Oppenheimer.. المعضلة الأخلاقية للذئب الوحيد
تاريخ النشر: 14th, August 2023 GMT
متابعة بتجــرد: في اللقطة الأولى من فيلم Oppenheimer للمخرج كريستوفر نولان، نُشاهد صفحة ماء تسقط فوقها قطرات من المطر مُشكّلة دوائر موجية تتسع بشكلٍ متداخل، تتحرك الدوائر أمام عيني “أوبنهايمر” الذي يراقبها سارحاً بهيئته الأيقونية (المعطف، والقبعة، والنظرة الشاردة)، ثم قطع حاد إلى الذرّة ومدارات البروتونات والإلكترونات التي تدور حولها كما تتجلى في ذهنه طوال الوقت؛ إنه عالم الفيزياء النظرية الذي يرى كل شيء في هيئة جزيئات أو ذرّات متناهية الدقة، لكنه قادر على أن يسبر أغوارها أكثر مما هو قادر على أن يفهم البشر، أو يستوعب نفسه.
وفي بناء دائري، يأخذ من فكرة مدارات الذرّة ولا نهائية الهم الإنساني أو المعضلة الأخلاقية -التي يواجهها أبطال كريستوفر نولان دائماً- حيث ينتهي الفيلم كما بدأ؛ بموجات الماء الدائرية المتسعة، بعد أن يصارح “أينشتين” “أوبنهايمر” بأنه بعد كل ما سيقطفه من شجرة النجاح، وبعد كل الأحجار التي سوف تقذف ثماره -ذرّاته- سوف يجد نفسه بمفرده -أقرب إلى ذئب وحيد- لأن لا أحد سيستوعب أزمته، ولن يرَ في نجاحه أو ألمه إلا ما يخصه فقط.
هذا البناء الذي يبدأ وينتهي عند نفس النقطة لتأكيد الاستمرارية، وتفتيت زاوية اليقين -فالدائرة لا تحتوي على أي زوايا- يعكس جزءاً هاماً من علاقة نولان بالزمن، كعنصر أساسي في نظرته للعالم من ناحية، وعلاقته بالإطار العام الذي يضع فيه شخصيات أفلامه، سواء كانت من تأليفه، أو مستقدمة إلى عالمه، وهو إطار المعضلة الأخلاقية كما أشرنا.
من الممكن لأي متابع لسينما نولان منذ أول أفلامه Memento أن يلمح السبب وراء اختيار شخصية “أوبنهايمر” كبطل تراجيدي في أحدث تجارب صاحب Inception و Interstellar، ففي “أوبنهايمر” نموذجاً مثالياً لأبطال نولان الذي تفتت النوارس الأخلاقية أكبادهم كل صباح عقاباً على ما اقترفوه من أفعال، تجعل من كفّتي الجمال والقبح أو الحق والباطل يستويان بلا ترجيح، هذا التشبيه المستوحى من قصة “بروميثيوس” الذي سرق النار من الآلهة، وهبط بها للبشر، فحق عليه العقاب الأبدي هو نفسه عنوان الكتاب الذي أخذ عنه نولان نص فيلمه.
هذا العالم، كما نرى في مشاهد دراسته الجامعية، كان يحلم بالذرّة في يقظته وقت شبابه المبكر وإعداده لنفسه كي يليق بها -على اعتبار أن فيها ينطوي العالم الأكبر- هو نسخة جديدة من “الرجل الوطواط” في الثلاثية الشهيرة، وهو نسخة أخرى من رئيس العصابة التي تقتحم أحلام الآخرين كي تزرع في وعيها أفكاراً هادمة لمجرد أنه يريد العودة إلى طفليه، وربما هو ذاته المنتقم صاحب الوشوم الذي يذكر نفسه من خلالها، لماذا يقوم بتصفية المجرمين من أجل الثأر لزوجته؟.
يمكن أن نفصل عناصر بناء أزمة المعضلة الأخلاقية عند نولان بالتطبيق على “أوبنهايمر” من خلال معادلة بسيطة: البطل يقدم على فعل يرى فيه انتصاراً للحق والخير والجمال، وربما إنقاذاً للبشرية بأكملها -كما في فيلم Interstellar على سبيل المثال- هذا الفعل يضعه نولان في محكمة قاضيها هو الزمن نفسه، ومن هنا دائماً نرى الزمن غامضاً وغير خطي، أشبه بشبكة معقدة أقرب للفخ في كل أفلامه.
