قارب الكعبي الذي لم ينس صُوَرَ الحياة
تاريخ النشر: 19th, August 2024 GMT
ضمن إصدارات الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء عام 2023م، صدر للشاعر عبدالله الكعبي ديوانه (القارب الذي نسي البحر)، الذي يأتي بعد عدد من الإصدارات الشعرية ابتدأها بديوان (كأنّ الوجوه تراني) ثم ديوان (إذا مسّه الحب)، و(النيرا ونجوم أخر)، و(أوتار مهملة)، و(ضمير المخمل) وفي كل هذه المجموعات تتفاوت التجربة الشعرية عند الكعبي اشتغالا وتجريبا وإبداعا؛ فمنذ إصداره الأول قدّم الكعبي نفسه واحدًا من الشعراء الشباب في المشهد الشعري العماني الذين أخرجتهم المسابقات المحلية كالملتقى الأدبي والمسابقة الأدبية ومسابقة المنتدى الأدبي ومهرجان الشعر العماني ومن خلالها عرفنا ميل الكعبي إلى القصيدة الجديدة القائمة على الاشتغال الفني المغاير للأسلوب التقليدي في الكتابة الشعرية.
لم يكن عبدالله الكعبي مهتمًا بمسألة الشكل الشعري والصراع الحاصل معه كما في بدايات كثير من الشعراء الشباب، لكنه نشر أغلب نصوصه في إطار قصيدة التفعيلة التي رأى من خلالها أفقًا يفتح له أبواب الكلمة وصحراء التأمل الشعري؛ لذا اشتغل في دواوينه الأولى على بناء نصوصه في هذا الإطار، ومع أنه حاول في مجموعاته الأخيرة العودة إلى الشكل العمودي في غير نص فإني أرى أنّ نصوص التفعيلة كانت أكثر توهجًا لديه من النصوص العمودية التي وقع في شراك البساطة في غير موضع منها.
يطالعنا عبدالله الكعبي بمجموعته (القارب الذي نسي البحر) وفيه يأخذ القارئ إلى اتجاهين اثنين: الاتجاه الأول نجده يصعد في خطابه الشعري واضعًا صورًا مختلفة للآخر المشاهَد، فتتشكّل النصوص في هيئة رسائل خطاب إلى من تشكّلت صورته في ذاكرة الشاعر سواء كان حقيقيًا أو متخيلًا. ولعل القارئ سيجد أشكال الآخر واضحة في غير نص من نصوص المجموعة ومنها نصوص: (التوأمان، والحرب، وثريا، والفاتنة زهرة، والقابلة «الداية»، وإلى حاتم علي: المخرج، المشهور، و«أم الدويس» أنثى الرغبة، وشبيهي، ولاعب القمار).
في نصَّي التوأمان والحرب نجد الكعبي يرسم صورة إنسانية عن الآخر الذي يتكرّر حضوره الإنساني في حياتنا المعاصرة، فالحروب أوجدت صراعًا بين أطراف متنازعة وحصدت الأرواح ومعها ارتفعت الخسائر، ففي نص (الحرب) تظهر الدلالات في صراعها اللغوي مشكّلةً صراعًا داخل النص كما هو الصراع في الحياة: أنا/ الجندي والعدو:
في الحرب نسيت العناقَ
وخبزَ أمي...
ولم أنسَ عدوي المحدّق بنقطة الضعف فيَّ
يراني وأراه...
يجذبني للغياب
ينادي أمه: أمّاه هل أقتله؟
يتشكّل الصراع هنا من لقطة تشكّلت في مخيلة الشاعر والإنسان عن الصراع على أرض الواقع، كل طرف يحاول القضاء على الآخر، لكن مهمة الشاعر هنا أن يجعل المشاعر تثور والكلمات تتدفق معبّرة عن الصورة الواقعية.
يقع المقطع الشعري السابق بين مقطعين مهمين: المقطع الافتتاحي الذي يرسم من خلاله صورة الإنسان القاطن هذه الأرض كما في قوله:
هيبة محب، متى ضممت -أنتَ لا غيركَ- قبلة وعدتَ لوقتكَ؟
كلام مدفون بين النارنجة والدخان، لا بدّ من مرور سريع للكلام...
صفقات الجاريات المقتادات في هذا الليل الحالكِ، مكتظة بالجرأة...
