سودانايل:
2025-05-30@17:05:40 GMT

دولة 56: ما بين سلاسة التاريخ وعكر الأيديولوجية

تاريخ النشر: 16th, August 2023 GMT

من ضمن المحاور المركزية في الحروب الثقافية بأميركا التي فقدت بها سرديتها التاريخية التي لمت شملها طويلاً، السؤال عن التاريخ الذي تأسست فيه الأمة الأميركية. فهل كان ذلك في عام 1776 كما تواضع الناس طويلاً، وهو تاريخ إعلان الاستقلال عن بريطانيا في الرابع من يوليو (تموز) من تلك السنة؟ أم هو عام 1619، وهو تاريخ رسو أول شحنة من الرقيق الأفريقي إلى شاطئها؟ وكانت جريدة "نيويورك تايمز" قد تبنت ما عرف بـ"مشروع 1619" لأجل فهم لأميركا ينفذ إلى دفائن الاسترقاق في سياستها واقتصادها وعقلها وروحها.

وأثار هذا التأريخ المستجد لنشأة أميركا عليه ثائرات سياسة وعلمية. ويمثل رون ديسانتيس حاكم فلوريدا الذي يأمل أن ينال ترشيح الحزب الجمهوري لرئاسة الجمهورية رأس الرمح في الحملة المناوئة للثقافة التي أذاعها "مشروع 1619" في مناهج التعليم بتشريعات لفلوريدا وإجراءات قلمت أظفارها. ويتربص ديسانتيس بالمشروع متى اعتلى سدة الرئاسة في عام 2024.
وكان أميز ما قاله مؤرخون في نقد "مشروع 1619" أنه تاريخ اختطفته الأيديولوجية. فحتى بدء تاريخ المشروع في عام 1619، على حد قول نقاده، خطأ، لأن أول شحنة للرقيق الأفريقي كانت في عام 1526، لا في 1619، أي بفارق قرن من الزمان.

دولة "جلابة"
ويشيع في خطاب المركز والهامش في السودان احتجاج جوهري على الدولة السودانية منذ استقلالنا في عام 1956 كدولة "جلابة"، أي صفوة الجماعة العربية المسلمة على أواسط النيل، لاحتكارها السلطة والثورة. وجعلت حركات الهامش المسلحة من كسر هذا المركز وتفكيك احتكاره للسلطة استراتيجية مقررة. وتجد اليوم خلال هذه الحرب في السودان، من بين قوى "الدعم السريع"، من يذيع هذه الاستراتيجية على رغم أن حركتهم، من دون الحركات الأخرى، لم تنشأ لتنازل المركز الذي كان على سدته "حكومة الإنقاذ" فحسب، بل كان المركز هو من أنشأها لخدمته. وفي وسط "الدعم السريع" استراتيجية أخرى هي استبدال دولة "جنيد" بالمركز، وهم الشعب في غرب السودان والساحل الذين منهم أسرة زعيم "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو. وتلك قصة أخرى.
ساق هذا الاحتجاج على دولة 56 إلى سردية ضرار للسردية التاريخية الوطنية التي لمت شمل الوطن حيناً من الدهر، مما جاز القول فيها أيضاً إنها تاريخ مختطف بالأيديولوجيا. وسيقتصر حديثنا هنا عن ثورة 1924 ضد الاستعمار، التي تواضعنا على أنها "باكورة الحركة الوطنية الحديثة" بعدما خمدت الحركات المهدوية والعيسوية التي خرجت لقتال الإنجليز بعد قضائهم على دولة المهدية في عام 1898. وقامت تلك الثورة على أكتاف جيل خريج من المدارس الاستعمارية وخدم في وظائف ثانوية في جهاز الدولة. فهو غرس الإنجليز وعدتهم لمستقبل سودان حديث يخرج به من ظلمات البدائية كما قضى "عبء الرجل الأبيض" الذي هو عنوان المهمة الاستعمارية نفسها. وقضى الجيل نحو عقدين يؤهل نفسه ليكون قيادة للأمة تحل محل الأعيان من الزعامات الدينية والصوفية والقبلية التقليدية بطرائق أحسن بيانها حسن نجيلة في كتابه "ملامح من المجتمع السوداني" (1961). وتهيأت الفرصة له للمنافسة للقيادة في صيف عام 1924 في ظرف اختصم فيها طرفا الاستعمار الثنائي للسودان، وهما بريطانيا ومصر. فتعبأ الأعيان يجمعون التوقيعات على عرائض أرادوا بها بيعة بريطانيا وصياً على السودان حتى يبلغ مبلغ حكم نفسه بنفسه. وتعبأ الجيل الخريج، الذي انتظم في حركة باسم "اللواء الأبيض"، يمهر العرائض بتوقيعات تنصر الطرف المصري. واشتدت تلك الخصومة ضد الإنجليز والأعيان لتنتهي بخروج اللواء الأبيض إلى الشارع من مايو (أيار) إلى أغسطس (آب) 1924، والصدام مع الاستعمار في الخرطوم وطائفة من مدن السودان وجهاته. وهي الواقعة التي عرفت في تاريخنا بثورة 1924.

