انهيار السردية التاريخية الإسرائيلية
تاريخ النشر: 24th, August 2024 GMT
على مدى عقود من الزمان، عملت إسرائيل على ترسيخ رواية متجذرة في المظالم التاريخية والتهديد الوجودي المتصور، مبررة جرائمها ضد الفلسطينيين باعتبارها تدابير ضرورية للدفاع عن النفس. وقد خدمت هذه الرواية كأداة قوية، لحشد الدعم الدولي وصد الانتقادات. ومع ذلك، فقد تم رفع الحجاب، وبدأ العالم يرى بوضوح حقيقة من يتعرض للإبادة الحقيقية ومن يدعيها.
غزة، التي كانت ذات يوم منطقة مكتظة بالسكان، أصبحت الآن في حالة خراب تام. لقد حُفرت الصور التي خرجت من هذه الأرض المدمرة في الوعي الجماعي للبشرية، لقد تحولت أحياء بأكملها إلى أنقاض مشتعلة؛ وأبادت إسرائيل أسرا بأكملها؛ وارتميت جثث أطفال بلا حياة تحت حطام كانت ذات يوم منازلهم. وهذا ليس مجرد أضرار جانبية للحرب؛ بل هو حملة تدمير متعمدة ومحسوبة، تهدف إلى محو شعب وهويته. وتنهار رواية الدفاع عن النفس في مواجهة مثل هذه الأدلة الساحقة على العنف العشوائي، مما يجعل جرائم إسرائيل مكشوفة باعتبارها انتهاكا صارخا للقانون الدولي والكرامة الإنسانية.
أعقاب هذه المأساة نشأت رواية مضادة قوية، فقد نهضت الحركات الطلابية في أوروبا والولايات المتحدة، مدفوعة بإحساس عميق بالعدالة، في تحد للتحيز المؤيد لإسرائيل والذي هيمن لفترة طويلة على وسائل الإعلام الغربية. وقد نزل هؤلاء الناشطون الشباب، بالتزامهم الثابت بالحقيقة والعدالة، إلى الشوارع بأعداد غير مسبوقة
في أعقاب هذه المأساة نشأت رواية مضادة قوية، فقد نهضت الحركات الطلابية في أوروبا والولايات المتحدة، مدفوعة بإحساس عميق بالعدالة، في تحد للتحيز المؤيد لإسرائيل والذي هيمن لفترة طويلة على وسائل الإعلام الغربية. وقد نزل هؤلاء الناشطون الشباب، بالتزامهم الثابت بالحقيقة والعدالة، إلى الشوارع بأعداد غير مسبوقة. لقد أحدثت أصواتهم، التي تضخمت بقوة وسائل التواصل الاجتماعية، تأثيرا متواصلا عبر العالم، مما تحدى الروايات السائدة التي حمت إسرائيل من المساءلة. هذه المظاهرات ليست مجرد عرض للتضامن، إنها تمثل تحولا زلزاليا في الرأي العام، مما يخلق انقساما صارخا بين الشعوب ذات التفكير الحر في العالم وحكوماتها، والتي لا يزال العديد منها متواطئا ومنخرطا في جرائم إسرائيل اللامتناهية.
لقد أرسل صعود هذه الحركات موجات صدمة عبر أروقة السلطة، مما دفع إسرائيل إلى تكثيف جهودها لقمع المعارضة. كان الموساد، وكالة الاستخبارات الإسرائيلية الهائلة، نشطا بشكل خاص في هذا الصدد، حيث نظم عمليات سرية لتقويض هذه الاحتجاجات وإسكات المنتقدين. لكن هذه المحاولات لقمع المعارضة لم تضف سوى الوقود إلى النار، وكلما حاولت إسرائيل وحلفاؤها إسكات الحقيقة، كلما ارتفعت صرخات العدالة. في جميع أنحاء العالم، يستيقظ الناس على حقيقة محنة غزة، ويرون فيها انعكاسا لنضالات أوسع ضد القمع والاستعمار والظلم المنهجي.
تورط بعض الدول العربية، وخاصة الدول المطبعة مع إسرائيل، في هذه التكتيكات القمعية يضيف طبقة أخرى إلى هذه الشبكة المعقدة من التواطؤ. وفي خيانة صادمة للتضامن العربي، انضمت الإمارات إلى جهود إسرائيل، فشنت حملة قمع وحشية على أولئك الذين يعبرون عن تضامنهم الإلكتروني مع غزة. وهذه ليست مجرد مناورة سياسية، بل إنها فشل أخلاقي، وتذكير بالمدى الذي قد تذهب إليه بعض الأنظمة لكسب ود حلفائها الأقوياء، حتى على حساب حقوق شعوبها.
