دعوة إلى تفكيك المركزية الوظيفية وإعادة الحياة للقرى العمانية
تاريخ النشر: 26th, October 2024 GMT
تغير مجتمعنا كثيرا فـي العقود الثلاثة الأخيرة، وهو تغير لا نستطيع أن نصفه بالسلبي دون دراسة حقيقية لمساراته وأسبابها الداخلية والخارجية وحجم التأثير القادم من تحولات العالم وطفراته التكنولوجية والمعلوماتية ومسارات العولمة التي وصلت إلى عمق قرانا المتوارية تحت سفوح الجبال الشاهقة.. لكن التغير، على أية حال، أثر كثيرا فـي بنية المجتمع وتفاعله اليومي مع الأحداث وأثر على بعض العادات والتقاليد، وكاد أن يمس ببعض القيم والمبادئ أو مس بعضها بالفعل.
ومن بين أهم أسباب ذلك الخفوت أو البطء فـي التفاعل الاجتماعي/ الحياتي اليومي ما يمكن أن نسميه، تجاوزا، «الهجرة الداخلية» التي شهدتها الكثير من القرى العمانية للعاصمة بحثا عن الوظائف والعمل وطلبا للرزق. اجتذبت العاصمة مسقط العدد الأكبر من السكان بسبب تمركز الوظائف فـيها سواء الوظائف الحكومية أم وظائف القطاع الخاص أو حتى بسبب تمركز أكثر المؤسسات الجامعية فـيها وكذلك مركزية المؤسسات الثقافـية والترفـيهية. وإذا كانت العاصمة قد اجتذبت العدد الأكبر فإنها، أيضا، اجتذبت خلال ذلك النخب، مثقفـين وسياسيين ودبلوماسيين وإعلاميين واقتصاديين ومؤثرين اجتماعيين وأطباء.. إلخ. وتكاد القرى العمانية البعيدة عن محافظة مسقط تكون شبه خالية من مساء السبت وحتى مساء الخميس إلا من القلة القليلة من السكان، وخالية تماما تقريبا من التفاعل الحياتي. يوم الجمعة يكون، عادة، اليوم الوحيد الذي تستعيد فـيه القرى بعض نشاطها رغم أن الكثير من الأسر مع تعقد حركتها وارتباطها بالمكان لا تستطيع العودة إلى القرية بشكل أسبوعي. على المستوى الشخصي كنت أذهب إلى «البلاد» أسبوعيا ثم تحول الأمر نتيجة لظروف الأسرة وتعقيدات العمل الوظيفـي إلى الذهاب مرة كل أسبوعين أو مرة كل ثلاثة أسابيع، وهذا شأن الكثيرين الذين تتباعد فترات عودتهم إلى قراهم مع تعقد وضعهم الأسري والوظيفـي.
وهذا الأمر يحتاج إلى دراسة اجتماعية واقتصادية، أيضا، لفهم تأثيراته فـي الولايات وفـي القرى من الناحية الاجتماعية والاقتصادية وكذلك من ناحية البناء الحضاري العميق للمجتمع على المدى البعيد. فالمجتمع لا ينمو من تلقاء نفسه، إنما بناء الوعي فـيه هو الذي يجعله مجتمعا حيا وقادرا على النمو، وهذا الوعي يحتاج إلى عمل كبير من بينه الاجتماع والتفاعل البشري حتى يستطيع الوعي أن يطور المجتمع وينهض به. والحياة فـي العواصم، كل العواصم تقريبا، تختلف تماما عن الحياة فـي القرى التي تقوم على فكرة التفاعل الاجتماعي اليومي عكس المدن التي يذهب سكانها نحو الانكفاء الذاتي وهذا مفهوم نتيجة تعدد الأماكن التي أتى منها سكان العاصمة. وهذا لا ينطبق على السكان الأصليين للعاصمة الذين يستوطنون فـي الغالب القرى القديمة وليست المخططات السكانية الحديثة فـي العاصمة.
