جذور القُبح والاستعلاء الصهيوني
تاريخ النشر: 18th, August 2024 GMT
محمد بن رضا اللواتي
mohammed@alroya.net
قبل أيام جاء البيان المشترك لكل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا يدعو إيران إلى الإحجام عن الرد على اغتيال إسرائيل لإسماعيل هنية في طهران، ليُظهر لنا عنجهية حكومات هذه الدول الثلاثة الغارقة في وحل الصهيونية حتى النخاع، بحيث إن القتل اليومي لأطفال غزَّة ونسائها وشيوخها، وهدم المدارس والمساجد والمستشفيات على رؤوس مَن فيها لا مانع من أن يستمر، مع منع تام للإشارة إليه بالشجب، أما مواجهة إسرائيل ومعاقبتها فممنوع قطعًا!
هل كُنَّا نننظر كل هذا الدم أن يُسكب، وهذا القتل اليومي البشع أن يجري أمام مرأى ومسمع العالم، حتى نكتشف زيف هذه الحضارة لتلك البلدان الاستعمارية؟
الواقع أن الأمر أبعد من جريان دماء الأبرياء كما نراه اليوم في فلسطين، ويتاخم رغبة عارمة لدى إسرائيل من أجل القضاء على كل من هو "غير إسرائيلي" كعقيدة لا تقبل التبديل، كشفها الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي في تحقيقه النفيس عن الصهيونية؛ إذ ذكر لنا أن شريانين يمدان عقلية إسرائيل التوّاقة للغزو والسيطرة، أحد هاذين الشريانين مُستقَى من ملاحم "يوشع" المُحَّرَفة، وغايتها جعل إسرائيل مركزًا للعالم ولتاريخه كحالة تكمن في صلب الديانة اليهودية.
إن الهدف المعلن لهذه العسكرية الضاربة، ليس الدفاع عن إسرائيل؛ بل تفتيت جميع الدول العربية، إنهم يسعون إلى توسعة حدود إسرائيل بالتقتيل والإرهاب لتكون كما رسمها بن جوريون عام 1937م، وفق نص توراتي مُحَّرَف، وهذه الحدود لأرض الميعاد هي من النيل (في مصر) إلى الفرات (في الشام والعراق).
لقد أضافت النصوص المُحَّرَفة القدسيةَ على المذابح التي ترتكبها الصهيو-أمريكية اليوم في فلسطين، بناءً على فقرات من صنيعة الحاخامات من قبيل: "إن مُدُن هذه الشعوب، قد حكم ربك أن لا ينبغي أن يُدع مخلوقًا حيًا من غير اليهود يعيش فيها. عليك بإبادتهم جميعًا كما أمرك الرب مولاك".
أما الشريان الآخر- كما يذكره جرودي- فيكمن في "طبيعة الغرب الحديثة" التي سقت الصهيونية كؤوس الرغبة المفعمة في السيطرة وقمع غير اليهود. ألا يفسر هذا لنا لماذا تنبري فرنسا وألمانيا وبريطانيا لغض النظر عن هول جرائم إسرائيل الشنيعة وبالمقابل ترعد جيوشها ويبرق سياسيوها وتقض مضاجعهم، لمجرد التفكير في أدنى احتمال وقوع تأديب يطال صهيونيتها الخليعة من كل فضيلة؟
لعل جارودي ينظر إلى القرن 18 و19 من تاريخ أوروبا؛ حيث ضربت العدمية ثم العبثية، وتلاها الإلحاد، بالخصوص في هذه الدول الثلاثة، حتى إن المؤرخ والفيلسوف الأمريكي ويليام ديورانت وصف الإنسان فيها قائلًا: "كان كل شيء يتطور إلّا الإنسان". (قصة الحضارة ص361).
إنَّ أولئك الذين يظنون أن الدماء التي تجري في سكك غزَّة المهدمة بالكامل، ستبقى دماء غزَّة وحدها، لم يقرأوا جيدًا تاريخ صناعة الدولة الصهيونية، أو لم يصَّدقوا ما قرأوا، فكما تم إغفال وجود ذكر لشعب فلسطيني تمامًا عند صياغة السياسة الصهيونية، وعند اتخاذ قرار سلب أرضهم منهم، سيتم يومًا صياغة سياسات شبيهة تجاه كل من هو غير يهودي، ومن المؤسف أننا لا زلنا في حاجة إلى مزيد من الوقت حتى تنكشف هذه الحقائق المكشوفة سلفًا.
