عربي21:
2025-12-15@04:33:10 GMT

مقالةٌ في الصراع العبثي ضد هيئة الانتخابات التونسية

تاريخ النشر: 13th, September 2024 GMT

كان تأسيس الهيئة العليا للانتخابات في 18 نيسان/ أبريل 2011 من قبل "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي"؛ حدثا مهما في تاريخ الانتقال الديمقراطي ومحاولات تفكيك منظومة الفساد والاستبداد. فلأول مرة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا أصبحت الانتخابات تحت إشراف هيئة مستقلة منتخبة من نواب الشعب، بعد أن كانت تتم تحت إشراف وزارة الداخلية منذ سنة 1956.



وقد عرفت هيئة الانتخابات قبل "تصحيح المسار" عدة أزمات كان أشهرها أزمة 2017، كما كانت مظهرا من مظاهر التوافقات البرلمانية والتسويات/الصفقات السياسية التي غلبت على المشهد السياسي قبل 2021. ولكن الهيئة حافظت على مصداقية كبيرة سواء في علاقتها بمختلف الأجسام الوسيطة أو في علاقتها بالرأي العام، بحكم تمثيليتها لطيف واسع من الفاعلين الجماعيين.

كان إنشاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات جزءا من توجه مجتمعي عام قصد إرساء هيئات دستورية "تعمل على دعم الديمقراطية"، و"تتمتع هذه الهيئات بالشخصية القانونية والاستقلالية الإدارية والمالية وتُنتخب من قبل مجلس نواب الشعب بأغلبية معزّزة"، كما أكد المشرّع أنّ "على الدولة تيسير علمها" كما جاء في الفصل 125 من دستور 2014. وهذه الهيئات المدسترة (أي غير المؤقتة) هي هيئة الانتخابات (المعروفة اختصارا بـ"الإيزي")، وهيئة الإعلام (المعروفة اختصارا بـ"الهايكا")، وهيئة حقوق الإنسان، وهيئة التنمية المستدامة وحماية حقوق الأجيال القادمة، وهيئة الحَوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد.

لا نعتبر "تصحيح المسار" انقلابا أصليا، بل نعتبره حلقة في سلسة انقلابية بدأت منذ هروب المخلوع. وقد أكد تصحيح المسار أن "نجاح" الانتقال الديمقراطي سياسيا لم يكن إلا وهما، كما أكد أن منطق "الإصلاح الذاتي" للقطاعات وللمنظمات لم يكن هو الآخر إلا كذبة كبيرة لا محصول تحتها
وبعد الإعلان عن "تصحيح المسار"، قام الرئيس التونسي بتجميد عمل هذه الهيئات، ثم قام بإلغاء أربعة منها من دستور 2022 واستبقى هيئة الانتخابات، مع النص على تعيين أعضائها بدل انتخابهم من البرلمان.


لا شك في أن القارئ قد لاحظ مركزية الدور البرلماني في إنشاء الهيئات الدستورية وضبط صلاحياتها. وهو أمر منطقي في ظل النظام البرلماني المعدل وتحت سقف الديمقراطية التمثيلية بالمعنى الليبرالي لكلمة الديمقراطية. ولا شك أيضا في أن الفلسفة السياسية لتصحيح المسار لم تكن لتسمح ببقاء السلطة المرجعية للبرلمان حتى من داخل منظومتها السياسية ذاتها. فالديمقراطية المباشرة أو المجالسية تتحرك مفهوميا وواقعيا ضد الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة، ولا تعترف بأي وسيط بين الإرادة الشعبية والسلطة غير سلطة "الزعيم/المنقذ" باعتباره رأس "الوظيفة التنفيذية" والمستأمن الأوحد على تجسيد مطالب الشعب بمساعدة الوزراء وغيرهم.