دلالات عرقية
إذا قرأت تاريخ هذه الحركة في أدب الهامش ستجدها غاصة بدلالات عرقية ناسبت أيديولوجيا اتفقت له. وخرجت هذه الدلالات من روايات طعنت في الضابط علي عبد اللطيف، زعيم حركة اللواء الأبيض، من جهة أصله القريب إلى الرق. وجاءت هذه العرقية للثورة من بابين. أما الباب الأول فمن تصحيح عبد اللطيف لعبارة جاءت عند زميل له هو سليمان كشة الذي قال بـ"الشعب العربي" ليجعلها عبد اللطيف "الشعب السوداني". وهذه رواية ثابتة، إلا أن تحميلها الشحنة العرقية التي شاعت بها في الحاضر شطح غير مفيد. فلم تكن "سودانية" الشعب السوداني موضوع خلاف في ذلك الجيل. فيكفي أن صدح كل سجناء الحركة بـ"سودانيته" في حين أراد لهم الإنجليز أن ينتسبوا إلى قبائلهم. وكان ذلك منهم، في قول المؤرخة الأميركية للسودان، هذر شاركي، "استماتة عند وحدتهم الوطنية التي هي شراكة من جماعات عربية وأفريقية، لا رأياً في العرب من حيث هم". فيصعب القول أن يضغن مصري الهوى مثل اللواء الأبيض على العرب، ومصر هي كل العرب لا تزال بالنسبة إلى السوداني. أما الباب الثاني للعرقية التي خيمت على اللواء الأبيض فعن رواية منتحلة. فجاؤوا من تاريخ اللواء الأبيض بعبارة لم يتفق رواتها بعد على مصدرها. والعبارة هي قول جماعة أو أحد أنه "مما يسيء إلى البلد أن يكون على رأسها مثل علي عبد اللطيف. ومما يسيء لها أن يجرؤ من لا قدر لهم في المجتمع للحديث عن إرادة الأمة". فردها المروجون تارة إلى مذكرة صدرت عن الأعيان يستقلون اللواء الأبيض لأنه نهض بأمره من في عرقه دخن. ويردونها تارة أخرى إلى حسين شريف محرر جريدة "الحضارة" الناطقة باسم الأعيان. ومتى راجعت صحاح التواريخ للواء الأبيض لن تجد لا المذكرة المنسوبة للأعيان ولا المقالة المزعومة لحسين شريف.
وحقيقة الأمر أن شريف كان ذكي الفؤاد استجاب لنداء حركة "اللواء الأبيض" بعد تظاهرتها في مايو 1924 برسالة نشرتها "التايمز" اللندنية دعا فيه إلى التمسك بالسودان للسودانيين وليس للإنجليز أو للمصريين كما تضاربت عرائض كل من الأعيان واللواء الأبيض، كل جانح إلى طرف من الحكم الثنائي. ودعا بريطانيا إلى تحديد المصالح المشروعة لمصر في السودان ومشاركتها في إرشاد السودانيين وتعليمهم. وانتقدها لتجاهلها تطلعات المتعلمين حتى ظنوا بها أنها لا تريد للسودان خيراً. ولاحظ المؤرخ جمال الشريف أن "مقال شريف متوازن على خلاف ما كان نشر قبلاً طالب فيه بفصل السودان عن مصر والالتحاق بالإمبراطورية البريطانية".