غاب الضباب بسرعة، وعدتُ مع الشمس...
الإنسان المشبع بالذكريات،
وحده يعاني الماضي،
وحده من يموت قلقًا على الغيب ومن الوردة
وحده يكتب سلالته للموت ويهبه المزيد من الغرباء...
ثم يختتم نصه هذا بمقطع أخير تقوده الذاكرة والبراءة والأمومة متخيلًا الاستعادة على هيئة انحراف عن الطبيعة والأخوة والإنسانية، ولعل سؤالًا مثل «هل» كان كافيًا لطرح تلك المعاني وإيجاد نظرة فلسفية في فهم الصراع الحاصل:
ينادي أمه: أماه، هل أقتله؟
هل كانت شطيرة الجبن كافيةً كي أكبر لهذا الوقت؟!
هل يعادل دمه شعركِ الحريري وإبرة الخياطة؟!
هل يعادل لحمه عناء النهوض باكرًا؟!
تعدين لي سلال الحب والشوق والتمر؟
تقوديني للباص؟
لا لأكون قاتلًا...
هل كانت قصصكِ عن المروءة تنويمة؟
أم (تعويبة)؟
عدوي اقتلني وأقتلك
علّنا نُرضي أمهاتنا
لعلهن يبكين علينا...
فاقتلني وأقتلك
فالسلام عليك حينما أبعث بعدك حيًا.
لعل صور الآخر التي شكّلها الكعبي في نصوصه كانت متنوعة بتنوع رؤيته للحياة؛ فمن نظرة التوأم إلى توأمه في تشاركهما للحياة، إلى رسم صورة الآخر في هيئة القابلة (الداية) التي تتصدر النص بصيغة المتكلم واصفة مشهد ولادة جديدة لهذه الحياة المليئة بالتراكمات القاسية والصراع، فالداية التي تعودت على هذه المشاهد هي نفسها شاهدة على الزمان المليء بالتناقضات وهي المعنية بفهم أسرار الحياة والرحيل.
كذلك في نص (أم الدويس) نجده يستحضر صورة متخيلة للآخر في الحكاية الشعبية المتمثلة في أم الدويس، فهي لديه لا تمثّل ذلك الخوف كما في أعين الناس وفي حكايات مجالسهم، إنه يصورها كما يصور العاشق حبيبته:
أحبكِ، كي أجلب منجلكِ لخاصرتي،
وتراقصين طبلة أذني بهمسكِ
علّقيني بدفئكِ،
واربطيني في (خصف) التمر، لعل يديها مرت في خيوط السعف
ليلي -وإن حبستُ الغائبَ- رجوع الأسئلة
أنتِ تقطعين الحب وتجذبين العمر لضفتين من عتاب
أنتِ زاوية الفرجة،
فلتكسري الشماريخ لكل عطلة
أبعديني
عن القمر
ومهما هزل الموت وتلاشى الحوار...
قبليني حتى أعانق بكِ هذه الأزمنة.
إذن فالاتجاه الأول الذي أقرأ من زاويته المجموعة الشعرية هو رسم صورٍ متعددة للآخر تنبني عليها النصوص الشعرية وفق رؤية الشاعر، أما الاتجاه الآخر فهو لجوء الشاعر في خطابه الشعري إلى الأنثى واستعارة مفردات اللغة الرومانسية وهذا ظاهر في غير نص أيضا؛ نقرأ ذلك في نصوص مثل: (احتساء، والانتظار، وجهة حمراء، وتعويذة الحجر، وأتقصاك، ولم أجدكِ، ومن لهب).
يظهر الخطاب الأنثوي في المجموعة مشتبكًا مع اللغة التي يحاول من خلالها الشاعر التعبير عن عواطفه وميله إلى الآخر الأنثوي. ويأتي الخطاب متشكّلًا من ضمائر المخاطب التي يوسّع الشاعر بها خطابه الشعري لتصبح الرومانسية جسرًا ممتدًا بين طرفين يُعلي قيمة الآخر في دلالات النص الشعري. في نص (احتساء) يقترن الخطاب بالرومانسية الشفيفة وتظهر الدلالات معبّرة على العلاقة المتصلة بالحب، ونجد مفردات مثل (الحب، والذاكرة، والنشوة، والفرح، والرمال، والشراع، والأنين، والريح، والنجمة) تمزج الاتجاه الرومانسي في اتصاله بالأنثى، ونجد ألفاظًا مثل «تمرّين» تتكرّر في غير موضع مقدمة للعلاقة العاطفية، ففي نص (احتساء) يقول:
تمرّين كزجاجة معتّقة
ويحتسيك الحب والذاكرة
تمرّين، كشراعٍ في الأنين متعبة...
