العقيدة هي أساس الدين والموجّه الأكبر للحياة في جملتها فردية وجماعية
تاريخ النشر: 31st, December 2024 GMT
العقيدة هي أصل الإسلام وروحه، وهي التي تحدد هوية المسلم وتشكل إيمانه وعلاقته بالله والعالم من حوله. ولذلك ينصح العلماء المسلم بالسعى لفهم عقيدته وتقويتها من خلال العلم والعمل الصالح.
وتحتل العقيدة في الإسلام مكانةً مركزية وعظيمة، فهي الأساس الذي يبنى عليه الدين وأصل كل العبادات والأعمال. وتتجلى مكانتها أولا في كونها الأساس الذي يقوم عليه الإسلام، فهي تمثل الركن الأول من أركان الإسلام، وهي الشهادتان: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهي تشمل الإيمان بأركان الستة، والعقيدة الصحيحة هي مفتاح الجنة وشرط النجاة في الآخرة.
الدكتور عبد المجيد النجار المفكر الإسلامي التونسي، والعالم المتخصص في قضايا الفكر الإسلامي والفلسفة، يعيد في هذه الأوراق التي ننشرها بالتزامن مع نشرها على صفحته على منصة "فيسبوك"، فتح ملف العقيدة مفهوما وأركانا ودلالات، وهو يربط في ذلك ليس فقط بين المفهوم الشرعي والواقعي اليوم، وإنما أيضا يربط بين التراث والواقع بشكل مبدع.
مدلول العقيدة
العقيدة هي الأساس الذي يُبنى عليه الدين كلّه، وهي المرجع الذي يوجّه كلّ الأحكام، ما كان منها منصوصا عليه، وما كان اجتهاديا؛ ولذلك فإنّ الصورة التي يتمّ عليها الاعتقاد صحّة أو فسادا، واستقامة أو انحرافا، هي التي تكون محدّدا أساسيا لمدى صحّة الأحكام واستقامتها، كما تكون المحدّد لجميع تصرّفات الأمّة من أجل بنائها الحضاري الشامل، فإذا ما أصابها خلل اختلّ به التديّن في جملته، وهو الأمر الذي دعا المسلمين إلى أن يؤسّسوا علما من أهمّ علومهم هو علم العقيدة، مهمّته شرح المعتقدات الإسلامية، وتقوية الإيمان بها، وحراستها من التحريف والتبديل.
حينما نبحث في الأصول النصية أو حتى في كتب التراث عن تعريف للعقيدة يضبط مدلولها بصفة محددة فإننا لا نظفر في ذلك بما يفي بالغرض، ولكن ظل متعارفا بين المسلمين مدلول جملي للعقيدة يتمثل في تلك الحقائق التي جاء بها الدين وطلب من المسلم أن يتحملها بالتصديق القلبي حتى إذا ما خرج بعض منها من نطاق التصديق انتفت بسبب ذلك صفة الإيمان، فانتقض الاعتقاد جملة، أو ضعف ضعفا شديدا إذا كانت المفردات المتخلفة من التصديق ذات طابع جزئي.وإذا كانت العقيدة الإسلامية خلاف أديان كثيرة أخرى بقيت محفوظة لم ينلها تحريف عند عموم الأمة، إلا أنّ ملابسات عديدة أحاطت بها في بعض الأزمان، وعند بعض المسلمين، يتعلق بعضها بمفهوم العقيدة نفسه، ويتعلق بعضها الآخر بمفرداتها وبمنهجية عرضها، وهذه الملابسات تراكمت عبر التاريخ، وتفاعلت مع الأحداث، فآل الأمر بها إلى أن أصبحت المرجعية العقدية عند الكثير من المسلمين لا تقوم بدورها الكامل في توجيه الفكر والسلوك حتى وإن كان ما هو حاصل منها متصفا بالسلامة والصحة، وهو الأمر الذي يستدعي مراجعة لهذا الوضع العقدي من تلك الجهات التي غشيتها الملابسات.
