#الدعوة_المنبرية
إبراهيم أمين مؤمن
سأله: هل تظن أن التاريخ روى لنا كل أحداث الزمان؟
أجابه: إن الأحداث التي رُوِيَتْ بالنسبة لمن لم تُرْوَ، مثل قطرة في بحر.
قبل آلاف الأعوام
مقالات ذات صلة إلى زهير بن ابي سلمى 2024/11/24كانت رائحة الذنوب التي تنبعث من البشر قد ملأت السماء، فأصبحت لا تحتملها كما لا تحتمل رائحة أدبار الشياطين.
وكانت أوجاعهم نتيجة لصراخ المظلومين، وأنات الجرحى، وسفك دماء المقهورين. فقرروا الاستغاثة بالأم، وأرسلوا شكواهم بعدما ضاقت بهم الأحزان، فاختاروا الرياح ذات الأجنحة الكونية لتحمل رسائلهم إليها.
طارت الرياح محملة بأجنحة الشمس والقمر والنجوم، حاملة رسائلهم إلى الأم. كانت الرياح تتوالى من مشرق الأرض ومغربها، تحمل الكلمات من أعماق المعاناة.
جاء في رسالة الأرض: “إلى الأم المقدسة الطاهرة النورانية، سلام الله عليكِ. أرسل إليكِ رسالتي المائة بعد تسع وتسعين، فقد عجزت عن تحمل دبيبهم على ظهري. فاشفعي لنا عند ربكِ بأن يأذن لي ببلعهم في جوفي.”
وجاء في رسالة السماء: “إلى الأم العظيمة، أرسل إليكِ رسالتي المئوية، فقد أصبحت عاجزة عن تحمل تظليل رؤوسهم بما تحتويه من دمار. فاشفعي لنا عند ربكِ بأن يأذن لي بإرسال حاصب ليحرقهم.”
أما في رسالة المياه، فقد ورد: “إلى الأم النبيلة، لا أستطيع تحمل سيرهم على ظهري، فاشفعي لنا عند ربكِ بأن يأذن لي بغرقهم في قيعاني.”
وجاء في رسالة موحدة من الجميع: “أكثر ما أحزننا هو النفاق والكذب.”
استقبلت الأم المقدسة جميع الرسائل، بالإضافة إلى الرسالة الموحدة. كانت أحبارها مغمورة بالدعاء، وأوراقها محمّلة بالرجاء، ومختومة بلغة لا يعرفها سواها، لغة النورانية.
نظرت إلى الرياح، التي كانت تحمل أجنحتها المضيئة، أجنحة الشمس في يمينها، والقمر في يسارها، والنجوم تتوج رأسها. تأملت في أمر الله الذي علمها لغة الجمادات، ثم قالت للريح: “منذ متى خرجتِ بهذه الرسائل؟”
أجابت الرياح: “أعطوني الرسائل حين كان قرص الشمس على وشك أن يلامس الأفق.”
تأملت المقدسة في كلمات الرياح وهمست بين شفتيها: “منذ لحظة تسلمك الرسائل حتى وصولك، كنتُ أدعو الله أن يصلح حال البشر بكلمة واحدة فقط، خرجت من أعماق قلبي، وكانت أمانتكِ، أيتها الرياح، أسرع من أسرع جني على وجه الأرض.”
قالت للرياح: “ولماذا قصدوا شفاعتي؟ أليس هناك من هو خير مني؟”
أجابت الرياح: “لا، فكل أعمالكِ الطيبة تصل إليهم. نحن نبكي ونفرح كما تبكين وتفرحين، وأنتِ يا مقدسة خير من يعبد الله في هذا الكون. كان خشوعكِ يخفف عنهم آثام البشر وشرورهم، لذلك أرادوا شفاعتك.”
همست النورانية في نفسها: “جاء وعد الله بإغاثة خلقه، حتى الجماد أراد أن يغيثهم. يظنون البشر أن الجماد لا يحيا، لكن بالنسبة لجلال الله، هو خلق من خلقه. وأنا خير من يعلم هذه الحقيقة، فأنا أكلم الشجر والحجر والمياه وسائر خلقه.”
قالت: “دعيني أيتها الرياح أختلي بربي لحظة، لأنظر إن كان يقبل شفاعتي أم لا.”
اختلت المقدسة مع الله لبعض الوقت، ثم خرجت بعد أن قبل شفاعتها ووهبها قدرة الحكمة والبلاغة.
سحبت الريشة من المحبرة وكتبت رسالة بلغة الكون، حروفها تخرج من منطق لا دخل للبشر فيه، لأنها لغة الجماد.
وكتبت:
“إلى الثلاثة الأعزاء، لقد قبل الله شفاعتي، وأعدني للقيادة، وأوضح لي كل شيء.
لكن اعلموا أن جراحكم لن تلتئم إلا بعد أن تُكوى بالنار. هل تعرفون كيف تُكوى؟ سوف تصطك السيوف لعشر سنين، تسيل فيها الدماء أنهارًا. دماء الأبرياء ستتسبب في اتساعها، لكن دماء الظالمين والكفار ستكون أكثر بمائة مرة من دماء الأبرياء، وحينها فقط ستلئم الجراح.