إن الشهادات الصادرة عن هذه الحملات مروعة، فقد تعرض سكان من جنسيات عربية مختلفة، بما في ذلك فلسطينيون ومصريون وتونسيون ومغاربة وجزائريون، للاعتقالات التعسفية والغرامات والترحيل. ما هي جريمتهم؟ التعبير عن التضامن مع شعب غزة عبر الإنترنت! لقد تم اعتقال هؤلاء الأفراد بطريقة لا يمكن وصفها إلا بالاختطاف، وتعرضوا لاستجوابات، وفي بعض الحالات للتعذيب الجسدي والنفسي. لقد أصبحت سجون العوير والرزين والصدر ودبي سنترال رموزا للقمع الذي ترعاه الدولة، حيث تم إسكات أولئك الذين تجرّأوا على التحدث من خلال الترهيب والغرامات الباهظة والترحيل القسري. إن هذه الموجة من القمع لا تهدف فقط إلى إسكات المعارضة؛ بل إنها تهدف إلى إرسال رسالة واضحة إلى الآخرين: حتى في المجال الرقمي، لن يتم التسامح مع التضامن مع غزة.
ولكن التدابير القمعية التي تتخذها الإمارات لا تتوقف عند حدودها، فهناك أدلة متزايدة على تعاون متعمق بين الإمارات وإسرائيل في أوروبا، حيث تعملان جنبا إلى جنب لتقويض الحركات المؤيدة لغزة. من خلال تصوير الناشطين المؤيدين لغزة على أنهم جماعات إسلامية متطرفة، تحاول إسرائيل والإمارات نزع الشرعية عن الصرخة العالمية ضد الفظائع في غزة. ومع ذلك، فإن هذا السرد يمثل تحريفا صارخا لحركة التضامن، التي هي واسعة النطاق وعلمانية وإنسانية في الأساس. والتضامن مع غزة لا يحركه انتماء ديني أو سياسي، بل هو استجابة جماعية للأزمة الإنسانية، وانعكاس للقيم العالمية للعدالة والتعاطف وحقوق الإنسان.
إن الآثار المترتبة على هذا التعاون مقلقة للغاية، فهو يمثل اعتداء مباشرا على مبادئ حرية التعبير والحق في الاحتجاج السلمي، وهي المبادئ الأساسية لأي مجتمع حر. إن هذه الحكومات، من خلال وصف التضامن المشروع مع غزة بالتطرف، لا تجرم النشاط فحسب، بل إنها تضع سابقة خطيرة يمكن استخدامها لقمع المعارضة في مجموعة واسعة من القضايا. وهذا ليس مجرد هجوم على الحركة المؤيدة للفلسطينيين، الاختيار أمامنا واضح. يمكننا إما أن نستمر في قبول الروايات الزائفة التي تبرر الإبادة الجماعية، أو يمكننا الانضمام إلى الأصوات المتزايدة المطالبة بالعدالة لغزة. لقد انتهى وقت الحياد، وفي مواجهة مثل هذه الأدلة الساحقة على الظلم، فإن الصمت هو تواطؤبل هو هجوم على فكرة المشاركة المدنية ودور المواطنين في محاسبة حكوماتهم، خصوصا بأنّ الإمارات تعمل كذلك بالتعاون مع الموساد على ملاحقة أصحاب الرأي المخالفين لها، مثل دعوة الإصلاح والتي أصدرت بحقهم أحكاما غيابية في 2013 على الرغم من أنهم مخالفو رأي فقط.
فضلا عن ذلك، فإن تورط الموساد في هذه الجهود يرفع المخاطر إلى مستوى أعلى. إن دور الموساد، المعروف بعملياته السرية، بما في ذلك الاغتيالات، في قمع الحركات المؤيدة للفلسطينيين خارج الحدود يشكل سببا للقلق الشديد. إن احتمال استهداف الناشطين بسبب آرائهم يشكل تذكيرا مهما بالمخاطر التي يواجهها أولئك الذين يجرؤون على التحدث ضد المصالح القوية. وهذا ليس مجرد قلق نظري؛ بل هو حقيقة أكدتها التاريخ، حيث واجه منتقدو إسرائيل المضايقات والترهيب، بل وحتى العنف والاغتيال.