بما أنّ العقيدة هي أساس الدين، وهي الموجّه الأكبر للحياة في جملتها فردية وجماعية، فإنّ المدلول الذي ينطبع في أذهان الناس عنها فيما تشمله من المفردات، والذي يكون هو الموجّه لحركة التدين السلوكية بأكملها ستكون له أهمية بالغة في طبع تلك الحركة بطابعه، إذ هذا المدلول بما يشمله من مفردات سعة وضيقا، وبما يحلّ به في النفوس سطحية وعمقا هو الذي سيكون المحدّد الأصلي للهوية الإسلامية، والمحرك الأساسي لحركة الحياة، والطابع لها بطابعه المميز، فبحسب ما يكون تصوره في الأذهان سعة وضيقا، ووضوحا وغموضا، يكون عمل العقيدة في النفوس تحقيقا للهوية الإسلامية فيها، ودفعا لها إلى الفعل من أجل التعمير، وذلك بمقتضى كون العقيدة الإسلامية هي المنشئ لكلّ ذلك والدافع إليه.
وعلى سبيل التوضيح فإن عقيدة يمتدّ مدلولها ليشمل تحديد مهمّة للإنسان في حياته هي مهمّة التعمير في الأرض، فيكون أصلا من أصولها سيكون أثرها في النفوس طبعا لهويتها، وتحديدا لعلاقتها العملية بالكون أثرا مختلفا لا محالة عن الأثر الذي تحدثه تلك العقيدة لو انحسر مدلولها عن تحديد هذه المهمة للإنسان، فأهملت فيها، أو اندرجت ضمن تعاليم ثانوية في نطاق التشريعات العامّة، وإذن فإن مدلول العقيدة كما تتصوره الأذهان سعة وضيقا له بالغ الأثر في تحديد المسلك العملي الناشئ عنها.
وإذا كان مدلول العقيدة الإسلامية ظلّ في أذهان المسلمين مشتركا بين أجيال الأمّة في ثبوت امتداده على مساحة تمثّل الأسس الكبرى من المعاني العقدية مثل الوحدانية والنبوة والبعث وما تنطوي عليه من المعاني الجزئية، فإنه في مساحة أخرى من المعاني ظل عرضة للتمدّد والتقلص عبر تاريخ المسلمين، سواء كان ذلك عن شعور أو عن غير شعور، فإذا ببعض المعاني تعدّ من مدلولات العقيدة عند بعض الناس وفي بعض الأزمان وتعدّ خارجة عنها وإن تكن مندرجة ضمن التشريع العام عند بعض آخر وفي أزمنة أخرى.
وخذ في ذلك مثالا معنى الشمول الذي يقتضي تطبيق أحكام الشريعة في كافة مظاهر الحياة الاجتماعية، فقد ظل عند المسلمين أحد المدلولات الثابتة في العقيدة، ولكن شقًّا غير يسير من المسلمين في العصر الحاضر انسحب من أذهانهم هذا المدلول منذ بعض الزمن، فإذا تطبيق تلك الأحكام عندهم غير مندرج ضمن مدلول العقيدة، وهو بالتالي غير ملزم من الوجهة العقدية، فانحسر إذن مدلول العقيدة في تصوّرهم عن هذه المساحة من المعاني. ولا شك أن لهذا الاضطراب في مدلول العقيدة أثره السلبي في حياة الأمة، مما يستلزم مراجعة ينعدل بها هذا المدلول ليعود إلى ما كان عليه.
