تشكو مراكز الأبحاث من ضبابية في الرؤية. توقعات العامين الماضيين، منيت بالخيبة. حدث ما لم يكن في الحسبان.
منذ أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن اعترافه باستقلال منطقتي دونيتسك ولوغانسك، ونشر قواته فيهما، وكرة النار تتدحرج. العقوبات ضد روسيا انقلبت ضد أوروبا، وزلزلت المعايير. أحداث 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وما تبعها من مجازر في غزة، مستمرة رغم مرور سنة ونيف، غيرت الجغرافيا حولها، وأصداؤها تتردد في كل العالم.صارت الحرب في أوكرانيا والشرق الأوسط، مركز الاهتمام، ودينامو التحولات.
من كان يعتقد أن حرب غزة ستتحول إلى إبادة؟ من تصور أن تطيح الحرب الإسرائيلية على لبنان بقيادات «حزب الله» بالجملة؟ أو أن تنطفئ نار المعارك في لبنان، ليبدأ هجوم المعارضة في سوريا، وينتهي الأمر في غضون أيام بهروب بشار الأسد؟ هل ثمّ من كان يعتقد أن أبو محمد الجولاني سيصبح نجم الحقبة، وقائد تحرير سوريا، وزعيمها الجديد؟ أو أن تركيا ستصل يوماً إلى حدود إسرائيل؟
كثير هذا على سنة واحدة. الأحداث أسرع من قدرتنا على اللحاق بها، أو تصور ما بعدها!
التغيرات هائلة في أماكن كثيرة. اقترع أكثر من 60 بلداً خلال العام الماضي، وهي في غالبيتها انقلبت على حكّامها، بمن في ذلك ناخبو أمريكا، الذين قرروا إعادة الجمهوريين، باختيار دونالد ترمب رغم كل ما تثير شخصيته من مخاوف، ومزاجيته من قلق. إنها الانتخابات الرئاسية الأمريكية الثالثة على التوالي التي يخسر فيها الحزب الحاكم، وهذا نادر. في بريطانيا عاد حزب العمّال إلى السلطة بعد 14 عاماً من الغياب. في فرنسا خسر تحالف الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، وتقدم اليسار واليمين المتطرف، وهذا غريب. في ألمانيا فاز اليمينيون المتطرفون للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية. وفي رومانيا والبرتغال والنمسا أيضاً تقدم اليمينيون المتشددون. أوروبا برمتها تذهب إلى مزيد من التطرف، ونبذ الهجرة، وتقييد الانفتاح، وتنحو صوب المحافظة والتقوقع. الشعبويون يفوزن ويفرضون إرادتهم على مدى القارة البيضاء.
في الاستفتاءات، يعبّر الناخبون عن سخطهم ورغبتهم في تغيير كبير. ما نراه من نتائج، يأتي بسبب حالة احتجاجية عامة، أكثر من كونها ميولاً عنصرية واعية لدى الناخبين. يقال إن ثمة «كآبة عالمية»، «إحباطاً كونياً» بسبب الاهتزازات الاقتصادية، والإحساس المستشري بالخوف. الدول التي حكمها اليمين تختار اليسار، والعكس صحيح. في كوريا الجنوبية كما جورجيا، انقلب الناخبون على الأحزاب الليبرالية.
في جنوب أفريقيا، خسر حزب المؤتمر الوطني، الثابت في الحكم، منذ انتهاء نظام الفصل العنصري. وفي اليابان خسر الحزب الديمقراطي الليبرالي، الحاكم منذ الحرب الثانية، وكذلك فازت المعارضة في بنما وأوروغواي، واللائحة تطول.
الإحباط العالمي، لدى الشعوب، حتى الغنية، ليس مالياً فقط، ثمة شعور عارم، بأن المؤسسات تتخلخل، والديمقراطية لا تسير على ما يرام. للمرة الأولى، نرى الشعوب التي تنتخب، لا تمثلها نخبتها الحاكمة التي اختارتها. الناخبون يريدون شيئاً آخر، غير موجود، ربما لم يتبلور بعد، فكراً مختلفاً، حلولاً مبتكرة، لم يجدوا من له القدرة على صياغتها، وتنفيذها. وفقاً لتقرير حالة الديمقراطية العالمية لعام 2024، فإن أربع دول من أصل كل تسع دول، أصبحت أسوأ حالاً مما كانت عليه من قبل، من حيث الممارسات الديمقراطية، ولم تشهد سوى دولة واحدة من كل أربع دول تحسناً في الجودة، بحسب المستطلعين. هذا يعكس التبرم الشعبي العام. إذ يزداد عدد الدول التي تذهب إلى الصناديق لتقترع، لكن النتيجة ديمقراطية أقل.
