1-«فرحة»:
أخي القارئ، أتحسب أن هذا اسمها؟ لا يا صاحبي، ليس ذاك اسمها، ولن أفصح عنه. لقد أحببتها حبًّا جمًّا، حبًّا فريدًا لا يضاهيه شيء؛ فقد كانت ذات ملامح آسرة وروح وضّاءة، لا تلقاني إلا وابتسامة بهية تشرق على محياها. نشأت في كنف أسرة متواضعة، لأب يعيل جمعًا من الأبناء، وكانت هي واسطة عقدهم، فلم تنل حظوة الابن الأكبر ولا تدليل آخر العنقود، فغدت شبه منسية، وكأنها طيف لا وجود له، إذ كان الاهتمام والحنان شحيحين.
ومع هذا، عاشت طفولتها قانعة هانئة. ترعرعت وبلغت أوان الزواج، وما إن طرق أول خاطب باب أبيها، حتى وافق عليه الأب دون إبطاء أو تمحيص. فكان نصيبها من الزواج لا يختلف كثيرًا عن حالها في بيت أبيها؛ فالزوج قليل ذات اليد، يمتهن حرفة بسيطة لا تكاد تسد رمق العيش، ويعيبه بعض الطيش وقلة الاتزان، وشيء من الدهاء. ومع ذلك، رضيت به، بل وأحبّته بكل ما فيه من نقائص، فقد كان الرضا قرين دربها على الدوام. عاشت مع زوجها خير زوجة صالحة، واجتهدت في تحمّل أعباء الحياة، وذلك بالكد في بعض الأعمال التي تدر دخلًا يسيرًا، لتساهم في مواجهة نوائب الدهر.
وما إن وضعت مولودها الأول، حتى قضى نحبه، ولم يكد يبلغ بضعة أشهر، فحمدت الله ورضيت واحتسبت. ثم رزقها الله ذرية صالحة من البنين والبنات، أثقلت كاهلها بأعباء جسام من تربية وتعليم وإنفاق. كنت أحبها كأمي، وكانت بحق جديرة بهذا الحب. فقد علمتني أمي الكثير بطريقة مباشرة، وهي أيضًا علمتني الكثير، ولكن بطريقة غير مباشرة، وذلك بمجرد تأمل أحوالها وأفعالها.
فقد تعلمت منها كيف يكون العطاء حتى وأنت لا تملك الكثير، وكيف أن العطاء المعنوي أجدى وأنفع من العطاء المادي؛ فابتسامة وبشاشة عند اللقاء، ودعوة صادقة من القلب، وحب حقيقي لا زيف فيه ولا مراء، هو بحق عطاء جزيل. وتعلمت منها أيضًا كيف يكون جمال الروح سببًا لجمال الحياة، حتى وإن ضاقت بنا السبل، وكيف يكون حسن المعشر ورقي التعامل ديدن ذوي الأصل الكريم.
أما أهم درس تلقيته منها، فهو كيف يكون الرضا أسلوب حياة، وكيف يكون حمد الله تطبيقًا عمليًّا فعليًّا، لا قولًا لفظيًّا فحسب، حتى ولو أطبقت عليك الدنيا بأسرها.أذكر يومًا، وأنا صبي، أن ذهبت جدتي لزيارتها في المستشفى، حيث كان ابنها البكر يعالج من مرض عضال قلما يشفى منه أحد.
وحين عادت جدتي إلى المنزل، كانت متبرمة جدًا، يظهر الغيظ على ملامحها، فظننا أن ذلك من جراء حزنها على ابن جارتها المريض، لكنها تحدثت إلينا قائلة: «ذهبت لزيارتها لأطمئن على ابنها، وحين دخلت عليها، استقبلتني هاشة باشة، ووجهها مضيء وكأنها في ليلة عرس، وليست على شفا مأتم لفلذة كبدها. فالابن يحتضر، ويملأ الغرفة صراخا من شدة الألم، ولا يبدو أن هناك أثرًا لذلك على ملامحها».
وبعد هنيهة، إذا بصوت أذان العصر يرتفع، فاستأذنت مني لتتوضأ وتصلي الفرض في وقته الأول. وبالفعل، تركتني مع الابن المحتضر وذهبت للصلاة، والدهشة تملؤني. كيف لها أن تترك ابنها على هذا الوضع وتذهب للصلاة؟ فالأم منا إذا اشتكى ولدها من ألم، فإن عقلها يذهب وتنسى الدنيا بما فيها، فما بال هذه المرأة؟ أما أنا، فلم أندهش مما روته جدتي، وحدّثت نفسي قائلًا: «عجبًا لجدتي! أتلوم المرأة على أنها رضيت بقضاء الله، وصبرت واحتسبت، وتركت الأسباب ولجأت إلى رب الأسباب!».