هذا القاضي العجيب والصارم غالباً لا يصدر أحكاماً قاطعة، فلا ثواب ولا عقاب، ولكنه يضع الفعل في ميزان الأخلاق فلا ترجح أي كفة.
وتستمر الجلسات لا نهائية مدفوعة بالأدلة والمرافعات الجدلية الطويلة، حتى يدرك المتلقي أن الحكم ليس هو ذروة المحاكمة ولا هو الهدف من ورائها، ولكن المحاكمة في حد ذاتها هي أساس الحكاية كلها.
من هنا أيضاً، ندرك لماذا يعتمد نولان على البناء الدائري في كثير من أفلامه، فالأفلام تبدأ وتنتهي عند نقاط متشابهة أو متطابقة تقريباً، لأنه لا يوجد نهاية محددة أو يقينية، تماماً مثل المشهد الأخير في Inception، فنحن لا ندري هل ستتوقف النحلة الدوارة أم ستستمر في الدوران إلى الأبد كما الذرة.
في ثلاثة خطوط زمنية، نرى “أوبنهايمر” يتعرض لهذه المحاكمة، أولها الخط الخاص باكتشاف سر القنبلة الذرية، والذي لم نرَ فيه ما الذي فعله أبو القنبلة تحديداً على المستوى العلمي! بل نراه أقرب لموظف كبير مهمته الإشراف على مشروع مانهاتن الضخم، وتكوين بلدة لوس الأموس التي شهدت أول تفجير للقنبلة قبل إلقاء الطفل الصغير على هيروشيما.
وفي الخط الثاني والثالث، ثمة جلسات استماع التي تبدو أقرب للمحاكمات، الأولى نرى فيها شخصية “لويس شتراوس”، واحد من خصوم “أوبنهايمر” الذي يذكرنا بالجوكر في عدائه لكل ما يمثله “أوبنهايمر” من قيم ومثل وتوجهات غير محددة المصالح أو كاملة اليقين.
والثانية هي جلسات التحقيق مع “أوبنهايمر” من أجل البت في تمديد تصريحه الأمني، الذي يعني أنه صاحب كلمة ومسؤولية وثقة من قبل الحكومة الأميركية، وهي جلسات يمارس فيها “أوبنهايمر” حالة من جلد الذات؛ بسبب شعوره المراوغ بالذنب تجاه صناعة القنبلة التي أغرقت يديه بالدماء كما يقول للرئيس الأميركي ترومان في لقائهم الشهير.
هكذا لا يهتم نولان بالتفاصيل العلمية كعادته، ولا بالخوض في أهمية “أوبنهايمر” كعالم فيزياء بالنسبة لصناعة القنبلة، ولكن لما قبل وبعد هذا، بالمعضلة الأخلاقية التي يجد “أوبنهايمر” نفسه فيها من قبل، حتى ترتطم “الطفل الصغير” بتربة هيروشيما الخضراء.
في لمحات عديدة نسمع صوت دقات عنيفة متتالية متواترة أقرب للمؤثرات الصوتية المنبهة لأعصاب المتلقي في العديد من المشاهد، ثم تدريجياً نكتشف سر هذه الدقات، إنها صوت ضرب كعوب الأحذية لعشرات العلماء والمشاركين في مشروع مانهاتن تحية لأوبنهايمر بعد نجاح المشروع.
لقد جعل نولان بطله يستمع إلى صوت الدقات العنيفة من قبل حتى أن ينجح المشروع، رغبة في الإرهاص بأنه يعيش حيرة المعضلة كفكرة وسواسية، لا يدري كيف سيحسمها ولا لصالح أي طرف: الأميركان أم اليابانيين، البشرية أم الحرب، النجاح أم الدماء!.