سيطرة "اللواء الأبيض"
من جهة أخرى، زلزلت حركة "اللواء الأبيض" باتساعها وسيطرتها على الشارع، موقف الأعيان. فغيروا رأيهم لا في منزلة أعضاء "اللواء الأبيض" الذين استحقرتهم قبلاً فحسب، بل أعادوا النظر أيضاً في ما بوسعهم مطالبة الإنجليز به، في شرط تغير لميزان القوى رجحت فيه كفة اللواء الأبيض، فقد رأوا مرأى العين أنهم لم يحسنوا قراءة الموقف. فتنادوا لاجتماعات انتهت بقائمة مطالب منها رفع قانون الطوارئ، وانتخاب نفر من السودانيين في مجلس الحاكم العام، وتكوين مجالس استشارية من سودانيين في مديريات القطر. وانزعج الإنجليز لجرأة الأعيان، ولكنهم قبلوا بترتيب أدوار للسودانيين في الحكومة، اشترطوا ألا يجري الإعلان عنها حتى لا تراهم مصر في ضعة المتنازل. ووقع اغتيال السير لي استاك، حاكم السودان العام، في مصر في العام نفسه. وانتهى الأمر بنزع الإنجليز لمصر من الحاكمية على السودان. والباقي تاريخ.

عرقية لآخر حد
وفي سياق هذه العرقية جاءت الحركة الشعبية لتحرير السودان (العقيد قرنق) إلى خطاب ثورة 1924. فشكت من أنها حدث مهمل حتى طالب ياسر عرمان، القيادي بالحركة، بالعناية بثورة 1924 على ما هو عليه من تهوين، بإعادة كتابة تاريخ السودان. وقد لا يتفق كثيرون معه على رأيه في منزلة 1924 على كل حال. ورأى ياسر عرمان في الثورة مزاوجة بين النضال ضد الاستعمار وضد العنصرية. وتمثلت الأخيرة في اختيار الجيل الخريج لعبد اللطيف زعيماً عليهم رغم ما يعرفون عنه على أساس "السودانواية"، وهي عبارة الحركة في الناس السواسية في دولة ما بعد عام 56. وسبق ضياء الدين بلال، الصحافي البارز، إلى التوقف عند سر احتفاء الحركة وعناصرها من شمال السودان بعبد اللطيف. وسأل إذا كان ذلك خيار الجنوبيين أم أنه اختيار شماليي الحركة الذين أرادوا تسويغاً تاريخياً لقبولهم جنوبياً مثل قرنق زعيماً عليهم. وبلغوا من ذلك أن وضعوا صورته جنباً إلى جنب مع عبد اللطيف على لوحة على واجهة فندق الهيلتون بالخرطوم بعد اتفاق السلام الشامل في عام 2005. وقال ياسر إن قرنق سعد بها ونزل من غرفته ليلقي عليها نظرة، علاوة على تدشين ياسر عرمان حملته الانتخابية لرئاسة الجمهورية عن الحركة الشعبية في عام 2010 من دار أسرة علي عبد اللطيف.