أريد أن أخبركم أيضًا أنكم ستصرخون، وتتمزقون، وسيضج الألم في كل ذرة من كيانكم، فاحتملوا حتى يأتي النصر الذي لا ريب فيه.
كل ما عليكم هو الصبر، والثقة في وعد الله.
انتظروا كلمتي، قد تأتيكم بعد أيام، أو شهور، أو سنين. لن أرسل إليكم الرياح إلا بعد أن يضع منبر ولدي المصطفى قدميه على أول سلم النجاح.” ما إن خرجت الرياح لإيصال رسالتها، حتى جلست ترفع أكفها إلى السماء، شاكرة ربها على ما علمها من حكمة وبلاغة.
قالت: “ربي، علمتني منطق الخلائق، فالشكر لك.
والآن علمتني كلمات تزلزل القلوب، تفتح بها عيونًا عمياء، وقلوبًا غُلفًا، وآذانًا صماء.
فوفقني لما أمرتني، وكن في عون عبدك ‘منبر’.
وامنحني القوة التي أتحمل بها بشاعة ما سيحدث من أجل رفع الظلم عن المظلومين من مشرق الأرض إلى مغربها.”
نهضت، وأحضرت بعض أوراق البردي، وكتبت كلمات بالريشة من خلال محبرة كانت موضوعة على منضدة خشبية بدائية.
ثم طوت الرسالة على شكل أسطوانة وربطتها بأشرطة جلدية.
ثم دعت الرياح إليها فحضرت، فقالت: “من الآن فصاعدًا، ستكونين رسولي إلى منبر. عندما تأتينه، انزعي عنك لباس الجماد وارتدي ثياب البشر، فإنه لن يفقه قولك ولا فعلك لو أتيته بهيئتك. والآن، أعطي هذه الرسالة له.”
جاءت الرياح في صورة بشر، ودخلت الكهف الذي يختلي فيه منبر لتطهير نفسه من لمم الآثام.
وجدت منبر يتخشع.
انتظرت حتى انتهى، وقال: “السلام على ابن المقدسة.”
قال منبر: “وعليكِ السلام.”
نظر إليها بدهشة وقال: “من أنتِ أيتها المرأة؟”
قالت: “أنا الرياح، يجسدني الله في الصورة التي يريدها، وقد جسدني هذه المرة على هذه الهيئة حتى أكون رسولا بينك وبين المقدسة في المرحلة المقبلة.”
ثم ألقت له الرسالة. دهش من كلامها، فما اعتادت أمه أن ترسل له رسلاً من الجماد.
فتح الرسالة، وقرأ محتواها، ووجهه مستبشر وقلبه يخفق خشوعًا لما يقرأ. وعندما انتهى قال: “هل أنتِ واثقة أن هذا الكلام بريشة المقدسة؟”
أجابت: “نعم.”
نهض، ونظر إليها وقال: “هل أنتِ متأكدة أن هذا من حبر المقدسة أمي؟”
أجابت: “نعم.”
قال، ووجهه ملآن بالسرور والتفاؤل: “لله درك يا مقدسة، كلماتك حلوة، فهي كالشجرة التي لا تتساقط أوراقها أبدًا لأن فروعها تكثر مع نموها، ويأتيها الماء متى شاءت أينما شاءت. وما علمك الله هذه الحكمة إلا لشيء عظيم.”
ظن منبر ساعتها أن الله سيكلفها بأمر عظيم، فتجهم فجأة وبدأت تتقلص ملامح وجهه خوفًا عليها.
دخل عليها، فوجدها كما اعتاد أن يجدها دائمًا، تناجي ربها.
فلما انتهت، نظرت إليه وقالت: “قرأت الرسالة؟”
أجاب: “نعم يا أمي، ما أروع ما كتبتِ!”
قالت: “هذا ما علمني الله إياه لأكتب إليك دائمًا.”
قال: “هو الحسم إذن؟”
قالت: “نعم، أنت من اصطفاك الله للرسالة، واصطفاني لأراسلك، واصطفى الرياح لتكون رسولا بيني وبينك.”
انهار في مكانه، وارتجف بشدة، اجتاحه الخوف حتى كادت دماؤه تهرب من عروقه هلعًا بسببها.
قال متلعثمًا: “أنا، أنا… كنتُ أظنك أنتِ، إن إيماني بالنسبة لإيمانك كقطرة في بحر.”
قالت: “لا يعلم أقدار العباد إلا الله، فاثبت وكن على قدر المسؤولية.”
بعد لحظات صمت قال همسًا: “منذ متى حدث ذلك يا أماه؟”
قصت له ما جاء في رسائل الأرض والسماء والمياه.
عندها قال: “علمت الآن لم علمك الله هذه الحكمة والبلاغة الآن، أمي، إن من أراد تقليد حكمتك وبلاغتك سيعجز لا محالة.”
قالت: “لو أصبت القول لقلت: من قلدك أنت، هذا هو سلاحك في مجابهة أهل الباطل. سوف تصلك مني رسائل عند الحاجة والضرورة وحسب الموقف الذي تواجهه. وصول الرسائل بهذه الطريقة سيؤكد صدقك، ويثبتك في مواجهة أهل الباطل، ويثبت من اتبعك على الحق. وكما تعلم، إن الرياح هي رسولي إليك.”