المنظرون الاستراتيجيون، هم أيضاً، يبحثون عن زوايا جديدة في التحليل، لفهم واقع غير مسبوق.
قد يكون محقاً بعض الشيء يوشكا فيشر، وزير خارجية ألمانيا السابق حين كتب: «إذا نظرنا 26 عاماً إلى الوراء، فلا بد أن نعترف بأن تفكك الاتحاد السوفييتي، ونهاية الحرب الباردة، لم يكتبا نهاية التاريخ، بل بداية لنهاية النظام الليبرالي الغربي». فالضعف الأوروبي، الذي ظهر، بشكل خاص، بعد الحرب الأوكرانية، له مفاعيله.
القيادة الأمريكية للعالم مستمرة، وهي تحاول أن تثبت نفسها بشتى السبل، لكن النظام الذي بنته أمريكا من مؤسسات دولية، وتحالفات، ينهار بعضه، ويحل مكانه بحسب أميتاف أشايا، الأستاذ في الجامعة الأمريكية بواشنطن، نظام تعددي، تبقى فيه الولايات المتحدة مهيمنة مع وجود أقطاب أخرى قوية، تعيق قدرتها على بسط نفوذها بالطريقة السابقة. كثر يحاولون فهم ما يسمونه «احتمالات» بعد أن أصبحت «التوقعات» عصية، وقراءة «الغد» ضرباً في الرمل.
فأجيال «زد» و«ألفا» و«بيتا» التي تنغمس في الرقمية وتصادق الذكاء الاصطناعي، تجد صعوبة في تقبّل تفكير أولئك الآتين من عالم التلفزيون والورق وآيديولوجيات القرن العشرين. الحرس القديم يعيش سنواته الأخيرة. ربع قرن من الألفية الجديدة مضى، كان كفيلاً بإثبات، أن كل ما سيأتي لن يكون حتى قد مرّ في أخيلتنا.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: سقوط الأسد حصاد 2024 الحرب في سوريا عودة ترامب خليجي 26 إيران وإسرائيل إسرائيل وحزب الله غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية الحرب في سوريا سقوط الأسد غزة وإسرائيل الحرب الأوكرانية إسرائيل وحزب الله إيران وإسرائيل عودة ترامب حصاد 2024
إقرأ أيضاً:
التعلُّم واكتساب المهارات.. سلاح في عالم مُتغيِّر لا يرحم
د. محمد بن خلفان العاصمي
جاء إعلان الأمم المتحدة عن أهداف التنمية المستدامة الـ17 بهدف تخليص العالم من المشكلات التي يعاني منها، خاصة تلك المجتمعات التي تعاني من الفقر والبطالة وتدني مستوى التعليم والصحة، خاصةً الدول التي عانت من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، ودخلت في صراعات مسلحة داخلية أو خارجية.
هذا الإعلان الأممي بمستهدفاته السبعة عشر، وخلال خمسة عشر عامًا، مثَّل فرصة لتلك الدول التي ترغب في التخلص من مشاكلها، وهناك عديد الدول التي استفادت من البرامج التنموية التي رافقت هذا المشروع، خاصة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا.
الهدف الرابع بالتحديد والمتمثل في "ضمان التعليم الجيد والمنصف والشامل للجميع وتعزيز فرص التعليم للجميع مدى الحياة"، يُعد من بين الأهداف المهمة التي جاءت في مصفوفة التنمية المستدامة، واعتبرُ هذا الهدف هو الركيزة الأساسية لتحقيق بقية الأهداف لما يمثله من نقطة ارتكاز يمكن البناء عليها، والارتباط المباشر مع باقي الأهداف، وأهمية أن تبدأ التنمية الحقيقية من خلال توفير التعليم والتدريب الجيد ليكون التغيير مبنيًا على أساس صلب وفعال، ولذلك جميع التجارب الناجحة للاستفادة من هذا البرنامج الأممي انطلقت من ملف التعليم وعلى سبيل المثال لا الحصر رواندا؛ حيث بدأت التغيير من خلال منظومة التعليم.
ما دفعني للحديث عن هذا الأمر في الحقيقة هو ما تابعته وتابعه الجميع خلال الفترة الماضية في قضية المُسرَّحين عن العمل وملف الباحثين عن عمل كذلك، وهذا الأمر جعلني أطرح تساؤلات عديدة في ذهني؛ وهي: هل أنتج تعليمنا وثقافتنا وأسلوب حياتنا أفرادًا لا يؤمنون إلّا بالوظيفة؟ وهل هم غير قادرين على التكيُّف مع التغييرات التي تحدث ومنها احتمالية فقدانهم للعمل؟ وهل نحن جميعًا في مأمن من فقدان أعمالنا في أي لحظة؟ وإذا حدث ذلك، فما الحلول التي لدينا وكيف سنتعامل مع الوضع؟
عديد الأسئلة التي لا توجد إجابات لها، ولا ألومُ فيها أحدًا؛ فالسائد في المجتمع يصبح واقعًا حتميَّ القبول!!