وحينما نبحث في الأصول النصية أو حتى في كتب التراث عن تعريف للعقيدة يضبط مدلولها بصفة محددة فإننا لا نظفر في ذلك بما يفي بالغرض، ولكن ظل متعارفا بين المسلمين مدلول جملي للعقيدة يتمثل في تلك الحقائق التي جاء بها الدين وطلب من المسلم أن يتحملها بالتصديق القلبي حتى إذا ما خرج بعض منها من نطاق التصديق انتفت بسبب ذلك صفة الإيمان، فانتقض الاعتقاد جملة، أو ضعف ضعفا شديدا إذا كانت المفردات المتخلفة من التصديق ذات طابع جزئي.
وقد كان هذا المدلول الجملي المتعارف بين المسلمين متأسسا على حديث نبوي جاء يحدّد حقيقة الإيمان، فجعلت هذه الحقيقة مدلولا للعقيدة. وهذا الحديث هو قوله: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره". والحقيقة أن مدلول العقيدة في هذا الحديث مدلول مجمل، وهو يحيل على مساحة أخرى واسعة من معاني العقيدة في الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الإيمان برسول الله المراد به " الإيمان بوجوده وبما جاء به عن ربه " فالتصديق بكل ما جاء به النبي من أحكام ثبتت نسبتها إليه هو جزء من مدلول العقيدة حسب هذا التعريف.
والمتأمل في القرآن الكريم يجد في بيانه مصداقا لهذا المدلول العام للعقيدة بحيث يشمل هذا المدلول الإيمان بكل ما جاء من عند الله في القرآن والحديث من أوامر ونواه، فإنكار أي منها وتعطيل العمل به مع ثبوت نسبته إلى الوحي يعتبر ناقضا للعقيدة، أو ناقصا بها عن الحدّ المطلوب، وهو مدلول قوله تعالى:﴿المائدة/44﴾، وقوله تعالى: ﴿ النساء/ 65﴾ ففي هاتين الآيتين نفي لصفة الإيمان عمّن أنكر حقّية التعاليم الإلهية بعد ثبوتها، أو عطّل العمل بها تعطيل جحود.
وبمفهوم المخالفة فإن مدلول العقيدة يمتدّ ليشمل الإيمان بكل هذه التعاليم تصديقا بحقيتها، وبوجوب العمل بها.
وقد ظل هذا المدلول العام للعقيدة هو المدلول السائد في أذهان المسلمين طيلة العهد الأول، حيث لم يظهر تخصيص لهذا المدلول بمعان دون غيرها مما هو مطلوب من الدين على وجه القطع، سواء كان طلبه تصديقا بالقلب، أو تصديقا بالقلب وعملا بالسلوك، وقد بدا ذلك بيّنا في أقوال الصحابة والتابعين، كما بدا في بواكير المؤلفات العلمية على يد أوائل العلماء من الأئمة وهم المعبّرون عن ضمير الأمّة، والممثلون لتوجّهها العام في التديّن، فالكتب المروية عن هؤلاء الأئمة كانت تمتزج فيها من حيث التصديق أحكام الدين المتعلقة بوجود الله وتوحيده، وبالنبوة واليوم الآخر مع أحكام الدين المتعلقة بالصلاة والزكاة والحج في سياق أنها جميعا تمثّل مدلولا للاعتقاد باعتبارها مطلوبات دينية يتوجّب الإيمان بحقيتها وبالعمل بها.
وبتقدّم الحركة العلمية نشأ في القرن الثاني علم خاص بالعقيدة هو علم الكلام أو علم التوحيد أو الفقه الأكبر، وبرزت في هذا العلم قضايا من الدين دون أخرى، وذلك بسبب ما كانت تتعرض له تلك القضايا من تحدّيات من قبل أهل الأديان والثقافات القديمة، مثل التوحيد والبعث ونبوة محمد ، أو ما كانت تتعرض له من تحدّيات من قبل تفاعلات الحياة الاجتماعية مثل قضية الإيمان والقدر .ثم ظلت تلك القضايا تزداد في هذا العلم بتزايد الطوارئ المتحدّية عبر الزمن حتى استقر علم العقيدة على المواضيع التي استقرّ عليها عندما كمل نضجه وتوقّف نموه في القرن الخامس للهجرة.