قال: “من أين أبدأ؟”
قالت: “من حيث نشأت، فأنت منهم وهم يعلمون صدقك وأمانتك.”
قال مرتعدًا: “قرية الفجور! كيف ذلك؟”
قالت: “ربك أعلم حيث ينزل رسالته، فلا تدهش. ولا تخف، والآن خذ هذه القراطيس، اقرأها، فيها تكليفك، وفيها من الترغيب لأهل الحق والترهيب لأهل الباطل ما يساعدك على نجاح رسالتك.
وأخبرهم عن لساني أن القراطيس دواء وشفاء، وأنها نور وهدى.
أخبرهم عني أنه سلاح لهم سينقلهم من أسفل سافلين ويدفعهم لأعلى عليين.
أخبرهم وقل لهم: إن النورانية تحبكم إذا اهتديتم، ولا ذنب لها إذا ضللتم واحترقتم.”
قال امتثالًا: “سمعًا وطاعة.”
ركب المطية، فلما كان على مشارف القرية، قابل كهلاً بالغ المائة من عمره، يكاد لا يستطيع أن يتنفس وكأنه يختنق، ولا يكف عن السعال.
أخبره منبر بأمره، فقال له العجوز: “لا أؤمن لك إلا إذا قرأت ما في هذه القراطيس، سأتأكد أنك دعيّ عندها، لأني أبلغ أهل الأرض وأحكمهم.”
ناول منبر القرطاس للرجل، فقرأه، وقال: “ما هذا بكلام بشر أبدًا، إذا كتبه بشر فقد أملاه الله عليه.”
آمنت برسالتك يا منبر، وما لبث أن مات من فوره.
حزن عليه منبر، ودعا له، وتحسر على وفاته لأنه تناول الدواء على الفور واستراح به، وفي نفس الوقت تفاءل كثيرًا بسبب مفعول ذاك الكلام السحري.
وصل القرية أخيرًا، فاستقبله رجل يدعى حليب، يبدو على وجهه الوقار والبشاشة والسماحة، فقال له: “أعرض عليك قرطاسًا.”
أمسكه حليب وقال: “أتريد مني أن أؤمن لك بحجة؟”
قال منبر: “بالطبع.”
قال حليب: “لست بحاجة لحجة منك، فأنا أعلم عنك من دماثة الخلق ما يغني عن أي حجة، لكن سوف أقرأ القرطاس كي أتلذذ بقراءته فحسب.”
فور أن انتهى، أخذته العبرة وقال: “لقد طاب قلبي وبرأ والله، إنه دواء فعّال، فعال لكليهما، الخيّر والشرير. الخيّر يجده شفاء، والشرير يجده كالرعد القاصف فيدفعه عن الشر.”
وقف أمام منبر، وشد على كتفيه وربت وقال: “دواؤك غالب لا يغلب، وإني ناصرك من طغيان من تعرفهم وأتباعهم، أبو الغضب وأبو النار وأتباعهم.”
قال منبر بتأوّه: “صدقت يا حليب، أبو الغضب مهاب في القرية، وكذلك أبو النار، وثمة رؤوس أخرى لهم من المكانة مثلما لهذين، ولهم أولياء يلوونهم في كل شيء يدعون الأسياد أو الشرفاء، لذلك أحتاج معونتك.”
قال حليب: “يسيطرون ويتحكمون في مقدرات القرية وأهلها، ويعتبرون ما دونهم عبيدًا. يذهبون بالشرف والرئاسة والملذات على حساب الضعفاء والفقراء.
وترتب على أطماعهم أن كان صراخ المظلومين يضج في الخيام والمباني ليل نهار على حساب شهواتهم وملذاتهم، ولابد لهذه المأساة أن تنتهي.”
فور وصول منبر وحليب إلى سوقهم الكبير، وقف في مركزه ونادى بصوت عالٍ: “يا أهل القرية، هلموا إليّ!”، فانتبه الجميع له.
قال الضعفاء والعبيد: “إنه منبر، ابن النورانية المقدسة، يشبه أمه في خلقته وأخلاقه، ولا يأتي منهما إلا الخير.”
أما الأسياد، فلما سمعوا ندائه تشاءموا، فهم يعرفون عنه أنه ينكر أفعالهم وعاداتهم ويصفهم بالطغيان والجبروت.
وقد جاء أبو النار متأخرًا، فشق الصفوف ووقف.
تفجّ حوله جمع غفير، وعندها شرع في الكلام قائلاً: “تسلم النورانية على من اتبع الهدى منكم، وتحذركم من اتبع هواه وغوى، وتهديكم كلماتها.”
أشار منبر لحليب بقراءة أحد القراطيس.
فتح حليب أحد القراطيس وقرأ ما فيه، فخشع الجميع، حتى الطغاة منهم، لكن سرعان ما أدرك الطغاة الفخ الذي وقعوا فيه حسب معتقداتهم، فارتدت رؤوسهم للخلف بعد أن كانت متقدمة للأمام، كأنهم أفاقوا من صدمة أو صاعقة.
