تعرف التضحية بأنها التخلي عن شيء من حظوظ النفس، لكنها مفهوم واسع في الشعر العربي، فقد حَمَلت وحُمّلت أفكارا ووجهات نظر وعواطف مختلفة. فكيف تناول الشعراء معاني التضحية في ثنايا الشعر العربي عبر العصور؟

كيف تجلى مفهوم التضحية في الشعر الجاهلي؟

ارتبطت التضحية في العصر الجاهلي بالشجاعة والبسالة والذود عن الأهل والعرض والقبيلة، ومن البدهي حقيقة أن ترتبط التضحية بالشجاعة وقوة النفس، فالتخلي عن النفس في سبيل الآخر، وذوبان الفرد في الكل؛ أمر يحتاج قوة نفسية عالية ووعيا جمعيا ضاغطا.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ميسلون فاخر.. روائية عراقية تُنقّب عن الهوية في عوالم الغربة والخذلانlist 2 of 2التعبيرية في الأدب.. من صرخة الإنسان إلى عالم جديد مثاليend of list

وهذا الأمر كان حاضرا بقوة في تركيبة الفرد العربي في العصر الجاهلي عامة، إذ تظهر تضحيات المرء في كرمه النفسي وإقدامه ودفاعه عن قبيلته، ويستند ذلك إلى مروءته وفروسيته وجاهزيته للفداء بنفسه وماله وولده.

كما ارتبطت التضحية في الجاهلية بالقبيلة وإظهار الفروسية، وارتبطت بمعاني الكرامة والشرف، وكانت أحيانا في سبيل الحب والمحبوبة! فمن التضحية بالنفس في سبيل نيل الحرية والفوز بالحبيبة ما أبداه الشاعر الجاهلي الشهير بشجاعته وفروسته في الحروب والمعارك عنترة بن شداد حين قال:

أَنا في الحَربِ العَوانِ .. غَيرُ مَجهولِ المَكانِ

أَينَما نادى المُنادي .. في دُجى النَقعِ يَراني

وَحُسامي مَع قَناتي .. لِفِعالي شاهِدانِ

فهو الفارس الذي لا نظير له، إذا ما ناداه قومه على الرغم من ظلمهم إياه، يلبّي نداءهم ويهب معرضا نفسه للأهوال والمخاطر، لا سيما أنه وفقا للمتداول من حكايته سينال بذلك حريته وسيحظى بمحبوبته ابنة عمه عبلة. وفي قصيدة أخرى يقول:

وَإِذا قامَ سوقُ حَربِ العَوالي

وَتَلَظّى بِالمُرهِفاتِ الصِقالِ

كُنتُ دَلّالَها وَكانَ سِناني

تاجِرا يَشتَري النُفوسَ الغَوالي

من التضحية بالنفس في سبيل نيل الحرية والفوز بالحبيبة ما أبداه الشاعر الجاهلي الشهير بشجاعته وفروسته في الحروب والمعارك عنترة بن شداد (الجزيرة)

قد تختلط معاني الشجاعة بمفهوم التضحية في أشعار الجاهليين، وقد يرى كثيرون أن المعاني التي قصد إليها عنترة أقرب إلى الفخر بالنفس وإظهار شجاعته وبسالته من إظهار تضحياته، على أن الشجاعة والتضحية بالنفس في الحروب والمعارك تحديدا وجهان لقلب واحد.

إعلان

قد نتفق أن عنترة لم يكن معنيا بالدفاع عن قومه والتضحية من أجلهم بقدر رغبته بإظهار نفسه وقدراته وبسالته وإقدامه على بذل النفس في سبيل الحصول على حريته الفعلية، وحريته المعنوية النفسية، واكتساب الاعتراف أو انتزاعه من أفراد قبيلته ومجتمعه، غير أن شجاعته واستبساله في الحروب تعكس تضحيته بنفسه في سبيل تحقيق هدفه وبلوغ مآربه.