وقد تجسدت هذه الفلسفة السياسية منذ الأيام الأولى لـ"تصحيح المسار" (عندما كان النظام يتحرك بمنطق "حالة الاستثناء المؤقتة") بتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه، ثم تجسدت في حل البرلمان والإعلان عن خارطة طريق لبناء جمهورية جديدة بدستورها وبنظامها الرئاسوي (عندما أظهر النظام أنه يعتبر حالة الاستثناء مرحلة انتقالية بين جمهوريتين أو زمنين سياسيين مختلفين جذريا).

للوقوف على أهم أسباب نجاح الرئيس والنواة الصلبة للمنظومة القديمة في الانقلاب على الهيئات الدستورية، ولفهم علة نجاح المنظومة الحاكمة في حمل جزء معتبر من الرأي العام على القبول بتوصيف مرحلة الانتقال الديمقراطي بـ"العشرية السوداء"، فإننا نحتاج إلى نحت مفهوم "قابلية الانقلاب"، أي نحتاج إلى فهم الأسباب العميقة لتلك القابلية البنيوية داخل مسار الانتقال الديمقراطي للانقلاب على ذاته والتفريط في مكتسباته بحكم فقدانه لأي قدرة حقيقية على المقاومة. ونحن نذهب إلى أن الجواب عن هذه الإشكالية لا يستقيم إلا إذا ما اعتبرنا فلسفة الانتقال الديمقراطي نفسه ليست إلا "انقلابا مشتقا" من انقلاب أصلي أو توليدي؛ بدأ منذ اعتماد منطق "استمرارية الدولة" وتكرس بسياسة التوافق وما صاحبها من صراعات هوياتية قاتلة وفقدان تدريجي لمشروعية الإنجاز في المستويين الاقتصادي والاجتماعي.

انطلاقا مما تقدم فإننا لا نعتبر "تصحيح المسار" انقلابا أصليا، بل نعتبره حلقة في سلسة انقلابية بدأت منذ هروب المخلوع. وقد أكد تصحيح المسار أن "نجاح" الانتقال الديمقراطي سياسيا لم يكن إلا وهما، كما أكد أن منطق "الإصلاح الذاتي" للقطاعات وللمنظمات لم يكن هو الآخر إلا كذبة كبيرة لا محصول تحتها.

ولعلّ أخطر ما أثبته تصحيح المسار فيما يتعلق بالهيئات الدستورية هو أنها كانت بلا سند نخبوي أو شعبي حقيقي. ولا شك عندنا في أن تلك الهيئات لم تكن مطلبا نخبويا مبدئيا، بل كانت جزءا من الصراعات السياسية الهادفة إلى إضعاف حركة النهضة وبناء سلطات موازية؛ بدعوى الحد من تغوّل الحركة ومشروع "أخونة الدولة". كما أن أداء أغلب تلك الهيئات لم يكن في مستوى انتظارات عموم المواطنين والعديد من النخب (خاصة أداء هيئة مكافحة الفساد وهيئة الإعلام)، أو على الأقل كان عملها خارج التغطية الإعلامية التي يُهيمن عليها ورثة المنظومة القديمة. ولذلك لم يجد النظام مقاومة حقيقية عند إلغائها، كما لم يجد مقاومة تذكر عند تغيير القانون المنظم لعمل هيئة الانتخابات باعتبارها الهيئة الوحيدة الناجية من استراتيجية نزع الصفة الدستورية من كل الهيئات الرقابية والتعديلية

التعامل مع هيئة الانتخابات باعتبارها جهة "تحكيمية" في المسألة الانتخابية هو ضرب من المثالية، كما أن مصارعتها بمنطق "القانون" هو ضرب من العبث
إن فهم دور هيئة الانتخابات في "الجمهورية الجديدة" لا يمكن أن يتم -كما ذكرنا أعلاه- دون استحضار الفلسفة السياسية لتصحيح المسار باعتبارها الواجهة السياسية الجديدة للنواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي. ففي إطار "التعامد الوظيفي" يمنح تصحيح المسار لتلك النواة الصلبة "شرعية" جديدة تستعيض بها عن شرعية الديمقراطية التمثيلية وتحيّد بها الأجسام الوسيطة، أما هي فإنها تمنح للمشروع الرئاسي "الشّوكة" اللازمة للحكم في ظل غياب أي مصدر مستقل للقوة (حزب، تاريخ نضالي، لوبي جهوي.. الخ).