والمتأمل في المواضيع التي تناولها علم العقيدة بالبحث كما انتهت إليه في كبرى المدونات الجامعة لهذا العلم مثل كتاب المواقف لعضد الدين الإيجي ﴿ت 756 هـ﴾ بشرح السيد الشريف الجرجاني ﴿ت 816 هـ﴾ يجد أنها لم تغطّ كل مساحة مدلول العقيدة، بل هي تناولت قضايا أساسية كبرى تتركز على وجود الله تعالى وصفاته، والنبوة والبعث، والقضاء والقدر والإيمان، وما يتعلق بها من مسائل فرعية، وما يمهّد لإثباتها من مقدّمات هي من خارج العقيدة أصلا مثل مسائل طبيعية وأخرى نظرية عقلية.
والسبب في اقتصار علم العقيدة على هذه القضايا دون غيرها أن هذا العلم نشأ علما ذا غاية دفاعية، إذ هو كما استقر عليه الأمر في تعريفه: " علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه"، فهو إذن معنيّ بالمسائل العقدية التي يقتضي الحال الدفاع عنها إثباتا لها وردا للشبه الموجهة إليها، واندراج المسائل فيه إنما كان بناء على الحاجة إلى الدفاع عنها، إما بأسباب خارجية أو داخلية، وقد كان الأمر كذلك تاريخيا، فنشوء أبحاث في هذه المسائل كان متطاولا في الزمن بحسب حدوث الأسباب الداعية للدفاع، والمسائل التي لم تدع حاجة إلى الدفاع عنها لم تدرج بصفة أساسية في علم العقيدة، فلم تصبح ضمن مسائله إلا أن تكون بصفة عارضة.
لقد جاء في القرآن المكي وهو المؤسس للعقيدة في النفوس وصل دائم بين حقائق الوحدانية والبعث والنبوة، وبين مفاهيم اجتماعية مثل كفالة اليتامى والمساكين، والقيام بالعمل الصالح، وفي ذلك أبلغ الدلالة على تعدّي دلالة العقيدة من ذلك البعد الغيبي النظري المؤسّس إلى مثل تلك المفردات ذات البعد العملي المتعلق بأوجه الحياة الفردية والاجتماعية في مختلف مناحيها.ولما توقّف الفكر الإسلامي عموما عن النمو والإبداع بعد القرن الخامس، ومن ضمنه الفكر العقدي، كَلّ هذا الفكر عن مهمّة الدفاع عن العقيدة بالتصدّي للتحدّيات المستجدة الموجّهة لمسائل دينية بعض منها قد لا يكون تعرّض إلى مثل تلك التحديات، فلم يقع إذن إدراجه ضمن دائرة علم العقيدة كما كانت تدرج من قبل تلك المسائل التي تدعو الحاجة إلى الدفاع عنها تباعا بمقتضى تعرضها للتحدّيات، وبذلك توقف هذا العلم في مسائله، وانغلق على مواضيعه السابقة، وأصبح العمل فيه لا يعدو أن يكون ترتيبا وتبويبا، أو شرحا وتوسيعا، أو اختصارا وتهذيبا.
وبمرور الزمن أصبح كثير من خالفي المسلمين يقع في نفوسهم الظنّ بأن مدلول العقيدة الإسلامية إنما هو محدود بحدود المسائل التي شملها علم العقيدة وانغلق عليها بحكم توقفه عن النمو قرونا طويلة، وأما ما عدا ذلك من مسائل الدين فهي مسائل شرعية وليست عقدية، فلم تدرج ضمن هذا المدلول، ولم يكن لها إذن منزلة من الرسوخ في النفس والتأسس فيها كما كان لتلك المسائل الأخرى، ولم يكن لها بالتالي موقع التوجيه والدفع الذي يكون للمسائل المندرجة ضمن مدلول العقيدة، إذ تلك المسائل بمقتضى صفتها العقدية هي التي تشكل الموقف الديني العام للفرد المسلم كما للأمة عامة، وهي التي توجه الحياة كلها، إذ العقيدة هي الموجّهة للحياة.