وكذلك كان الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد الذي عُرف بطيشه ولهوه وظلم قومه وأعمامه وإهمالهم له، لكنه سطر إحدى المعلقات الجاهلية الخالدة، وتحدث عن معاني التضحية والفداء، وقال واصفا نفسه حين يلبي نداء الكرامة وينبري مضحيا بالنفس:

إذا القومُ قالوا: من فتى؟ خِلتُ أنني
عُنيتُ فلم أكسلْ ولم أتبلَّدِ
ولستُ بزبّانِ الغواني ولا الذي
إذا ما اضطرَبَ القومُ اشتفَى وهو قاعدُ

ويطالعنا الحارث بن حلزة اليشكري وهو يتحدث في معلقته عن التضحية الجماعية والجهوزية التامة للحروب بدون خوف أو وجل أو تردد فيقول:

قومُنا لا يُقِرّون ضَيْمًا

وبهم تُعرفُ الحلومُ الزِّيادُ

وإذا الحربُ شبّتْ على وضَحِ النارِ

فشدُّوا الحيازِمَ الشّدادا

بالانتقال إلى صدر الإسلام والعصور اللاحقة نجد التضحية من أجل الدين والعقيدة والانتصار للحق حاضرة بقوة (مواقع التواصل)

أما "السموأل" الشاعر الحكيم العربي العرق اليهودي الديانة، فقد سطر في الجاهلية قصة من روائع قصص التضحية والوفاء بالعهد للشاعر "امرئ القيس" حين ترك عنده في أمانته أهله وأدراعا ثمينة وانطلق ليطلب مساعدة الروم لينال ثأر أبيه، فاستغل أحد أعداء امرئ القيس من الأمراء آنذاك الفرصة وحاصر السموأل لينال من أمانة امرئ القيس، فقال السموأل قولته الشهيرة: "لا أخفر ذمتي وأخون أمانتي". فحاصر الأمير السموأل إلى أن ظفر بابنه عائدا من الصيد، فهدد السموأل بقتل ابنه إن لم يعطه أمانة امرئ القيس، فضحى السموأل بابنه ولم يتخل عن أمانته! وقال:

وفيتُ بأدرعِ الكنديِّ إني
إذا ما خان أقوامٌ وفيتُ

وهو القائل في قصيدة أخرى:

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
فكل رداء يرتديه جميلُ
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس إلى حسن الثناء سبيلُ

تبدو حكاية السموأل هذه مشوقة لوضعها في ميزان القيم المجتمعية المهيمنة اليوم، ألم تكن التضحية بأمانة امرئ القيس؛ أقصد الأدرع الثمينة فحسب بدون دفع أهله إلى عدوه، ألم تكن واردة وممكنة بدون المساس بشرف العربي وشعور الأنفة والكرامة لديه؟ ألم تكن حياة ابن السموأل آنذاك أغلى وأثمن من أدرع امرئ القيس! هل كان امرؤ القيس سيفضل أدرعه الثمينة على حياة ابن السموأل لو كان الخيار له؟ من يدري!

أما زهير بن أبي سلمى فقد كان من أكثر الشعراء حكمة وحنكة كما تذكر كتب الأدب وتاريخه، وقد خلد في معلقته سيدين من قبيلتي عبس وذبيان ضحّيا بمالهما في سبيل إحلال السلم ورفع ويلات الحرب التي نهشت في ضلوع قبيلتيهما، ودقت عطر منشم بين قبيلتي عبس وذبيان وبطونهما سنين طويلة.