يحول نولان لحظة المجد الشخصي والمهني إلى اختبار لحقيقة الفعل، حين تحيي كعوب الأحذية في دقاتها المختلطة بالتصفيق لشخص “أوبنهايمر” الواقف أمامهم، بينما في مخيلته تلتهم الأشعة الملتهبة وجوههم، فلا ندري هل يعرضهم في خياله للجحيم الذي تعرض له اليابانيون أم يختبر مصيرهم لو كان النازيون أو اليابانيون أنفسهم ألقوا عليهم القنبلة.https://cdn.iframe.ly/kgeyQB0
هذا هو جوهر المعضلة التي بدأت عام 1945، ولا يزال سؤالها مطروحاً إلى يومنا هذا، فعالمنا الذي نعيشه الآن بدأ بمعضلة غير مسبوقة في تاريخ البشر، والخاطر الذي جعل “أوبنهايمر” يراسل “أينشتاين” بخصوص تفجير الغلاف الجوي للكرة الأرضية ككل، هو في جوهره السؤال المجازي للوجود البشري بعد اختراع سلاح دمار شامل، وفي الوقت الذي لا يمر شهر طوال العام ونصف الماضي، دون أن نسمع عن احتمالية نشوب حرب نووية، بسبب هجوم روسيا على أوكرانيا تعود معضلة “أوبنهايمر” لتطفو فوق مسام القلق الإنساني حول مصير كل روح على ظهر الكوكب.
في عالم الحيوان، فإن الذئب الوحيد هو الذي يغادر القطيع مجبراً في معظم الأحوال، سواء بأمر الكبار أو ثورة من الصغار، في النهاية يشرد بعيداً مشكلاً مجاز شعري واضح يجعله أقرب لروح منفصلة من أجل البحث عن العلاقة ما بين ذاته والعالم أو بين الحقيقة ومعناها الكامل.
أبطال نولان وعلى رأسهم “أوبنهايمر” هم ذئاب منفردة، لديها القدرة على فهم مشاعر الآخرين وتصور أفكارهم، لكن عبئهم الأكبر هو اكتشاف حقيقة ذواتهم، واليقين بأن ما فعلوه يستحق خوض المعارك أو التضحية بأثمان مرتفعة أو تحقيق الخلاص الأخير، وكلها مُطلقات ليست مدرجة على قائمة المتاح أو السهل في هذه الحياة.
في نهاية الفيلم، حين يتلقى “أوبنهايمر” جزءاً من تكريم مستحق بعد سنوات من التجاهل والعزل السياسي والاجتماعي، نشعر بمدى العزلة والحالة الانفصالية التي توسع ما بينهم من مساحات مختلفة في الأفكار والأفعال.
بل أن “نولان” يؤكد على مجاز الذئب الوحيد بالمشهد الرائع الذي يلتقط فيه “أوبنهايمر” قبعة “أينشتاين” بعد أن أزاحتها الريح من فوق رأسه -وفي هذا مجاز آخر عميق يستحق التأمل في العلاقة ما بين العالمين الكبيرين- فأينشتاين سبق وأن تحول إلى ذئب وحيد قبل أن ينفصل “أوبنهايمر” عن قطيع “اليانكيز”، وبالتالي تصبح نصيحته التي أشرنا إليها في البداية هي ذروة الدراما بالنسبة لشخصية “أوبنهايمر”، وهي المشهد الأخير في الفيلم/ المحاكمة.
بل إن تيمة الذئب الوحيد في مشروع نولان، يمكن أن تفسر الكثير من محطات رحلة “أوبنهايمر” في الفيلم نفسه، سواء رفضه الانضمام للحزب الشيوعي أو صلته المضطربة بعشيقته اليسارية المنتحرة -أو المغدورة- جان تاتلوك، بل وأخيراً علاقته الملتبسة مثل كل أبطال نولان بذاكرته نفسها.
ذاكرة “أوبنهايمر” تخلط الواقع بالخيال، والذنب بالفخر، والماضي بالمستقبل غير المتحقق بالصورة المطلوبة، إن الذاكرة المراوغة هي مطرقة الزمن التي يدق بها فوق رأس كل أبطال نولان، وهي التي ربما كنا نسمع صوت ضرباتها يتردد في شريط الصوت في مشاهد الشك العظيم، وليس كعوب الأحذية التي تدق بشكلٍ محموم، تحية لمن ظن أن ما فعله سيكون نهاية كل الحروب! رغم تصريحه بأنه صار هو نفسه الموت مدمر العوالم.
main 2023-08-14 Bitajarodالمصدر: بتجرد
إقرأ أيضاً:
الإدارة الحكومية للإبداع
د. صلاح بن راشد الغريبي
أصل كل عمل إبداعي عقل قادر على الإيجاز والتفصيل إما بالكتابة أو الأداء أو الرسم أو بأي قالب يستوعب حصيلة التفكير في موضوع مُعين، وتنشط بعد ذلك المطابع ودور النشر أو شركات الإنتاج في إخراجه للجمهور المتلقي ذلك الجمهور المُتعدد في اتجاهاته والمتنوع في معارفه ورغباته.
