دورات «الإنجليزية» الخارجية .. مهارة معرفية وفرصة لصقل الشخصية
تاريخ النشر: 9th, August 2024 GMT
عبّر عدد من الطلبة عن تجاربهم وآرائهم حول الالتحاق في دورات اللغة الإنجليزية في الخارج التي أثبتت فائدتها في تقوية لغتهم وزيادة الثقة بالنفس، فيما أكّد تربويون أن فرصة الانخراط في المجتمع الذي يتحدث اللغة الإنجليزية تزيد من تكوين علاقات اجتماعية واكتساب أصدقاء من مختلف الجنسيات، كما تساعدهم في رفع المستوى التحصيلي الدراسي سواء المدرسي أو الجامعي.
بين الدراسة والاستمتاع
يقول محمد بن راشد المريني(16 سنة): لقد كانت تجربتي في دراسة اللغة الإنجليزية في مدينة بورنموث البريطانية لمدة شهرين حافلة بالمغامرات والتعلّم، ولم أكن أتوقع أن أستمتع بهذا القدر وأتعلم الكثير في وقت قصير، فقد بدأت رحلتي في بورنموث بدافع الرغبة في تحسين لغتي الإنجليزية، ولكنني سرعان ما اكتشفت أنني أكتسب أكثر من مجرد مهارات لغوية، فقد كانت الفرصة ذهبية لاكتشاف ثقافة جديدة والتعرف على أشخاص من مختلف الجنسيات.
وأضاف: لقد قضيت معظم وقتي في المدرسة، حيث كنت أشارك في دروس تفاعلية ومثيرة للاهتمام، وساعدني المعلمون المتمكنون والبيئة الدراسية المحفزة على التقدّم بسرعة في تعلم اللغة، كما خصصت وقتًا للاستمتاع بجمال المدينة وشواطئها الخلابة، ومن أهم الجوانب التي استفدت منها خلال تجربتي هي الاعتماد على النفس، فقد كنت مسؤولا عن تنظيم وقتي، وإدارة ميزانيتي، والتخطيط لرحلاتي، وهذه التجربة علمتني الكثير عن الاستقلالية والثقة بالنفس.
وذكرت أمسية بنت محمد العامرية (21 سنة): كانت بورنموث بالنسبة لي أكثر من مجرد مدينة، إنها فصل جديد في حياتي، مليء بالتجارب التي شكّلت شخصيتي وأثرت في رؤيتي للعالم، فعندما قررت الدراسة في بورنموث، كنت أطمح إلى تطوير لغتي الإنجليزية وتحسين مهاراتي اللغوية، ولكن لم أكن أتوقع أن تكون هذه الرحلة غنية بالكثير من المفاجآت، ولم تكن الدراسة في صف دراسي تقليدي هي الطريقة الوحيدة لتعلم اللغة الإنجليزية، لقد غمرتني اللغة الإنجليزية من كل جانب؛ في المحاضرات، وفي المحادثات اليومية مع زملائي، وفي المتاجر والمطاعم، لقد كانت فرصة ذهبية لممارسة اللغة في بيئة حقيقية، مما ساهم بشكل كبير في تطوير مهاراتي في التحدث والاستماع والقراءة والكتابة.
وأضافت العامرية: لم يقتصر تأثير دراستي في بورنموث على لغتي فقط، بل امتد إلى شخصيتي، لقد تعلّمت كيف أكون أكثر استقلالية، وكيف أتكيّف مع بيئة جديدة وثقافة مختلفة، واكتسبت الثقة بالنفس، ووسعت دائرة معارفي، وتعلمت كيف أتعامل مع التحديات والصعوبات، كما خضت تجربة كمشرفة طلاب في بورنموث، أقدم لهم النصائح حول كيفية التعامل مع النظام التعليمي الجديد، وكيفية الاستفادة من الموارد المتاحة في الجامعة، وكيفية بناء علاقات اجتماعية جديدة.
