زعماء الوفد(١) عبقرية فؤاد سراج الدين
تاريخ النشر: 6th, August 2024 GMT
خلال ساعات، تحل علينا ذكرى رحيل فؤاد باشا سراج الدين، آخر زعماء الوفد، وصاحب الفضل فى عودة الحزب للحياة السياسية، بعد غياب رُبع قرن من المنع والتنكيل والمُطاردة.
دائمًا.. أقول لنفسي: الحمد لله أننى لحقت بالرجل وعاصرته وعملت معه لأكثر من ١٢ عامًا، تعلمت خلالها دروسًا مازالت عالقة بذهنى، وتعاليم ستظل ملتصقة بالوجدان، فمدرسة فؤاد سراج الدين لا تنتهي، ولاتمحو مقرراتها الأيام، ولا تختفى علاماتها من وجوه تلاميذه ومريديه، فهو الزعيم الأكثر ذكاءًا وصبرًا وجلدًا وهو السياسى المُقاتل الشريف، والإجتماعى الذى رسخ مفهوم الزعيم الأب الذى يلتف حوله الجميع حُبًا فى شخصه وأملًا فى لمحة منه يتم تسجيلها فى مذكراتنا.
فمازال فؤاد سراج الدين هو الاسم الذى نستعيده عندما نريد الحديث عن عودة حزب الوفد.. فقد كان سراج الدين حين اندلعت ثورة 1919 الكبرى طفلًا صغيرًا، فلم يلحق بها وبأحداثها الجسام، ولكن تاريخيًا هناك جملة سوف تجدها على لسان كل وفدى وهي: لولا فؤاد سراج وشخصيته وذكائه وصبره ما كان للوفد أن يستمر بسهولة، لأن الرجل الذى كان سكرتيرًا عامًا للوفد قبل يوليو، واجه أعاصير كثيرة منذ عام 1952، ولكنه عبرها جميعًا بسلام وتمكن من إعادة الوفد للحياة السياسية بعد غياب 25 عامًا كاملة.
فؤاد سراج الدين كان الرقم الصعب فى معادلة بقاء الوفد واستمراره، ولذلك يعتبره الوفديين امتدادًا طبيعيًا لسعد زغلول ومصطفى النحاس، وهو جسر العبور الرسمى بين أجيال مختلفة من الوفديين الذين يدينون له بالقدرة على حماية الوفد وإعادته إلى الحياة بفضل عقلية لا تخطئ كثيرًا، وقلبٌ قوى تمكن من الركض فى ماراثون الدفاع عن مبادئ ثورة 1919 بدأب وذكاء.
إذا حاولت معرفة شخصية فؤاد سراج الدين عليك أن تقرأ حكاية تؤكد لك أن الرجل كان يقوم بتشغيل عقله لصالح مصر والوفد.. لم تكن لديه هموم أخرى، ولم ينظر لمكاسب سياسية لصالح حزبه على حساب الوطن، فقد كانت المبادئ هى المحرك، وكان الوطن هو الأساس، فظل تراث فؤاد سراج الدين محركًا للوفد بعد رحيله، وظل الوفديون متمسكين بمبادئ الحزب، والتى رسخها فؤاد سراج الدين الوزير السابق، وسكرتير عام الوفد الأسبق، ورئيسه خلال الفترة من 1978 وحتى وفاته عام 2000، وهى المبادئ التى رسخها بعد إعادته للوفد عام 1977 واستمرت إلى اليوم.
هناك حكاية يجب أن نسردها عن سراج الدين، هى باختصار أن المحيطين بالملك الشاب فاروق الأول، قرروا التخلص من كل معارضى والده الملك الراحل فؤاد الأول وإسقاطهم فى الانتخابات البرلمانية عام 1938، وأصدر على ماهر باشا رئيس الوزراء أوامره بإسقاط مصطفى النحاس باشا زعيم الأمة ورئيس الوفد فى مسقط رأسه بدائرة سمنود بمديرية الغربية.
المعلومة وصلت للنحاس باشا الذى شعر بأن هناك مخططًا لإهانة الوفد فى شخصه.. وسأل معاونيه ماذا نفعل؟ كان الرأى الغالب أن الحكومة سوف تفعل ما تريد.. وبلا شك سوف تتمكن من تحقيق الهدف لأنها تملك كل شيء، المال والسلطة والملك!
