مغالطة جون قرنق الكبري وتجلياتها في الحاضر السياسي:
????في الذكري التاسعة عشر لإغتياله نتذكر أن الشهيد قرنق أسس حركته الشعبية ببرنامج إشتركي وكانت الدول ذات التوجه الشيوعي هي نواة تحالفاته الخارجية – إثيوبيا منقستو بالذات ورعاتها من الكتلة السوفيتية.

????ولكن بعد سقوط الكتلة السوفيتية وإنهيار نظام منغستو أعاد قرنق تموقعه السياسي والأيديلوجى واسقط الاشتراكية السودانية من خطاب الحركة واستبدله بخطاب هوية مسموم، مدمر، مفرق ومصاب بعمي الطبقة و ذاهل عن العدالة الأقتصادية من يومه الأول.

????وبرزت في أوساط الحركة شخصيات صديقة للغرب مثل منصور خالد وغيره. ودغدغ خطاب الهوية الذي يشابه خطاب الإسلام هو الحل – في نسخته التبسيطية – هوي ألاف الشباب الذين وجدوا في الخطاب مفتاحا سحريا يجعلهم بين يوم وليلة من أصحاب الثقافة الرفيعة التي تتيح لهم تشخيص كل مشاكل السودان وصرف الوصفات العلاجية عن طريق قلوظة خطاب الهوية بما يناسب كل سؤال – فعلي سبيل المثال مشكلة التعليم في السودان هو فشل الدولة في الأعتراف بكل الهويات وعدم رغبتها في توفير تعليم ومنهج وكتب لكل طالب بلغته الأصلية – علما بانه قبل إنفصال الجنوب كان في السودان أكثر من مئة وخمسين قبيلة تتعدد اللهجات داخلها ومعظم هذه اللغات غير مكتوب. ولا دخل لفشل التنمية الأقتصادية بمشاكل التعليم.

????الدكتور قرنق كان إنسانا واسع الثقافة والمعارف وملك من إمكانات القيادة ما لم يملكه سوداني قبله ربما منذ أيام المهدي. لذا لا أعتقد أن جوهره كان قد تغير بعذ سقوط الكتلة السوفيتية ولكنه قرر أن يختار البراغماتية وان يستعمل المعسكر الغربي – بعد سقوط المعسكر الشرقي – لتحقيق أحلامه السياسية التي كان جلها نبيل أو علي الأقل معقول لا يصعب الأتفاق معه.

????وهكذا متنت الحركة الشعبية علاقاتها بدول الغرب المهتمة بافريقيا بما في ذلك المهتمة بالإنسانيات ولعبت الكنائس الغربية دورا كبيرا في دعم الحركة الشعبية والترويج لها، بما في ذلك تشويه سمعة السودان بفبركة أخبار عن ممارسة السودانيين الشماليين الرق في الخرطوم بل وفي داخل بيوت الدبلوماسيين السودانيين في أعتى العواصم الغربية.

????ولا أعتقد أن جون قرنق لم يكن يعي عيوب تحالفه الخارجي ولكنه قرر إستخدام خارج مشكوك في نواياه لخدمة أهداف قرنيقية نبيلة كما أعتقد. وبالغت الحركة الشعبية من التبرج للخارج حين عرضت علي المملكة السعودية وأمريكا مدهما بخمسئة جندي للمشاركة في تحرير الكويت من غزوة صدام والتي تحولت بعذ ذلك إلي الغزو الأول للعراق في عام ١٩٩١ تحت قيادة جورج بوش الأاب.

????ورغم ولوجه في تحالف مشبوه مع قوي إمبريالية وهو الاشتراكي التقدمي حاد الذكاء إلا أنه يستحيل وصف القرنق بالعمالة لانه أدار تحالفاته الخارجية حسب إرادته وتقديره للأمور ومصلحة القضية ولم يكن منفذا مطيعا لاي أوامر تاتي من أي جهة مهما بلغت درجة بياضها وقداستها. وهكذ أستمر التحالف بين الحركة الشعبية والخارج بقياداته الدولية والإقليمية المعروفة.