وذكرت قائلة: واجهت العديد من التحديات خلال هذه التجربة، مثل اختلاف الثقافات والعادات والتقاليد، وحواجز اللغة التي كانت تواجه بعض الطلاب، ومع ذلك، كنت أحرص على مواجهتها بروح إيجابية وبصبر كبير، وكنت أستخدم أساليب مبتكرة لتبسيط المفاهيم الصعبة، وأشجّع الطلبة على المشاركة في الأنشطة المختلفة لتعزيز ثقتهم بأنفسهم وتحسين مهاراتهم اللغوية، وأحرص على إثراء حياة الطلبة ثقافيًا، فكنت أقيم لهم العديد من الفعاليات والأنشطة التي تهدف إلى التعرّف على الثقافة البريطانية وتاريخها. وأقدّم لهم النصائح حول كيفية الاستفادة القصوى من وقتهم، وكيفية إدارة ميزانيتهم، وكيفية الحفاظ على صحتهم النفسية والجسدية.
وترى مهرة بنت سيف الكندية (20 سنة) أن تعلم الطالب للغة الإنجليزية في الخارج يسهم في التواصل مع الطلبة من مختلف الدول كما تنمي لديه مهارات عديدة سواء الحديث بطلاقة والاعتماد على النفس، وإدارة الوقت والمال، ومن بعد التجربة الأولى التي درست فيها في مدينة بورنموث ولمدة شهرين في عمر 16 سنة، فقد أحببت بعدها فكرة الابتعاث، وكنت أسعى جاهده حتى أعيش التجربة لمدة أطول، وبعدها التحقت مرة أخرى للدراسة في مدينة ليفربول وأنا في عمر 19 سنة، حتى أعيش التجربة بكل تفاصيلها.
وتقول اليقين بنت راشد المزينية (15 سنة): في عام 2019 قمت بالتسجيل في مكتب مسار لخدمات التعليم العالي لقضاء الإجازة الصيفية بشكل ممتع ومُثري ولمدة شهرين، والآن وبعد مرور 5 سنوات على هذه الرحلة أودّ أن أتحدث عن تجربتي مع مسار؛ حيث أنني استفدت من رحلتي لديهم لتطوير لغتي الإنجليزية والتي أسهمت في ارتفاع معدلي الدراسي في الصف الثاني عشر وقبولي في أحد الجامعات الخاصة، كما أسهمت كثيرًا في تحسين لغتي الإنجليزية.
الاكتشاف والطموح
قالت أشواق بنت مبارك اللمكية معلمة اللغة الإنجليزية: مع نهاية كل فصل دراسي وبدء الإجازة الصيفية، يحرص الكثير من الآباء على إلحاق أبنائهم بمعاهد اللغة الإنجليزية المعتمدة من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، حيث توفّر هذه المعاهد دورات اللغة الإنجليزية داخل السلطنة وخارجها لتطوير مهارات الطلبة المختلفة في اللغة الإنجليزية؛ لأهمية ذلك في رفع مستواهم الدراسي والمستقبلي، وفي السنوات الأخيرة انتشرت العديد من المعاهد المتخصصة التي توفّر الدورات القصيرة خارج السلطنة، وخصوصًا في المملكة المتحد، ومع بداية كل صيف، يتنافس أولياء الأمور في حجز مقاعد لأبنائهم في هذه المكاتب، بل قد يلجأ بعضهم إلى الاقتراض لتوفير هذه الفرصة، ويفضل البعض التسجيل في دورات المعاهد الموجودة في السلطنة لأنها أقل تكلفة ولوجودها بالقرب منهم، بينما يفضل الأغلبية الدورات الخارجية.
وتتفاوت الآراء بين مؤيد لهذه المعاهد وبين معارض لها، إذ لا يرى فيها البعض سوى أنها تهدف إلى الربح التجاري.
وتختلف تكلفة هذه الدورات حسب العمر والمستوى والمعهد الذي يوفرها.