ولا يمكن في هذا الواقع السياسي الجديد بوجود سلطة موازية لسلطة "الوظيفة التنفيذية" أو مستقلة عنها، ولذلك غاب منطق الانتخاب وحضر منطق التعيين، وهو أمر لا ينحصر في هيئة الانتخابات بل يتعداها ليشمل المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية. فمنطق "تصحيح المسار" لا يقبل بوجود أي سلطة تعديلية أو رقابية مستقلة عن رئاسة الجمهورية، والرئيس هو الممثل الأوحد للإرادة الشعبية وهو لا يقبل المساءلة دستوريا.

في ظل هذا الواقع، فإن التعامل مع هيئة الانتخابات باعتبارها جهة "تحكيمية" في المسألة الانتخابية هو ضرب من المثالية، كما أن مصارعتها بمنطق "القانون" هو ضرب من العبث، أو هو تحديدا ضرب من التصعيد المعبر عن فشل المعارضة في تغيير موازين القوى بالوسائل القانونية الأخرى (كالضغط الشعبي وتحريك الشارع للاحتجاج، وكالتوحد في جبهة معارضة سياسية جامعة تتجاوز منطق الانقسام التقليدي القائم على مركزية الأيديولوجي).

تصحيح المسار عندنا ليس إلا محاولة لتجاوز الأزمات الدورية للحقل السياسي التونسي بعد الثورة من خلال شيطنة الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة، ولكنها محاولة فاشلة بحكم انقلابها واقعيا إلى جزء من تلك الأزمات الدورية التي لا يمكن مواجهتها دون مراجعة أسس الدولة الوطنية ذاتها
إن هيئة الانتخابات الحالية هي ابنة "تصحيح المسار" وهي جزء بنيوي فيه. وقد ذكرنا في أكثر من مقال أن تصحيح المسار يتحرك بمنطق البديل الجذري لا بمنطق الشريك، كما ذكرنا أن فلسفته السياسية القائمة على التفويض الشعبي وعلى "البناء الثوري الجديد" لا تقبل بمنطق التداول على السلطة حتى بين "الصادقين" في ظل وجود الزعيم-المؤسس، فكيف تقبل بمنطق التداول على السلطة مع "أعداء الشعب" من "المتآمرين" و"الخونة" و"الفاسدين"؟

إن تيسير منطق التداول على منصب الرئاسة -أي التزام الحيادية والنزاهة والشفافية وعدم تطويع القانون ضد خصوم رئيس الجمهورية- هو ضرب من الخيانة للأمانة، وهو أيضا انقلاب على التفويض الشعبي الأصلي غير القابل للمراجعة أو الاستئناف. ولا شك في أن هيئة الانتخابات المعيّنة بمرسوم رئاسي-أي التي تتعامل مع وظيفتها باعتبارها "تكليفا" في إطار المشروع الرئاسي- لا يمكن أن تضع نفسها في موضع الخائنين، كما لا ينبغي لها أن تسهل عودتهم إلى مركز صنع القرار.

ختاما، فإننا نعتقد أنه لا يمكن فهم المشهد الانتخابي دون استحضار هذه المضمرات التي لا تحضر في سطح خطاب الهيئة، ولكنها تتحكم في بنيته العميقة. كما نذهب -على الضد من أطروحات الراغبين في عودة الديمقراطية التمثيلية- إلى أن تصحيح المسار ذاته ليس إلا "زينة" في بناء متداع من جهة الأسس التي قامت عليها الدولة الوطنية (مثله في ذلك كمثل الانتقال الديمقراطي ذاته).