ولو تأملت أوضاع المسلمين من حيث مدلول العقيدة في أفهامهم، كما انتهى إليه الأمر منذ قرون، وكما هو الأمر اليوم عند عامة المسلمين، بل عند كثير من خاصّتهم المتعلمين وعند بعض من المختصّين في علوم الدين، لو تأملت ذلك لوجدت أن هذا المدلول يتركّز على القضايا الأساسية في العقيدة وهي الإيمان بالله والنبوة والوحي والملائكة والقدر، وما هو مندرج ضمنها، وأنه لا يتّسع لمسائل أخرى ذات معان عقدية أيضا، يدخل التصديق بها إلى دائرة الإيمان، ويخرج التكذيب بها إلى دائرة الكفر، ومن أمثلتها مسألة شمولية الدين، والروح كجزء من التركيب الإنساني، ومهمّة الخلافة في الأرض كغاية لحياة الإنسان، والعدالة الاجتماعية كقاعدة في بناء المجتمع. فهذه المسائل وأمثالها بالرغم ممّا لها من مدخل في تحقق الإيمان وعدمه، فإنها لا تدخل اليوم ضمن دائرة المدلول العقدي عند الكثير من المسلمين، وإنما هي عندهم مسائل شرعية لا ترقى إلى درجة الاعتقاد، ولا تراها تدرج في اهتماماتهم التعليمية والدعوية ضمن المؤلفات والبيانات العقدية.
وقد أدّى هذا الانحسار في مدلول العقيدة في الذهنية الإسلامية إلى نزوع هذا المدلول منزعا تجريديا ابتعد به عن وجوه الحياة العملية، حيث أصبحت الأذهان تنصرف في تحمّلها للعقيدة إلى عالم الغيب دون وصل له بعالم الشهادة من واقع الحياة الجارية، إذ كأنما الاعتقاد يقتصر على الاعتقاد بالغيب، وكان لذلك انعكاس سيئ على الحياة العملية للمسلمين، إذ تقاعست هذه الحياة عن الاندفاع نحو التعمير في الأرض باستثمار الكون، وبترقية الإنسان بالحرية والعدالة والسعي الدؤوب لتحقيق الخلافة، فهذه مسائل خارجة في دائرة الوعي عن أن تكون مسائل عقدية، وماذا يدفع إلى توجيه الحياة إليها إذا لم يكن الإيمان بأنها من صلب العقيدة الإسلامية؟ ويشيع اليوم في دوائر الكثير من الدعاة، والمؤسسات الدعوية والتعليمية الدينية فضلا عن دوائر العامة من المسلمين أنّ مسائل مثل الإيمان بالجن وبعذاب القبر هي على سبيل المثال من مفردات الاعتقاد الأساسية بينما لا تدرج مسألة العدالة الاجتماعية أو مهمّة الخلافة في الأرض غاية للحياة، أو تكريم الإنسان وحفظ حقوقه ضمن الاهتمام العقدي، فكيف إذن يمكن أن تتّجه حياة المسلمين في اتّجاه الترقية الاجتماعية والتعمير في الأرض؟
ومن ذلك يتبين أن الضرورة تدعو كعامل من عوامل الدفع بالأمّة نحو الرقيّ المعنوي والمادّي أن يتمّ ترشيد تحمّلها لمدلول العقيدة بتوسيع هذا المدلول في الأذهان حتى يشمل دائرة من المسائل أفسح من هذه المسائل التي يشملها الآن، ولتكون صورته في النفوس كحقيقته في واقع الأمر كما جاء في القرآن والحديث، وكصورته التي كان عليها في أذهان أوائل المسلمين حينما كانوا يفهمون انطلاقهم في الآفاق لنشر الدعوة، وتحرير العباد من الاستبداد، والتعمير في الأرض على أن كل ذلك يندرج ضمن مدلول العقيدة، فكان انطلاقهم فاعلا، وإنجازهم الحضاري مشهودا، وما كانوا في ذلك الفهم لمدلول العقيدة إلاّ صادرين عن روح القرآن والحديث في تعدية هذا المدلول إلى دائرة واسعة من تعاليم الدين ذات البعد العملي هي أوسع بكثير من تلك التعاليم ذات البعد النظري وإن تكن هي الأساس الأول للاعتقاد.
