دولة 56: ما بين سلاسة التاريخ وعكر الأيديولوجية
تاريخ النشر: 16th, August 2023 GMT
من ضمن المحاور المركزية في الحروب الثقافية بأميركا التي فقدت بها سرديتها التاريخية التي لمت شملها طويلاً، السؤال عن التاريخ الذي تأسست فيه الأمة الأميركية. فهل كان ذلك في عام 1776 كما تواضع الناس طويلاً، وهو تاريخ إعلان الاستقلال عن بريطانيا في الرابع من يوليو (تموز) من تلك السنة؟ أم هو عام 1619، وهو تاريخ رسو أول شحنة من الرقيق الأفريقي إلى شاطئها؟ وكانت جريدة "نيويورك تايمز" قد تبنت ما عرف بـ"مشروع 1619" لأجل فهم لأميركا ينفذ إلى دفائن الاسترقاق في سياستها واقتصادها وعقلها وروحها.
وكان أميز ما قاله مؤرخون في نقد "مشروع 1619" أنه تاريخ اختطفته الأيديولوجية. فحتى بدء تاريخ المشروع في عام 1619، على حد قول نقاده، خطأ، لأن أول شحنة للرقيق الأفريقي كانت في عام 1526، لا في 1619، أي بفارق قرن من الزمان.
دولة "جلابة"
ويشيع في خطاب المركز والهامش في السودان احتجاج جوهري على الدولة السودانية منذ استقلالنا في عام 1956 كدولة "جلابة"، أي صفوة الجماعة العربية المسلمة على أواسط النيل، لاحتكارها السلطة والثورة. وجعلت حركات الهامش المسلحة من كسر هذا المركز وتفكيك احتكاره للسلطة استراتيجية مقررة. وتجد اليوم خلال هذه الحرب في السودان، من بين قوى "الدعم السريع"، من يذيع هذه الاستراتيجية على رغم أن حركتهم، من دون الحركات الأخرى، لم تنشأ لتنازل المركز الذي كان على سدته "حكومة الإنقاذ" فحسب، بل كان المركز هو من أنشأها لخدمته. وفي وسط "الدعم السريع" استراتيجية أخرى هي استبدال دولة "جنيد" بالمركز، وهم الشعب في غرب السودان والساحل الذين منهم أسرة زعيم "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو. وتلك قصة أخرى.
ساق هذا الاحتجاج على دولة 56 إلى سردية ضرار للسردية التاريخية الوطنية التي لمت شمل الوطن حيناً من الدهر، مما جاز القول فيها أيضاً إنها تاريخ مختطف بالأيديولوجيا. وسيقتصر حديثنا هنا عن ثورة 1924 ضد الاستعمار، التي تواضعنا على أنها "باكورة الحركة الوطنية الحديثة" بعدما خمدت الحركات المهدوية والعيسوية التي خرجت لقتال الإنجليز بعد قضائهم على دولة المهدية في عام 1898. وقامت تلك الثورة على أكتاف جيل خريج من المدارس الاستعمارية وخدم في وظائف ثانوية في جهاز الدولة. فهو غرس الإنجليز وعدتهم لمستقبل سودان حديث يخرج به من ظلمات البدائية كما قضى "عبء الرجل الأبيض" الذي هو عنوان المهمة الاستعمارية نفسها. وقضى الجيل نحو عقدين يؤهل نفسه ليكون قيادة للأمة تحل محل الأعيان من الزعامات الدينية والصوفية والقبلية التقليدية بطرائق أحسن بيانها حسن نجيلة في كتابه "ملامح من المجتمع السوداني" (1961). وتهيأت الفرصة له للمنافسة للقيادة في صيف عام 1924 في ظرف اختصم فيها طرفا الاستعمار الثنائي للسودان، وهما بريطانيا ومصر. فتعبأ الأعيان يجمعون التوقيعات على عرائض أرادوا بها بيعة بريطانيا وصياً على السودان حتى يبلغ مبلغ حكم نفسه بنفسه. وتعبأ الجيل الخريج، الذي انتظم في حركة باسم "اللواء الأبيض"، يمهر العرائض بتوقيعات تنصر الطرف المصري. واشتدت تلك الخصومة ضد الإنجليز والأعيان لتنتهي بخروج اللواء الأبيض إلى الشارع من مايو (أيار) إلى أغسطس (آب) 1924، والصدام مع الاستعمار في الخرطوم وطائفة من مدن السودان وجهاته. وهي الواقعة التي عرفت في تاريخنا بثورة 1924.