فتصحيح المسار عندنا ليس إلا محاولة لتجاوز الأزمات الدورية للحقل السياسي التونسي بعد الثورة من خلال شيطنة الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة، ولكنها محاولة فاشلة بحكم انقلابها واقعيا إلى جزء من تلك الأزمات الدورية التي لا يمكن مواجهتها دون مراجعة أسس الدولة الوطنية ذاتها. ولا شك عندنا في أن رفض الأغلب الأعم من الفاعلين الجماعيين (في السلطة والمعارضة) الاعتراف بهذه الأزمة البنيوية والتفكير في آليات تجاوزها "معا"؛ سيجعل بقاء تصحيح المسار أو سقوطه أمرين متطابقين من جهة العلاقة بمنظومة الاستعمار الداخلي، ومن جهة إعادة إنتاج الأزمات الدورية مهما كان شكل النظام الحاكم وهوية المشاركين في واجهته السياسية بعد الانتخابات الرئاسية.

x.com/adel_arabi21

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الانتخابات الديمقراطية التونسي الإنقلاب تونس انتخابات ديمقراطية مقالات مقالات مقالات صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة من هنا وهناك سياسة صحافة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدیمقراطیة التمثیلیة الانتقال الدیمقراطی هیئة الانتخابات تصحیح المسار هو ضرب من لا یمکن لم یکن ولا شک

إقرأ أيضاً:

المسار المزدوج: مستقبل “شات جي بي تي” بين تسارع النمو وتشابك التحديات

 

المسار المزدوج: مستقبل “شات جي بي تي” بين تسارع النمو وتشابك التحديات

 

 

منذ إطلاقه في 30 نوفمبر 2022، تحوّل “شات جي بي تي” (ChatGPT) من روبوت محادثة تجريبي إلى ظاهرة عالمية تعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والآلة، وتفرض على العالم نمطاً جديداً من التفكير والمعرفة والعمل. ومع تجاوز التطبيق 700 مليون مستخدم نشط أسبوعياً، لم يعد السؤال المطروح يدور حول كيفية استخدام هذه التكنولوجيا، بل حول كيفية احتواء آثارها وتوجيهها وإعادة هندسة الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية لاستيعابها، ولا سيّما مع الانتشار الجماهيري لهذا التطبيق الذي حمل تأثيرات ممتدة من التقنية إلى الاقتصاد والتفاعلات الاجتماعية والخطابات السياسية والتحديات الأمنية، خصوصاً مع إطلاق وكيل “شات جي بي تي” في العام الحالي والذي يعمل بشكل مستقل واستباقي؛ ليقدم مستوى جديداً من إدارة المهام ومن التحديات أيضاً في عصر الأنظمة الذكية متعددة الوكلاء.

صعود متدفق:

شكّل “شات جي بي تي” منذ الأيام الأولى لإطلاقه، حالة انتشار هائلة لا يمكن مقارنتها بأي تقنية معاصرة؛ إذ جذب مليون مستخدم في غضون خمسة أيام فقط، ثم 100 مليون خلال شهرين. وتحول التطبيق بسرعة إلى مرجع للذكاء الاصطناعي التوليدي، ليس فقط لأنه الأوسع انتشاراً؛ بل لأنه أصبح الاسم الذي يُستخدم للدلالة على النوع كله، وهو أمر نادر في تاريخ البرمجيات، ويشير إلى أن النموذج لم يكن مجرد منتج تقني، بل علامة ثقافية انتشرت عالمياً. وقد سجّل التطبيق، في عام 2025، أكثر من 700 مليون مستخدم نشط أسبوعياً، و5 ملايين مشترك مدفوع، وأكثر من 3 مليارات رسالة يومياً؛ وهي أرقام كشفت عن تحول عميق في سلوك الجمهور نحو الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في المهام اليومية، سواء أكانت أكاديمية أم مهنية أم شخصية.