ذلك الإخراج يستدعي عدة أمور منها تشريعات محددة ومفصلة، وأيضًا مؤسسات تعمل عليه، ولكن دعونا نسأل؛ هل ثمّة مُخرِجان اثنان لعمل فني ناجح أو رسّامان للوحة فنية واحدة أو شاعران لقصيدة واحدة نابعة من وجدان صادق غير متكلف؟!
كذلك لا تستطيع أي وسيلة نقل الاتجاه في طريقين مختلفين في الوقت نفسه إلا أن تكون النتيجة الدوران من نقطة والعودة إليها مرة أخرى أو الثبات التام في المكان نفسه.
كان لا بد من طرح مثل هذه التساؤلات للحصول على المغزى التالي:
لا يمكن الوصول إلى أي إنجاز واقعي وحقيقي ومفيد ما لم تستقل صناعة العمل الإبداعي سواء كان الكِتاب أو السينما أو الفنون المختلفة أو أي عمل إبداعي آخر في مؤسسة جامعة لكل مراحله من الألف إلى الياء من التشريع المنظم إلى إدارة عناصره البشرية والتقنية والفنية ومن بعد ذلك الوصول لتحقيق الأهداف ومراجعة ما أنجز منها وما لم ينجز في الإطارين الزماني والمكاني لهذه الأهداف.
وبذا نفهم أهمية ما تقوم به الحكومات في العالم والساعية للتقدم في جعل كل عمل إبداعي تحت إطار هيئة واحدة أو مؤسسة واحدة أو إدارة واحدة؛ من غير تشتيت أو تفريق لمفاصِلِه هذا المفصل لهذه الجهة وذلك لتلك والآخر لجهة أخرى كتوزيع الإرث الظالم أو توزيع فوضوي بلا ميزان ولا مبدأ.
يقع التشريع على هذه الجهة التي لا تدرك حقيقة العمل الميداني وتفاصيله المتغيرة أو تتدخل فيما لا تعيه من جوانب يعيها المتخصصون والتنفيذيون وحدهم؛ والذين يقع عليهم الكدح والبذل والتقريع والمحاسبة؛ في حين أن آخرين يحملهم الجشع لاختلاس ثمارهم الناضجة وحصادهم فيظلون كالذي يتلمظ اللقمة والثمرة التي بذرها وسقاها ولا يَطعَمُها أبدا أو يُعطى منها ما يجعلُ فمه مغلقا أو يده مزمومة عن جلّ حقه أو أكثره.
حينها تكون رغبة الموظف أو العامل الجاد في تجويد عمله في أدنى مستوياتها وتكون الحصيلة عملا سطحيا استعراضيا لا غير؛ ذلك إن تم العمل أصلا.
الخلاصة أنه لا بُدّ من مظلة واحدة تجمع كل صناعة إبداعية على حدة؛ بدءًا من المشاركة في وضع ضوابطها المجتمعية، وانتهاءً باستعراض نتائج العمل ومراجعته والعمل على تجويده وتطويره، وأن من يستحق أولًا ثمار الحصاد هو من يبذر ويزرع حتى تظل جذوة العطاء مشتعلة في نفسه وحتى لا يفقد همته وحرصه على ما يؤديه من عمل خدمة كان أو إنتاجًا.
التنظيم والعمل الجاد والمستمر والمتقن والتطوير الحقيقي لا يكون إلّا بوسيلة واحدة هي وجود هيئة أو مؤسسة مستقلة جامعة لكل عمل إبداعي مؤثر؛ سواء كان كتابًا (هيئة للكتاب) أو سينما ودراما (هيئة للسينما والدراما) وهكذا لأي عمل إبداعي بطابع إنتاجي كامل.