وأضافت اللمكية أن هناك العديد من الأسباب التي تدفع الطلبة إلى التنافس للتسجيل في هذه الدورات الخارجية، فهي لا تقتصر فقط على تطوير مهارات اللغة الإنجليزية، بل تصقل شخصية الطالب وتطورها، وتفتح للطالب فرصة الانخراط في المجتمع الذي يتحدث اللغة الإنجليزية الأم دون مساعدة، كما تدرّبه على الاعتماد على النفس دون مساندة والديه وتعلّمه الاستقلالية، وتوفر هذه التجربة فرصة لتكوين علاقات اجتماعية واكتساب أصدقاء من مختلف الجنسيات، بالإضافة إلى تعلمه إدارة الوقت والمال.
وأوضحت: من تجربتي الشخصية كمعلمة لغة إنجليزية ومشرفة طلبة في معاهد اللغة الإنجليزية في المملكة المتحدة منذ 2017، أشرفت على الكثير من الطلبة في مختلف الأعمار ومن جميع مناطق سلطنة عُمان، ولمست فيهم حب المغامرة والاكتشاف والطموح لتطوير لغتهم الإنجليزية، وقد يشكك البعض بجدوى هذه الدورات القصيرة التي تمتد من شهر إلى شهرين، ولكنها في نظري وتجربتي كافية إذا وجد الطموح مع المثابرة والممارسة والالتزام، ولقد شهدت بنفسي تطور الكثير من الطلبة في مهاراتهم وشخصياتهم، ولمست التغيير فيهم مع نهاية كل دورة، مع متابعتي لهم وتواصلهم الدائم معي.
في كل صيف، أخوض هذه التجربة مع طلبتي، وأحثهم دائمًا على الاستفادة القصوى وعدم تضييع الوقت، لأنها فرصة لا تُتاح للجميع. كم تمنيت لو عشت هذه التجربة عندما كنت طالبة. وأدعو جميع الآباء إلى تشجيع أبنائهم على خوض هذه التجربة عندما تسمح لهم الفرصة والالتحاق بهذه الدورات المختلفة في الخارج.
فروقات
من جانبه أوضح سعيد العمري، مدير مدرسة سعيد بن المسيب للتعليم الأساسي (٥-٩) ومؤسس مركز العمري لخدمات التعليم العالي: إن تسجيل الطالب ببرامج التعليم خارج السلطنة من الأمور التي يسعى إليها بعض أولياء الأمور، لأنه يبني عليها آمالاً كثيرة في تطوير شخصية الابن، وانخراطه في مجتمع مختلف يجبره على الاعتماد على الذات، وتكون هذه البرامج بمثابة المتنفس للطالب في وقت الإجازة، وفرصة لتبادل ثقافي مختلف، وتتبنى بعض البرامج مجموعة من الأنشطة التعليمية التي تساهم بشكل كبير في تطوير اللغة الإنجليزية، وذلك لوجود الطالب بشكل مباشر ولفترات طويله في البرنامج، حيث يخضع بعض المشاركين لبرامج من ٤ إلى ٦ ساعات يومياً وبرامج مسائية وهذه لا تتوفر في معاهد المحلية لعدم وجود المخيمات التعليمية.
وأشار إلى وجود فروقات بين دورات اللغة الإنجليزية المحلية التي تطرحها بعض المراكز والمعاهد المحلية والدورات التي تطرحها المعاهد الخارجية. وتوجد عدد من الأماكن في سلطنة عُمان تقدّم خدمات تعليمية رائعه ومفيدة، ولكن المؤسسات الخارجية تقوم بالتشخيص المثالي لمستوى الطالب، ووضعه في المستوى الخاص به، والاستعانة بالكتب المخصصة للمستويات المختلفة في اللغة الإنجليزية، والتي بها 5 مستويات، بالإضافة إلى توفير عدد من البرامج المتنوعة تشكل خدمات الدراسة العادية والمكثفة وخدمة التسكين مع عوائل التي تتحدث اللغة الإنجليزية أو السكنات الطلابية الخاصة التي يجتمع بها الآف من الطلبة من مختلف دول العالم، إضافة إلى الأنشطة المختلفة والبرامج الترفيهية التي تكسب الطالب عددا من المهارات الحياتية التي يكون من خلالها قادرا على السفر بمفرده.