نبل مجتمع المحتجين
ماذا يخصم مثل اختطاف الحركة الشعبية للتاريخ من التاريخ؟ والإجابة أنه يتقعر به ويختطف سلاسته. وكانت إيلنا فيزداني استنطقت في كتابها "القومية الضائعة: الثورة، الذاكرة، والنضال ضد الاستعمار في السودان" (2015) تاريخ عام 1924، سلاسة عرقية يقصر عنها من دخلوه من غير أبوابه، أي من شباك الأيديولوجية.
ميزت فيزداني في كتابها لحظة سلاسة عن سواسية الزمالة في الحركة قلبت معادلة السيد والعبد رأساً على عقب. فكانت جمعية اللواء الأبيض كلفت زين العابدين عبد التام ومحمد المهدي الخليفة عبد الله في يونيو (حزيران) 1924 بالسفر إلى مصر ليقدما للمسؤولين فيها العرائض التي جمعت لها توقيعات السودانيين في مناصرة مصر في صراع طرفي الحكم الثنائي (إنجلترا ومصر)، ضد الإنجليز الذين ناصرتهم عرائض مضادة من الأعيان. ولضغط كلفة تلك السفرة على الجمعية، اشترى زين العابدين لمحمد المهدي تذكرة مخفضة مستحقة لخادمه كضابط بالجيش. والمفارقة في الوضع هناك كانت عن تبادل الأدوار بشكل صار فيه محمد المهدي ابن الخليفة عبد الله، الذي حكم السودان بين 1885 و1889، وحفيد محمد أحمد المهدي، الذي قاد الثورة على النظام التركي المصري في 1881، خادماً لزين العابدين الذي من أصل في الرق. وسألت فيزداني "كيف ساغ لزين العابدين التعاون مع سليل أسرة متهمة بأنها أذاقت مثله الأمرين في الماضي؟ وكيف ساغ لهذا الشريف محمد المهدي أن يقوم بدور الخادم لمثل زين العابدين؟ فلا بد أن ما جمعهما في تلك اللحظة التاريخية كان خروجاً على نص الثقافة المتوارثة من فوق"، تعاقد جديد سمته "مجتمع المحتجين".

IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: عبد اللطیف فی السودان فی عام مصر فی

إقرأ أيضاً:

الأمة.. إشكالية هوية ما بعد التاريخ (4)

طرحنا في الجزء الثالث من سلسلة مقالات "الأمة.. إشكالية هوية ما بعد التاريخ" سؤال هو إشكالية البحث، وهدف هذه السلسلة من المقالات التي نريد منها، وهو إيقاظ العقل الجمعي للأمة، فإن كنا أثبتنا أننا بالفعل أمة، لا يمكن تجزئتها أو تفريقها، فإن السؤال بعد من نحن، وهو الأهم: ماذا نريد؟

هوية الأمة الإسلامية ليست مجرد شعارات دينية أو مظاهر ثقافية، بل هي بناء متكامل يشمل العقيدة، والقيم، واللغة، وإن تنوعت، تظل العربية رابطا بقوة القرآن، والتاريخ، والنهج الحضاري. لكن بعد ما استعرضناه في المقالات الثلاثة السابقة، ومقدمتها "تسريبات عبد الناصر وتساؤلات الهوية والقضية"، من مفهوم الأمة وإشكالياتها وتردداتها بين الصعود والهبوط والتحولات، وصولا إلى ما يجمع هذه الكتلة البشرية الكبيرة في البقعة الجغرافية المتصلة، حتى مع احتلال أجزاء منها، فإن فكرة الأمة باقية في ضمير هذه المجموعة البشرية لما يجمعه من عناصر ذكرناها، إلا أن هذه الهوية تواجه اليوم تحديات متعددة تعيق وضوح تصور حقيقي لها، وتدفع بالأمة نحو مزيد من التيه والانقسام.

والسؤال الآن هو: كيف يمكن للأمة الإسلامية أن تتجاوز هذه الإشكاليات؟ ولكي نجيب عن هذا السؤال فإننا أمام سؤال أولي، وهو: ما هي هذه الإشكاليات بالأساس؟ لننتقل فيما بعد الإجابة عنه إلى وضع الخطوات التي ينبغي أن تتخذ لعبور هذه الإشكاليات، وصولا إلى استعادة الأمة مكانتها الحقيقية في هذا العالم الذي يسود فيه الظلم، وتسيطر عليه الأطماع، مع تراجع المبادئ والقيم أمام النزعة الفردانية وتقديس الجسد والمادة، ونهم الاستحواذ من غير ضوابط أخلاقية، والإشكالية الأكبر هي أن هذه النزعة بدأت تتحول من حالة المجموعات المسكونة بها، إلى حالة الدعوة إليها ونشرها، حتى إذا ما أصيب بها الضعيف تقبلها على أنها هي القواعد التي تحكم العالم، ومع تقبله لها فإذا ما حاول أن يخرج من مصاف المستضعفين لينافس مع الأقوياء يجد أن هذه المجموعات المسكونة تحاربه، ليبقى في مربع الاستغلال والاستعباد، ويبتعد عن مصاف الكبار.