أما العبيد فقد أيقظت القراطيس قلوبهم، واستنهضت عزائمهم، ورسخت الصبر في كيانهم، فأرادوا المزيد.
فتقدم فريق منهم وأخذوا بعض القراطيس من حليب، بينما تردد فريق آخر، فحثهم منبر على التحلي بالشجاعة فتقدموا وأخذوا القراطيس. أما الفريق الثالث فكان يرتجف خوفًا ويعلم ما قد يحدث لهم إذا تقدموا وأخذوا من منبر.
قال أبو النار: “ما أتفهك يا منبر، كل هذه الضجة من أجل أن تقرأ علينا هذه الخرافات وتعطيها لهؤلاء المغيبين.”
رد منبر: “خرافات؟! إنها حق وعدل ورحمة.
حق لأنها ترد المظالم.
عدل لأن فيها النفس بالنفس، والعين بالعين.
رحمة لأنها تحرّم الظلم والتنازع، وتأمركم بالإخاء، فتكونوا عباد الله إخوانًا.
أما ما تسميه خرافات فهو دفع عنك الهلاك، فقد اشتكت من تقلكم، ومن تظللكم، ومن تسيركم في البحر.”
انفجر أبو النار في الضحك وقال: “أنت كاذب! كذبك بلغ الآفاق، تكذب على نفسك، وعلى الناس، وعلى الأرض، والسماء، والبحار.”
حضر أبو الغضب ومعه بعض الأسياد وبأيديهم كؤوس الخمر، كانوا قد سمعوا الخبر وهم يجلسون يحتسون الخمر ويشاهدون مباريات قتالية بين العبيد، يسمونها “القتال حتى الموت”.
قال أبو الغضب: “يا منبر، يا ابن المدنسة المظلمة، من أذن لك أن تجمع رجالنا وعبيدنا وتسمعهم هذه الأكاذيب والأشعار؟”
قال منبر: “لم تكن أكاذيب ولا أشعار، وأحب أن أسمعك منها.”
قال أبو الغضب مستهزئًا: “أسمعنا، لا تكلم بعد اليوم.”
فقرأ عليه منبر قرطاسًا، يساوي فيه بين الحر والعبد، والغني والفقير، والشريف والوضيع، والقوي والضعيف.
انتفخت أوداج أبو الغضب، وألقى بالكأس الذي في يده على منبر، فتناثر الخمر على جبهته وخديه وأنفه في شكل بقع حمراء وصفراء.
مسح حليب الخمر عن منبر.
قال أبو الغضب: “إن ما تدعو إليه سوف يفسد مجتمعنا، وإن تركنا الأمر على ما تحب، سيتحول القرى إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف.”
قال منبر: “أنت تجحد يا أبو الغضب، لكني سأخاطب ما بداخلك لا ما تفوهت به،إن كان في القرية عبيد وضعفاء لأسيادها وأقويائها، فهناك من يطلقون على أنفسهم القوى العظمى، هم يعتبرون أسياد القرية وأقويائها عبيدًا وفقراء، فإن كنا لا نحب وسمنا بذلك، فأحرى أن لا نسم أحدًا به.
يا أبو الغضب، هل تحب أن تكون أفضل منهم؟”
سأله منبر ذلك لأنه يعلم أن أبو الغضب يحب الزعامة.
قال ساخراً: “كيف ذلك؟”
قال منبر: “تداوى بالقراطيس، عندها ستملك رقاب ملوك من يدّعون أنهم ملوك لدول عظمى.”
قال أبو الغضب هازئًا بعد انفجاره في الضحك: “بهذه القراطيس نملك رقاب الملوك؟! بل بها ستنشر الإرهاب والفوضى في القرية.”
ونظر إلى من بيده القراطيس وقال: “أيها الفقراء والعبيد، ألقوا هذه القراطيس على الأرض وادعسوها بأقدامكم.”
فألقى بعضهم القراطيس، بينما تردد آخرون.
دفع المحجمين نحو القراطيس، ثم نزعها من أيديهم ودعسها بقدميه.
قال أحدهم: “هذه القراطيس فيها نور وهدى، فيها العدل والرحمة، لا تداس بالأقدام.”
تبعه آخر: “إنها ذات سحر يداوي القلوب.”
فجذبهم بيده وسألهما: “هل تؤمنان أن هذه القراطيس شفاء ورحمة؟”
أجابا الواحد تلو الآخر: “نعم.”
نظر إلى منبر وقال: “هل تقرّهما؟”
قال منبر وهو يتوجس شراً: “بكل تأكيد.”
هزّ أبو الغضب رأسه، ثم أخرج سيفه من غمده وأطاح برأس العبدين وانفجر في الضحك قائلاً: “فيه شفاء، شفاء ورحمة.”
قال منبر: “أنت استخدمت قوتك، ولو كان أحدهما أقوى منك لدافع عن نفسه وقتلك.
فلتفعل ذلك الآن، أعط سيفًا لواحد من هؤلاء، واقتله، لن تتمكن، لأن سيفك باطل وسيفه حق.”
فبهت أبو الغضب وقال: “خذ قراطيسك واذهب إلى أمك لتعد لنا قراطيس تصلح الأرض ولا تفسدها.”
سأله منبر: “قل لي ما تريد، ربما يكونون معي.”