وفي نص (الانتظار) نجده يقول:
وحدي، أنتظرُ اخضرار الوقتِ
واخضرارَ الحبّ
واخضرارَ جرس التنبيه
وأنا أراقب حالات الواتساب القزحية
تمرّين يا حبيبتي في بالي،
فأتذكّر عينيك الهادئتين،
وأعشق الانتظار.
إنّ فعل المرور في المقطعين السابقين يمثّل قيمة عاطفية في بناء النص يحيله على عشق الانتظار، وهو فعل متكرّر يلجأ إليه الشاعر باستمرار لبناء النص الرومانسي مثلما هو فعل الانتظار الذي يتكرّر أيضا في غير موضع من المجموعة؛ فمثلما وجدناه في النص السابق نجده في نص (جهة حمراء) إذ يقول:
أين يضع العصفور روحه؟
على شفة حمراء.
أين أنتِ؟
بانتظار جناحكَ، كي تلفني.
واتخذنا -بعد ذلك- الجهات حصانًا.
إن للانتظار قيمة شعورية قائمة على الشوق واللهفة للقاء الحبيب وكأن الشاعر يحاول تقريب المسافات بنحت أفعال تعبّر عن دلالات اللقاء والحب. إن المتأمل في الخطاب الأنثوي للكعبي يجده يكثر من هذا التكرار الذي اتخذه أسلوبًا في العلاقة بين طرفين، لنا أن نلاحظ قيمة السؤال المتكرر: «أين أنتِ؟» في المقطع السابق وفي نص (لم أجدك)، وكذلك تكرار لفظ «لم أجدكِ» في نصي (أتقصاكِ، ولم أجدكِ).
إنّ لهذا التكرار دواعي في الاستخدام الشعري وأظن أن الكعبي قصده عن وعي من أجل توطيد العلاقة بين الخطاب والصورة المقصودة.
إن مجموعة (القارب الذي نسي البحر) تُعيد إلينا شيئًا من الاشتغال الواضح للشاعر كما في دواوينه الأولى، ويظهر هذا الاشتغال في غير نص قدّمه الكعبي في مجموعته هذه ومن زوايا عدّة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی غیر نص کما فی
إقرأ أيضاً:
نزعة التجريب وتجليات الميتاشعرية لدى الشاعر محفوظ الفارسي في حضرة البحر (2 من 2)
إن المشروع الحداثي للشاعر محفوظ الفارسي قائم على تفكيك الداخل لا على الاستيراد من الخارج، والتراث بالنسبة إليه تربة خصبة تسيء إليها الزراعة المتكررة للمحصول نفسه، وتنهكها الأنماط الجامدة، ينظر إليه كأرض متجددة لا كمتحف مغلق، لا يرفضه وإنما يرفض إعادة إنتاجه بنفس الصورة المستهلكة، لذلك نجده معتز بهويته منتمٍ إلى مجتمعه فخور بحاضره وتاريخ أجداده، فنجده يقول:
" وأنا على مرمى شِعر،
مرمى وطن.
وجهي تواريخ وصكوك أجداد
هذا البحر وجهي.
وهذا الفلج وجهي.
وهذا السفر وجهي.
وهذي القلاع الفاتحة ذراعها للضوء والتاريخ وجهي.
وهذي الصحاري الماتحة من غيمتك وجهي.
من جدي الأول إلى الأحفاد"
إلى أن يقول:
"ثلاثين عام من الكتابة الشائكة
مجاهل التجريب..
الحفر في جلد القصيدة الباذخة،
وأبعاد من رحم القصيدة بلاد
في كل عزلة لي قراءة فاحصة
وبعض الرؤى والأسئلة،
وبعض اجتراحاتي على الأبعاد.
الليل يعصب غترته على كتف ساحل
وأنا أتهندم كل صبح
هويتي دشداشتي اللي لابسنها فخر
وهذا المصر..