????كما قلنا، فإن قرنق كان الأبعد عن العمالة لان هناك فرق بين خلق علاقات في الخارج والعمالة. ولكن يمكن اتهامه بالغرور وممارسة الوهم الرغبوي الطوعي لانه في كل تحالف مرحلي، نفعي، قلق، بين طرفين تختلف أهدافهما بعيدة المدى تكون الكلمة الأخيرة فيه إلي الطرف الذي يملك مقدارا أعلي من عناصر القوة.

????وهكذا تجاهل قرنق أن مغالطته القائلة بإستخدام الغرب لصالح قضية تحررية، توحد أفريقيا من كيب تاون إلي الأسكندرية. وهي مغالطة تفترض غباء الغرب – حاشاه فهو غرب نبيه يعرف دبيب النملة وما تخفي الصدور. ولو استدرك قرنق من أمره ما استدبر لأدرك أن الغرب كان يلعب معه نفس لعبته وهي إستخدامه مرحليا لتقريب الغرب وحلفائه الإقليميين والكنائس من هدفهم النهائي وهو فصل الجنوب. ولكن جون قرنق فضل العمي الطوعي خلف قناع من الغرور واختار الطريق السهل لان مواجهة مثل هذه الحقائق كان كفيل بإجباره علي مراجعات كبري تدخله في جفاء مع من دعمه بالمال والسلاح والسطوة السياسية في العالم.

????وهكذا واصل جون قرنق في مسار أضان الحامل طرشا النفعي البراغماتي.

????وحين تمكن نظام البشير من إستخراج البترول في بداية الألفية أدرك الغرب أن ميزان القوي سيتغير لمصلحته بصورة حاسمة بسبب البترول والحماس العقائدي والقتالي للحركة الإسلامية. ولقطع الطريق علي إنتصار حاسم لنظام البشير، فرض الغرب طريق نيفاشا التي قبل بها نظام البشير مجبرا بعد أن تم إرعابه بان السودان سيكون المسرح الثاني للغزو الأمريكي بعد العراق الذي تم تدميره في غزوة عام ٢٠٠٣ وان مصيره لن يكون أحسن من مصير صدام حسين.

????وقد أيد الغزو الأمريكي للعراق كبار دعاء الاستنارة في السودان – الذين تقام بإسمهم مراكز التنوير الممولة من الخارج – كآخر دليل علي توبتهم إلي بيت الطاعة الغربي. وهو الغزو الثاني للعراق بعد أكثر من عقد من الزمان من تحرير الكويت. كما شارك في الغزو الذي أهلك ملايين الأنفس في العراق مستنيرون أخرون ساعدوا بترجمة لغة العراق وثقافته ودينه للغزاة وأحسنوا الترجمة وزيتوا ولوج سنابك الغزاة. وما أشبه الليلة بالبارحة ولا جديد – فهي استنارة متعودة، دايمن كما قال عادل إمام. فهي استنارة بالميلاد تقتات من موائد الغزاة وتناصر غزواتهم السياسية والإعلامية واحيانا العسكرية ولا تري دم الأبرياء في يدها وطعامها وشربها.

????ولم يكن كافيا لحلفاء الحركة الشعبية في الخارج أن إتفاقية نيفاشا أعطت الجنوب فوق كل سقوف مطالبه السابقة لان الهدف النهائي هو فصل الجنوب وليس إنصافه. فرق تسد. دائما.

????عودة إلي الطبيعة القلقة لتحالف قرنق مع الغرب وممثليه في الإقليم، لم يكن ليغيب علي هذا الغرب أن فصل الجنوب لن يكون نزهة في حديقة في وجود قرنق قوي الشكيمة الذي لا يأتمر بامر أحد. وإنه حتي لو تم فصل الجنوب في وجوده فان دولة جنوب السودان لن تكون ضعيفة، تابعة مخبولة بل سوف تولد تحت قيادة زعيم عظيم لا تقل قامته عن أعلي قامات حركات التحرر الوطني التي عمت الجنوب الكوني في منتصف القرن السابق من ماو، وناصر وكاسترو وسوكارنو ولومببا ونيكروما إلي كريس هاني. وهكذا قرر الغرب أن آن أوان رحيل قرنق فاغتالوه وتم بعد ذلك إتمام مخطط فصل الجنوب.