وبينما نقف على شفا هذا العصر الجديد من المؤامرة، فإن الاختيار أمامنا واضح. يمكننا إما أن نستمر في قبول الروايات الزائفة التي تبرر الإبادة الجماعية، أو يمكننا الانضمام إلى الأصوات المتزايدة المطالبة بالعدالة لغزة. لقد انتهى وقت الحياد، وفي مواجهة مثل هذه الأدلة الساحقة على الظلم، فإن الصمت هو تواطؤ. يجب على المجتمع الدولي أن يرتقي إلى مستوى المناسبة، ليس فقط بالكلمات، ولكن بالأفعال التي تحاسب المسؤولين الإسرائيليين ومحاكمتهم. إن النضال من أجل غزة ليس مجرد نضال الشعب الفلسطيني، إنها معركة من أجلنا جميعا، نحن الذين نؤمن بمبادئ العدالة وحقوق الإنسان وكرامة كل إنسان.
في هذا النضال، كل صوت له قيمته، وكل عمل له أهميته. معا، يمكننا أن نغير مجرى التاريخ ونضمن أن قصة غزة ليست قصة تدمير ويأس، بل قصة صمود وتضامن، وفي نهاية المطاف، قصة عدالة. هذه هي الرواية التي يجب أن تسود، والأمر متروك لنا جميعا لتحقيق ذلك.
x.com/fatimaaljubour
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه إسرائيل الإبادة غزة التواطؤ التضامن إسرائيل غزة تضامن الإبادة تواطؤ مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة تكنولوجيا مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة لیس مجرد مع غزة
إقرأ أيضاً:
شحاتة السيد يكتب: الأسرار المناخية في الأمطار الصيفية
لم تعد السماء تمطر كما اعتدنا في كتب الجغرافيا المدرسية. في القاهرة، وكما في العديد من المدن حول العالم، أصبحنا نشهد أمطارًا تتساقط فجأة خلال أيام الصيف الحارة، من دون مقدمات واضحة أو تفسير مباشر.
والسؤال الذي يطرحه المتخصصون والمواطنون على حد سواء هو: ما الذي يحدث في مناخنا؟ هل الأمطار الصيفية مجرد حدث عارض، أم هي مؤشر عميق على تحولات مناخية شاملة تؤثر في النظام الجوي بأسره؟
من المعروف علميًا أن الأمطار غالبًا ما ترتبط بموسم الشتاء، حيث تنخفض درجات الحرارة وتتهيأ الظروف الجوية لتشكيل الغيوم وسقوط الأمطار. بينما في الصيف، حيث تتجاوز درجات الحرارة الأربعين أحيانًا في بعض المدن، يتطلب تشكل الأمطار آليات مختلفة وعوامل فيزيائية دقيقة.
الزيادة الحرارية في الطبقات السطحية من الغلاف الجوي تؤدي إلى رفع وتيرة التبخر، مما يحمل الهواء بكميات هائلة من بخار الماء. مع ارتفاع درجات الحرارة العالمية، تتعزز هذه العملية بشكل غير معتاد. ولكن البخار وحده لا يكفي لتكوين الأمطار، بل يتطلب الأمر حدوث اضطرابات هوائية معينة، مثل اندفاع منخفض علوي بارد من الطبقات العليا للجو، أو تصادم كتل هوائية مختلفة.
هذا التفاعل بين كتلة هوائية ساخنة محملة بالرطوبة وكتلة باردة علوية يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار الجوي، مما ينتج عنه ما يُعرف بالعواصف الحملية أو الأمطار الرعدية الصيفية. وفي بعض الحالات، تكون هذه الأمطار غزيرة ومركزة، وتظهر في غضون دقائق، وهو ما شهدناه في مشاهد متكررة خلال السنوات الأخيرة في القاهرة، وبيروت، وعمان، وحتى في الرياض.
السؤال الأكثر عمقًا لا يتعلق فقط بكيفية تشكّل هذه الأمطار، بل بما تعنيه من دلالات مناخية. فظهور نمط مناخي غير مألوف، مثل هطول الأمطار في أوقات غير معتادة، يعني غالبًا أن النظام المناخي بدأ يختل، وأن خطوط التوازن التي كانت تضبط العلاقة بين فصول السنة بدأت تتحرك.
العلماء يربطون هذا التغير مباشرة بالاحترار العالمي الناتج عن تراكم غازات الدفيئة في الغلاف الجوي. فمع كل جزء من الدرجة المئوية التي ترتفع فوق المتوسط المعتاد، يحتفظ الغلاف الجوي بمزيد من بخار الماء، مما يجعله أكثر قابلية لتوليد طاقة كامنة تؤدي إلى تطرف مناخي. وما كان يومًا من الحالات النادرة، كالأمطار الصيفية، يتحوّل شيئًا فشيئًا إلى نمط متكرر.