وفـي ظل توجه سلطنة عمان بفضل الفكر الجديد لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- لإرساء سياسة اللامركزية فـي البناء الإداري للدولة يمكن ضمن هذا الإطار العمل بشكل مدروس على تفكيك مركزية الموظفـين ذكورا وإناثا فـي العاصمة مسقط، وإعادة الكثرة الكاثرة منهم إلى المحافظات، والولايات وبالتالي إلى القرى حتى تستعيد القرى حيويتها ودورها فـي البناء الاجتماعي وتكريس القيم والمبادئ. ورغم أهمية الجانب الاجتماعي والبناء الحضاري فـي الفكرة إلا أن لها جوانب إدارية وثقافـية مهمة أيضا؛ فالمحافظات التي أعطيت صلاحيات جديدة تحتاج إلى موظفـين من أصحاب الكفاءات العالية التي تستأثر بهم المراكز فـي الغالب، كما تحتاج إلى أصحاب الفكر وإلى المثقفـين الذين يمكن أن ينشطوا العمل الثقافـي فـي المحافظات ويثروا الأنشطة وإلى المبدعين فـي مختلف المجالات. وهذا الطرح لا يستنقص من أحد أبدا، فأنا أتحدث عن الكثرة وليس عن الاستثناءات الموجودة فـي كل مكان. وهذا الأمر من شأنه أن يحدث تأثيرا عميقا على كل الأصعدة. وفـي ظل توفر وسائل التكنولوجيا الحديثة وما صاحبها من ثورة معلومات فإن الأمر يبدو أسهل للتطبيق مما كان عليه الأمر قبل عقد أو عقدين من الزمن. فمكتب الموظف فـي الكثير من الوظائف لم يعد تلك الغرفة المغلقة المحددة بجدران وموقع جغرافـي، يمكن الآن أن يكون مكتب الموظف فـي أي مكان يؤدي منه عمله كما لو كان فـي ديوان عام الوزارة. وأعرف أن وزارة الإعلام تطبق، فـي بعض مديرياتها، شيئا من هذا بشكل ناجح جدا. وهناك الآن توجه عالمي نحو العمل «عن بعد» وهذا النوع من العمل لا يعترف أصلا بفكرة أن المؤسسة هي فـي الأساس «مبنى» إنه يتجاوز هذا الأمر لتتحول المؤسسة إلى عمل وإنتاج بغض النظر عن المكان. هذا الأمر قادم لا مفر منه ولكن نحتاج إلى قوانين وأنظمة تضبطه وتحكمه حتى لا يتحول إلى مسار للتسيب.
إن الفكرة الأساسية التي أود طرحها تكمن فـي إعادة الحياة بشكل يومي إلى القرى العمانية حتى يعود إليها ذلك التفاعل الاجتماعي بمعناه العميق الذي ساهم عبر التاريخ فـي إنتاج القيم والمبادئ وتكريسها وفـي تربية أجيال هي امتداد لمن سبقها ليس بالمعنى البيولوجي ولكن بالمعنى الحضاري والأخلاقي.
عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة «عمان»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التفاعل الاجتماعی هذا الأمر
إقرأ أيضاً:
الريع المسلح: كيف يمكن تفكيك الميليشيات فعلا!؟ 2
في الجزء الأول كان الحديث عن الميليشيات التي تحوّلت إلى بنى راسخة متغلغلة في مفاصل الدولة، تشكّل ما يشبه النظام الموازي القائم على مزيج من العنف والاقتصاد والسلطة.
وقد راج في الخطاب السياسي والإعلامي مصطلح “تفكيك الميليشيات” كحل سحري، لكن المقالات والتحليلات التي تتناول هذا الشعار غالبًا ما تكتفي بوصف المعضلة، دون الغوص في آليات بقائها أو فهم منطق ديمومتها.
تشوش الرؤية… واضطراب الإجراء
ولهذا، فإن أي مقاربة جادة لفهم الظاهرة لا بد أن تنطلق من تحليل “الاقتصاد السياسي للميليشيات” باعتباره البعد الأكثر حسمًا في تفسير استمراريتها وامتناعها عن الزوال.
فالميليشيات الليبية لم تعد عبئا أمنيا على الدولة فقط، بل أصبحت مشروعا اقتصاديا قائمًا بذاته، يدر ارباحاً ضخمة على قادتها وشركائهم في أجهزة الدولة الرسمية، وعلى شبكات أوسع تمتد أذرعها إلى الإقليم والخارج.
إنها ليست مجرد قوة عسكرية، بل باتت تشتغل بمنطق الشركات، وتخوض صراعات النفوذ من أجل حماية استثماراتها، وإعادة توطينها ضمن بنى الدولة نفسها.
وهذا ما يفسّر فشل كل مبادرات التفكيك السابقة، التي تجاهلت أن المطلوب ليس فقط نزع السلاح، بل تفكيك البنى الاقتصادية التي تمنح هذه الكيانات أسباب الحياة.
أول ما يجب فهمه هو أن هذه الميليشيات تعمل ضمن شبكات معقدة من المصالح، تبدأ من القيادات الميدانية، مرورا بموظفين مدنيين ومسؤولين في المؤسسات الرسمية، وصولا إلى رجال أعمال، وسماسرة دوليين، وشركات نقل وموانئ ومصارف.