????تكمن تراجيديا الشهيد جون قرنق أن مقولاته كانت من الأكثر تقدما في تاريخ السودان السياسي، ولكنه قتل مستقبل مشروعه في افتراضه الضمني بأن عبقريته تسمح له بتحالفات تتيح له استغلال شيطان الاستعمار والكنائس لخدمة مشروع تقدمي نبيل. كما أعتقد بنفس العقلية بانه بإمكانه خلق فضاء سياسي معافي وكادر تقدمي، إشتراكي مستنير عبر خطاب هوية مغرق في الضحالة والرجعية وفات عليه ان الاستعمار يلعب معه نفس اللعبة بهدف استغلال تقدميته لتفكيك دولة افريقية بما يتيح اضعافها ونهب موارد أجزائها المتفككة.

????وبلغت مأساة قرنق نهايتها حين اغتاله حلفاؤه الدوليون بعد ان قام بدوره في تشكيل الخطاب ولكنه صار عقبة امام فصل الجنوب. ثم سكت اتباعه السودانيين عمن قتله وواصلوا تحالفهم مع من قتل زعيمهم وولي نعمتهم وما زالوا ياكلونمن قصعة قاتل زعيمهم.

????وحين قرر قرنق بكل ذكائه الوقاد تجاهل “المنهج” فات عليه أن نسيانه الطوعي للمنهج لا يعني أن المنهج سيتجاهله ويتركه يصول ويجول كحليف مساو القوة لان هذا وهم شديد الكلفة.

????ومن يعرف التاريخ يعرف قصص شبيهة يتم فيها إستغلال إنسان نبيل ثم إغتياله عندما ينتهي دوره. ولم يكن قرنق أخر الزعماء الكبار الذين إغتالهم الخارج فإن للأستعمار جنود لا تري بالعين المجردة.

????هذه قصة زعيم قوي الشكيمة أبعد ما يكون عن العمالة. أما في عالم اليوم المليء بالأقزام الذين المنبطحين للخارج بدعوي إستعمال قوته لمصلحة السودان فان لهم في سيرة قرنق عبر. فبعد أن يقضي الخارج وطره ويحقق أهدافه فانه سيلفظهم كلبانة قديمة تم مضغها ليقضي بعضهم ما تبقي من العمر يطارده عار العمالة بعد أن تتوقف أعطياتها، وربما تم أغتيال بضعة أفراد منهم لمحو ذاكرة التاريخ السري للحرب السودانية.

???? في مديح الخواجة العالي يغني النوبي محمد منير:
“أصل الخواجه ابن ماريكا لما بيدخل حواريكا
يا اما ياخدك في بطاطه يا اما يا بني حيأزيكا
حاكم الخواجه ابن ماريكا هوه اللي بدع الشيكا بيكا
تدخل قفاه عايز تلعب حيرقصك سامبا و سيكا”.

معتصم اقرع

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الحرکة الشعبیة فصل الجنوب جون قرنق

إقرأ أيضاً:

هذا هو شكل الغرب بدون أقنعة

أجيبُ مبكرًا عن هذا السؤال بأن كل هؤلاء (في جملتهم) يمثلون المنظومة الثقافية التي يحملون اسمها على تفاوت طبيعي في مستويات تمثيلهم لها، وربما تنوع تفسيرهم لها، وطريقة تنزيلهم إياها على الوقائع الجزئية للحياة. وتلك الأخيرة هي المختبر الحقيقي الكاشف عن طريقة تمثل الأفراد والمؤسسات لثقافتهم.