وبيّن أن متعلم اللغة الإنجليزية يحتاج إلى معرفة مستواه في اللغة، وبعد ذلك يتم وضعه ببرنامج مناسب يساعده على التطوّر، بعدها تأتي مرحلة إتقان اللغة التي يكون بها 5 مستويات، وكل مستوى يتم اجتيازه في فترة لا تقل عن شهرين، وبالنسبة للبرامج القصيرة فهي فقط لتطوير جانب لغوي لا أكثر.
محدودية التعلم
ومن جهته قال يوسف الهدابي مشرف أول لغة انجليزية: قد تكون استفادة الطلبة من خلال التحاقهم بدورات اللغة الإنجليزية في الخارج محدودة، خاصة إذا كانت لمرة واحدة في عمر الطالب، لأن اكتساب اللغة يستوجب التعرض لها واستخدامها لفترة طويلة حسب عمر الطالب، فمثلا لو بدأ الطلبة باستخدام اللغة بشكل يومي لزادت حصيلتهم اللغوية وقويت مهاراته في التواصل وفي القراءة وفي الكتابة وغيرها من المهارات.
وأضاف: من وجهة نظري الشخصية لا توجد فروقات كبيرة بينها وبين تلك الدورات التي تقوم بها بعض المعاهد والمراكز التعليمية، وربما تنحصر في أن الطالب يتعرض لتعلم اللغة في بيئتها الأم ولمدة قصيرة ولكنها مكثفة، وقد تحفز البيئة على استخدام اللغة الإنجليزية كونها اللغة الوحيدة هناك، وهذا عامل يساعد لتعلمها، لكن بمجرد أن يعود الطلبة لبلدانهم، يقل استخدامهم للغة، وبالتالي يفقدون تدريجياً ما تعلموه هناك، فالأمر الذي يجمع الفائدة للطالب هو متابعته لاستخدام اللغة سواءً في هذه المعاهد والمراكز أو في الخارج في البيئة المحيطة، لإنه توجد لدينا قاعدة معروفة في تعلم اللغة «استخدمها أو تفقدها». مضيفا: إن من المزايا التي يكسبها الطلبة من التحاقهم بالدورات الخارجية اكتساب أصدقاء جدد يتحدثون باللغة الإنجليزية، وتعلم مهارات التعامل في مواقف حقيقية، والسكن مع عائلات تتحدث الإنجليزية، وتعلم تحمل المسؤولية أثناء السفر والتعرف على الثقافات الأخرى.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: دورات اللغة الإنجلیزیة اللغة الإنجلیزیة فی هذه الدورات هذه التجربة فی بورنموث العدید من الکثیر من من الطلبة الطلبة من فی الخارج من مختلف
إقرأ أيضاً:
دور الأوقاف في تمكين ريادة الأعمال
عند حديثنا عن دور الأوقاف في تمكين ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة والمتوسطة فإننا نتجاوز استعادة الإرث التاريخي الطويل إلى محاولة استقراء الواقع المعاصر للأوقاف في عمان، واستشراف قدرتها على أن تكون عنصرا فاعلا في المستقبل الاقتصادي، فمن هذا المنطلق جاء هذا المحور في مؤتمر عُمان الوقفي الذي اختتم أعماله أمس، وأتاح لي من خلال حضوري لجميع الجلسات على مدار يومين من فرصة الاقتراب من نماذج واقعية تقدّم إجابات عملية عن مجموعة من التساؤلات المتعلقة بإمكانية أن يتحول الوقف إلى محرك اقتصادي حديث، وكيف أن الفكر الريادي والرؤية الواضحة والقدرة على اتخاذ القرار الجريء بالإمكان أن يحول الأصول الوقفية إلى استثمارات تجني الذهب وتحقق أهدافا اقتصادية مبهرة.