وقد خلد هذه التضحية الشاعر زهير بن أبي سلمى الذي ذكره عمر بن الخطاب رضي الله عنه معجبا به وبحكمته وأشعاره فقال: "لو أدركتُ زهيرا لولّيته القضاء". وحين قابل أحد أولاد زهير سأله: "ما فعلت الحلل التي كساها هرم أباك؟، فقال: قد أبلاها الدهر. فقال عمر: ولكن الحلل التي كساها أبوك هرما لم يبلها الدهر". يقصد بذلك قصيدة زهير التي قال فيها مادحا سيدي عبس وذبيان اللذين ضحيا بمالهما في سبيل حقن الدماء:

يَمينا لَنِعمَ السَيِّدانِ وُجِدتُما

عَلى كُلِّ حالٍ مِن سَحيلٍ وَمُبرَمِ

تَدارَكتُما عَبسا وَذُبيانَ بَعدَما

تَفانوا وَدَقّوا بَينَهُم عِطرَ مَنشِمِ

وبالانتقال إلى صدر الإسلام والعصور اللاحقة نجد التضحية من أجل الدين والعقيدة والانتصار للحق حاضرة بقوة، فقد كان المرء في الجاهلية يضحي من أجل قبيلته وأهله وقيمه المجتمعية، أما في الإسلام فقد صار الدين والمعتقد أولى بالتضحية بكل شيء من أجله، كيف لا وقد أضاف الإسلام إلى قاموس حياة المسلم ومماته معنى الشهادة في سبيل الله، وحدثه عن أجر الشهيد ومكانته وما ينتظره في الآخرة من نعيم.

التضحية والفداء يتفقان في معنى بذل شيء مهم من أجل شيء أهم، وبذل الثمين في سبيل الأثمن (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة)

وبذا ارتبطت التضحية بالإيمان والجهاد في سبيل الله والسعي إلى نشر الرسالة والدعوة والتبليغ، وطغى البعد الديني على التصوير الشعري، ومن ذلك ما جاء في قصيدة حسان بن ثابت الهمزية التي يقول فيها:

عَدِمنا خَيلَنا إِن لَم تَرَوها

تُثيرُ النَقعَ مَوعِدُها كَداءُ

إذ يخاطب في القصيدة نفسها أبا سفيان ويرد عليه هجاءه للنبي صلى الله عليه وسلم، ويعلن متحدثا باسم المسلمين جميعا استعدادهم لفداء الرسول عليه الصلاة والسلام بأنفسهم وأموالهم وأولادهم:

أَتَهجوهُ وَلَستَ لَهُ بِكُفءٍ

فَشَرُّكُما لِخَيرِكُما الفِداءُ

فَإِنَّ أَبي وَوالِدَهُ وَعِرضي

لِعِرضِ مُحَمَّدٍ مِنكُم وِقاءُ

ومثل ذلك ما جاء في قصيدة البردة للبوصيري إذ قال:

فداك نفسي وأهلي إن لي نسبا
بيني وبينك، إني لستُ أنكرهُ

يا أكرمَ الخلقِ ما لي من ألوذُ به
سواكَ عند حلولِ الحادثِ العممِ

وفي هذا السياق تختلط معاني التضحية والفداء، فهل هما من أصل واحد في حكم المعاني؟

إعلان

التضحية والفداء يتفقان في معنى بذل شيء مهم من أجل شيء أهم، وبذل الثمين في سبيل الأثمن، والتنازل عن النفيس من أجل الأنفس، حتى وإن كان الثمين هو الروح أو المال أو الولد!

ولعلهما يختلفان في نقطة السلب والإيجاب في الاستعمال اللغوي المتداول، فالفداء لا يُنظر إليه بسلبية غالبا، في حين قد تكون التضحية أحيانا في سياق الضعف والسلب وعدم الاستحقاق، لذا يمكننا القول إن كل فداء هو تضحية، لكن ليست كل تضحية فداء.

وفي العصر الأموي بقيت معاني التضحية حاضرة في الشعر العربي، لكن احتلّ الولاء إلى المبدأ العقدي والمذهب السياسي مساحة واسعة فيها، فالشاعر الشيعي المذهب الكميت بن زيد الأسدي يقول في إحدى قصائده ممجدا آل البيت، باذلا نفسه فداء لهم:

نَفسِي فِدًى لِقُريشٍ خَيرِ مَن وَلَدُوا
وأكرَمِ النَّاس أَحْلامًا إذا احْتَربُوا

واشتعلت في العصر العباسي صوامع الفلاسفة وأصحاب المنطق وعلم الكلام، فصارت التضحيات منوطة بالانتماء الفكري دفاعا عن حق الاعتقاد وفي سبيل حرية التعبير والعدالة الاجتماعية، وديوان الشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري مليء بمثل هذه الإشارات، التي تجد فيها إيثارا للمعنى، وترجيحا للعقل على الهوى.