اللّي على راسي من الأجداد ".
في هذا النص وفي غيره من النصوص تظهر براعة الشاعر محفوظ الفارسي في المزج بين التجريب الجمالي والانتماء الهوياتي، فهو لا يجرب الشعر خارج نسيج الذاكرة والهوية، لم أجد قصيدة واحدة من بين خمس وعشرين قصيدة في إصدار (في حضرة البحر) إلا وتحمل - تصريحًا أو تلميحًا - إشارات إلى ذاكرة الشاعر أو إلى مكونات هويته، وهذا يمنح شعره صدقا عاطفيا وعمقا فلسفيا في آن واحد، كما أنه رغم نزعته التجريبية نحو رفض الماضي لم يتخلى عن القصيدة العمودية حيث شكلت ما يقارب 50 % من مجمل النصوص، (12) نص من ال (25) نص، هذا بالإضافة إلى حضور المفردة المحلية في عدد من النصوص مثل ( افتح إطلالة درايش عيني الثنتين)في نص (مورق هذا الكسل)، (هيش القصيدة)و (فاحت لبان من الحنين المر لبيوت السعف) في نص (ثرثره)، (نمنم طرف دشداشته)، (طارد بنات الريح في عقصك) في نص (أترنح مثل بحر وأغنية)، مفردات الفلج والقلاع والدشداشه والسكيك والمصر في نص (على مرمى وطن)، لالٍ جابري، وغنجة وهيراب وردن في نص (ردن الغمام)، لمة يهال في نص (شيخة)، والكثير من الأمثلة التي نجد فيها المفردة المحلية لا تؤدي دورا تجميليا فقط، وإنما يستدعيها الشاعر محفوظ الفارسي لتحمل الذاكرة الجمعية والهوية العمانية إلى قلب التجربة الحداثية.
فمن اللافت ـ فعلا ـ في تجربة محفوظ الفارسي الحداثية، أنها رغم انفتاحها الجمالي ورؤيتها التجريبية، لم تسقط في فخ الاستيراد الثقافي أو التماهي مع نماذج خارجية، بل حافظت على مرجعيتها المحلية بكل قوتها الرمزية والدلالية. وهذا يجعلها مدرسة تستحق أن تُدرّس لا أن تُقرأ فقط، ويدل على انها تجربة تتكئ على وعي متجذر في الذات والتراث وليست فعلا شكليا طارئا، فهو كما يقول عن نفسه في لحظة الحضرة (كاتب نحو / كلما فتح شريانه ل أسلاف القصيدة/ هش قطعانه من الغيم/ وتوضأ النحو) فهو لا يكتب من الفراغ أو العدم، وإنما يفتح شريانه ليتصل بتاريخ الشعر وأسلافه الذي يسكنون دمه، وعندما استدعى الأسطورة نادى شهرزاد كأحد الشخصيات الأكثر حضورا في التراث العربي والإسلامي، وحتى عندما أراد توظيف رمز لعلم أنثوي لم يلجأ إلى أسماء من الموروث الرومانسي الغربي، بل قال في لحظة استبصاره لنبوءات البحر: (عيون شيخة درب) أما في حضرته قال: (اسمائنا من غيم يا شيخة)، كأحد أكثر الأسماء حضورا في مجتمعنا العماني والخليجي.
