تستحق دمشق أكثر من قصيدة رثاء في هذه الأيام الخواء من أيام العرب المؤسفة التي تأخذهم صراعا إلى حافة التاريخ وهامش هامشه وهم أقرب إلى المغيبين عن الحقيقة منهم من المجبرين على سواها، ولكن من خوف أن تلحق عاصمة الأمويين بعواصم عربية كبرى سبقتها للسقوط.. وليس بعد السقوط، في العالم العربي، إلا التشظي والتشرذم والتحزب والتمذهب، وضياع معنى الوطن وتمزيقه إلى وحدات طائفية ومذهبية وقومية، ومن لا يعرف معنى كل ذلك يمكنه أن ينشّط ذاكرته لتستعيد بعضا مما حل بالعراق بعد سقوط بغداد يوم التاسع من أبريل 2003 أو ما حصل في ليبيا في عام 2011.

فلم تعرف هذه المدن نهوضا بعد السقوط كما عرفته مدن عالمية أخرى نهضت من بين الرماد كما ينهض طائر الفينيق في الأسطورة الإغريقية.

تستحق دمشق الرثاء فقد كانت عاصمة الخلافة ومهد الحضارة والأبجدية، والمدينة التي علّمت الكون الكتابة ليس نقشا على الحجر فقط ولكن نقشا في وجدان الإنسانية في لحظات تشكلها الأولى. ودمشق ليست مدينة عادية أو عابرة في سياقها التاريخي ومركزيتها الحديثة، إنها وطن بحجم أمة، وحلم بحجم مجد يأبى الانكسار. كانت دمشقُ قبلة القلوب والعقول، وأصبحت في طريق يبدو مسدودا لا يمكن قراءته إلا عبر استحضار ما حل بسواها من المدن العربية التي مرت بالتجارب نفسها، والخوف أنها تذهب الآن للمصير نفسه، وهو مصير لا تستحقه دمشق كما لا تستحقه أي مدينة أخرى في العالم أو أي بشر يتوقون للحياة.

إنها لحظة حاسمة ومفصلية في تاريخ سوريا وفي تاريخ مدنها الأخرى التي لا تقل مكانة عن دمشق: حلب وحمص وحماة وكل الثغور السورية التي صمدت في وجه الأطماع عبر التاريخ لتثبت للعالم أن حركة التاريخ الحقيقية ليست في سقوط دمشق كما قالت وسائل إعلامية عربية أمس وإنما حركة التاريخ الحقيقية، في هذه اللحظة بالذات، هي في وعي الشعب السوري للحفاظ على سوريا وعلى وحدتها وعلى كيان الدولة فيها من الانهيار المؤسسي والفوضى ومن الذهاب للطائفية والمذهبية وإشعال نيران الانتقام التي إن بدأت فلن ينطفئ حقدها؛ لأن كل انتقام يزرع بذور انتقام آخر في دائرة ستنهي تاريخ سوريا وأمجادها العربية وتجرف السياق الحضاري الكامن في أعماق الشعب السوري الذي طالما استمدت الأمة منه بعض يقينها وحلمها بالمستقبل واستمدت منه الإنسانية الكثير من عبقريتها وإبداعها.

وإذا كانت هذه اللحظة منعطفا تاريخيا بالنسبة لسوريا فإنها كذلك للأمة العربية والمنطقة بأكملها، وإذا كان ما حدث للعالم العربي خلال العقدين الماضيين يحيلنا مباشرة إلى سقوط بغداد في يد الغزو الأمريكي فإن ما ينتظر العالم العربي والمنطقة بأسرها سيبقى يحيلنا إلى ما حدث في دمشق إذا لم يمتلك الشعب السوري وعيه الكامل بحقيقة اللحظة التاريخية التي يمر بها بعيدا عن وهم الفتح والنصر الذي حاولت شخصيات سياسية عالمية ومؤسسات إعلامية تكريسه في الوعي السوري المأخوذ باللحظة وفي الوعي العربي المأخوذ بالمفاجأة.