على الرغم من حجم الآلام والتضحيات التي عاينتها شعوبنا العربية والإسلامية في سبيل الوطن والحرية، وخاصة الشعب الفلسطيني، ذهب الشاعر محمود درويش إلى أنه "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" (رويترز)

وقد عبر الشاعر العباسي مسلم بن الوليد عن التضحية بالنفس وربطها بكرم النفس وأقصى درجات الجود حين قال:

يجودُ بالنَّفسِ إذ ضنَّ البخيلُ بها

والجودُ بالنَّفسِ أقصى غايةِ الجودِ

ومن جميل الأساليب اللغوية اللطيفة في الشعر، التي تعبر عن التضحية من أجل المحبوب قولهم "نفسي فداك"، ومنه ما قاله شاعر الغزل الرقيق العباس بن الأحنف:

يا أَيُّها المَحمومُ نَفسي فِداك

هَل لي مِنَ الدُنيا سُرورٌ سِواك

قَد كانَ بي سُقمٌ فَقَد زادَني

سُقمُكَ سُقما وَبلايا دِراك

فَلَيتَني حُمِّلتُ ذاكَ الَّذي

تَلقى لِكَي أَجمَعَ هَذا وَذاك

إن ألوان التضحية وأشكالها في الشعر العربي أوسع من أن تحصى أو تحصر، فهي القيمة الأخلاقية والمجتمعية الباقية، وإن اختلفت تجلياتها عبر العصور، فأولويات المرء تختلف باختلاف الشخصيات والمجتمعات والمبادئ التي يستند إليها، لكن الثابت على مر العصور أنها من القيم التي تعكس صورة الإنسان الحق الذي لم يتخل عن هويته في هذا الكون.

ففي العصر الحديث مثلا تطالعنا إحدى قصائد أحمد شوقي الشهيرة التي تصور تضحيات الإنسان في سبيل حريته وحرية بلاده من كل أشكال الاستعمار؛ إذ يقول:

وللحريةِ الحمراءِ بابٌ

بكل يدٍ مضرجةٍ يُدقُّ

أما الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود فلم يكتف بالشعر فحسب، بل صدق القول بالفعل واستشهد في المواجهة، وسطر لنا قبل ذلك قصيدة بديعة يقول فيها:

سَأَحمِلُ روحي عَلى راحَتي

وَأَلقي بِها في مَهاوي الرَّدى

فَإِمّا حَياةٌ تَسُرُّ الصَديقَ

وَإِمّا مَماتٌ يَغيظُ العِدى

وَنَفسُ الشَريفِ لَها غايَتانِ

وُرودُ المَنايا وَنَيلُ المُنى

لَعَمرُكَ إِنّي أَرى مَصرَعي

وَلكِن أَغذُّ إِلَيهِ الخُطى

أَرى مَقتَلي دونَ حَقّي السَليب

وَدونَ بِلادي هُوَ المُبتَغى

وعلى الرغم من حجم الآلام والتضحيات التي عاينتها شعوبنا العربية والإسلامية في سبيل الوطن والحرية، وخاصة الشعب الفلسطيني، ذهب الشاعر محمود درويش إلى أنه "على هذه الأرض ما يستحق الحياة.. على هذه الأرض سيدةُ الأرض، أم البدايات، أم النهايات.. كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات التضحیة والفداء التضحیة من أجل معانی التضحیة الشعر العربی امرئ القیس التضحیة فی فی الحروب فی قصیدة فی العصر فی الشعر

إقرأ أيضاً:

إشراقات ذُرى الستّين العالية

في عنفوان شبابه خُيّل للشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف أنّه أقرب ما يكون إلى الستّين، لماذا؟ يجيب: «لأنّ الكلمات التي لم أقلها أغلى على قلبي من كلّ الكلمات التي قلتُها»، فهل تغدو الكلمات في سنّ الستّين عزيزة إلى هذا الحدّ؟ قد يكون ذلك ممكنا من حيث إن الستّين ذروة من ذرى العمر، لعلّها الذروة الأعلى، وهذه الذروة يميل فيها الإنسان إلى التأمّل، والإكثار من الصمت، ومراجعة شريط أحداث الحياة، بحلوها، ومرّها، وقد تكون تلك الأحداث غير قابلة للإفصاح عنها، لكنها تظهر في السلوك، فــ«في حياة كل إنسان أمور لا يتحدّث عنها، ولكنها تؤثّر في نمط معيشته، وفي مواقفه، وفي آرائه»، كما يقول الكاتب جبرا إبراهيم جبرا، على لسان إحدى شخصيّات رواياته، وغالبا ما يميل في هذا السن، إلى الزهد والقناعة، ربما لترفّعه عن توافه الأمور، وانطفاء الحماس، وخفوت وقدة شعلة الشباب، وغلبة الإحساس باللا جدوى، والاقتراب من خطّ نهاية الأحلام الكبيرة، وقد تقف ظروف خاصة خلف ذلك، فالعزلة التي فرضها على نفسه الكاتب الأمريكي جيروم ديفيد سالنجر(1919- 2010م) صاحب رواية (الحارس في حقل الشوفان) التي دامت حوالي خمسين سنة أمضاها في كوخ منعزل، بدأها منذ عام 1965 واستمرت حتى رحيله عام 2010 م، لها أسبابها، من بينها دخوله في علاقات عاطفية فاشلة، وزيجات انتهت بالانفصال، كذلك مشاركته في الحرب العالمية الثانية، وما تركت من أثار نفسية ليس من السهل أن تزول.

وفي أحيان كثيرة تقف خلف قرار العزلة عندما يتقدّم الإنسان في العمر «نفس عجزت عن تحقيق أهدافها»، كما نجد في تفسير عالم النفس سيجموند فرويد، لذلك يتوقّف عن الجري الذي يراه لا طائل منه، لكن هناك مَنْ يجد في سنّ الستّين رغبة إلى إعادة ترتيب أوراق عمره، استعدادا لانطلاقة جديدة بعد مروره بهذا المنعطف، رغم أن الكثيرين يعترضون على هذا المنطق، ويرون أن سنوات العمر تنحني أمام جبروت شباب الروح، وفي ذلك يقول الشاعر أحمد الصافي النجفي:

عمري بروحي لا بعدّ سنيني

فلأهزأنّ غدا من التسعين

عمري إلى السبعين يركض مسرعا

والروح باقية على العشرين

والأهم في ذلك شعور الإنسان نفسه، والمثل الفرنسي يقول «عمر الرجل كما يشعر» لا كما يبدو.