كما أن تتبع مظاهر النزعة الحداثية لدى الشاعر محفوظ الفارسي كشفت عن تحول عميق في رحلة البحث عن المعنى لديه، تمثلت في الانتقال من الإحاطة بالمعنى إلى الإقامة فيه، لذلك وبتقديري المتواضع فإن الشاعر محفوظ الفارسي في إصداره الجديد لم يكتفي بمواصلة حالة التجريب الشعري وكسر التقليد والرتابة وإنما تجاوز ذلك إلى تقديم خطاب شعري يتأمل فيه الشعر من داخل الشعر نفسه، ويجعل من الكتابة الشعرية موضوعًا للقصيدة، بحيث لا تكون القصيدة فقط وسيلة للتعبير، بل وسيلة للتساؤل عن شرعية هذا التعبير، عن أدواته، وحدوده، وقيمته، وهذا ما تعنيه الميتاشعرية في أبرز تجلياتها، فلم يكن البحر الذي يحضّره الشاعر إلا الشعر نفسه من أول قصيدة حمل الإصدار عنوانها إلى آخر قصيدة حملت في عنوانها تصميم الشاعر على كسر الرتابة فيه. (19) نص تقريبا تناولت الشعر إما موضوعا صريحا أو ضمنيا بصفته مسكنا لذات الشاعر وساحة للتأمل في تحولات اللغة وقلق البحث عن المعنى، في حين لم تخل النصوص الستة المتبقية من ظلال الشعر. وفي محاولة لدعم التأويل بالأدلة قمت بتتبع إحصائي لعدد (11) مفردة متصلة بالشعر كموضوع أو اشتغال هي (الكتابة ـ القصيدة ـ الشعر ـ الشاعر ـ النص ـ الكلام ـ القافية ـ المجاز ـ الخيال ـ المعنى ـ اللغة)، وبحذف العناصر غير الشعرية من الإصدار مثل الغلاف والفهرس والسيرة الذاتية وغيرها، وجدت أن تكرارات الإحدى عشر مفردة بلغت (102) مره من أصل (1927) مفردة أشتمل عليها الإصدار، أي إنها شكلت ما نسبته (5.3%) من إجمالي المفردات، ولتقرير ما إذا كانت هذه النسبة صالحة للحكم على أن إصدار (في حضرة البحر) يتبنى خطابا ميتاشعريا واضحا عملت على مقارنته عموديا مع إصدار (استبصار لنبوءات البحر) لنفس الشاعر يسبق الإصدار موضوع الدراسة بخمس سنوات، وأفقيا مع إصدار حديث لشاعر عماني متحقق صادر في نفس العام وهو إصدار (يا قلب الغريب) للأخ الصديق الشاعر حمود الحجري فكانت النتيجة على المستوى العمودي أن بلغت تكرارات المفردات المذكورة (114) مره ولكن من أصل (3176) مفردة في إصدار (استبصار لنبوءات البحر)، أي حققت ما نسبته (3.6%) من إجمالي المفردات. وهذه النسبة تعبر عن حضور أقل نسبيا عن إصدار (في حضرة البحر)، وتكشف عن أن هناك ميتاشعرية مضمرة أو متخفية خلف نبرة الحكمة والرؤيا في مرحلة الاستبصار والتي انتقلت إلى الفعل والمواجهة في مرحلة الحضرة، وكمثال توضيحي لذلك في الإصداريين نجد الشاعر يقول في الأول ( علميني كيف أكتب/ كيف أتمرد على التابو القديم) أما في الثاني قال: (أبركل التابو) في لحظة تمرد صريحة وفعلية. أما على المستوى الأفقي فقد بلغت تكرارات نفس المفردات في إصدار (يا قلب الغريب ) للشاعر حمود الحجري (4) تكرارات فقط من اصل (1957) مفردة، أي ما نسبته (0.2%)، وهي نسبة بالغة الانخفاض مقارنة بما ورد في إصداري محفوظ الفارسي (في حضرة البحر): 5.3% و(استبصار لنبوءات البحر): 3.6%، وهذا التفاوت الحاد نتيجة طبيعية يمكن فهمها في ضوء اختلاف طبيعة المشروع الشعري لكلا الشاعرين ، فالشاعر حمود الحجري يوظف الشعر بوصفه وسيلة وجدانية صافية للتعبير عن الذات والحنين والذاكرة، دون أن يكون فعل الكتابة نفسه موضوعًا للتأمل، مما يعني أنه يمكن أن نجد هذه النتيجة حتى مع محفوظ الفارسي في إصدارات سابقة لم يكن الفعل الكتابي هو موضوعها الأساسي وهذاما يثبت ما ذهبنا إليه في أن محفوظ الفارسي في (إصدار في حضرة البحر) كتب عن الشعر بالشعر وهو ما يسمى بالميتاشعريه (الشعر على الشعر) أو (ما وراء الشعر) .