دلالات عرقية
إذا قرأت تاريخ هذه الحركة في أدب الهامش ستجدها غاصة بدلالات عرقية ناسبت أيديولوجيا اتفقت له. وخرجت هذه الدلالات من روايات طعنت في الضابط علي عبد اللطيف، زعيم حركة اللواء الأبيض، من جهة أصله القريب إلى الرق. وجاءت هذه العرقية للثورة من بابين. أما الباب الأول فمن تصحيح عبد اللطيف لعبارة جاءت عند زميل له هو سليمان كشة الذي قال بـ"الشعب العربي" ليجعلها عبد اللطيف "الشعب السوداني". وهذه رواية ثابتة، إلا أن تحميلها الشحنة العرقية التي شاعت بها في الحاضر شطح غير مفيد. فلم تكن "سودانية" الشعب السوداني موضوع خلاف في ذلك الجيل. فيكفي أن صدح كل سجناء الحركة بـ"سودانيته" في حين أراد لهم الإنجليز أن ينتسبوا إلى قبائلهم. وكان ذلك منهم، في قول المؤرخة الأميركية للسودان، هذر شاركي، "استماتة عند وحدتهم الوطنية التي هي شراكة من جماعات عربية وأفريقية، لا رأياً في العرب من حيث هم". فيصعب القول أن يضغن مصري الهوى مثل اللواء الأبيض على العرب، ومصر هي كل العرب لا تزال بالنسبة إلى السوداني. أما الباب الثاني للعرقية التي خيمت على اللواء الأبيض فعن رواية منتحلة. فجاؤوا من تاريخ اللواء الأبيض بعبارة لم يتفق رواتها بعد على مصدرها. والعبارة هي قول جماعة أو أحد أنه "مما يسيء إلى البلد أن يكون على رأسها مثل علي عبد اللطيف. ومما يسيء لها أن يجرؤ من لا قدر لهم في المجتمع للحديث عن إرادة الأمة". فردها المروجون تارة إلى مذكرة صدرت عن الأعيان يستقلون اللواء الأبيض لأنه نهض بأمره من في عرقه دخن. ويردونها تارة أخرى إلى حسين شريف محرر جريدة "الحضارة" الناطقة باسم الأعيان. ومتى راجعت صحاح التواريخ للواء الأبيض لن تجد لا المذكرة المنسوبة للأعيان ولا المقالة المزعومة لحسين شريف.
وحقيقة الأمر أن شريف كان ذكي الفؤاد استجاب لنداء حركة "اللواء الأبيض" بعد تظاهرتها في مايو 1924 برسالة نشرتها "التايمز" اللندنية دعا فيه إلى التمسك بالسودان للسودانيين وليس للإنجليز أو للمصريين كما تضاربت عرائض كل من الأعيان واللواء الأبيض، كل جانح إلى طرف من الحكم الثنائي. ودعا بريطانيا إلى تحديد المصالح المشروعة لمصر في السودان ومشاركتها في إرشاد السودانيين وتعليمهم. وانتقدها لتجاهلها تطلعات المتعلمين حتى ظنوا بها أنها لا تريد للسودان خيراً. ولاحظ المؤرخ جمال الشريف أن "مقال شريف متوازن على خلاف ما كان نشر قبلاً طالب فيه بفصل السودان عن مصر والالتحاق بالإمبراطورية البريطانية".