قال أبو الغضب: “نريد قراطيس تمجدنا وتعظمنا وتمنحنا المزيد من النساء والعبيد والخمر.”
غضب منبر وقال: “أنت تريد قراطيس الشياطين، إن القراطيس كلمات ودواء فيها الشفاء والعدل والحق والمساواة.”
قال أبو الغضب: “كف عن الثرثرة.”
ونظر إلى بقية من اتبعوه وقال لهم: “هل تثوبون إلى رشدكم أم لا؟”
قال بعضهم: “لن نعود إلى الضلال بعد الهداية.”
بينما صمت الباقون.
قال أبو الغضب: “ضلال، هداية، بل أنتم على ضلال لأنكم تريدون مساواتنا في السيادة
والشرف والغنى.”
وأمر بسحبهم وربطهم في جذوع النخل وتعذيبهم.
ونظر إلى الجلادين وقال: “من يثوب إلى رشده فأطلقوه، ومن يصر على غيه فعذبوه حتى الموت.”
ونظر إلى منبر وقال: “أرأيت ما فعلت بهم، أنت عاجز حتى أن تحميهم… اسمع، لو كنت صادقًا، فك وثاق هؤلاء العبيد، ألا تسمع السياط التي تنزل على أجسادهم?”
قال سيد آخر: “إنهم يستغيثون بك، فاغثهم يا من تدعي أن الله معك ومعهم.”
هنا تدخل حليب وقال لهم: “إن معي مالاً، وأنا أفديهم جميعًا، فهيا حلوا وثاقهم.”
نظر بعضهم إلى بعض وقالوا: “موافقون.”
فحلوا وثاقهم، فأعطاهم المال.
هنا ربطوهم مرة أخرى، فاستنكر حليب فعلهم وقال: “لقد نفذنا ما طلب منا وفككنا وثاقهم كما طلبت، فإن أردت تحريرهم مجددًا، أعطنا مالًا مجددًا.”
جذب أبو الغضب منبر من ثيابه وقال: “اسمع، لئن لم تنهي لأقتلنك، هيا اذهب إلى أمك، لعنة الله عليك وعلى أمك.”
حينما نقلت الرياح المقدسة أخبار ما حدث في السوق، ترحمت على الشهداء ودعت للباقين بالصبر والثبات. لكنها لم تكتف بذلك، بل أعدت رسائل من الوعيد والعذاب، تهدد بها كل من سوّلت له نفسه السير على خطى منبر. وما إن وصلت الرسائل، حتى ظل منبر يصدع بالحق رغم كل ما حدث، وأخذ الضعفاء والفقراء القراطيس التي وزعها سرًا،
خشية بطش الأعداء. في تلك الأثناء، كانت النورانية المقدسة تتابع أخبار منبر لحظة بلحظة، ترسل له الرياح محملة برسائل الدواء التي تداوي أبدان أتباعه، وتستجلب المزيد من الأنصار، ليشتد ساعده ويقوى صفه في مواجهة أبي الغضب وأبي النار وأتباعهما. ومع الوقت، أضحى لمنبر شوكة تصدعت منها قلوب أعدائه، مما دفع أبا الغضب وأتباعه إلى التفكير بالخلاص منه.
اجتمع الأعداء يتباحثون أمره، لكن الحديث سرعان ما انقلب إلى تبادل للاتهامات. كل واحد منهم ألقى باللوم على الآخرين، معتبرًا أنهم السبب في قوة منبر وشوكته، وعليه ألقى كل منهم عبء الخلاص منه على غيره. غير أن الخوف من المسؤولية حال بينهم وبين التنفيذ.
طال تفكيرهم حتى قاطعهم أبو الغضب بفكرة شيطانية، وقال: “سنصنع سيفًا ذا مقابض متعددة، ويمسك كل واحد منا مقبضًا، ثم ننزل السيف جميعًا على رقبته فيفصلها عن جسده. بذلك لن يتمكن أتباعه من الانتقام من شخص واحد، بل سيتوجب عليهم مواجهة قريتنا بأكملها وما حولها، وهو أمر يفوق طاقتهم.”
وصل خبر اجتماع أبي الغضب وأتباعه إلى النورانية المقدسة عبر الريح، فبكت، وقالت: “لا خير فيهم، لينتقل منبر إلى مدينة القناديل، سيجد فيهم السند.” ولقنتها رسالة بمنزلة رسالة لتلقنها لمنبر.
جاءته الريح بنص الرسالة: “من النورانية المقدسة إلى منبر، خذ أكياس الدواء معك ولا تغفل عنها، واذهب إلى مدينة قناديل، فإن أهلها طيّبون، سيساعدونك على رد شرف من
سلب شرفهم من أتباعك، ورد أموالهم. واحذر أبا الغضب وأتباعه فإنهم يعدون لقتلك، لذلك اخرج ليلاً حتى لا يرونك، واعلم أنك لن تتمكن من الفرار منهم إلا بمساعدة من جاء لك، الريح يا منبر.”