وقد تجلت مظاهر الميتاشعرية في عدة نصوص من إصدار (في حضرة البحر) فنجد أن الشاعر محفوظ الفارسي يكتب عن تجربته الشعرية داخل القصيدة ويتحدث عن ارتحاله بين نصوصه، مجازاته، استعاراته، إجتراحاته، متأملا ذاته عبر ماضيه النصي، فيقول:
"عايدٍ من نص من شرفة حوار / من مجازات النهار وأوّلهْ
من سراب اللّيل من سفْر النوار /من مرايا ما رمته الأسئلةْ
عايدٍ من سرب أجنحة النهار / من كتاباتي القديمةْ الموغلةْ
لاستعاراتي ورا هذا المدار / لاجتراحاتي على حدّ الولهْ
للقصيدةْ في نوافذها المحار / للبحور الغايباتْ المهملةْ "
ونجده في طريق عودته من قلب القصيدة يقول في نص آخر:
أعترف مريت صدر الشمس حافي
لا سما إلاي، وأكتافي جريدة
وين ما تصحى بأطراف المنافي
للنهار العذب أوكارٍ جديدة
أتوسد في صباحاتي كتافي
أتشاغب والمدى فكر وعقيدة
فارد جناحي على زرقة ضفافي
راوي أخباري لأسفارٍ بعيدة
كني الشافي من الشعر المعافي
وكنّي الباني قوالبه الرشيدة
وكنّي الواهب من الإحسان قافي
للقصيدة كلما أكتب قصيدة" (الفارسي، 2025)
نجد في هذا النص خاصية من أهم خصائص الميتاشعرية وهي وعي الشاعر بالفعل الكتابي واشتغاله عليه، يصف الشاعر محفوظ الفارسي حالة الشاعر الوجودية لحظة الكتابة، في عبوره نحو مصدر الإلهام -الاحتراق- الذوبان (صدر الشمس)، (حافي) أي متورط فيه حتى الجلد، (لا سما إلاي) أي لا سلطة فوقي، لا ملاذ / لا ظل، لا مرجعية إلا أنا، الذات هي الأعلى هي التأويل هي المعنى (وأكتافي جريدة) في اللاوعي حيث ينبعث المعنى الشعر والشاعر جسدا واحدا كتف الشاعر لوح الكتابة فيصبحان معا حالة لغوية متاحة للقراءة والتأويل، لتبدأ حالة الاستيقاظ والنهوض (تصحى بأطراف المنافي) (أوكارٍ جديدة) تنبعث رؤى جديدة، يصبح فيها الشعر فعلا نقديا متمردا (فارد جناحي) والشاعر يعيش داخله كاشفا لأسراره ( كني الشافي من الشعر المعافي) معالجا له من أي ترهل أو سطحية، يهندس بنيته بحكمة وتوازن (الباني قوالبه الرشيدة)، يحسن إليه (واهب من الإحسان قافي) فكأنه في كل مره يكتبه يمنحه حياة جديدة.
هكذا يطل علينا محفوظ الفارسي من نافذة إصدار (في حضرة البحر) كناقد أكثر من كونه شاعر، فهو يستخدم القصيدة كأداة فحص وتحليل للشعر نفسه، يكتب عن القصيدة والمجاز والصور واللغة بوصفها إشكاليات تحتاج إلى إعادة بناء، لاحظ أن (بعض الشعر منفى وبعضه لو كتبنا ثرثرة)، و ـ بتصرف ـ وجد أن (بعض القصايد له حضاره حافله/ وبعض القصايد ما توافق موعده) فقال (ودّي أغيّر خارطة وجه القصيدة والكره)، (أجغرف المسكون في رحم اللغة)، ولأن (الشعر يم الزعفران وفضة المرمر/ ما حز في صدر البيوت السمر من ظلما. و الشعر منفى المتعبين وعالم أخضر/ أجمل من الحلم الرفيف الأعذب الأسمى) قال :
"لا بدّ من ثمّة مساحة للشعر
تكفي لصورةْ عاصفة
تستبصر آفاق المدى
تاخذ من النجمة القصيّة أبعادها
بريقها / تكوينها / حد التشابه
لا بدّ من شمسٍ تمرّ خيوطها
على الصحاري القاحلة للشعر
على فضا بعض البرامج للكآبة
لا بد..
لا بد..
لا بد من كسْر الرتابة"
في الختام: أعتقد بأنه لا نحتاج أن نسأل إلى أين يأخذنا محفوظ الفارسي؟، يكفي أن نمضي معه! فقصيدته لا تشير إلى الطريق... بل تصنعه.