وعلى المستوى التقني، تطورت بنية “شات جي بي تي” من نموذج نصي محدود القدرات في إصدار (GPT-3.5) إلى أنظمة متعددة الوسائط مثل (GPT-4o) و(GPT-5)؛ القادرة على فهم الصوت والصورة والفيديو واللغة الطبيعية بدرجة تقترب من الإدراك البشري. وقد أصبح بإمكان المستخدم إجراء حوار صوتي فوري مع النموذج، وتكليفه بالتحليل، والبحث، والكتابة، وتوليد المحتوى البصري، وإتمام المهام المعقدة عبر “وكلاء أذكياء” قادرين على تنفيذ سلسلة من الخطوات دون تدخل بشري مباشر.

وقد صدرت ورقة عمل عن “المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية” (NBER) أعدها فريق البحث الاقتصادي في شركة “أوبن إيه آي” (OpenAI)، المالكة لخدمات “شات جي بي تي”، بالتعاون مع الخبير الاقتصادي بجامعة هارفارد، ديفيد ديمينغ، شملت تحليل 1.58 مليون رسالة من محادثات 130 ألف مستخدم؛ بهدف تتبع تطور استخدام المستهلكين للذكاء الاصطناعي منذ إطلاق “شات جي بي تي” قبل ثلاث سنوات. وتوصلت إلى أن الكتابة هي الأكثر شيوعاً بين المستخدمين في المهام المتعلقة بالعمل، وأنها تمثل إلى جانب البحث عن المعلومات والإرشادات العملية ما يقارب من 80% من المحادثات، كما كانت استخدامات العمل 30% فقط؛ وهو ما يكشف عن تغلغل استخدام التطبيق في تفاصيل الحياة اليومية الشخصية، ويلفت الانتباه إلى تأثيره الاجتماعي والنفسي، وتوغله في صميم النشاط المعرفي اليومي لمختلف الفئات العمرية والمهنية؛ ما يؤدي إلى إعادة تعريف دور التكنولوجيا بوصفها شريكاً معرفياً وعاطفياً، وليس مجرد أداة.

ومن الناحية الاقتصادية، أحدث “شات جي بي تي” تحولاً غير مسبوق في مسار شركة “أوبن إيه آي”؛ إذ ارتفعت قيمتها من نحو 29 مليار دولار في عام 2023 إلى ما يقارب 500 مليار دولار في عام 2025، مدفوعة بجولات تمويل ضخمة بلغت 40 مليار دولار، وتقييم ما بعد التمويل وصل إلى نحو 300 مليار دولار. كما توسعت الشركة عبر استحواذات استراتيجية، شملت شركة “ويندسيرف” (Windsurf) وشركة “آي أو” (io)، ووقّعت عقوداً حكومية كبرى، أبرزها عقد مع وزارة الحرب الأمريكية بقيمة 200 مليون دولار. وفي الوقت نفسه، عززت “أوبن إيه آي” بنيتها التحتية التقنية بالاعتماد على موارد حوسبية مقدمة من شركات كبرى مثل “مايكروسوفت” (Microsoft) و”أوراكل” (Oracle) و”كورويف” (CoreWeave) و”غوغل كلاود” (Google Cloud)؛ ما أتاح لها تنويع مزوديها ورفع قدراتها التشغيلية.

وبذلك لم يكن صعود “شات جي بي تي” مجرد توسع تجاري؛ بل أسهم في إعادة تشكيل خريطة المنافسة العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، مع بروز منافسين مثل “جيميناي” (Gemini) و”ديب سيك” (DeepSeek) و”كلود” (Claude) وغيرها، وإن ظل “شات جي بي تي” الأكثر انتشاراً وحضوراً وتأثيراً بين المستخدمين.