إن رثاء المدن أقسى بكثير من رثاء الأفراد الذين يرحلون في سياق حركة الحياة الطبيعية واليومية مهما كان تأثيرهم ومهما كانت بصمتهم الوجدانية؛ فالمدن هي الأوطان التي تحتوينا وتصنع حقيقتنا وقيمتنا وبدونها لا نستطيع أن نعيش أبدا.. ومن حفظ وطنه فقد حفظ نفسه، ومن أضاعه فقد أضاعها وأصبح بلا هُوية وبلا قيمة وبلا هامش حتى على قارعة التاريخ وحركته التي لا تتوقف.

تستحق سوريا بكل مدنها أكثر من قصيدة رثاء في هذه اللحظة الفاصلة من تاريخها وتاريخ الأمة العربية، وتستحق أن نضع أيدينا على قلوبنا خوفا عليها وعلى مآلاتها وعلى كيانها ونحن نستذكر مآلات عربية سابقة ولكنها لا تستعاد بالحسرة والبكاء بل بالوعي والعمل واللحمة الوطنية العربية التي تستطيع أن تعي معنى وحدة المصير.

بهذا الوعي الذي يمكن للسوريين أن يجدوا أصوله في تاريخهم وفي منجزهم الحضاري والثقافي وفي نقوشاتهم على أقدم رُقم في تاريخ البشرية وفي رواياتهم وأشعارهم المؤسسة للثقافة العربية، يمكن بناء حركة جديدة وحقيقية للتاريخ غير تلك التي تأخذهم اللحظة إليها.. وبهذا الوعي، أيضا، سيبقى ضوء دمشق ينير دروب المستقبل مهما كانت صعبة ومعقدة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی تاریخ

إقرأ أيضاً:

أريد أن تكون في حياتي من جديد وأعدها بالحب الأكيد

ضرب من المستحيل أن تعود إليّ بعد أن طلقتها
أريد أن تكون في حياتي من جديد وأعدها بالحب الأكيد
بعد التحية والسلام، تقبلي مني سيدتي فائق عبارات الاحترام، لكل الطاقم القائم على هذه المنبر. منبر قلوب حائرة على موقع النهار اونلاين وأيضا لكل القراء الكرام المتفاعلين والأوفياء لما تقدمينه.
سيدتي يحدث للإنسان أن يعيش العمر كله على ذكرى جميلة مرت بحياته، أو بمعنى أدق على شخص يسلب تفكيرك، ويصبح المحور الذي يحرك كل تصرفاتك، أجل وهذا ما حصل معي بالضبط، فانا رجل عشت شبابي في طيش لا حدود له، إلى أن تعرفت على فتاة استطاعت بفضل أخلاقها وطيبة قلبها أن تغيرني من النقيض إلى النقيض، فانا الذي كنت يوميا أتعرف على فتاة جديدة قررت حين التقيت بها أن أستقر وأتزوجها، بالفعل كانت من نصيبي، وارتبطت بها، لم يتجاوز عمرها أنذاك ستة عشرة سنة، فيما كنت أنا في الرابعة والعشرين من عمري، بعد سنة من الزواج أنجبت لي ابني الأول، لكن في نفس الوقت بدأت بعض المشاكل تطفو على السطح، وكلها بسببي، أنجبت لي بعدها بنتين ما شاء الله، تحملت إلى جانبي مر الحياة، لأنني حينها أقدمت على تجارة وأفلست وخسرت كل ما عندي، إلا صبرها وحبها، اللذان لم أقدرهما، تعقدت الحياة بيننا، وصارت شبه مستحيلة، فطلبت الطلاق، وتخلت عن حضانة الأولاد، في الأول كابرت عن نفسي قليلا، لكن مع الوقت عرفت كم كانت خسارتي عظيمة، لكن بالرغم من ذلك لم أفكر أبدا في امرأة غيرها، وتفرغت لتربية أولادي وساعدني في ذلك أهلي، وكبروا الحمد لله، في نفس الوقت وفقني ربي في عمل آخر، وصارت أموري المادية مستقرة بفضل الله، الآن وبعد مرور أكثر من عشر سنوات أتمنى الرجوع إليها، لكن حين أفكر أنها قبلت أن ترتبط بغيري أصاب بغصة وأبتعد عن الفكرة، لكنها لم ترتبط، كانت مجرد خطبة وفسختها لأسباب يعلمها الله، ورغم كل هذا لازلت مكانتها في قلبي محفوظة، فما الحل من فضلك، ساعديني فأنا أريد النصيحة؟
أخوكم م.نسيب من الغرب الجزائري.