لقد جاء في القرآن المكي وهو المؤسس للعقيدة في النفوس وصل دائم بين حقائق الوحدانية والبعث والنبوة، وبين مفاهيم اجتماعية مثل كفالة اليتامى والمساكين، والقيام بالعمل الصالح، وفي ذلك أبلغ الدلالة على تعدّي دلالة العقيدة من ذلك البعد الغيبي النظري المؤسّس إلى مثل تلك المفردات ذات البعد العملي المتعلق بأوجه الحياة الفردية والاجتماعية في مختلف مناحيها.
وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن إعادة بناء الفهم العقدي بترتيب جديد لمفردات العقيدة في نطاق هذا المدلول؟
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير العقيدة الاسلام عقيدة مفهوم مكانة سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العقیدة الإسلامیة المسائل التی الدفاع عنها من المسلمین من المعانی فی النفوس من المسلم الدفاع عن هذا العلم فی القرآن فی أذهان فی الأرض عند بعض هی التی الموج ه بعض من فی ذلک الذی ی ما کان ما جاء
إقرأ أيضاً:
عودة سوريا إلى الخارطة الاقتصادية: المُبادر والسبّاق اليوم سيكون المُستفيد الأكبر غداً
صراحة نيوز ـ د. غازي إبراهيم العسّاف
أستاذ الاقتصاد – الجامعة الأردنية
فرضَت التغييرات الأخيرة التي جاءت نتيجة القرار الأميركي برفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا واقعاً جديداً على المشهد الاقتصادي في المنطقة، فالقرار السياسي والاقتصادي، الذي جاء بعد أشهرٍ من التغييرات السياسية التي حدثت في دمشق في ديسمبر من العام الماضي، هو بداية انفراجه كبيرة لدولة مزّقتها سنوات الصراع وأنهكتها العقوبات الدولية، إلا أنه وبلا شك فإنّ مثل هذه التحوّلات ستمتدُّ آثارها لتشمل دول الجوار، وعلى رأسها الأردن التي تنتظر فُرصاً اقتصادية واعدة مع عودة سوريا للخارطة الاقتصادية الإقليمية.
فخلال حوالي 14 عاماً مضَت، أحدَثت العُقوبات الاقتصادية على سوريا اختلالات هيكلية في الاقتصاد السوري وأغرقت البلاد في فقر مُدقع، إذ تُشير الأرقام الرسمية الى أنّ الناتج المحلي الإجمالي قد تراجع بشكل ملحوظ من 61 مليار دولار في 2010 إلى أقل من 6 مليارات دولار في 2024، بانكماش اقتصادي تجاوز 90%، في حين تراجعت الصادرات السورية من 18.4 مليار دولار في 2010 إلى 1.8 مليار دولار فقط في 2021 وفق احصائيات البنك الدولي. في المقابل فقدت الليرة السورية أكثر من 90% من قيمتها، الأمر الذي أدّى لحدوث حالة من التضخم الجامح وارتفاعاً كبيراً في معدلات الفقر لتطال أكثر من 90% من السكان.