سيطرة "اللواء الأبيض"
من جهة أخرى، زلزلت حركة "اللواء الأبيض" باتساعها وسيطرتها على الشارع، موقف الأعيان. فغيروا رأيهم لا في منزلة أعضاء "اللواء الأبيض" الذين استحقرتهم قبلاً فحسب، بل أعادوا النظر أيضاً في ما بوسعهم مطالبة الإنجليز به، في شرط تغير لميزان القوى رجحت فيه كفة اللواء الأبيض، فقد رأوا مرأى العين أنهم لم يحسنوا قراءة الموقف. فتنادوا لاجتماعات انتهت بقائمة مطالب منها رفع قانون الطوارئ، وانتخاب نفر من السودانيين في مجلس الحاكم العام، وتكوين مجالس استشارية من سودانيين في مديريات القطر. وانزعج الإنجليز لجرأة الأعيان، ولكنهم قبلوا بترتيب أدوار للسودانيين في الحكومة، اشترطوا ألا يجري الإعلان عنها حتى لا تراهم مصر في ضعة المتنازل. ووقع اغتيال السير لي استاك، حاكم السودان العام، في مصر في العام نفسه. وانتهى الأمر بنزع الإنجليز لمصر من الحاكمية على السودان. والباقي تاريخ.
عرقية لآخر حد
وفي سياق هذه العرقية جاءت الحركة الشعبية لتحرير السودان (العقيد قرنق) إلى خطاب ثورة 1924. فشكت من أنها حدث مهمل حتى طالب ياسر عرمان، القيادي بالحركة، بالعناية بثورة 1924 على ما هو عليه من تهوين، بإعادة كتابة تاريخ السودان. وقد لا يتفق كثيرون معه على رأيه في منزلة 1924 على كل حال. ورأى ياسر عرمان في الثورة مزاوجة بين النضال ضد الاستعمار وضد العنصرية. وتمثلت الأخيرة في اختيار الجيل الخريج لعبد اللطيف زعيماً عليهم رغم ما يعرفون عنه على أساس "السودانواية"، وهي عبارة الحركة في الناس السواسية في دولة ما بعد عام 56. وسبق ضياء الدين بلال، الصحافي البارز، إلى التوقف عند سر احتفاء الحركة وعناصرها من شمال السودان بعبد اللطيف. وسأل إذا كان ذلك خيار الجنوبيين أم أنه اختيار شماليي الحركة الذين أرادوا تسويغاً تاريخياً لقبولهم جنوبياً مثل قرنق زعيماً عليهم. وبلغوا من ذلك أن وضعوا صورته جنباً إلى جنب مع عبد اللطيف على لوحة على واجهة فندق الهيلتون بالخرطوم بعد اتفاق السلام الشامل في عام 2005. وقال ياسر إن قرنق سعد بها ونزل من غرفته ليلقي عليها نظرة، علاوة على تدشين ياسر عرمان حملته الانتخابية لرئاسة الجمهورية عن الحركة الشعبية في عام 2010 من دار أسرة علي عبد اللطيف.
نبل مجتمع المحتجين
ماذا يخصم مثل اختطاف الحركة الشعبية للتاريخ من التاريخ؟ والإجابة أنه يتقعر به ويختطف سلاسته. وكانت إيلنا فيزداني استنطقت في كتابها "القومية الضائعة: الثورة، الذاكرة، والنضال ضد الاستعمار في السودان" (2015) تاريخ عام 1924، سلاسة عرقية يقصر عنها من دخلوه من غير أبوابه، أي من شباك الأيديولوجية.
ميزت فيزداني في كتابها لحظة سلاسة عن سواسية الزمالة في الحركة قلبت معادلة السيد والعبد رأساً على عقب. فكانت جمعية اللواء الأبيض كلفت زين العابدين عبد التام ومحمد المهدي الخليفة عبد الله في يونيو (حزيران) 1924 بالسفر إلى مصر ليقدما للمسؤولين فيها العرائض التي جمعت لها توقيعات السودانيين في مناصرة مصر في صراع طرفي الحكم الثنائي (إنجلترا ومصر)، ضد الإنجليز الذين ناصرتهم عرائض مضادة من الأعيان. ولضغط كلفة تلك السفرة على الجمعية، اشترى زين العابدين لمحمد المهدي تذكرة مخفضة مستحقة لخادمه كضابط بالجيش. والمفارقة في الوضع هناك كانت عن تبادل الأدوار بشكل صار فيه محمد المهدي ابن الخليفة عبد الله، الذي حكم السودان بين 1885 و1889، وحفيد محمد أحمد المهدي، الذي قاد الثورة على النظام التركي المصري في 1881، خادماً لزين العابدين الذي من أصل في الرق. وسألت فيزداني "كيف ساغ لزين العابدين التعاون مع سليل أسرة متهمة بأنها أذاقت مثله الأمرين في الماضي؟ وكيف ساغ لهذا الشريف محمد المهدي أن يقوم بدور الخادم لمثل زين العابدين؟ فلا بد أن ما جمعهما في تلك اللحظة التاريخية كان خروجاً على نص الثقافة المتوارثة من فوق"، تعاقد جديد سمته "مجتمع المحتجين".