أعد منبر عدته، وكان حليب ينتظره عند مشارف القرية. وقبل أن يهم بالخروج، هبت الرياح تخبره أن أبا الغضب وأتباعه قد تربصوا له على باب داره لقتله. ارتعد منبر وقال: “أهي النهاية إذن أيتها الريح؟” فأجابته الريح: “سألبسك من ألبستي ثوبًا يخفيك عن أعينهم، فلا يرونك.” وما إن تحقق ذلك، حتى خرج منبر متخفيًا، يمر من بين أعدائه دون أن يشعروا به، حتى وصل إلى حليب عند مشارف القرية.
أما أبو الغضب وأتباعه، فطال انتظارهم عبثًا، حتى مرّ بهم أحد أهل القرية وسألهم عن سبب وقوفهم. فأخبروه أنهم ينتظرون خروج منبر لقتله، فقال لهم: “لقد رأيته منذ ساعة وهو يغادر حدود القرية متجهًا إلى الصحراء!”
واصل منبر وحليب رحلته حتى بلغا مشارف القناديل. كان أهلها بانتظارهما بشغف، فما إن وصل حتى استقبلوه بالأحضان، ووعدوه بالنصرة بأموالهم وأنفسهم، ليردوا الظلم عن أنفسهم ويواجهوا أبا الغضب وأبا النار. عندها قال منبر في نفسه: “صدقت النورانية.”
أدرك منبر أن قدميه قد وطئتا أولى خطوات النصر، فقد وجد في هؤلاء الناس طينة مختلفة، أناسًا فتحوا له الأبواب المغلقة وحركوا المياه الراكدة، قومًا مفطورين على العدل والحق، حتى صارت عندهم الفريسة والمفترس يجلسان في أنس وسلام.
التفت منبر إلى حليب وقال: “حقًا، من هنا يعلو الحق وترد كرامتنا. وإن كنا حفاة عراة بالأمس، فإننا سنكون أصحاب التيجان والصولجانات غدًا.” فقال حليب متعجبًا: “بهذه السهولة؟” أجابه منبر: “كلما قطفنا رأسًا من رؤوس الباطل، زرعنا مكانه بذرة من بذور الحق. هذا ما سيكون غدًا.”
بعثت المقدسة رسالة تطمين عبر الرياح، تحمل إلى السماء والأرض والمياه بشائر الفتح المبين، إذ أعلنت أن استقبال مدينة القناديل لمنبر هو بداية عهد جديد، عهد تختفي فيه صرخات المظلومين، وتتلاشى روائح الدماء المسفوحة، فلا يُسمع أنين، ولا تُشمّ رائحة قهر، وإنما يعم السلام وتنطفئ نيران الظلم في غضون سنوات قليلة.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: أبو النار منبر وقال ونظر إلى إلى الأم إلى منبر فی رسالة جاء فی بعد أن قال من إلى من
إقرأ أيضاً:
من الدعوة إلى الدولة: قراءة هادئة في مسار الحركة الإسلامية في اليمن.
"عن اليمن بودكاست والحلقة الاستثنائية مع الصحفي والباحث سعيد ثابت"
في زمن تزدحم فيه المنابر بالصخب والادعاء، وتُختزل الحركات الكبرى في سرديات متعجلة، جاءت حلقة “من الإخوان إلى الإصلاح: قصة الحركة الإسلامية في اليمن” التي قدّمها “اليمن بودكاست” وأدارها الإعلامي أسامة عادل، لتقدّم مادة مختلفة في شكلها ومضمونها، وتفتح نافذة موثّقة على واحدة من أكثر التجارب السياسية اليمنية جدلًا وإثارة للتأمل.
لم تكن الحلقة مجرد إضافة أرشيفية إلى محتوى سياسي متكرر، بل بدت وكأنها عمل توثيقي نادر يعيد ترتيب الذاكرة السياسية اليمنية، ويخوض بأسلوب هادئ ومتماسك في ملف غالبًا ما عُولج بخفة أو عدائية أو اختزال.
بعيدًا عن الشعارات الجاهزة والتصنيفات المقولبة، بدا الحوار وكأنه محاولة لاستعادة الفكرة من تحت ركام المعارك، وإعادة قراءتها في سياقها الزمني والاجتماعي، لا من خلال عدسة الاستقطاب الإقليمي أو صراع الهوية السياسية المعاصرة.
ضيف الحلقة الباحث والصحفي المعروف سعيد ثابت سعيد، لم يبدُ كضيف تقليدي يسرد ما حفظه من تواريخ، بل كمراقب عميق حمل ذاكرة جماعية عن الحركة الإسلامية في اليمن، وسعى بلغة هادئة ونبرة متزنة إلى إعادة تركيب تلك الذاكرة دون انفعال أو تبرير، فلم يتحدث كناشط حزبي أو كاتب منحاز، بل كمن عاش تفاصيل المشهد من الداخل، ورصد تحوّلاته عن قرب عبر محطات متعددة.