لم يكن الأردن بمعزلٍ عن كُلّ هذه الأزمات المُتوالية التي عاشها الاقتصاد السوري، فقد استقبل الأردن حوالي 1.3 مليون سوري وفق التقديرات الحكومية، منهم 650 ألف لاجئ مسجل رسمياً، الأمر الذي فرض أعباءً مالية كبيرة وغير مسبوقة على خزينة الدولة والبنية التحتية، فعلى سبيل المثال تُشير أرقام وزارة التخطيط الأردنية بأنّ تكلفة استضافة اللاجئين بلغت نحو 2.5 مليار دولار سنوياً، أي حوالي 6% من الناتج المحلي الإجمالي للأردن. بالإضافة إلى ذلك، أدّت الاغلاقات المُتكررة للحدود بين البلدين إلى توقّف حركة تجارة الترانزيت عبر سوريا والذي كان يُشكل شريان حياة لكثير من القطاعات الاقتصادية الأردنية، إذ انعكس ذلك وبشكل ملحوظ على حجم التبادل التجاري بين البلدين، حيث انخفض من 500 مليون دولار سنوياً قبل الأزمة إلى أقل من 100 مليون دولار. كما وتأثّر قطاع النقل في الأردن بشكلٍ ملحوظٍ نتيجة تعرّضه لخسائر تُقدّر بحوالي 400 مليون دولار سنوياً، الأمر اضطرار الشاحنات للاعتماد على طرق بديلة أكثر تكلفة وأطول مسافة عبر البحر.
بدأ مسار العقوبات الاقتصادية الغربية على سوريا منذ العام 1979، إلا أنها تصاعدت بشكل كبير جداً بعد الثورة السورية في عام 2011، ففي 29 نيسان 2011 بدأ مسار العقوبات التصعيدي بالأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس الأمريكي حينها باراك أوباما لتجميد ممتلكات المتورطين في قمع المتظاهرين، تبعهُ الاتحاد الأوروبي بعقوبات مماثلة في أيار من العام نفسه. وتوالت بعدها موجات العقوبات لتشمل حظر الاتحاد الأوروبي للسلع الكمالية في حزيران 2012 وتشديد القيود في مجالات التسلح والاتصالات، الى أن بلغت العقوبات الاقتصادية على سوريا ذروتها مع “قانون قيصر” الذي أقّره الكونغرس الأمريكي في العام 2019 ودخل حيّز التنفيذ في حزيران 2020، فارضاً عقوبات ثانوية على أي طرف يتعامل مع الحكومة السورية في قطاعات حيوية.
إنّ هذا الانفراج الكبير الذي حدث اليوم للاقتصاد السوري والمُتمثل برفع العقوبات الاقتصادية هي حقبة اقتصادية جديدة ستعيشها سوريا بعون الله تعالى، الأمر الذي سيفتح وبلا شك بوابة فُرص ذهبيّة وواسعة أمام الأردن لتعزيز نموه الاقتصادي والخروج من أزمته المالية. فالكثير من القطاعات الاقتصادية في الأردن يُمكن أن تستفيد من هذه الفرص، أبرزها قطاع البناء والمواد الإنشائية والبنى التحتية إضافة إلى قطاع الصناعات الدوائية والغذائية والقطاع الزراعي، علاوة على القطاعات الخدمية، فالقطاع المصرفي الأردني، المعروف بقوّته وخبرته الإقليمية، يمكن أن يكون أحد أهم المستفيدين من استئناف العمليات المصرفية مع سوريا، إذ سيلعب هذا القطاع دوراً محورياً في تمويل التجارة وعمليات إعادة الإعمار، مستفيداً من علاقاته مع المؤسسات المالية الدولية.