الوجه الآخر:

بعد مرور ثلاث سنوات أظهر فيها “شات جي بي تي” قدرة استثنائية على الانتشار والتأثير، فقد كشف في الوقت ذاته عن تحديات بنيوية تتعلق بالدقة، والخصوصية، والحقوق الفكرية، والبيئة، وتوازن القوى في الفضاء المعلوماتي العالمي؛ ليطرح أسئلة أخلاقية وسياسية عميقة حول التحكم والمساءلة والاعتماد الزائد.

وقد واجه “شات جي بي تي” عدداً من التحديات الجوهرية التي تراكمت خلال السنوات الثلاث الماضية، وتنوعت بين قضايا قانونية وأخلاقية وبيئية واجتماعية؛ حيث أصبح طرفاً في 20 دعوى قضائية خلال الفترة من يونيو 2023 وحتى إبريل 2025، يتعلق أغلبها بحقوق الطبع والنشر، بينها 12 قضية دمجتها المحاكم الأمريكية في مانهاتن، تتهم الشركة باستخدام محتوى محمي بحقوق النشر دون إذن، وكذلك تجاوز “جدران الدفع” (Paywalls) الخاصة بمواقع صحفية مثل “نيويورك تايمز” (New York Times) التي طالبت التطبيق بالإفصاح عن 20 مليون محادثة تثبت ذلك بما يوقع ضرراً مباشراً عليها، إضافة إلى دعوى شركة “زيف ديفيس” (Ziff Davis) ودعاوى دولية في البرازيل وكندا والهند وقضية ألمانية.

وتجلت أيضاً إشكالات الخصوصية، مثل الدعوى الجماعية حول الاستنساخ الرقمي، والدعاوى التي تتعلق بأضرار نفسية نتجت عن استخدام التطبيق، بما في ذلك الحالات المرتبطة بالأفكار الانتحارية، حيث تواجه” أوبن إيه آي” ما لا يقل عن سبع دعاوى قضائية تدّعي أن استخدام “شات جي بي تي” دفع الأشخاص إلى الانتحار أو تسبب في أوهام ضارة.

كما كشفت اختبارات “بي بي سي” (BBC)، في ديسمبر 2024، عن أن 51% من إجابات الذكاء الاصطناعي تضمنت أخطاءً جوهرية أو “هلوسات”، وأن نسبة من الاستشهادات كانت ملفقة أو منسوبة خطأً؛ ما يثير مخاوف حول الاعتماد على النماذج في المجالات الأكاديمية أو الصحفية أو القانونية، بل والطبية مع تزايد الاعتماد على التطبيق في الحصول على النصائح الطبية. وهذا ما وضع الذكاء التوليدي في قلب نقاش عالمي حول الحقيقة والتضليل والمصداقية ومخاطر الاعتماد المفرط على الآلة في إنتاج المعرفة، خاصةً مع المخاطر الجسيمة لانتشار المحتوى المضلل في الفترات الحرجة مثل الأوبئة والحروب؛ وهو ما أفرز تسميات عديدة مثل التلوث الرقمي واضطراب المعلومات، بخلاف الإفراط في حجم المحتوى منخفض الجودة؛ مما أثر سلباً في بيئة المعلومات وخلق تحديات حقيقية أمام الصحافة الجادة والبحث العلمي والتعليم.

ويشير هذا أيضاً إلى التأثير السلبي المحتمل للاعتماد على النماذج اللغوية مثل “شات جي بي تي”، والتي تعيد صياغة المفاهيم المرتبطة بالتعلم والذاكرة والعمل، ليصبح الإنسان محاطاً بشبكة من “الرفقاء الخوارزميين” الذين يتابعون سلوكه وتفضيلاته وخياراته؛ بهدف تحسين جودة الحياة وزيادة الإنتاجية، ولكنه يهدد أيضاً بظهور أنماط جديدة من التبعية التكنولوجية، وتآكل بعض القدرات المعرفية البشرية نتيجة الاعتماد المفرط على النماذج، هذا إلى جانب تأثير تلك التفاعلات المؤتمتة في العلاقات الاجتماعية والمدركات الإنسانية بشأن الذات والعائلة والمجتمع.