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: عبد اللطیف فی السودان فی عام مصر فی
إقرأ أيضاً:
تاريخ الحصار البحري على غزة
يعاني قطاع غزة من حصار بحري مشدد منذ الاحتلال الإسرائيلي بعد نكسة يونيو/حزيران 1967، وتصاعد هذا الحصار بشكل كامل بعد سيطرة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على القطاع منتصف 2007.
وتعاملت إسرائيل مع المحاولات الدولية لكسر الحصار باعتبارها تحديا لسياستها تجاه الفلسطينيين، وزعمت أن الهدف من منع هذه المبادرات هو "حماية أمنها ومنع تهريب أسلحة إلى غزة".
ولم تتردد إسرائيل في استخدام القوة العسكرية لاعتراض السفن الإغاثية، إضافة إلى ممارسة الضغط على بعض الدول لمنع انطلاقها من موانئها.
احتلال القطاع وبداية الحصارفي أعقاب نكسة يونيو/حزيران 1967، احتلت إسرائيل قطاع غزة كله، وحوّلت واجهته البحرية إلى منطقة عسكرية مغلقة يُمنع على الفلسطينيين الاقتراب منها.
وبعد فترة وجيزة، أصدرت السلطات الإسرائيلية قرارات تقضي بتحديد مناطق معينة للصيد، ومنعت استخدام شواطئ غزة ميناء مفتوحا للتجارة أو لتنقل الأفراد والبضائع من وإلى القطاع.
وفي سياق إحكام السيطرة، أقامت إسرائيل سلسلة من المستوطنات على مقربة من الساحل الغزي، وفرضت طوقا أمنيا يمنع الفلسطينيين من الاقتراب منها نهائيا. ومن أبرز تلك المستوطنات: "نيتسر حزاني" و"نافيه دكاليم" و"تل قطيفة" و"إيلي سيناي" و"دوغيت".
ومع توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في سبتمبر/أيلول 1993، مُنح الصيادون الفلسطينيون حق ممارسة الصيد حتى عمق 20 ميلا بحريا (نحو 37 كيلومترا). غير أن هذا الحق ظلّ عرضة للتضييق الإسرائيلي؛ إذ قلّصت سلطات الاحتلال المسافة المسموح بها إلى 12 ميلا بحريا في 22 مارس/آذار 1996، بذريعة "المخاوف الأمنية".
وفي 30 أبريل/نيسان 2000، أصدر الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مرسوما بإنشاء ميناء بحري في غزة، بهدف تعزيز استقلالية القطاع الاقتصادية وربطه بالعالم الخارجي. غير أن المشروع لم يكتمل، إذ أقدمت إسرائيل على تدميره عقب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في سبتمبر/أيلول من العام نفسه.
وبعد الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من قطاع غزة عام 2005، أعادت السلطة الفلسطينية العمل في مشروع الميناء، استنادا إلى تعهد إسرائيلي بعدم استهدافه مجددا، وذلك في إطار اتفاقية المعابر الموقّعة بين الجانبين.
إعلانلكن هذا التعهد لم يصمد طويلا، ففي 25 يونيو/حزيران 2006، فرضت إسرائيل حصارا بحريا شاملا على قطاع غزة، عقب أسر المقاومة الفلسطينية الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، وبدأت بذلك مرحلة جديدة من الإغلاق والعزلة البحرية المستمرة.
