الكتاب على خلفية موسوعية واسعة، إذ لا يكتفي الكاتب بمراجع عربية، بل يزاوج بينها وبين فضاء المعرفة العالمية. نجده يناقش روايات مثل "1984" و"مزرعة الحيوان" لجورج أورويل، مستخدما إياها كعدسات تحليلية لفهم آليات الدعاية البعثية وتزييف الوعي.
كما يقرأ رواية "غاتسبي العظيم" لفهم تحولات الحلم الأميركي مقارنة بالواقع العربي. ويعود الكاتب بانتظام إلى التراث العربي الرصين، مستحضرا أبي العلاء المعري وابن خلدون، لفهم جذور الاستبداد وتشريح تاريخ الأفكار والسلطة في المنطقة.
أخيرا، يسيطر على النص بعد فلسفي يتسم بـ"العدمية الشفافة" (Nihilistic). لكنها ليست عدمية اليأس السلبي التي تدعو إلى الاستسلام، بل هي عدمية "كشف الأوهام". إن الكاتب يسعى إلى تفكيك "الأسطرة" و"الأدلجة" التي أحاطت بالعديد من المفاهيم العربية، إذ يفكك "أسطورة المقاومة" التي بررت الطغيان، و"أسطورة الحداثة المشوهة" التي لم تثمر إلا استبدادا، و"أسطورة المثقف النبي" الذي يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، مؤسسا لوعي يقوم على التطهير من الأوهام.
تتسع موسوعية الكتاب لتشمل النقد الجمالي وتحليل وسائل الإعلام، بعيدا عن كونه مجرد نص سياسي. في فصول مثل "بحر الظلمات"، يولي الكاتب اهتماما خاصا للسينما ونقد الصورة. ففي قراءته لأفلام مثل "العراب" (The Godfather)، لا يراها مجرد دراما عن المافيا، بل يفككها كنموذج لآليات توارث السلطة الأبوية والاستبداد في الأنظمة الشرقية، حيث يتم تبرير العنف باسم الحفاظ على "العائلة" أو "الوطن". هذه القراءة تحول النص السينمائي إلى أداة لفهم النظم الأبوية الاستبدادية.
كما يتناول الكتاب بعمق "بؤس الترجمة وأزمة المثاقفة"، إذ يرى أن عملية الترجمة لم تكن عملية نقل بريئة، بل كانت عملية "خيانة" ضرورية أو مشوهة في كثير من الأحيان، أدت إلى استيراد الحداثة بشكل معطوب.
هذه الترجمات المشوهة للأعمال الغربية ساهمت في فهم سطحي أو مضلل لمفاهيم التنوير والديمقراطية، ما أسس بدوره لنموذج الحداثة الاستبدادية. إن هذا الاهتمام بالنقد الجمالي ووسائل نقل المعرفة يؤكد أن الكتاب يقدم نقدا ثقافيا شاملا لا يقف عند حدود الأدب أو السياسة.
تكمن القيمة المعرفية الكبرى لكتاب "رسالة اللاغفران" في تحويله البوصلة النقدية ضمن سياق "نقد ما بعد الكولونيالية" (Post-Colonial Criticism). فبدلاً من الاستمرار في مرحلة "لوم المستعمر" الخارجي، ينتقل الكتاب بجرأة ووعي إلى مرحلة "نقد الاستعمار الداخلي" أو "الاستبداد المحلي".
بواسطة حسين جلعاد
القيمة المعرفية ونقد ما بعد الكولونياليةتكمن القيمة المعرفية الكبرى لكتاب "رسالة اللاغفران" في تحويله البوصلة النقدية ضمن سياق "نقد ما بعد الكولونيالية" (Post-Colonial Criticism). فبدلاً من الاستمرار في مرحلة "لوم المستعمر" الخارجي، ينتقل الكتاب بجرأة ووعي إلى مرحلة "نقد الاستعمار الداخلي" أو "الاستبداد المحلي".
إذا كان الجيل السابق من النقاد، وعلى رأسهم إدوارد سعيد، قد ركّز على تفكيك المركزية الغربية وخطابها الاستشراقي تجاه الشرق، فإن حسام الدين محمد يركز ثقل تحليله على تفكيك "المركزية الاستبدادية المحلية".
إنه يرى بوضوح أن الأنظمة القومية، مثل "البعث" ومثيلاتها، لم تكن سوى محاكاة وإعادة إنتاج للفاشية الأوروبية وأدواتها القمعية، لكن هذه المرة بلسان عربي وبأدوات محلية، ما يجعلها شكلاً أشد فتكًا من القمع لأنه يرتدي قناع "الوطنية" و"التحرر".
يقدم الكتاب مساهمة جادة ومهمة في النقد الثقافي الحديث من خلال زاويتين أساسيتين:
أولاً- إعادة الاعتبار للثقافة الشعبية والهامشية، فلا يكتفي الكاتب بمناقشة النصوص والمفاهيم الكبرى والنخبوية، بل يتسع نقده ليشمل الظواهر الشعبية اليومية.
فالكاتب يولي اهتمامًا لتحليل الأغاني، والسينما، وحتى قصص القطط وعلاقتها بالنساء كجزء من بنية اجتماعية ثقافية تستحق القراءة النقدية. هذا التوجه يسحب النقد من برجه العاجي ويدخله في نسيج الحياة اليومية، كاشفا كيف يتغلغل الاستبداد في التفاصيل الصغيرة.
ثانيا- رفض الفصل التعسفي بين نقد المؤسسة الدينية والسياسية، إذ يرفض الكاتب الفصل الأكاديمي التقليدي بين "نقد الدين" و"نقد السياسة"، مؤكدًا تداخلهما العضوي في سياق المنطقة.
ويسلط الضوء على كيف أن "المقدس" يمتزج بـ"المدنس" في خدمة الطغيان، وكيف يتم توظيف الخطاب الديني أو الأيديولوجي القومي لتكريس السلطة القمعية، ما يتطلب مقاربة نقدية شمولية لا تجزّئ ظاهرة الاستبداد الثقافي.
في الختام، يمثل كتاب "رسالة اللاغفران" وثيقة إدانة بامتياز. إنه جردة حساب قاسية لجيل كامل من المثقفين والحالمين والمنكسرين. يفتح الكتاب أفقا للتلقي لا يعتمد على "التطهير" (Catharsis) الأرسطي، بل على الصدمة المعرفية.
إن رسالة حسام الدين محمد واضحة وفحواها أنه لا غفران لمن زيّف الوعي، ولا غفران لمن حوّل الأوطان إلى مسالخ، ولا غفران للمثقف الذي خان وظيفته النقدية ليصبح "بوقا" للسلطة.
إن هذا الكتاب، بتعدد زواياه وعمق تحليلاته، يضع القارئ أمام مرآة مكسورة للواقع العربي، وهي مرآة لا تجمّل القبح، بل تعكسه بوضوح مؤلم، لعل في هذا الألم تكمن بداية الشفاء.
إنه كتاب يؤكد أن "الكتابة في المنفى" قد تكون هي الكتابة الوحيدة الممكنة لقول الحقيقة في زمن "الخرس العام". وكما بدأ الكاتب بالحديث عن "أسطرلاب المتاهة"، فإنه يتركنا في النهاية وقد امتلكنا بعض أدوات القياس، لا للخروج من المتاهة فورا، بل لنفهم -على الأقل- هندستها المرعبة.
باختصار، الكتاب يرفض "الغفران" المجاني للجرائم السياسية والثقافية، ويسعى لتقديم قراءة مغايرة لتاريخ المنطقة الحديث من وجهة نظر الضحايا والمنفيين.