ويزيد من تلك الجوانب المعتمة، توظيف “شات جي بي تي” في الانتهاكات الأمنية الضارة. وقد سبق أن أفصحت “مايكروسوفت” عن قيامها بتتبع 300 جهة تهديد، بما في ذلك 160 جهة تابعة لدول من بينها روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية وكوريا الجنوبية وفيتنام، وهي التهديدات التي تم الكشف عن استغلالها أدوات الذكاء الاصطناعي ولا سيّما نماذج اللغة الكبيرة مثل “شات جي بي تي”؛ بهدف الاستعلام عن المعلومات مفتوحة المصدر والترجمة والعثور على أخطاء الترميز وتشغيل مهام الترميز الأساسية. وقد عقدت “مايكروسوفت” شراكة مع “أوبن إيه آي”، أعلنا في إطارها عن تحديد مصادر التهديدات التي استغلت تلك النماذج، والتي كان منها اثنان تابعان للصين والبقية لإيران وروسيا وكوريا الشمالية.

اتجاهات مستقبلية:

في ضوء هذا المسار المزدوج بين النمو المتسارع والإشكاليات المعقدة، يبدو مستقبل “شات جي بي تي” غير مرتهن فقط بقدرته على تحسين دقته أو توسيع نطاق تطبيقاته، بل بقدرته على إعادة تعريف العلاقة بين المستخدم والنظام الذكي باعتباره أكثر من مجرد أداة للإجابة أو المساعدة، ولكن فضاءً تواصلياً جديداً يُعاد فيه تشكيل أنماط المعرفة، وتوزيع السلطة المعلوماتية؛ حيث يشير تطور نماذج (GPT-5) و(GPT-5.1) إلى ظهور نمط جديد من الذكاء التوليدي يتحول فيه النموذج اللغوي إلى بنية إدراكية قادرة على تنفيذ مهام تشبه الأنظمة الخبيرة ونظم دعم القرار في آن واحد.

ومع تطور الواجهات الصوتية والمرئية، يتحول التفاعل مع “شات جي بي تي” من نصوص مكتوبة إلى حوارات متعددة الوسائط، مدعومة بقدرات تحليلية تتجاوز الإدراك البشري في السرعة والنطاق، مع توسع قدرات النماذج اللغوية من نطاق المساعد الفردي إلى منظومات متكاملة من الوكلاء الأذكياء متعددي المهام، وتوظيفهم في إدارة عمليات معقدة من التخطيط وصنع القرار والتفاوض والتنفيذ بطريقة شبه مستقلة. وفي هذا السياق، يُنتظر أن يتجاوز “شات جي بي تي” وظيفته الحالية بوصفه منصة للحوار؛ ليصبح نظاماً تشغيلاً للبيئة الرقمية قادراً على إدارة سلاسل الإنتاج المعرفي والصناعي والاقتصادي، ودعم المؤسسات في اتخاذ قرارات استراتيجية تعتمد على تحليل متغيرات ضخمة في الزمن الفعلي.

وتؤكد ذلك المنافسة المحتدمة بين “أوبن إيه آي” و”جوجل”؛ حيث تعتمد الأولى على نظام الوكلاء، فيما تعتمد “جوجل” عبر “جيميناي” على فلسفة التكامل بين الذكاء الاصطناعي ومحركات البحث وخدمات جوجل السحابية. وإذا كانت “أوبن إيه آي” قد نجحت في بناء قاعدة استخدام جماهيرية واسعة جعلت “شات جي بي تي” بمثابة معيار لهذا النوع من الذكاء؛ فإن “جوجل” تمتلك مصادر بيانات ضخمة قد تمنح نماذجها قدرة أفضل على الربط بين البيانات الحية والمخرجات التوليدية؛ وهو ما يغير نطاق المنافسة لتمتد من مستوى الأداء اللغوي إلى مستوى النظام الكامل وقدرة النموذج على التصرف كوحدة فاعلة داخل بيئات اقتصادية ومؤسسية معقدة.