ولكي تتجاوز الأمة الإشكاليات التي تقف عقبة في طريقها، عليها أولا أن تعرف الإشكاليات وتقف عندها لتفكيكها، وبالتالي البحث عن حلول لها لتخطيها. ولعلي في هذه السطور، وإن كنت مقصرا، سأضع بعضا مما فتح الله علي؛ مما تلمست من الإشكاليات التي تقف عائقا أمام الأمة.

ولعل أول هذه الإشكاليات هي إشكالية الهوية، وهذه قد تطرقنا لها في مقالاتنا السابقة، وهي محسومة شعبيا وإن اختُلف فيها على المستوى السياسي. وهذا الاختلاف يدفعنا للبحث في شكل نظام الحكم، لا سيما بعد سقوط الخلافة، وهل يجب أن يكون النظام الحاكم لهذه المجموعة البشرية على منهاج الخلافة في العصور الأولى، أم أن العالم بنظمه الجديدة تجاوز ذلك إلى أشكال أخرى، كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي، أو يمكن الأخذ بفكرة الدولة الفيدرالية، كما هو الحال في أمريكا مثلا، أو أن الأمة يتفتق ذهنها عن نظام جديد بالكلية لا يناظر ولا يتبع النظم الغربية؟

إن شكل الحكم يجرنا إلى نظام وفكرة تطبيق الشريعة، وأي طريقة تتبع لتطبيقها، بعد أن بدأ يتنشر الفكر المقاصدي في مقابل الفكر التقليدي. هذه الإشكالية تفتح الباب أمام مناقشة فكرة الديمقراطية التي باتت الشعوب تنادي بها وتسعى إليها وتندلع الثورات من أجلها، وهل تصلح هذه الديمقراطية بحالتها الغربية للتطبيق على نظم إسلامية تحكم بالشريعة الإسلامية، أم أن الأمة لها أن تتخذ من الشكل إطارا، وتنحت لها في المضامين قواعد لا تخالف الشريعة التي ارتضتها نظاما للحكم.

وتتوازى مع شكل الحكم ونظامه، وإشكالية تطبيق الديمقراطية؛ فكرة الأحزاب وما تتبناه من أفكار، وتواؤمها مع ما سيطبق من نظام سياسي في هذه الأمة، ومن ثم تقف فكرة البرامج التي ستعمل تحت أشكال الحكم ونظمه، كواحدة من ضمن الإشكاليات التي تواجه الأمة. فالأمة تحتاج إلى برنامج اجتماعي محدد المعالم، يزيل عنها الغموض، ويوحد المفاهيم، مع تقدير الاختلافات البينية جغرافيا، ومع مراعاة الأعراف والتقاليد، في مساحات يمكن من خلالها لكل قُطر أن ينفذ برامجه؛ وفق أطر عامة حاكمة. ومن جملة هذه البرامج الاجتماعية، تأتي البرامج التوعوية، والتنويرية، التي تفتح عيون الخاصة قبل العامة بالمخاطر التي تتهددهم، وتحديد أولويات مواجهتها. ومن أولويات هذه المهام، إشكالية الغزو الثقافي والتغريب، ما يجعل من الإعلام أهمية قصوى في تنفيذ هذه البرامج ورفع الوعي والتوجيه للمشروع الجامع، وبالتوازي مع ذلك توحيد الخطاب الدعوي والديني بما يلائم سواد الأمة، مع فتح المجال للاختلافات التي لا تؤثر لا على صلب العقيدة، ولا تحيد عن نهج الشريعة في عموم أحكامها في التعاملات المدنية والمالية.