2- «براءة»:
مع الفجر، كنت دائمًا أنتظر قدومه... كان يحضر لينثر البهجة في الأرجاء، بصوته العذب، وضحكاته الرنانة، وروح الدعابة التي يمتلكها، وكأنما يحمل مفتاح الفرح أينما حلّ.
كان صبيًا صغيرًا يعمل مساعدًا لصاحب عربة الفول: يغسل الأطباق، ويقدم الطعام للزبائن.
كنت أراقبه في صمت، يملؤني العجب من تصرفاته وسلوكياته، وأسأل نفسي: من أين له بكل هذه السعادة والرضا، رغم بؤسه وفقره، ورغم أن قسوة الحاجة قد دفعته إلى العمل وتحمّل المسؤولية مبكرًا جدًا؟
لم تكن معاناته تقتصر على الفقر فحسب؛ فقد كان وجهه يحمل آثار حريق قديم، شوّه ملامحه، ومع ذلك، كان يُقبل على الحياة بقلب مفعم بالسرور والرضا!
تُرى، ما السر؟ هل لأن الطفولة ما زالت تحجب عنه قسوة الواقع، فيعيش سعيدًا بجهله بمرارة الحياة؟ (لا أدري!) أم تراه يمتلك دماغًا يفرز هرمونات السعادة بقدر يفوق سائر الناس؟ (لا أدري!)
أم أن فطرته السليمة، ونفسه المتوكلة على خالقها، هما ما يغذيان قلبه بالأمل، ويجعلان عينيه لا ترى إلا أن الغد أجمل مما مضى؟ (حقًا لا أدري!)
3- «لحاف»:
كان شابًا يافعًا، بهي الطلعة، دمث الأخلاق، مهذبًا محبوبًا من الجميع. لكنه كان يتيم الأم، بلا إخوة يشاركونه درب الحياة، أما والده، فكان رجلاً رقيق القلب، عوّضه بحنانه عن يتمه ووحدته، وكان ذا مال وفير وحال ميسور.
شاءت الأقدار أن يُبتلى هذا الشاب بمرض عضال لا يُرتجى منه شفاء. غير أن والده أصر على علاجه، مرددًا بثقة: «سأداويك حتى لو أنفقت كل ما أملك».
وبالفعل، بدأ الأب رحلة العلاج، يجوب المستشفيات وينفق ماله بلا تردد، حتى أفنى ثروته حبًا بابنه ورغبة في شفائه. لكن إرادة الله كانت فوق كل شيء؛ فلم يُكتب للشاب الشفاء، ورحل والده عن الدنيا، تاركًا ابنه مريضًا، وحيدًا، بلا سند ولا مال.
ومع ذلك، عاش الشاب سنوات طويلة، حاملًا مرضه برضا عجيب، مستسلمًا لقضاء الله وقدره بطمأنينة نادرة. وكنت كلما التقيته، أراه يُقبل عليّ بوجه بشوش وروح مضيئة، فأشعر بجمال روحه، وقوة الرضا التي تغلف قلبه كحُلة لا تُثقلها الأحزان. ومن عجائب الأقدار أن اسمه كان له نصيب من معناه؛ إذ كان مشتقًا من كلمة «الصبر»، وكأنما اسمه قد خطّ له قدره منذ البداية.
4-«بؤس»:
في روايته الرائعة «شجرة البؤس»، يسرد طه حسين قصة رجلٍ تزوج بامرأة دميمة، نزولاً عند رغبة أبيه.
ورغم قلة حظها من الجمال، عاش معها أيامًا ملؤها الرضا والسعادة، مكتفيًا بحبها الصادق وطاعتها له.
غير أن القدر شاء أن يرزقهما بطفلة فائقة الحسن، تفيض جمالًا وروعة، فغمره الفرح وأخذه الزهو بابنته البديعة.
عندها، وللمرة الأولى، التفت إلى قبح زوجته، وأخذ يقارن بين جمال ابنته وقبح أمها.
بل بلغ به الأمر أن أصبح يعاير زوجته بدمامتها، ويُظهر لها ندمه على هذا الزواج الذي ارتضاه يومًا.
هكذا، انقلب حاله؛ بعدما كان يعيش في نعيم الرضا، غرق في مستنقع السخط والبؤس، وتحولت حياته إلى مرارة لا تطاق.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: کیف یکون
إقرأ أيضاً:
ثورة في إنقاص الوزن.. طعامك قد يكون الدواء الجديد!