وقد قرأت مؤخرا منشورا لصديق من جيلي هو الشاعر والسينمائي (استناد حدّاد) كتبه بمناسبة عبوره خطّ الستين، و(استناد) من الشعراء الجميلين، لمع اسمه في الثمانينيات عندما أعدّ وأخرج فعالية تجمع أغلب الفنون من شعر وقصّة، وموسيقى، وباليه، وسينما، ومسرح، وفن تشكيلي في عرض واحد حمل عنوان(عربة الغجر) ومنذ عام 1984 وحتى بداية التسعينيات قدّم (12) عرضا تضمّنت (150) فقرة مختلفة، وخلال تلك السنوات كان في ذروة نشاطه الشعري، والمسرحي، والسينمائي، ولم يفتر حماسه حتى بعد مغادرته بغداد، واستقراره في مدينة (بيرث) الواقعة في أقصى جنوب غرب استراليا، وللاستقرار في مكان لذّة خاصّة لمَنْ تنقّل بين (150) بيتا وشقّة وغرفة، كـ(استناد)، لكنّ، من الواضح، في منشوره الجديد أن النار المستعرة أخذت تهدأ، والمياه الصاخبة بدأت تسير في الجدول بأناة، هل أنّه حين وضع قدمه على خطّ (الستّين) حصل له كلّ هذا أم أن التحوّلات جاءت تدريجيّا، حتى إذا ما بلغه خرج عن صمته؟ فقد اعتبر(الستين) نقطة فاصلة في حياته، لذا، نظر للمسألة من زاوية واقعيّة، فجرس الإنذار قد دقّ، وقطار العمر أطلق صفيره، لذا رأى أنه بحاجة إلى تغيير نمط حياته، ومغادرته (سجن الأحلام) هكذا أسماه، متهكّما على أحلامه «خصوصا تلك التي مرّت عليها أربعون سنة ولم تتحقّق!» كما يقول، مع احتفاظه «بقليل من الذكريات الجميلة وشطب كلّ ذاكرة للحرب، وأصدقاء الصدفة»، ومن الغريب أنّه أعلن في منشوره، الذي يمكننا أن نعتبره (بيانا شخصيّا) اعتزال كتابة الشعر، وطبعا، مثل هذه القرارات ليست جديدة، ففي الثمانينيات أعلن الشاعر بلند الحيدري اعتزاله الشعر، ثمّ كتب ونشر نصوصا عديدة، وفي عام 1983 م فاجأ الشاعر الكبير الشيخ عبدالله بن علي الخليلي الوسط الثقافي العُماني عندما ألقى في أمسية شعرية قصيدة أسماها «استقالة من دولة الشعر»، بعد تعرّضه لحادث، وقد أثارت تلك القصيدة جدلا واسعا:

مالي وللشعر يحدوني وأحدوه

غداة أوشك يسلوني وأسلوه

فناشده الكثيرون بالتراجع عن قرار(الاستقالة) الذي لم يستمرّ طويلا، فعاد (أمير البيان) إلى جمهور الشعر بقصائد رائعة.

وأرى أنّ قرارات الصديق استناد، تأتي لشعوره ببلوغ ذروة العمر الأخيرة، حيث إن كلّ مرحلة عمريّة بعد الأربعينيات ذروة، تتبعها منحدرات حادّة، استلهاما من قول الشاعر عبدالرزّاق عبدالواحد:

مضى ما مضى منك خيرا وشر

وظلّ الذي ظلّ طيّ القدر

وكم ذا تكابر والأربعون

ذرى كلّ ما بعدها منحدر

وهي وقفة مراجعات لابدّ لكلّ إنسان أن يتأمل، خلالها، ما مرّ من محطّات وهو ينظر من أعلى ذُرى الستّين الشاهقة.

مقالات مشابهة

  • إشراقات ذُرى الستّين العالية
  • أجمل ما تغنى به الشعراء في ذكرى اليوم الوطني السعودي
  • سر لم يُكشف من قبل.. قصة عبد الغفور البرعي التي غيرت حياة نور الشريف
  • تعزيز مفهوم الاستدامة خلال برنامج «صيف الاستدامة 2025»
  • صوت غزة للعالم.. كيف تناول الإعلام الأفريقي اغتيال أنس الشريف ورفاقه؟
  • مهرجان القيصر الدولي للشعر الفصيح يواصل فعالياته الشعرية في جامعة اليرموك وبلدة حرثا
  • تحفظات الحزب مفهومة وغير مبررة
  • غزة تنعى صوتها وعيناها: أنس الشريف وزملاؤه شهداء في سبيل الحقيقة
  • عبد الظاهر السقا: اعتذار حسام حسن لجمهور الأهلي غير مفهوم
  • عبدالظاهر السقا: اعتذار حسام حسن لجمهور الأهلي غير مفهوم