لم يكن العُماني في أي يوم وأي مرحلة من مراحل التاريخ الماضي والحاضر، سوى إنسان مُثابر ومُتقبِّل ومُتكيِّف لكل الظروف، ومُتسلِّح بالمهارات والمعرفة ولديه قابلية للتماشي مع الظروف المختلفة، وما زال العُماني صاحب همَّة عالية ولا يقبل أن يكون عالةً على الآخرين، ويرفض إلّا أن يكسب من عمل يده، غير منتظر للإحسان، وهو قادر على العمل. هكذا كان الآباء قبل وجود الوظيفة وهكذا سوف يستمر الأبناء، ومهما كانت الظروف والأسباب فهذه السمات لا تتبدل في شعب عرف عنه الجد والاجتهاد.
وعودٌ على بدء.. علينا أن نبحث ونناقش ونتحدث بصوت مسموع: هل أنتج تعليمنا أفرادًا بمهارات القرن الواحد والعشرين؟
هذا التساؤل جدير بتغيير واقع التعليم بشقيه حتى نتجنب الوقوع في التحديات التي تكلفنا الكثير لعلاجها إن كانت الإجابة لا، وإذا كان غير ذلك فعلينا التحسين والتطوير؛ لأن سباق الزمن هو التحدي الحقيقي والأكبر في عالم متسارع متغير لا يكف عن التجديد في كل لحظة، ووسط هذا التطور الهائل والسريع في التكنولوجيا فإن المواكبة ليست خيارًا؛ بل هي إلزام وطريق لا مهرب منه، وما زال هناك وقت ولدينا كلّ الأدوات اللازمة للتحول والتغيير والمنافسة.
إنَّ التحديات التي تنتظر الأجيال كبيرة جدًا، واجتيازها يتطلب الاستعداد الجيد لها، والعيش مع أفكار قديمة لا يساعد الفرد على التفاعل الإيجابي مع الواقع؛ إذ لم تعُد الوظيفة هي الضمان الوحيد الذي يمكن للفرد أن يحققه ويعيش حياته بشكل مستقر وسليم، ومع التغييرات التي تحدثت عنها مُسبقًا، حتى بنية الوظائف ونوعها سوف تتغير. واليوم نشاهد نمو شركات تدار بالفرد الواحد أو مجموعة بسيطة دون وجود مقر لها، وهناك وظائف سوف تختفي وسوف تظهر غيرها، ومن أجل التمكن من العيش في هذا العالم يجب أن يتسلح الفرد بخاصيتين مهمتين وهما القدرة على التعلم الذاتي، والقدرة على اكتساب المهارات.
لقد تخطى العالم فكرة الشهادات العلمية وخاصة عالم المال والاقتصاد، وأصبحت الشركات الكبرى تتنافس في استقطاب الفرد متعدد المهارات والكفايات، هذا الفرد الذي يمكنه تحقيق عوائد ونتائج أفضل، وينمو بالأعمال بشكل أفضل وأسرع، وهي خصائص مهمة في عالم الأعمال، لذلك من الحكمة أن يفكر شبابنا في هذا الجانب بشكل جديٍّ، خاصة وأن عملية التعلم والتدريب لم تعد صعبة في وجود التكنولوجيا الحديثة، ولا يتطلب الأمر من الفرد سوى مهارات التعامل مع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ليستفيد مما فيها من مميزات، فالتعليم والتدريب عن بعد متوفران وفي جميع المجالات، والمؤسسات التعليمية الرائدة أصبحت متاحة للجميع، وهذه ميزات لم تكن موجودة سابقًا.
إنَّ التقوقع وانتظار الفرص والزمن يمُر، لن يُغيِّر من واقع الإنسان شيئًا، والركون إلى ما سوف يُقدَّم إليك من فرص لا يجعلك مُميزًا عن غيرك، وسوف تكتشف بعد فوات الأوان أنك أهدرت الوقت، وكان بالإمكان القيام بأمر يُغيِّر من واقعك وحالك. وهذه ليست دعوة لعدم البحث عن فرصة وظيفية، وإنما نافذة لفكرك لعلها تكون سببًا في صياغة مستقبل أفضل لكل باحث عن عمل، والخيار لك: هل تريد الانتظار أم التحرك نحو أهدافك، واكتشاف قدراتك ومهاراتك وتنميتها، لتفتح لك باب النجاح؟!
رابط مختصر