علاوة على ذلك، سيشهدُ قطاع النقل في الأردن انتعاشاً كبيراً، حيث يُمكن أن يلعب ميناء العقبة دوراً استراتيجياً كبوابة لسوريا على البحر الأحمر، الأمر الذي بدوره يمكن أن يُعزّز عودة تدفّق آلاف الشاحنات عبر الطرق البرية نحو سوريا ومنها إلى تركيا وأوروبا، إذ تُشير التقديرات إلى أنّ استئناف حركة الترانزيت من الممكن أن يُخفّض تكاليف النقل بنسبة تصل إلى 30% وهذا بدوره سيعزز تنافسية الصادرات الأردنية، وبخاصّة إذا ما عاد حجم التدفق التجاري بين البلدين إلى حوالي 500 مليون دولار سنوياً قبل الأزمة. على صعيد آخر، فمن المُتوقّع أيضاً أن تُسرّع مسألة رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، وما لذلك من تسريع في عجلة الاقتصاد السوري وتحسُّن الأوضاع الاقتصادية، عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم وما سيترتب على ذلك من تخفيف تكاليف استضافة اللاجئين السوريين على الأردن، إذ تُشير الدراسات إلى أنّ عودة 20% فقط من اللاجئين ستوفر على الأردن حوالي 500 مليون دولار سنوياً.
من المهم ألّا ننسى أيضاً أنّه وبالرغم من الآفاق الواعدة للتحوّلات الاقتصادية الحاصلة في المنطقة، إلا أنّ هنالك تحديّات كبيرة تتمثل في أن الأردن سيُواجه مُنافسة شرسة في السوق السورية يمكن اعتبارها معركة الحصص السوقية، فالشركات التركية، المدعومة بقوة اقتصادية واستثمارية هائلة، تملك حُضوراً قوياً في مناطق شمال سوريا منذ سنوات عديدة، فلدى هذه الشركات خططاً طموحة لرفع التبادل التجاري مع الجانب السوري من نحو مليار دولار حالياً إلى 10 مليارات دولار في السنوات المقبلة.
همسة في أُذن الفريق الاقتصاديّ للحكومة الأردنية
ماذا يعني كُلّ ذلك بالنسبة للأردن؟ لابدّ أولاً أن نعي بأنّ ما يجري يمكن أن يكون فرصة اقتصادية تاريخية من الضروري استغلالها. فالدولة الأردنية مطالبة اليوم بضرورة تبنّي استراتيجية اقتصادية متكاملة تتوافق والتغييرات الإقليمية الحاصلة، إذ من المُهم أن تتضمن هذه الاستراتيجية إجراءات عاجلة من شأنها تعزيز القدرات التنافسية للمُنتجات الأردنية، وتطوير البنية التحتية اللوجستية عند المعابر الحدودية، واستثمار علاقات الأردن المتميّزة مع المؤسسات المالية الدولية، إضافة الى إنشاء آليات تمويل مبتكرة للمشاريع المشتركة مع سوريا. كما وينبغي اليوم توجيه الأنظار لتأسيس مناطق صناعية مشتركة على الحدود، والاستثمار في مشاريع الطاقة والمياه والزراعة التي ستكون بلا شك محورية في عمليات إعادة الإعمار التي ستشهدها بعون الله سوريا، وهذا يتطلّب أولاً تنسيق حكومي أردني دائم وفعّال لتبسيط الإجراءات البيروقراطية وتذليل العقبات التي قد تعترض المستثمرين وانسيابية حركة التجارة بين البلدين.
لا بُدّ للدولة الأردنية أن تُدرك اليوم بأنّ قصّة نجاح إعادة الإعمار في سوريا ستُكتب فُصولها في السّنوات العشر القادمة، وأنّ المُبادر والسبّاق اليوم سيكون المُستفيد الأكبر غداً، فعلى الرغم من الصعوبات والتحديات التي قد تظهر في بداية الأمر، تبدو الفرصة مواتية للأردن من أجل لعب دور محوري للتّسريع في إعادة سوريا للخارطة الاقتصادية، فالتحديات التي واجهها طوال سنوات الأزمة يمكن اليوم تحويلها إلى منافع اقتصادية ملموسة ستنعكسُ إيجاباً على الاقتصاد الأردني والمنطقة بأسرِها