محطات الحصارمع سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في 14 يونيو/حزيران 2007، شدّدت إسرائيل إجراءاتها البحرية وأحكمت قبضتها على الساحل الغزي، ما أدى إلى توقف نشاط ميناء غزة وتعطّل حركته.
ومنذ ذلك الحين كثّفت قوات الاحتلال اعتداءاتها اليومية ضد الصيادين الفلسطينيين، فاستهدفت مراكبهم وصادرتها أو دمّرتها، بذريعة تجاوزهم الحدود البحرية المسموح بها، والتي ظلت تتغير من وقت لآخر وفقا "لاعتبارات أمنية" إسرائيلية.
وأثناء العدوان الإسرائيلي على غزة في 27 ديسمبر/كانون الأول 2008 قدّم المدعي العام العسكري الإسرائيلي توصية لوزير الجيش بإغلاق بحر غزة بشكل كامل.
وفي 3 يناير/كانون الثاني 2009، أغلقت إسرائيل البحر أمام جميع الأنشطة، وبعد ثلاثة أيام أعلنت البحرية الإسرائيلية رسميا أن "منطقة غزة البحرية مغلقة أمام جميع وسائل النقل البحري"، وأنها تحت الحصار حتى إشعار آخر.
عقب هذا الإغلاق، سمحت إسرائيل لاحقا بدخول الصيادين الفلسطينيين مسافة ثلاثة أميال بحرية فقط، وهو ما تسبب في تراجع حاد في الإنتاج السمكي وتدهور أوضاع آلاف العائلات العاملة في هذا القطاع الحيوي.
واستمرت هذه القيود الصارمة حتى 11 ديسمبر/كانون الأول 2012، حين سمحت سلطات الاحتلال بتوسيع المسافة المسموح بها إلى ستة أميال بحرية.
غير أن هذا التخفيف لم يدم طويلا؛ ففي 23 مارس/آذار 2013، قلصت إسرائيل المسافة مجددا إلى ثلاثة أميال بحرية، واستمر هذا الوضع حتى 2016.
وفي الفترة بين 2016 و2017، أعيد تحديد المسافة عند ستة أميال بحرية، لكن إسرائيل تراجعت عنها مرة أخرى بين عامي 2018 و2019، فيما وُصف بأنه إجراء عقابي اقتصادي ضد قطاع غزة.
وفي 29 يوليو/تموز 2021 أعلنت سلطات الاحتلال زيادة المسافة المسموح بها للصيادين إلى 12 ميلا بحريا، لكنها بقيت خطوة محدودة الأثر، إذ استمرت إسرائيل في تقليص أو إغلاق المنطقة البحرية في أي وقت، تبعا للتطورات الأمنية والسياسية.
تصعيد الحصار البحريوفي أثناء الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة عقب عملية طوفان الأقصى، التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية ضد مستوطنات غلاف غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، شدّدت سلطات الاحتلال من إجراءاتها البحرية إلى أقصى حد، وأغلقت البحر أمام الصيادين الفلسطينيين بشكلٍ كامل، مانعةً إياهم من دخول المياه الإقليمية نهائيا.
وفي 12 يوليو/تموز 2025، جددت إسرائيل تحذيراتها للفلسطينيين من الاقتراب من بحر غزة، معلنة فرض قيود أمنية مشددة في المنطقة البحرية المحاذية للقطاع، ضمن سياسة الحصار.
وفي تقرير صدر عن المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان بتاريخ 2 أغسطس/آب 2025، وثّق المركز عمليات ملاحقة ممنهجة نفذتها قوات الاحتلال البحرية ضد الصيادين أثناء محاولتهم الصيد على مسافات لا تتجاوز بضعة أمتار من الشاطئ، في مسعى منهم لتأمين قوت يومهم وسط تفاقم أزمة الجوع والمجاعة في القطاع.
إعلانوأشار التقرير إلى أن عشرات الصيادين تعرضوا للاستهداف المباشر، وهاجمت زوارق الاحتلال قواربهم بالرصاص، مما أدى إلى استشهاد وإصابة عدد كبير منهم، فضلا عن اعتقال العشرات في مناطق متفرقة على امتداد الساحل الغزي.