وتتبدى الإجابة بوضوح في النموذجين اللذين برزا في هذا المحور وتم استعراضهما في الجلسة الحوارية الأخيرة من هذا المؤتمر، وهما تجربتي: مؤسسة بوشر الوقفية، وأوقاف حارة العقر في نزوى، ورغم اختلاف بيئتهما وسياقاتهما، إلا أنهما يشتركان في جوهر واحد، وهو إعادة اكتشاف القوة الكامنة في الوقف، وتوظيفه كأداة فاعلة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وقد بدت تجربة مؤسسة بوشر الوقفية من نقطة شديدة الواقعية، وهي بناء الثقة المجتمعية قبل الشروع في أي مشروع استثماري كبير، وقد أوضح المهندس محمد بن سالم البوسعيدي أن المؤسسة عملت منذ لحظتها الأولى وفق استراتيجية خمسية واضحة، قطعت مراحل التأسيس والانطلاق، وتتجه بثقة نحو مرحلة النمو والاستقلال ابتداء من العام القادم، هذه المرحلة ليست مجرد توسع مالي، بل انتقال إلى مستوى جديد يعاد فيه تعريف الوقف بوصفه قطاعا قادرا على الإضافة الاقتصادية، وقادرا كذلك على فتح فضاءات جديدة أمام رواد الأعمال الشباب.
ولعل ما يميز هذه التجربة أن بوشر اختارت أن تبدأ من الإنسان قبل المكان، فقد توجهت إلى المدارس والكليات والمجتمع المحلي، ونشرت الوعي بقيمة الوقف عبر برامج متنوعة مثل "فرع الوقف" والمعارض المتنقلة و"سيرة ومسيرة"، إدراكا منها بأن الوقف لا يستعيد دوره إلا إذا استعاد المجتمع ثقته به، ومع بناء هذه الثقة، بدأت المؤسسة في العمل على الملفات الأصعب. وعلى رأسها الأصول الزراعية الوقفية المتعثرة التي كانت لعقود تمثل تحديا إداريا وماليا.
ومن هنا جاءت تجربة تحويل مزرعة وقفية متوقفة منذ سنوات إلى مشروع سياحي وزراعي وتعليمي في الوقت نفسه، وقد بين البوسعيدي أن فكرة المشروع لم تنطلق من وفرة مالية، بل من التقاء ثلاثة عناصر: أصل وقفي لم يستثمر كما ينبغي، وشاب عماني يمتلك خبرة وفكرا استثماريا مبتكرا، ومؤسسة وقفية تمتلك الإرادة والقدرة على فتح الطريق، وعبر هذا التلاقي، تولدت فكرة مشروع يضم بيوتا محمية، ومساحات زراعية حديثة، ونقطة لقاء لرواد الأعمال، ومطعما ومقهى تديرهما عمانيات، ومنفذا لمنتجات الأسر المنتجة، وموقعا تعليميا لطلبة المدارس في الفترات الصباحية، فهذا النموذج يعيد صياغة مفهوم الأثر الاجتماعي للوقف، ويحوّل المزرعة من عبء إداري إلى منصة تحتضن ريادة الأعمال وتفتح أمام الشباب مساحات جديدة من العمل والإنتاج.
كما وسعت بوشر نطاق عملها إلى التطوير العقاري عبر تشغيل "بيت المقحم" التاريخي، وإلى الابتكار من خلال إطلاق "هاكاثون الوقف"، وإلى الإعلام عبر تأسيس شركة "أنجم ميديا" التي تدير الفعاليات والمناسبات، ويكشف هذا التنوع أن المؤسسة لا ترى الوقف مجرد قطاع جامد، بل فضاء يتسع للتقنية والسياحة والإعلام والزراعة والتعليم والصناديق الاستثمارية، وأن استثمار الأوقاف يسعى لبناء منظومة متكاملة من الأنشطة القادرة على خلق فرص وظيفية، وتعزيز قيمة المكان، وإحياء الأصول القديمة بفكر جديد.