لكن فؤاد سراج الدين قال لهم: عندى حل! قال له النحاس: قول يا فؤاد ساكت ليه؟ فرد سراج الدين: بص يا باشا.. أنت هتتقدم بشكل طبيعى فى دائرتك التى ينتظرك فيها الجميع وكل أنظار الحكومة سوف تتجه إلى سمنود، لكننا سندير المعركة فى دائرة أخرى! قال له النحاس: إزاى يا فؤاد؟ فرد عليه سراج الدين: يا باشا إحنا هنتقدم بطلب ترشيح باسمك فى دائرة الزعفران، وهى بعيدة عن الأنظار وكل من فيها رجالى وأحبابى، كما أننى أمتلك فيها أراضى كبيرة وعزبًا وأطيانًا، ثم إن كل من فيها وفديون، وسوف نقوم بإقناع الجميع هناك بعدم الترشح فى هذه الدائرة لأسباب سوف نعلنها فيما بعد، وطبعًا لن يكون هناك مُرشح غيرك، وسوف تفوز بالتزكية!
واقتنع النحاس باشا بالفكرة وبدأ سراج الدين فى تنفيذها وتقدم بأوراق ترشيح النحاس فى سمنود فى وقت مبكر، وتقدم بأوراق الترشيح لدائرة الزعفران قبل موعد غلق أوراق الترشيح بخمس دقائق فقط.. وتأكد سراج الدين -بنفسه- من إغلاق باب الخزينة الخاصة باستلام الطلبات وتسديد الرسوم دون أن يتقدم أى منافس للنحاس فى هذه الدائرة النائية!
نجحت فكرة سراج الدين العبقرية للتحايل على رغبة القصر فى إسقاط النحاس زعيم الأمة.. فلم يعد لهم حجة لأن الرجل سيفوز بالتزكية.. ولكن رجال الملك كان لهم رأى آخر، فقد وصل الخبر إلى القصر بعد نصف ساعة.. فصدرت الأوامر من فريد أبو شادى، مدير مديرية الغربية وقتها، بفتح الخزينة بعد الموعد القانونى -وإحضار أى شخص من الدائرة لتقديم أوراق ترشيح له ودفع مبلغ التأمين فورا، وفعلًا تمكنوا من إقناع شخص اسمه محمد سعيد، بالترشح وتم تزوير الانتخابات علانية وببجاحة بدلًا من التزوير المستتر، وتم إسقاط النحاس فى الدائرتين ومعه كل زعماء الوفد والمعارضة فى مصر حتى إن كبار رجال الوفد الذين كانوا ينجحون فى كل انتخابات بالتزكية مثل مكرم عبيد فى قنا، وعبدالفتاح الطويل فى الإسكندرية، وأمين الوكيل فى دمنهور تم الإعلان عن سقوطهم بنتائج مزرية، فقد كان التزوير بشعًا وبلا خجل.
وقد تكشفت مؤامرة التزوير بعد فضيحة الزعفران، بسبب فكرة فؤاد سراج الدين العبقرية التى جعلت شخصًا لا يعرفه أهل بلده يفوز على النحاس باشا زعيم الأمة!!
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: نور سعد زغلول ثورة 1919 فؤاد سراج الدین ا فؤاد
إقرأ أيضاً:
عبدالفتاح باشا يحيى إبراهيم.. بين السياسة والوفاء لمصر
عبدالفتاح باشا يحيى إبراهيم، اسم يرن في تاريخ مصر السياسي والدبلوماسي كرمز للنزاهة والجدية والتفاني في خدمة الوطن. ولد في مدينة الإسكندرية عام 1876، في بيت معروف بالتجارة والثقافة، حيث كان والده أحمد يحيي من كبار تجار القطن، ينتمي منذ بداياته إلى حزب الوفد، وكان له موقف راسخ في خدمة وطنه.
عبدالفتاح يحيى نشأ في بيئة تجمع بين العمل التجاري والاجتماعي، ما أكسبه فهما عميقا للاقتصاد والمجتمع المصري، كما ورث عنه حب الوطن والانتماء الوطني الذي سيصنع لاحقا مسارا سياسيا غنيا بالعطاء والإنجازات.