كتب جارودي يقول: "عدم وجود ذكر هذا الشعب، لا في كتاب هرتزل ولا في الاجتماعات التأسيسية للحركة الصهيونية العالمية، هي مُسَّلمة أساسية للصهيونية، تفرَّعت عنها جميع الجرائم اللاحقة، وها هي جولدا مائير تُصرِّح لجريدة صاندي تايمز بتاريخ 15 يونيو 1969 قائلة: "لا وجود للفلسطينيين، وواقع الأمر لا يبدو وكأنه كان ثمة شعب فلسطيني يعتبر نفسه شعبًا فلسطينيًا، كما لو جئنا لطرده والاستيلاء على بلاده، والواقع أنه لم يكن موجودًا أصلًا"، ولكنهم يقاومون، فوجب إقصاؤهم وتقتيلهم كما قتلت أمريكا الهنود الحمر. وعندما سأل آينشتاين، وايزمان الذي كان حينئذٍ أحد قادة المنظمة الصهيونية العالمية: ماذا سيحلُ بالعرب إذا ما أُعطيت فلسطين لليهود؟ أجاب: "أي عرب تعني؟ إنهم لا يعدون شيئًا!". (يُراجع: دراسة في الصهيونية / اليهودية).
أليس من المؤسف أن علينا أن ننتظر أكثر لنشهد- لا سمح الله- هذا اليوم؟!
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
انهيار الأسطورة الصهيونية أمام الرد الإيراني.. نهاية التفوق العسكري المزعوم
يمانيون – تحليل
مع تصاعد حدة الحرب بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والكيان الصهيوني، تعود إلى الواجهة مجددًا خيوط مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي أعدّته الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني منذ عقود، كأداة استراتيجية لإعادة رسم خارطة المنطقة بما يتوافق مع مصالح قوى الهيمنة والاستكبار، ويخدم تمدد المشروع الصهيوني على أنقاض الدول العربية والإسلامية المفككة والمنهكة عسكريًا واقتصاديًا.
فليست هذه الحرب المستعرة مجرد جولة تصعيد أو ردع متبادل، بل تأتي في سياق مشروع استراتيجي شامل تسعى من خلاله واشنطن وتل أبيب إلى استكمال هندسة شرق أوسط مفصّل على مقاس أطماعهما السياسية والاقتصادية، يقوم على تدمير الجيوش، وتفكيك المجتمعات، وتحويل الدول إلى كيانات وظيفية تابعة سياسيًا ومشلولة عسكريًا.
من بغداد إلى دمشق فصنعاء… فطهران!
لم تبدأ فصول هذا المشروع اليوم، بل منذ غزو العراق عام 2003، حين تم تفكيك الجيش العراقي كليًا، وتدمير البنية التحتية العسكرية والعلمية العراقية، وإسقاط الدولة المركزية. تبع ذلك تدمير ممنهج للجيش السوري في حرب استنزافية مفتوحة، ثم الدفع بالمؤسسة العسكرية المصرية إلى حافة التحييد، بعد أن كانت تمثل أكبر كتلة عسكرية عربية.
وكان لا بدّ من استكمال المخطط باستهداف إيران، بوصفها رأس محور المقاومة وحجر عثرة أمام الهيمنة الأمريكية الصهيونية، خصوصًا بعد أن أثبتت خلال العقدين الأخيرين قدرتها على نقل المواجهة إلى عمق الكيان، وتوسيع شبكة نفوذها الاستراتيجي من اليمن إلى لبنان، ومن سوريا إلى العراق.
إيران في قلب المواجهة… وصمت عربي مخزٍ
اليوم، تخوض إيران مواجهة عسكرية مفتوحة مع الكيان الصهيوني، في ظل عدوان متصاعد استخدم فيه العدو كل أدواته التقليدية وغير التقليدية، مستهدفًا منشآت حيوية وإعلامية وعسكرية داخل العمق الإيراني، في محاولة لضرب القدرات الدفاعية الإيرانية وإحداث صدمة استراتيجية تقود إلى تحجيم النفوذ الإيراني المتصاعد.
وفي المقابل، جاء الرد الإيراني قويًا ومفاجئًا، ميدانيًا وتقنيًا، إذ نفذت طهران خلال الأيام الماضية هجمات دقيقة بصواريخ متقدمة وطائرات مسيرة اخترقت عمق الكيان الصهيوني، وتسببت في انهيار منظوماته الدفاعية التي ظهرت عاجزة حتى عن حماية نفسها، كما أظهرت التقارير الأخيرة التي رصدت “نيران صديقة” أصابت بطاريات دفاعية إسرائيلية في النقب.