كما طالت الهجمات ميناء غزة البحري، الذي تعرّض لتدمير شبه كامل، إثر قصف جوي مباشر استهدف بنيته التحتية، مما أدى إلى دمار واسع في أرصفته ومرافقه الحيوية، وعطّل أي إمكانية لاستئناف نشاطه في المدى القريب.
محاولات كسر الحصارمنذ فرض الحصار على قطاع غزة عام 2007، تعددت المبادرات والرحلات الدولية الهادفة إلى كسر الطوق المفروض على الساحل الغزي، سواء بإدخال المساعدات الغذائية والطبية الأساسية، أو بتسليط الضوء على الظروف الإنسانية القاسية التي يعيشها أكثر من مليوني فلسطيني داخل القطاع.
ولم تقتصر هذه المحاولات على الجانب الإغاثي فحسب، بل سعت أيضا إلى نزع الشرعية السياسية والأخلاقية عن الحصار الإسرائيلي، الذي وصفته منظمات حقوقية ودولية بأنه شكل من أشكال العقاب الجماعي للسكان المدنيين، يرقى إلى جريمة حرب بموجب القانون الدولي الإنساني.
وكانت أولى رحلات كسر الحصار البحرية في 23 أغسطس/آب 2008، حين وصلت من قبرص إلى ميناء غزة سفينتا "الحرية" و"غزة الحرة"، تقلان أكثر من أربعين ناشطا دوليا.
وفيما يلي أبرز محاولات كسر الحصار البحري عن قطاع غزة:
في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2008، تمكنت قافلة إغاثة بحرية مصرية تابعة للجنة الإغاثة الإنسانية من الوصول إلى شواطئ غزة، حاملةً مساعدات طبية وغذائية أساسية للسكان المحاصرين.
وفي 29 أكتوبر/تشرين الأول 2008، وصلت إلى القطاع سفينة "الأمل" وعلى متنها 27 ناشطا عربيا وتركيا وأوروبيا، حملوا معهم شحنات دعم إنساني ورسائل تضامن من مختلف الدول المشاركة.
بعد ذلك بأيام، في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2008، رست سفينة "الكرامة" التي سيرتها حركة "غزة الحرة" من ميناء لارنكا القبرصي، وعلى متنها 22 شخصية برلمانية أوروبية وصحفيون ومتضامنون أجانب.
وفي 9 ديسمبر/كانون الأول 2008، وصلت سفينة "دينيتي" إلى شواطئ القطاع، وكانت تقل 12 ناشطا، من بينهم جراح بريطاني وأساتذة جامعات وصحفيون وحقوقيون دوليون.
أما في 20 ديسمبر/كانون الأول 2008، فقد وصلت إلى ميناء غزة سفينة "الكرامة" القطرية، وعلى متنها ممثلون عن جمعيات خيرية قطرية وعدد من المتضامنين والصحفيين الأجانب، إلى جانب شحنة من الأدوية والمستلزمات الطبية.
محاولات أُحبطتاعترضت البحرية الإسرائيلية عشرات السفن التي حاولت الوصول إلى غزة، وصادرت حمولاتها أو احتجزت ركابها. ففي 1 ديسمبر/كانون الأول 2008، استولت إسرائيل على السفينة "المروة" الليبية، ثم منعت في 8 ديسمبر/كانون الأول سفينة "العيد" من الإبحار من يافا وصادرت مساعداتها الموجهة لأطفال غزة من فلسطينيي 1948.
وفي 14 يناير/كانون الثاني 2009، منعت سلطات الاحتلال سفينة "الكرامة" التي سيرتها حركة "غزة الحرة" من الوصول إلى القطاع واحتجزت ركابها، كما اعترضت في 2 فبراير/شباط 2009 السفينة "الأخوة اللبنانية" واعتدت على طاقمها ثم اقتادت أفراده إلى ميناء أسدود.
تواصلت عمليات المنع، فاحتجزت إسرائيل في 30 يونيو/حزيران 2009 سفينة "روح الإنسانية" بعد إبحارها من قبرص، ثم منعت في 11 يوليو/تموز 2010 السفينة "الأمل الليبية" التي اضطرت للرسو في ميناء العريش المصري.