ومن الناحية السياسية والاقتصادية، يتزايد دور “شات جي بي تي” وغيره من النماذج التوليدية كأدوات مؤثرة في تشكيل الرأي العام، خصوصاً مع تطور قدرات المحاكاة وتخصيص الرسائل السياسية والتحليل الديمغرافي الدقيق؛ وهو ما ينبئ بتفاقم التحديات أمام النزاهة خاصةً في النظم الانتخابية، حيث تتزايد قدرة الأحزاب، والحكومات، والجهات الفاعلة غير الرسمية على استخدام الذكاء الاصطناعي في تصميم حملات تستهدف الأفراد والجماعات؛ ما قد يؤدي إلى استقطاب سياسي مبرمج أو تضليل عالي الدقة بدعم من قدرات التخصيص العميق، تسعى الدول إلى تحجيمه بالضوابط القانونية جنباً إلى جنب مع تطوير تقنيات التحقق والمطابقة.

وعلى صعيد متصل، تعزز تلك التطورات التي تقودها نماذج مثل “شات جي بي تي” تسارع التحول نحو الاقتصادات المعتمدة على نماذج الذكاء الاصطناعي، لتصبح الشركات التي تتبنى الذكاء التوليدي قادرة على مضاعفة إنتاجها بتكلفة أقل؛ مما يعيد تشكيل ميزان القوى الاقتصادية بين الدول، وبما يخلق فجوة جديدة بين الاقتصادات القادرة على الاحتضان التقني وتلك العاجزة عنه؛ الأمر الذي يجعل الذكاء الاصطناعي أحد عناصر القوة الجيوسياسية.

وبالنظر إلى هذه الأبعاد المتشابكة، يبدو مستقبل “شات جي بي تي” معتمداً على قدرته على تطوير مكانته كمعيار عالمي في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي، قادر على الابتكار ضمن إطار واضح من الشفافية والمسؤولية. ويتطلب ذلك تحقيق توازن دقيق بين التطور الوظيفي عبر تقديم خدمات أكثر تخصيصاً وكفاءة، والالتزام بالمتطلبات القانونية والأخلاقية، فضلاً عن مواجهة منافسة متصاعدة في سوق واعدة. كما يستلزم تأمين التمويل الكفيل بتطوير قدراته التقنية وتوسيع بنيته التحتية، وتطبيق منظومات حوكمة صارمة تعزز المساءلة وشفافية الأداء، بما يكفل كسب ثقة المؤسسات الدولية والمستخدمين على حد سواء.

 


مقالات مشابهة

  • ‏”العرفي”: الحوار المهيكل لن يكون المسار الكفيل بحل الأزمة والغموض في آلية اختيار المشاركين فيه
  • الحزب الديمقراطي واستراتيجية «عانق بيبي»
  • اشتباكات بين الشرطة التونسية ومحتجين في القيروان
  • الديمقراطي الكوردستاني: من يمتلك مليون صوت له دور في اختيار رئيس العراق
  • صديق المهدي .. المشروع المدني الديمقراطي هو الوحيد القادر على إيقاف الحرب
  • تعيين هيئة الإشراف على الانتخابات مع ترجيح تأجيلها إلى تموز وترقّب الموقف الأميركي
  • الديباني: حكم استئناف بنغازي يُسقط قانونيًا هيئة الانتخابات الموازية التي أنشأها الرئاسي
  • ما هو أفق الصراع بين تصحيح المسار والاتحاد؟
  • الوفد يشارك في المؤتمر الوطني الإرتري للتغيير الديمقراطي في ستوكهولم
  • المسار المزدوج: مستقبل “شات جي بي تي” بين تسارع النمو وتشابك التحديات