وفي تفاصيل هذا لا يختبئ الشيطان؛ على عكس ما يقول المثل الشهير، بل تكمن إشكالات طبيعية هي جزء من الحياة التي نحياها بجدلياتها المعتادة، وتحتاج هذه الإشكالات إلى تفكيك وفهم؛ كي نفقه الإجابة المجملة السابقة، ونحمل المعاني على وجوهها الأرجح على الأقل.

التمثيل المتناقض

أول هذه الإشكالات هو أن المنظومة الواحدة غالبًا ما تمثلها – في جانب السلوك – بعض الشخصيات والتنظيمات تمثيلًا عنيفًا، وبعضها الآخر يترجم عنها ترجمة يغلب عليها الرفق واللين؛ فهل يرجع هذا إلى طبيعة المنظومة نفسها أو إلى الطبيعة النفسية للبشر؟

فمثلًا، ظهر في ثقافات الشرقين الأقصى والأدنى، والغربين الأقصى والأقرب، والجنوبين البعيد والقريب؛ من قدَّم ثقافته تقديمًا رقيقًا يحتوي المخالف ويراعي حقوقه، وكذلك ظهر فيها جميعًا تقريبًا من ينفي الآخر، ويلغي حقوقه، بل إنسانيته أحيانًا، ويستعمل في مواجهته العنف ربما بصورة مرعبة. وكلا الفريقين يتكئ – في تعقيد واضح للمسألة – على حجج مستمدة من الوضع الثقافي الذي تكيفت عليه عقليته، وتربت عليه مشاعره.

إعلان

ولفهم هذا لا ينبغي أن ننسى أساسًا مهمًا لتفكيك هذه الإشكالية، وهو أن أي منظومة ثقافية لا بد أن تنعكس فيها وبصورة تراكمية نفسيات بشرية تقف وراء تأسيسها وصنعها وتفسير نصوصها وتبيين قواعدها خلال الأجيال المتتالية، كما ينعكس فيها التاريخ والأحداث المؤثرة التي صُنعت خلالها.

وهذا البُعد يعبر عن النسبية المطلقة التي تنشط فيها الشخصية البشرية الفردية والجمعية، حتى وهي تحاول أن تفهم نصًا مقدسًا.

ويتفرع عن هذا التفاعلِ بين الإنسان والظرف الحاوي والبيئة المحيطة بتنوع ما تلده أثناء تقلباتها وتحولاتها من الأحوال السارة والمحزنة، والنافعة والضارة؛ أن تُعِد الثقافة في بنيتها لكل موقف عدته، فموسم المطر وموسم الحصاد وعقد الزيجات والولادة وهبوب النسيم العليل ومواقف الإحسان؛ ليست كحلول الموت والقحط والحرارة اللافحة والزمهرير وهجوم الأعداء ومواقف الإساءة.

لذا تحتوي الثقافات التي تحيا هذه التقلبات – حين نفترض توافقها مع نفسها ومع منطق الحياة – على تنوعات نظرية للتفاعل مع هذه المتناقضات؛ كلٌّ بقدره وحسب نوعه، وعلى من يمثل هذه الثقافة – فردًا أو جمعًا حسب ما تفترض هي – أن يستصحب تنوعاتها وأصولها هذه في تصرفاته؛ وإلا فماذا يعني انتماؤه إليها؟

ولما لم يكن الإنسان عقلًا خالصًا؛ كما اتفق عليه الدارسون والفاحصون قديمًا وحديثًا، فإن للرغبات والميول وطبيعة الشخصية ومدى قدرتها على مقاومة الانسياق وراء الآخرين وإغراءاتهم؛ دورًا أكيدًا، بل قد يكون المحدِّد الأول لاختيارات الإنسان.

لذا، فُسِّرت المنظومات الثقافية المختلفة خلال السلوك تفسيرات متناقضة، حتى حين استندت إلى نصوص دينية منضبطة، ومن هنا برز التاريخ على صورته التي نعرفها؛ ما بين نبلاء النفس والخُلُق حتى في ساحات الحرب، ووحوش كاسرة حتى في المعاملات اليومية المعتادة.