وسط هذا المشهد، تقف الأنظمة العربية – باستثناء اليمن – عاجزة وصامتة، تكتفي ببيانات خجولة لا تتجاوز سقف الإدانات الشكلية، رغم أن الخطر القادم لا يقف عند حدود إيران، بل يطرق أبواب الجميع، في إطار خطة أمريكية صهيونية أوسع للهيمنة على الثروات العربية واستعباد شعوب المنطقة.
الهيمنة الأمريكية وابتزاز الخليج
الولايات المتحدة التي تحاول تقديم نفسها كحامية للمنطقة، تمارس في الحقيقة أبشع أشكال الاستعمار الاقتصادي، من خلال ابتزاز أنظمة الخليج ماليًا وأمنيًا، وبيع أوهام الحماية مقابل مليارات الدولارات، بينما تحوّل هذه الأنظمة إلى كيانات مستهلكة لا تملك قرارها، وتُحرم من أبسط مقومات السيادة أو حتى الدفاع عن نفسها.
إن سياسة الابتزاز هذه، وإن بدت اليوم موجهة لدول الخليج، فإنها تتسع لتشمل كل المنطقة، عبر مخطط يهدف إلى إحكام السيطرة على منابع الطاقة، وسوق العمل، والممرات البحرية، تحت شعارات كاذبة كـ”السلام الإبراهيمي” و”الأمن الإقليمي المشترك”، والتي لا تعدو كونها واجهات لمشروع استعمار ناعم يُدار من تل أبيب وواشنطن.
مشروع الشرق الأوسط الجديد في مراحله الأخيرة
المؤشرات المتصاعدة من المواجهة الإيرانية الصهيونية تؤكد أن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني بصدد تنفيذ المراحل الأخيرة من مشروع الشرق الأوسط الجديد، والهدف الآن هو رأس المحور الإيراني: تدمير القدرات الصاروخية والعلمية، وإحداث اختراق داخلي يُفضي إلى تفكيك الدولة الإيرانية من الداخل، كما حدث في العراق وسوريا.
لكن إيران اليوم، وبعد سنوات من الحصار والاستهداف، تدخل هذه المعركة وهي تمتلك قدرات عسكرية نوعية، وتجربة واسعة في إدارة الحروب غير المتماثلة، وشبكة حلفاء فاعلين على امتداد الجغرافيا العربية، وفي طليعتهم اليمن، الذي يؤكد حضوره الناري في معادلة الردع من خلال عمليات متواصلة تستهدف عمق الكيان الصهيوني بالصواريخ والمسيّرات.
اليمن.. صوت المقاومة الوحيد
وفي الوقت الذي يصمت فيه الجميع، تمثل الجمهورية اليمنية – بقيادتها الثورية – الاستثناء الوحيد، إذ أعلنت منذ بداية العدوان الصهيوني على غزة، ثم العدوان على إيران، موقفًا مبدئيًا وشجاعًا، عبّرت عنه ميدانيًا عبر عمليات متصاعدة ضد أهداف عسكرية وملاحية للعدو، وجعلت البحر الأحمر ساحة حرب مفتوحة تقيّد حركة الكيان وتكلفه خسائر باهظة.
اليمن اليوم، هو الدولة الوحيدة في العالم العربي التي لا تكتفي بالبيانات، بل تحارب فعليًا، وتربط مصيرها بمصير القدس وطهران وغزة، وهو ما يعيد الروح لمفهوم “أمة واحدة في وجه عدو واحد”، بعدما مزّقته السياسات الأمريكية والصهيونية على مدى عقود.
وفي الختام..
إن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” ليس مجرد مخطط نظري، بل هو واقع عملي يتم تطبيقه على مراحل، والقصف على طهران جزء منه، تمامًا كما كان غزو العراق، وتدمير سوريا، وإفقار لبنان، وتفكيك اليمن. والخطورة تكمن في استمرار صمت الأنظمة العربية، التي إن لم تتحرك اليوم فستكون هي الهدف القادم.
وحده وعي الشعوب، ومواقف قوى المقاومة، هي ما تبقّى من عناصر القوة في هذه المنطقة، وعلى الجميع أن يدرك أن المعركة اليوم لا تخص إيران وحدها، بل تمسّ حاضر ومستقبل الأمة بأسرها.
فالعدو لن يكتفي بطهران، كما لم يكتف ببغداد، ومن يظن أنه بمنأى عن هذا المشروع سيكون أول ضحاياه.