الــــــــــــــــــــــــــــــــــرد:

سلام الله عليك أخي الكريم، ومرحبا بك، أسعدتنا كثيرا بتواصلك مع منبرنا، و قد حملت رسالتك بين طياتها معاني الوفاء، والاعتراف بالجميل للفتاة التي جعلتك تتخلى عن طيشك وتفكر في التحليق على بساط الحلال لحياة كلها تناغم واستقرار، لكن حصل ما حصل، وفرض الطلاق نفسه بينكما، ولو أنني أعتقد أن صغر سنكما هو السبب في ذلك، فربما لم تجدا الناصح لما فيه الخير، لكن بالرغم من ذلك بقيت تكن لها فقط المشاعر الطيبة، والدليل أنك بقيت بلا زواج طيلة مدة طلاقكما.
سيدي، واضح جدا من خلال كلمات ورسالتك أنك ترغب حقا في العودة إلى أم أولادك، لذا أرى أن تستخير الله تعالى، وأن تقوم بالخطوة في القريب العاجل وقبل فوات الأوان إن كان في ذلك خيرا، ولا تفكر في خطوبتها التي فسختها وهذا ما جاء في رسالتك، فهي حتى ولو خُطبت فربما كانت مضغوطة أو مجبرة على القبول، فلا تصاب بالغصة لخطبة لم تتم، وهذا ما جعلني أقول أنك يجب أن تبادر أن بخطوة لمراجعتها بعد هذا العمر، فاذهب لأهلها، وتحدث إليهم وإليها، وقل لهم قولا لينا عسا أن تحرك قلبها من جديد، فغلا أنت ارتبط ولا هي ارتبط، فربما القدر يريدكما أن تشيخا معا وتلملما جراح بعضكما، ويفرح بذلك الأولاد، وتشرق شمس السعادة التي كانت غائبة عنكم، وإن حصل خيرا واجتمعتما تحت سقف واحد مرة أخرى حولا أن لا تجترا الماضي الأليم والذكريات السيئة، واستمتعا فيما هو آت، وبالتوفيق إن شاء الله.

إضغط على الصورة لتحميل تطبيق النهار للإطلاع على كل الآخبار على البلاي ستور

إضغط على الصورة لتحميل تطبيق النهار للإطلاع على كل الآخبار على البلاي ستور

مقالات مشابهة

  • فينيسيوس يودع لوكا مودريتش: كانت كرة القدم التي تقدمها فنا
  • جامعة الدول العربية تكرّم ولي عهد الفجيرة بجائزة يوم الاستدامة العربي
  • المؤتمر: بيان «اللجنة العربية» يعكس وحدة الموقف العربي الإسلامي تجاه القضية الفلسطينية
  • المؤتمر: بيان اللجنة العربية الإسلامية يعكس وحدة الموقف العربي الإسلامي تجاه القضية الفلسطينية
  • رئيس اتحاد غرف الزراعة يبحث مع لجنة المصدرين الزراعيين المعوقات التي تعترض عملهم
  • في لقاء جمع العليمي والعرادة بالسفير الأمريكي.. الرئيس يدعو لاستثمار اللحظة وتوجيه هزيمة حاسمة للحوثيين وتجريدهم من الأرض والمال والسلاح
  • أريد أن تكون في حياتي من جديد وأعدها بالحب الأكيد
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: كامل إدريس .. رهانات اللحظة ومتغيرات السياسة
  • الشيباني: زيارة فورد إلى دمشق كانت بهدف الاطلاع على التجربة الثورية السورية
  • من وصول أولى دفعات الحجاج السوريين إلى مطار جدة في المملكة العربية السعودية