إعلان

ولا يعني هذا تصويب كل أحد، أو قبول كل تفسير له يقدمه لمنظومته الثقافية في هذا الموقف أو ذاك، بل هو التحليل والبيان ومحاولة الفهم، والصحيح هو التصرف على قدر الموقف والسياق؛ فمثلًا المسيحي اليميني في الغرب – لو ضربنا المثال بالمواقف الخشنة للحياة – يوظف مسيحيته من خلال نص "ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا" بإطلاق، وقد يفعل مثله مسلم ضعيف الفقه في نص الحديث: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله…"، كما يفعل بوذي ينسى تسامحه مع المخلوقات حتى الحشرات، ولكنه يقتل المسلم الروهينغي بوحشية ويشرّده في البر والبحر بلا ذنب جناه. وكذلك يهودي يستحضر في تصرفه مع مخالفيه؛ فضلًا عن خصومه، ما فعله يشوع في حروبه من إبادة للحياة والأحياء وتحريق للحجر والشجر حسب أسفار القوم، وهكذا.

وفي هذه الأحوال يغيب الفهم المتوازن القائم على إدراك سياقات تنزيل وتفعيل الجانب المناسب من الثقافة التي ينتمي إليها الفاعل، وقبل ذلك تغيب وظيفة الشعور الإنساني والإحساس البشري بالمواقف، وهو أمر قارٌّ في عمق الفطرة البشرية، ولعله يمثل أحد مصادر الحكم البشري السَّويّ المشترك في المواقف العملية.

ولا يعنينا هنا الميزان الأخلاقي السابق الذي اتكأنا عليه فقط، بل يعنينا إلى جانبه كذلك ميزان التحليل الباحث عن تعليل وتفسير لهذا السلوك البشري؛ لأن التصالح مع أصحابه ليس متاحًا في كل الأحوال، فإن لم ينفع معهم التصالح فلْيُجدِ الفهم والتحليل يومًا ما!

ولكي نلخص ما سبق، فإن أهل الثقافة الواحدة يقدمون في العادة تطبيقات متناقضة في المواقف المتشابهة؛ بسبب تنوع الأحكام النظرية في تلك الثقافة، إلى جانب اختلاف الطبائع والشخصيات لدى البشر وما لها من تأثير محقق في تصرفاتهم وتفسيراتهم.

إشكالية الانقسام وتحديد الممثِّل.. غزة نموذجًا

ما دامت الثقافة والطبيعة البشرية لممثليها؛ هما معًا ما نعلل به الاختلاف السابق، فلندخل في إشكالية أدق، وهي: أنه حين يكون الاختلاف اختلاف تناقض تام بين ممثلي ثقافة واحدة في موقف واحد ممتد، ولا يمكن أن يختلف عليه اثنان يفهمان معنى الكلام الإنساني وحقيقة الأفعال البشرية؛ فهل سيظلان معًا ممثلينِ لثقافة واحدة؟

إعلان

وحرب غزة الحالية هي المثال الجلي لإيضاح هذه النقطة؛ إذ لا يمكن أن يطلع على قضيتها وأحداثها الحالية مطلع له عقل وضمير، إلا حكم بأنه عدوان وحشي وإبادة جماعية على جموع غفيرة من البشر ارتكب بعض أبنائها "خطأ" بمنطق المفعول به وأنصاره، ومارس "فعلًا مقاومًا للاحتلال" باعتباره من حق كل إنسان بمنطق أصحاب الأرض وأنصارهم.

فهناك إذن اتفاق – أو شبه اتفاق! – على أن العقوبة تجاوزت ما عدَّه الطرف الأول اعتداءً بمراحل كثيرة جدًا، ومن هنا كان يجب أن تكون المناداة والمساعي العملية إلى إيقاف الحرب بعد كل هذا الوقت وكل هذا القتل وكل هذا الدمار محل إجماع، وهو ما لم يحدث أبدًا مع الأسف.