تتعدد الحلول التي قدمها المفكرون الإسلاميون، وتتنوع بين العودة إلى المنهج النبوي، وتطوير الفكر الإسلامي، وتعزيز الوحدة الإسلامية، والتفاعل الإيجابي مع الحضارة الغربية، والاهتمام بالأقليات المسلمة، ومواجهة الفكر المتطرف الذي أصبح ورما خبيثا ينخر في جسد الأمة، وتنعكس تبعاته عليها أولا قبل انعكاسها على العالم. مع ذلك، فإن فكرة الحلول الفردية للأقطار المسلمة هي حلول وقتية سرعان ما تبوء بالفشل، ولقد تم تجريبها أكثر من مرة وفي أكثر من فترة. لذا فإن العلاج الناجع لأمراض الأمة يكمن في توحيدها وإعادة لُحمتها، من خلال رؤية استراتيجية واعية بالمخاطر والتحديات، وتضع الحلول الجمعية، مع تمايز الأقطار واحترام خصوصيتها. وهذه الحلول لا تحتاج إلى دول، بقدر ما تحتاج إلى جهود مجموعات عمل تتواصل وتتشابك وتنسق.

ولعل من جميل ما أهداه لنا العلم في هذا الزمان؛ وسائل الاتصال المتاحة، وطرق المواصلات السهلة، ويبقى بعد ذلك حسن النية والإخلاص في العمل، ووضع المعايير العلمية ومعايير قياس الأداء محل الاعتبار في هذا العمل، مستفيدين في ذلك بعلم وجهد وأبناء هذه الأمة وهم كثر، مع ضرورة إنكار الذات، وتراجع من لا يرى في نفسه الكفاءة، ليقدم أصحاب الخبرة والهمة والكفاءة. وتبقى هذه الأمة حية ما بقي فيها المخلصون، وهم كثر، فقد أبقاها صلى الله عليه وسلم خالدة حين قال: "الخير في وفي أمتي إلى يوم الدين".

مقالات مشابهة

  • وزير الدفاع اللواء المهندس مرهف أبو قصرة: إلى العاملين في الجيش والقوات المسلحة، إن التزامكم بلوائح السلوك والانضباط -التي ستصدر بعد قليل- يعكس الصورة المشرقة التي نسعى لرسمها في جيش سوريا، بعدما شوّهه النظام البائد وجعله أداةً لقتل الشعب السوري، فيما نعم
  • وزير الدفاع اللواء المهندس مرهف أبو قصرة: إيماناً بأن الجندية تمثل رسالةً سامية ومسؤوليةً وطنية كبرى، ولأن تصرفات أي عامل في القوات المسلحة تنعكس بالضرورة على الجيش بأكمله، كان من الضروري إعداد لائحة تتضمن الواجبات والمحظورات التي ترسم قواعد السلوك والانض
  • السودان: الدعم السريع تقصف مدينة الأبيض بولاية شمال كردفان ومليون طفل معرض للكوليرا
  • الأمة.. إشكالية هوية ما بعد التاريخ (4)
  • السودان.. ميليشيا الدعم السريع تقصف أحياء سكنية في مدينة الأبيض
  • عبر ميناء جدة.. حرس الحدود يستقبل آخر فوج من الحجاج القادمين من السودان 
  • إنهم الآن يذوقون من الكأس ذاتها التي أرادوا أن يذيقوها للسودان
  • البيت الأبيض : دولة الإحتلال وافقت علي مقترح ويتكوف وحماس لم تقبله حتي الآن
  • الرئيس التنفيذي لشركة أورباكون القابضة رامز الخياط: الاتفاقيات التي تم توقيعها اليوم ستحول سوريا من دولة لديها عجز في مجال الطاقة إلى دولة مصدرة لها
  • والي النيل الأبيض:المسيرات التي يطلقها العدو نحو المرافق الإستراتيجية والخدمية لن تزيدنا إلا قوة ومنعة وتماسكا