تساعد تكنولوجيا الأقمار الصناعية، ونماذج المحاكاة الجوية، وأدوات الاستشعار عن بعد في توفير بيانات دقيقة حول أنماط التحول هذه.
ورصدت العديد من المراصد المناخية الإقليمية والدولية تحوّلات واضحة في التوزيع الموسمي للهطول المطري في مناطق متعددة من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومن بين أهم ما كشفته هذه النماذج هو وجود تحولات زاحفة في نطاقات الأمطار، حيث تتوسع بعض المناطق شبه الجافة لتدخل في نطاق المطر الموسمي، بينما تنحسر مناطق أخرى.
تظهر هنا معضلة من نوع جديد: إذا تغير نمط سقوط الأمطار من شتوي إلى صيفي، أو أصبح غير منتظم، فإن ذلك يؤثر بشكل مباشر على الزراعة، والتخطيط العمراني، وإدارة موارد المياه. فالمزارع الذي كان ينتظر المطر في ديسمبر ويناير، لن يجد فيه فائدة إن جاء في يوليو، لأنه حينها يكون قد زرع أو حصد بالفعل. كما أن المدن غير المجهزة بتصريف مياه الأمطار في الصيف معرضة للغرق والشلل، كما شهدنا في القاهرة قبل عامين.
ثمّة ما هو أعمق من مجرد السيول المؤقتة. فهذه الظواهر تعكس اضطرابًا أكبر في دورة المياه العالمية، وتؤشر إلى اختلال في حركة التيارات النفاثة، وتغير في مواضع الضغط الجوي العالي والمنخفض، وكلها عناصر دقيقة تدخل في حسابات ما يُعرف بالتوازن الديناميكي للغلاف الجوي.
يظن البعض أن هذه الأمطار خيرٌ في غير أوانه، لكنها في الحقيقة قد تكون نذيرًا بتحولات أكثر جذرية، من بينها تغير حدود الفصول نفسها. فعندما تتكرر الأمطار في الصيف، وتصبح درجات الحرارة معتدلة في الشتاء، فإننا أمام تلاشي تدريجي لما نعرفه من خصائص الفصول الأربعة، ودخولنا في مرحلة مناخية جديدة قد تُعرف باسم مناخ الانتقال المتغير أو مناخ الفوضى.
هذا المفهوم ليس مجرد تشبيه أدبي، بل هو مصطلح علمي بدأ استخدامه لوصف الحالة التي لا يمكن فيها التنبؤ بسلوك المناخ على المدى المتوسط بسبب كثرة المتغيرات. وهذا ما يجعل النماذج المناخية طويلة الأجل أكثر عرضة للخطأ، ويزيد من صعوبة وتعقيد التخطيط الحضري والمائي والزراعي.
على صعيد السياسات، تطرح هذه الظاهرة تحديات كبيرة. فلم يعد المناخ مجرد شأن بيئي، بل أصبح قضية أمن قومي. فأي تغير في نمط المطر قد يخلق نزاعات حول الموارد، أو يفاقم الهجرة المناخية، أو يسبب ضغطًا على شبكات البنية التحتية. ومن هنا تأتي أهمية أن تضع الحكومات سيناريوهات استباقية تتضمن بناء بنية تحتية قادرة على امتصاص الصدمات المناخية، وتوفير نظم إنذار مبكر، وتعزيز البحث العلمي.
أصبح الذكاء الاصطناعي أداة لا غنى عنها في هذا المجال. فأنظمة التعلم العميق قادرة على تحليل ملايين البيانات المناخية في وقت قياسي، واستنباط أنماط قد تعجز النماذج التقليدية عن رصدها. كما أن المحاكاة المستندة إلى الذكاء الاصطناعي يمكن أن تتنبأ بمواقع العواصف والأمطار وتوقيتها وشدتها، بدقة متزايدة يومًا بعد يوم.
لكن رغم هذه الأدوات، تبقى الحاجة إلى الوعي العام، وإلى ربط المواطن بهذه التغيرات من خلال إعلام علمي رشيد، يقدم الحقائق دون تهويل، وينبه إلى المخاطر دون إثارة الهلع. فالتغير المناخي ليس مجرد موضوع للنقاش السياسي في المؤتمرات الدولية، بل هو واقع يومي نشهده في تفاصيل الطقس وفي تغير سلوك السماء.
تلك الغيوم الصيفية التي تمر من فوقنا ليست مجرد مشهد عابر، بل هي وثيقة حيّة تشهد على أن مناخ الأرض يكتب فصلاً جديدًا من تاريخه، فصلًا تندمج فيه الفصول وتختلط فيه التوقعات، وتصبح فيه المظلة جزءًا من حقيبة الصيف.