وفي 16 مايو/أيار 2011، أوقفت البحرية الإسرائيلية السفينة الماليزية "روح راشيل كوري"، وأتبعتها في نوفمبر/تشرين الثاني باعتراض سفينتي "التحرير" و"الحرية".
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2012، استولت إسرائيل على السفينة الفنلندية "إستيل"، ثم في 29 يونيو/حزيران 2015 اعترضت السفينة "ماريان" ضمن أسطول الحرية 3 واعتقلت جميع المشاركين على متنها.
إعلانلاحقا في صيف 2016، سمحت إسرائيل بدخول المساعدات التركية إلى غزة عبر معبر كرم أبو سالم بعد اعتراض سفينتي "ليدي ليلى" و"إكليبس" وتحويلهما إلى ميناء أسدود.
وفي صيف 2018 اعترضت بحرية الاحتلال سفينتي "العودة" و"فريدوم" ضمن قافلة "مستقبل عادل من أجل فلسطين"، واعتقلت ركابهما في المياه الدولية.
أما في 25 مايو/أيار 2025، فهاجمت طائرات إسرائيلية مسيّرة قافلة "كونسيكونس" أثناء إبحارها نحو غزة، ما ألحق أضرارا جسيمة بالسفينة قبالة سواحل مالطا.
أسطول الحريةأُطلق عام 2010 بمبادرة من هيئة الإغاثة الإنسانية التركية ضمن تحالف دولي مدني لكسر الحصار عن غزة، ضم منظمات من أوروبا وأفريقيا وآسيا، مثل اللجنة الدولية لكسر الحصار، والحملة الأوروبية والتحالف الجنوب أفريقي والحملة النرويجية واليونانية والإيطالية وغيرها.
ورغم تعدد محاولاته بين 2010 و2025، لم ينجح أي أسطول في دخول غزة، إذ كانت البحرية الإسرائيلية تعترض جميع القوافل في المياه الدولية.
أبرز محطات الأسطول:
أسطول الحرية 1 عام 2010، قادته سفينة "مافي مرمرة" وتعرض لهجوم إسرائيلي أودى بحياة 10 ناشطين. الأسطول 2 عام 2011، حمل شعار "كن إنسانا" لكن الموانئ اليونانية منعته من الإبحار، وشنت حملة اعتقالات بحق المشاركين فيه. سفينة إستيل عام 2012، أُوقفتها البحرية الإسرائيلية في المياه الدولية وصادرت حمولتها من المساعدات. الأسطول 3 عام 2015، ضم خمس سفن لكن إسرائيل اعترضته قبل وصوله القطاع. الأسطول 4 عام 2016، ضم سفينتين هما "أمل" و"زيتونة" غير أن سفينة "أمل" أصيبت بعطل أرغمها على العودة إلى ميناء برشلونة، فيما سيطرت سلطات الاحتلال على زيتونة. الأسطول 5 عام 2018، ضم سفن "عودة" و"حرية" و"فلسطين"، واعترضته البحرية الإسرائيلية. الأسطول 6 عام 2024، تألف من 3 سفن، لكن التحالف الدولي المنظم للأسطول أعلن عن تأجيله إلى أجل غير مسمى. سفينة مادلين عام 2025، انطلقت من إيطاليا وعلى متنها 12 ناشطا من جنسيات متعددة، واعترضتها إسرائيل واحتجزت الناشطين واستجوبتهم، كما صادرت الحمولة الموجودة على متنها. سفينة حنظلة عام 2025، حاولت كسر الحصار لكنها تعرضت لهجوم كما اعتقل الاحتلال أفراد طاقمها ورحلهم إلى بلادهم. وفي يوليو/تموز 2025، أُطلق أسطول الصمود العالمي بمشاركة 44 سفينة من أكثر من 40 دولة، ضمن جهد شعبي دولي بهدف فتح ممر إنساني لغزة، غير أن إسرائيل اعترضته في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، واعتقلت المشاركين فيه ونقلتهم إلى ميناء أسدود.