في حياته العملية، تجسد دور عبدالفتاح باشا في شتى مناحي السياسة والدبلوماسية، فقد تقلد مناصب عديدة بداية من وزارة العدل، مرورا بمجلس الشوري، وصولا إلى رئاسة وزراء مصر.
لم يكن مجرد سياسي تقليدي؛ بل كان رجلا يرى في السياسة وسيلة لخدمة المواطنين وتحقيق العدالة، خلال توليه وزارة العدل، حرص على تطوير النظام القضائي وتعزيز استخدام اللغة العربية في المحاكم المختلطة، مؤمنا أن اللغة ليست وسيلة للتواصل فحسب، بل هوية وطنية يجب الحفاظ عليها ودعمها.
وقد برز اسمه بشكل أكبر عندما تولى رئاسة مجلس الوزراء بين عامي 1933 و1934، حيث شكل حكومة كان هدفها خدمة الشعب المصري وتعزيز الاستقلال السياسي للبلاد.
كان في هذه المرحلة محوريا في سن نظام أداء اليمين القانونية للوزراء أمام الملك، خطوة رائدة عززت من شفافية العمل الحكومي ونظام المساءلة داخل الدولة.
لم يقتصر دوره على الجانب السياسي الداخلي، بل امتدت بصماته إلى السياسة الخارجية، حيث احتفظ أثناء رئاسته للوزارة بمنصب وزير الخارجية، ما أتاح له أن يمثل مصر في المحافل الدولية ويثبت مكانتها بين الأمم.
عبدالفتاح باشا لم يكن بعيدا عن هموم المواطن البسيط، فقد أصدر قرارا بتخفيض إيجار الأطيان الزراعية عام 1932 بمقدار ثلاثة أعشار قيمتها، وهو قرار يعكس اهتمامه المباشر بمصالح الفلاحين والطبقة العاملة في الريف، ويبرهن على حبه لبلده وحرصه على العدالة الاجتماعية.
كما كان له موقف حاسم من مؤسسات الإدارة المحلية التي لم تكن تعكس تطلعات المصريين، حيث قام بحل مجلس بلدي الإسكندرية الذي كان ذا صبغة دولية وأعضاؤه أجانب، مؤكدا أن مصر للأهالي وأن قراراتها يجب أن تخدم مصالح الشعب المصري أولا.
إضافة إلى ذلك، عمل على تنظيم وزارة الخارجية بشكل دقيق، محددا اختصاصات إداراتها، وهو ما ساعد على تعزيز كفاءة العمل الدبلوماسي، وفتح الطريق أمام جيل من الدبلوماسيين الذين يتطلعون لبناء مصر على أسس متينة.
كل هذه الإنجازات لم تأت من فراغ، بل جاءت نتيجة لرؤية وطنية واضحة وإيمان راسخ بأن مصر تستحق قيادة واعية ومخلصة تعمل بلا كلل من أجلها.
حين نتحدث عن عبدالفتاح باشا يحيى إبراهيم، نتحدث عن رجل جمع بين الصرامة والنزاهة والحكمة والإنسانية، رجل لم ينس جذوره ولم يبتعد عن هموم شعبه، رجل جعل من السياسة أداة لخدمة الوطن والناس على حد سواء.
إن تاريخه يذكرنا بأن القيادة الحقيقية ليست مجرد منصب، بل مسؤولية تجاه الوطن والمواطن، وأن الحب الحقيقي لمصر يظهر في القرارات الصغيرة والكبيرة، في العدالة الاجتماعية، وفي الدفاع عن هوية البلاد ومصالحها.
عبدالفتاح باشا ترك إرثا عميقا في الذاكرة المصرية، ليس فقط كسياسي ودبلوماسي، بل كمواطن عاش وحلم وعمل من أجل مصر، وعلمنا أن الوطنية ليست شعارات ترفع، بل أفعال تمارس يوميا، وأن الالتزام بحقوق الناس هو السبيل لبناء وطن قوي وكريم.
وبالرغم من مرور السنوات، يظل اسمه محفورا في صفحات التاريخ، مثالا للنزاهة، للحكمة، وللإخلاص، وللحب الحقيقي لمصر، حب يتجاوز الكلمات ويصل إلى الأفعال، لتبقى مصر دائما في المقدمة، ولتبقى ذكراه مصدر إلهام لكل من يحب وطنه ويعمل من أجل رفعتها.