انقسم الموقف الغربي إزاء أحداث غزة لطرفين؛ أولهما: ليس  متعاطفًا فقط مع الاحتلال وإجراءاته المجاوزة لكل حدود العنف المسوَّغ بمستويات قياسية، بل إنه يمده أيضًا بالأدوات العسكرية والوسائل التكنولوجية التي يوظفها في ممارساته، ويقدم له الدعم الإعلامي، ويضيّق على ناقديه من أي جنسية كانوا.

وأهم ما يميز هذا الطرف هو: كونه في موضع مسؤولية سياسية حاليًا، أو ينتمي إلى تيار سياسي واجتماعي يميني يؤمن بأن "الناس" ليسوا جميعًا "بشرًا" متساوين في الحقوق، أو صاحب مصالح اقتصادية ضخمة، أو حتى يخشى سطوة الصهيونية السياسية والدينية على نفسه ونفوذه وثروته، أو يتماهى مع محيطه الاجتماعي المتعاطف مع الاحتلال بقطع النظر عن كونه الظالم أو المظلوم.

ومجموع هذه الميزات أتاح لهم التدخل المباشر في الحدث الغزي المؤلم لصالح الاحتلال، وسمح لهم بقمع ما استطاعوا من الأصوات المنادية بإيقاف الإبادة والدم النازف في غزة، بل والأصوات الفاضحة مجرد فضح للعدوان والكاشفة للحقيقة مجرد كشف، حتى طاردوا مشاهد الفيديو والعبارات والإشارات المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي والمناصِرة لحقوق أهل غزة في الطعام والشراب والأمان!

إعلان

هذا هو الطرف الأول وموقفه، وأما الطرف الثاني، فيمثله كثير من المشاهير الغربيين وممثلي المنظمات الدولية، وليس فقط مجرد موقف جماهيري لقطاع واسع من الشباب الجامعي وغير الشباب ممن يملؤون شوارع المدن الكبرى والجامعات في الولايات المتحدة وكندا ودول الاتحاد الأوروبي بالاحتجاج والتظاهر، ويرون الحقيقة واضحة، سواء خطّؤُوا المقاومة الفلسطينية في هجومها الذي شنته في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أو اعتبروه فعلًا مشروعًا وسعيًا مستحَقًا لاستعادة الحقوق المسلوبة، وأنه لا ينبغي أن ينظَر إليه منفصلًا عن سياقه التاريخي الذي أدى إليه.

ولا يخفى أن أصحاب هذا الموقف النبيل لا يملكون إلا الصوت والكلمة، ولم يستطيعوا إلى الآن إلا أن يضغطوا في اتجاه إيقاف الحرب، والعمل على إبراز بقايا الإنسانية التي ما زالت كامنة في منظومتهم الثقافية.

ولعلنا نلاحظ هنا أن المواقف الحاسمة والمؤثرة في أحداث غزة الحالية لا تصنعها العواصم العربية ولا الإسلامية للأسف؛ لا على المستوى الرسمي ولا الجماهيري، ونستعير من الدكتور نجيب الكيلاني عنوان روايته: "الظل الأسود"؛ للتعبير عن هذا الاستبداد المتمكن في تلك البلاد منذ انفصلت عن الاستعمار، حتى فقدت خلال هذه العقود قدرتها على التأثير حتى في قضاياها الأخص.. لقد ترحّل عنها التأثير يوم غطاها هذا الظل الكالح، وصارت تحت سيطرته لا تُرى إلا باهتة فاقدة لأسباب الحياة.