هناك من يربح من استمرار الفوضى، بل إن بعض هؤلاء الفاعلين باتت مصلحتهم في الإبقاء على الوضع كما هو، لأنهم تحولوا من مستفيدين إلى شركاء في صناعة القرار، بشكل مباشر أو غير مباشر.
اقتصاد الحماية
لا يمكن إذا الحديث عن “حل أمني” دون تفكيك هذه الشبكات التي لا تعمل فقط داخل ليبيا، بل تمتد إلى الخارج عبر التهريب، والمصارف، والتحويلات، والاعتمادات المصرفية، وصفقات السلاح، وغسيل الأموال.
الجانب الآخر يتمثل في ما يمكن تسميته “اقتصاديات الحماية”، وهي آلية قامت بها الميليشيات لتعويض غياب الدولة وتقديم نفسها كبديل عنها.
فبدل أن تكون مجرد جماعات مسلحة تسعى للبقاء، باتت تفرض رسوم حماية على الشركات، وتؤمّن طرق النقل، وتدير الموانئ والمطارات، وتتحكم في توزيع الوقود، وحتى في إصدار التصاريح الرسمية. بل باتت ادارات هذه الشركات نفسها، من هذه القوى المسلحة أو محسوبة عليها مباشرة.
وبذلك تحولت من عنصر عبثي إلى فاعل “منظم”، يتقن منطق السوق ويحسن التفاوض، ويفاوض على نصيبه من الكعكة مع الدولة لا ضدها.
في الواقع، كثير من هذه الميليشيات لم تعد على هامش الدولة، بل أصبحت الدولة نفسها في بعض المناطق، وهذا ما يجعلها أكثر تعقيدًا من مجرد مجموعات مسلحة يمكن تفكيكها بضغطة زر.
أما على مستوى التمويل، فالصورة أكثر خطورة. فالميليشيات اليوم لا تعتمد فقط على الدعم المحلي، بل صارت تمتلك منظومة تمويل متنوعة تشمل عائدات النفط، والتهريب، والجباية غير الرسمية، بل وحتى الاستثمار في القطاعات الشرعية مثل العقارات والتجارة والسياحة.
الاقتصاد…. كلمة السر!!
كما تستخدم أدوات غسيل الأموال لتحويل الأموال القذرة إلى مشاريع نظيفة، مما يعقّد عملية تتبّع الأموال، ويمنحها شرعية زائفة في عيون المجتمع المحلي والدولي.
بل إن بعض الميليشيات تمكّنت من بناء واجهات تجارية محترفة تدير الفنادق وشركات الصرافة والمقاولات، بما يجعل التفريق بين المسلّح والتاجر أمرًا شبه مستحيل.
كل هذه العناصر تؤكد أن استمرار الميليشيات ليس فقط نتيجة لانهيار الدولة، بل لأنه بات بديلا عن الدولة، أو نموذجًا منافسًا لها.
وبالتالي، فإن أي محاولة لمعالجة هذا الوضع يجب أن تبدأ بتفكيك البنية الاقتصادية التي تمنح هذه الكيانات مقومات البقاء.
لا يمكن تفكيك الميليشيا إذا بقيت أرباحها قائمة، وشبكات تمويلها آمنة، وعلاقاتها الاقتصادية محمية. التفكيك يبدأ من الاقتصاد، لا من السلاح، ومن المحاسبة المالية لا من الحسم العسكري.
ومن هنا تأتي أهمية هذا المحور باعتباره الجواب الحقيقي على السؤال الكبير الذي يطرحه المقال: إذا كان تفكيك الميليشيات وهمًا، فما هو البديل؟
البديل هو تفكيك شبكات المصالح التي تقوم عليها هذه الجماعات، واستهداف البنية الاقتصادية التي تمكّنها، وفرض رقابة صارمة على الاعتمادات والتحويلات والأسواق، وتجفيف منابع تمويلها، وربط الإصلاح الأمني بالإصلاح الاقتصادي، لا التعامل معهما كملفين منفصلين.
الاقتصاد السياسي للميليشيات هو المفتاح الذي يمكن أن يحول الخطاب من مجرد صرخة تحذير إلى خريطة طريق حقيقية، تتعامل مع الظاهرة في عمقها، وتفهم أسباب نشأتها وآليات بقائها، وتطرح مسارات عملية لتفكيكها.
فلا حرية بدون أمن، ولا أمن بدون اقتصاد، ولا دولة بدون كسر منظومة الريع المسلح التي تحكم ليبيا من خلف الستار.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.