في زمنٍ باتت فيه أدوية إنقاص الوزن مثل “أوزمبيك” و”ويغوفي” من الأكثر رواجاً حول العالم، تظهر نتائج علمية لافتة تبشّر بإمكانية الاستغناء عن العقاقير، والاعتماد على النظام الغذائي وحده لتحفيز هرمون الشبع GLP-1، الذي يساعد الجسم على خسارة الوزن بشكل طبيعي ودون آثار جانبية.
وبحسب الدراسات، تحفز بعض الأطعمة والعادات الغذائية إنتاج هرمون GLP-1 بشكل طبيعي، ما يساعد على إنقاص الوزن دون الحاجة لاستخدام أدوية، مثل “سيماغلوتايد” (أوزمبيك وويغوفي)، وعلى الرغم من الانتشار الواسع لاستخدام هذه الأدوية، فإن الغالبية تفضل فقدان الوزن بطرق طبيعية وخالية من العقاقير، خاصة إذا أثبتت فعاليتها في محاكاة نفس آلية تأثير الأدوية.
ووفق الدراسات، تعمل أدوية “سيماغلوتايد” على زيادة هرمون GLP-1، الذي يبطئ الهضم ويقلل الشهية. كما تثبط إنزيماً يعطل هذا الهرمون، لذلك، يظل الشعور بالشبع لفترة طويلة، ما يساعد على تقليل كمية الطعام المستهلك وفقدان الوزن.
إلا أنه يمكن تحفيز هذا الهرمون بوسائل طبيعية عبر النظام الغذائي ونمط الأكل، وذلك من خلال:
زيادة تناول الألياف: تتواجد في الفاصوليا والخضراوات والحبوب الكاملة والمكسرات والبذور. وعندما تتخمر هذه الألياف في الأمعاء، تنتج أحماضاً دهنية قصيرة السلسلة تحفز إنتاج GLP-1، ما يساهم في فقدان الوزن حتى دون تقليل السعرات الحرارية. تناول الدهون الأحادية غير المشبعة: مثل زيت الزيتون وزيت الأفوكادو، التي تعزز مستوى GLP-1. وتظهر الدراسات أن تناول الخبز مع زيت الزيتون أو الأفوكادو يرفع من هذا الهرمون أكثر من الخبز وحده. ترتيب تناول الطعام: تناول البروتين والخضراوات قبل الكربوهيدرات يرفع مستوى GLP-1 أكثر من العكس. تنظيم وقت الوجبات: تناول الطعام في الصباح يحفز إفراز GLP-1 أكثر من مفعول الوجبة نفسها في المساء. سرعة تناول الطعام والمضغ: تناول الطعام ببطء ومضغه جيداً يزيدان من إفراز GLP-1.ورغم أن الطرق الطبيعية لرفع مستوى GLP-1 أقل فعالية بكثير من الأدوية، إلا أن النظام الغذائي الصحي والمتوازن يقلل من مخاطر أمراض القلب على المدى الطويل بنسبة 30%، متفوقاً بذلك على أدوية GLP-1 التي تقلل الخطر بنسبة 20%.
يذكر أنه في السنوات الأخيرة، أصبح هرمون GLP-1 أحد أكثر الموضوعات بحثاً في مجالات السمنة والسكري وصحة القلب. يُفرز هذا الهرمون بشكل طبيعي في الأمعاء استجابةً لتناول الطعام، ويؤدي دوراً محورياً في تنظيم مستويات السكر في الدم، وكبح الشهية، وإبطاء عملية الهضم، مما يمنح الجسم إحساساً بالشبع يدوم لفترة أطول.
وشهرة هذا الهرمون انفجرت مع استخدام أدوية “سيماغلوتايد” (مثل أوزمبيك وويغوفي)، التي تعمل على محاكاة تأثيره أو زيادة مستوياته في الجسم. وقد أظهرت الدراسات أن هذه الأدوية لا تساعد فقط في فقدان الوزن، بل تقلل أيضاً من خطر الإصابة بأمراض القلب بنسبة تصل إلى 20%.
لكن في المقابل، لا تخلو هذه الأدوية من آثار جانبية محتملة، مثل الغثيان أو مشاكل الجهاز الهضمي، فضلاً عن تكلفتها العالية وصعوبة الحصول عليها في بعض الدول. لهذا، بدأ الباحثون في استكشاف السبل الطبيعية لتحفيز GLP-1، مما أدى إلى بروز أهمية النظام الغذائي ونمط الحياة كبدائل فعالة وآمنة.
وفي وقت تتزايد فيه معدلات السمنة والسكري عالمياً، تتزايد الحاجة لحلول مستدامة لا تعتمد فقط على الأدوية، بل تدمج بين العلم والتغذية ووعي الأفراد، وهو ما يجعل هذا النوع من الأبحاث محط اهتمام الملايين حول العالم.