تناول سعيد ثابت التجربة الإسلامية في اليمن بوصفها مسارًا اجتماعيًا وفكريًا وسياسيًا معقّدًا، له جذوره المحلية وتحوّلاته الخاصة، فبدأ من البدايات الفكرية للحركة، ثم انتقل إلى لحظة التشكل التنظيمي، مرورًا بعقود من الحضور في السلطة والمعارضة معًا، حديثه، الذي امتد لأكثر من ساعتين، لم يكن مجرد عرض زمني للأحداث، بل مراجعة نقدية موثقة تسبر أغوار التجربة، وتضع كل مرحلة في سياقها، لتعيد التذكير بأن الحركات السياسية لا يمكن فهمها خارج بيئتها الأولى وظروف نشأتها
في هذا المقال، سنقترب أكثر من أبرز المحاور التي تناولتها الحلقة، ونفكك بعض ما طرحه سعيد ثابت من رؤى وسرديات، لا بوصفها شهادات عابرة، بل كوثيقة تسهم في بناء سردية يمنية أكثر توازنًا وعمقًا حول مسار لم يُروَ بعد كما يجب.
عودة إلى الجذور: حين كان المشروع يمنيًا بحتًا
من البداية، أعاد سعيد ثابت الحديث إلى نقطة الانطلاق، إلى ما قبل تأسيس حزب الإصلاح، حين لم تكن هناك أحزاب، ولا تعددية سياسية، بل فقط أفكار ومشاريع ورجال يحملون رؤاهم على أكتافهم، ويجوبون بها من عدن إلى صنعاء.
تحدّث عن البدايات الأولى للحركة الإسلامية في اليمن، حين تأثر بعض الطلاب اليمنيين في مصر بأفكار حسن البنا وسيد قطب، لكنهم ، كما أوضح الباحث سعيد ثابت، لم يعودوا إلى اليمن كمنفذين لتعليمات خارجية، بل عادوا بمشروع محلي يرون فيه مخرجًا لبلدهم من الاستبداد والفقر والجهل.
أسماء مثل عبدالمجيد الزنداني وعبده محمد المخلافي، كانت من أوائل من صاغوا هذا الاتجاه في نسخته اليمنية، لم يكونوا يطمحون لتأسيس “فرع” تابع لتنظيم دولي، بل كانوا يريدون أن يبنوا تجربة يمنية ذات خصوصية، ومن هنا جاءت فكرة المعاهد العلمية، التي رأى فيها ثابت أنها لم تكن أداة تجييش، بقدر ما كانت محاولة لبناء جيل جمهوري، متدين، ومحصن فكريًا في وجه الماركسية والطائفية معًا.
هذا التأسيس الذي تم في عهد الرئيس إبراهيم الحمدي كان نقطة مفصلية، لأنه حدث بإرادة سياسية يمنية، لا بتدخل خارجي ولا تمويل مستورد، وهو ما حاولت الحلقة التأكيد عليه أكثر من مرة: أن الإسلاميين في اليمن لم يكونوا في يوم من الأيام مجرد نسخة محلية عن مشروع خارجي.
حزب الإصلاح.. كيان سياسي أم امتداد تنظيمي؟
في الجزء الأهم من الحلقة، تحدث سعيد ثابت عن نشأة التجمع اليمني للإصلاح بعد الوحدة، وكيف أن تأسيس الحزب لم يكن مجرد إعادة تموضع للإخوان المسلمين، بل كان استجابة طبيعية لتحوّل الدولة إلى العمل الحزبي التعددي.
أشار في حديثه إلى أن الإصلاح ضمّ في تركيبته منذ اللحظة الأولى مشايخ قبائل، وقادة عسكريين، وعلماء دين، وشخصيات اجتماعية، إلى جانب التيار الإسلامي التقليدي، وهذه الهُوية المركبة هي ما جعلته حزبًا سياسيًا بامتياز، يشتبك مع الواقع ويخوض الانتخابات، ويتحالف مع المؤتمر الشعبي، ثم يدخل في “اللقاء المشترك” مع خصومه الأيديولوجيين في مرحلة لاحقة.
لكن، وكما أوضح سعيد ثابت، فإن هذا التماهي مع الدولة "خصوصًا في فترة التحالف مع صالح" كان سيفًا ذا حدين، فقد منح الإصلاح نفوذًا واسعًا، لكنه في الوقت نفسه حمّله تبعات العلاقة بالسلطة، فحين انقلبت السلطة، كان الحزب هو أول من تلقّى الضربة، وأول من اتُّهم بكل شيء.
وهنا كان الطرح النقدي حاضرًا في كلام سعيد، دون مواربة: الإصلاح ارتكب أخطاء، نعم، لكنه لم يكن يومًا مشروعًا انقلابيًا أو عنفيًا، وإذا كان قد ضعف سياسيًا بعد 2015، فليس لأنه انهار تنظيميًا، بل لأن السياق كله تغيّر، وتحول المشهد من العمل السياسي إلى واقع مليء بالسلاح والتحالفات الإقليمية المعقدة.
تفكيك الأكذوبة: الإصلاح ليس مكتب بريد للإخوان
من اللحظات المهمة في الحلقة، تلك التي تناولت فيها النقاشات المتكررة حول اتهام الإصلاح بأنه فرع للإخوان، سعيد ثابت لم ينكر التأثر الفكري، لكنه شدد أن التنظيم لم يكن امتدادًا عضويًا للإخوان، لا تنظيميًا ولا سياسيًا.
بل على العكس، قدّم سردًا دقيقًا لمسارات الاستقلال المبكر، من رفض تأسيس خلايا تابعة، إلى بناء مشروع يمني داخلي، يشتبك مع الواقع المحلي ولا ينتظر التعليمات من الخارج.