ونعيد السؤال من جديد: أي هذين الطرفين الغربيين يمثل الثقافة السائدة والأكبر تأثيرًا في العالم الآن؟

لا شك أن الجانب الإنساني قد ضمر في بنيان هذه الثقافة بصورة واضحة، لكنه لم ينمحِ تمامًا، وهذا الوجود الضامر قابع وكامن في ذواكر ونفوس أهل هذه الثقافة، ويعبر عن نفسه أحيانًا متصالحًا مع نفسه؛ أي لا يستثني حالة بشرية اطلع عليها تستحق التعاطف، وأحيانًا أخرى يعبر عن نفسه متناقضًا مع ذاته، فيتعاطف في حالات ويتنازل عن إنسانيته في أخرى؛ فـ"بيل غيتس" مثلًا – مؤسس وأكثر فرد مالك لأسهم في شركة مايكروسوفت التي تدعم بوسائلها التقنية المتقدمة جرائم الاحتلال مباشرة – هو نفسه أحد أكبر المتبرعين بالمساعدات لعلاج الأمراض المتوطنة ونتائج الجوائح والكوارث في العالم، حتى سجل تقرير مؤسسته الخيرية قوله عن جهودها الخيرية في العام الماضي: "التزمت مؤسسة بيل وميليندا غيتس بإنفاق 8.6 مليارات دولار هذا العام؛ للمساعدة في تلبية الاحتياجات المتزايدة، وتمويل طرق مبتكرة لإنقاذ الأرواح، وتحسين حياة الناس".

إعلان

ومن هنا يمكننا أن نزعم أننا أمام تعبير غربي انشطاري إزاء الحدث الغزي الضخم؛ أعني أن أحد شطريه يتبنى جانبًا من ثقافته والثاني يتبنى الآخر، وما دام النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، فإن امتداد الحدث الغزي سيمثل مزيدًا من الضغط لزيادة التمايز بين الفريقين المذكورين، ولو بقي هذا مجرد رواسب نفسية كاشفة للزيف، فإن له تأثيرًا ما في الواقع والمستقبل.

ولكن هل يمكن أن يؤدي هذا إلى تغييرات عميقة أو حتى سطحية في الموقف الأخلاقي الغربي من الآخر مهما يكن؟

الحقيقة أن هذه الانشطارية قد عاشتها هذه المجتمعات من قبل في أحداث عدة، وإن بصورة أقل حدة؛ منها مثلًا: الغزو الأميركي الغربي للعراق عام 2003 بأسباب لم يستسغها كثير من المثقفين والشباب الأميركي والأوروبي، حتى جرى كثير من التواصل بين جموع المحتجين في العالم لتنسيق التظاهرات والجهود المناوئة للحرب، لكن لم يعقب هذا الأمر أي تغيير ملحوظ في المواقف الغربية الرسمية من القضايا المشابهة.

ويبدو أن الأمر رهن بالنفوذ المالي والسياسي والإعلامي، فمن يدير ويوجه العمل في هذه المجالات هو الذي يربح معارك التغيير والثبات في النهاية.

إن الحركة الاجتماعية لكي تكون تغييرية فلا بد أن تتخذ شكل مؤسسات تعمل في عصب الحياة الحساس للمجتمع، وتركز على المفاصل التي من شأنها أن تحمل مستقبلًا أفضل في التعبير الأخلاقي عن النفس؛ مثل: مدارس الأطفال، وكليات العلوم الإنسانية، ومؤسسات تخريج القادة، والأحزاب السياسية، ومنابر الرأي والكلمة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • المقاومة الشعبية بالقضارف تعلن عن تدريب (1500) مستنفراً
  • حماس والجبهة الشعبية تجددان إدانتهما للاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وسوريا واليمن
  • تفاصيل اجتماع حماس مع الجبهة الشعبية "القيادة العامة"
  • حسام موافي: تسارع ضربات القلب قد يسبب فقدان الحركة
  • يوسف جبريال يوجه رسالة لـ تامر حسني بعد أغنية come back to me الشعبية
  • سلام يرفع السقف السياسي… وحزب الله يتحفّظ
  • «تامر عبد المنعم»: المايسترو سليم سحاب يقود أوركسترا فرقة رضا للفنون الشعبية
  • أزمة الثقة تطارد صناديق الاقتراع: المشاركة الشعبية مفتاح شرعية
  • هذا هو شكل الغرب بدون أقنعة
  • ” الشعبية” تدعو لتصعيد الغضب الشعبي العالمي والعربي لوقف العدوان على غزة