أما تجربة حارة العقر بنزوى التي استعرضها الدكتور إسحاق الشرياني، فهي تقدم نموذجا مختلفا في الشكل لكنه قريب جدا في المعنى، لقد بدأت التجربة من واقع متواضع؛ رصيد مالي لا يتجاوز سبعة آلاف ريال، وحارة تاريخية تتآكل بيوتها، ونظرة عامة تشكك في جدوى إنفاق الأموال على ما كان يبدو مشروعا غير مضمون، ولكن الرؤية التي حملتها أوقاف العقر كانت مختلفة، فقد أدركت أن التمسك بالأصول حتى تنهار ليس خيارا، وأن الاستثمار في التراث ليس مغامرة، بل ضرورة لإحياء المكان واستعادة دوره التاريخي والاقتصادي.
ومن هنا انطلقت التجربة عبر منهجية تعتمد على الاقتصاد السلوكي والاجتماعي والسردي، (على حسب تعبير الشرياني) وهي منهجيات تسمح بفهم المجتمع، وصناعة قصة اقتصادية ملهمة، وتحويل التراث إلى قيمة سياحية وثقافية واقتصادية في آن واحد، ونجحت التجربة في تحويل السور التاريخي والبيوت القديمة إلى مشروع استثماري حقق عائدا ماليا بلغ 14%، وهو رقم كبير في المعايير الاقتصادية، لكنه ليس أهم ما تحقق، فالأثر الحقيقي ظهر في إعادة الحياة إلى الحارة، وخلق أكثر من 400 وظيفة مباشرة، وارتفاع قيمة العقارات، وإعادة فتح مدارس القرآن الكريم، وانتعاش السوق التقليدي، وارتفاع الأوقاف من نصف مليون إلى ثلاثة ملايين ونصف، وتحول الحارة إلى مقصد سياحي وثقافي يستقبل مئات الآلاف من الزوار.
وتكشف تجربة العقر أن الوقف قادر على تحريك اقتصاد محلي كامل، إذا توفرت الرؤية والجرأة، فقد ارتفع عدد الغرف الجاهزة للاستخدام إلى 220 غرفة، وانتعش سوق المهن التقليدية، وتضاعفت الهبات الوقفية، واستعاد المجتمع ثقته بمؤسساته الوقفية بعد أن رأى الأثر رأي العين، ولعلّ أهم ما تميزت به التجربة هو قدرتها على تحويل "القصة" إلى جزء من الاقتصاد نفسه، فحديث الناس عن الحارة في المنصات الاجتماعية الحديثة وفي المجالس وفي وسائل الإعلام أصبح عنصرا اقتصاديا يضيف قيمة، ويدفع بالمشروع إلى الأمام، ويجعل منه نموذجا وطنيا يستدعى اليوم في محافل عالمية.
وحين ننظر إلى التجربتين معا، نجد أنهما تمثلان ملامح رؤية عمانية جديدة للوقف، رؤية تعيد تعريف الوقف بوصفه قطاعا اقتصاديا قادرا على الإنتاج والتطوير، يتجاوز كونه مصدرا للإيرادات التقليدية، فبوشر والعقر تقدمان درسا واضحا مفاده أن الوقف الذي يتفاعل مع المجتمع، ويتحالف مع رواد الأعمال، ويستثمر في الإنسان والمكان معا، قادر على خلق أثر يتجاوز حدود المشروع نفسه، ليصل إلى إعادة إحياء المدن، وصناعة الوظائف، وإلهام المؤسسات، وتعزيز الانتماء للمكان.