قوة هذا الطرح أنه لم يُقدَّم كرد فعل دفاعي، بل كوقائع وسياقات تاريخية، من لقاء الزبيري مع البنا، إلى عودة المخلافي والزنداني إلى اليمن، إلى تأسيس الإصلاح بعد الوحدة، وكل ذلك جرى دون غطاء خارجي ولا وصاية فكرية.
في لحظة الانهيار… من بقي جمهوريًا؟
واحدة من أكثر المحاور إثارة في حديث سعيد كانت عند سؤاله عن موقف الإصلاح من سقوط صنعاء، ودوره بعد 2014. لم يُنكر أن الموقف كان مرتبكًا، لكنّه لفت إلى أن الإصلاح، ورغم الحملة الإعلامية الشرسة ضده، ظلّ الطرف الأكثر وضوحًا في التمسك بالجمهورية.
تحدّث عن ما أسماه “الخذلان المركّب”، حيث تخلّى الحلفاء، وهاجم الخصوم، واصطف بعض شركاء الأمس مع الإمامة الجديدة، أما الإصلاح، فرغم ضعفه وانكشافه، لم يكن جزءًا من الانقلاب، بل وقف في وجهه بقدر ما استطاع، وانخرط في معركة الدفاع عن الدولة من مواقع متفرقة، في السياسة والإعلام والجبهات.
أكثر من مجرد سرد.. الحلقة التي أعادت كتابة الملف
ما يجعل هذه الحلقة استثنائية حقًا، أنها ليست مجرد استرجاع لتاريخ الإسلاميين في اليمن، بل كانت أشبه بمحاولة لتقديم “سيرة وطنية بديلة” تُنصف التيار الإسلامي دون أن تبرّئه، وتنتقده دون أن تُشيطنه، وهو ما نجح فيه سعيد ثابت بامتياز: لم يكن منحازًا، لكنه كان صادقًا. لم يكن مدافعًا، لكنه أنصفها في حديثه فنظر إلى الداخل، وراجع الذات، وتحدث بلغة لا تحرض ولا تبرر، بل تشرح وتفكك.
إدارة الحوار من قبل أسامة عادل أضفت على الحلقة طابعًا احترافيًا هادئًا، فقد غاب صوت المذيع في اللحظة التي يجب أن يغيب فيها، ليعلو صوت الذاكرة والمعلومة والتحليل.
حين يصبح التاريخ ملكًا للجميع.
ختامًا، قد تكون هذه الحلقة أكثر من مجرد توثيق شفهي لمسار تيار سياسي، فالحلقة في جوهرها، تمثل محاولة نادرة لإعادة اليمنيين إلى أرشيفهم المنسي، إلى تاريخ لم يُكتب بيد الغالب وحده، بل بصوت شاهد أراد أن يفهم لا أن يدين، وأن يروي لا أن يوجّه، فليست “قصة الإسلاميين” في هذه الحلقة سوى بوابة لفهم اليمن نفسه، حين كانت الفكرة سلاحًا، والكلمة جبهة، والمشروع الوطني هو المعركة الأهم.
فمن الطليعة إلى الإصلاح، ومن الزبيري الحالم بوطن عادل إلى الزنداني المثير للجدل، ومن المعاهد العلمية في زمن الحمدي إلى دهاليز السياسة في عهد صالح، ومن صناديق الاقتراع إلى جبهات مأرب وتعز، كانت التجربة الإسلامية في اليمن تتحرّك في قلب الأحداث، لا على هامشها، نعم، لم يكن مسارًا مستقيمًا، بل متعرجًا بين الإيمان والفعل، بين التديّن والسياسة، بين المبادرة والخطأ، لكنه كان، وسيبقى، جزءًا لا يمكن فصله من سيرة هذا الوطن الذي لم يكتب تاريخه بعد كما ينبغي.
وإذا كانت كثير من الحلقات الإعلامية تمرّ مرور العابرين، فإن هذه الحلقة ، بما احتوته من رصانة في الطرح وهدوء في النبرة ، قد تبقى عالقة في ذاكرة من سمعها، لا لأنها تبحث عن الإثارة، بل لأنها سعت إلى الفهم، لم تُروَ القصة بلون واحد، بل بأطيافها وحوافها وتناقضاتها، كما تُروى الحكايات التي يُراد لها أن تبقى، خاصةً ونحن في زمن ضياع الحقائق وتزاحم الأصوات المرتبكة، حيث تمزّقت السرديات وتكاثرت محاولات التزوير والتسطيح، بدا الإنصاف لا الولاء، هو السبيل الوحيد لفهم التاريخ، وإعادة بناء الوعي، فالتاريخ لا يُكتب على عجل، ولا يُفهم بالاصطفاف، بل بالاقتراب من الحقيقة كما هي، بظلالها لا بضجيجها.
وهكذا، تصبح هذه الحلقة أكثر من مجرد شهادة.. بل مفتاحًا صغيرًا لبوابة أكبر: بوابة الفهم، التي لا يُفتح المستقبل من دون عبورها، ولا تُصان الذاكرة من دون إنصافها