دراسة نقدية لرواية “غارارام” للكاتب العباس علي يحيى: قراءة فلسفية مغايرة لمقاربة “الواقعية الصادمة”
تاريخ النشر: 16th, January 2025 GMT
مدخل: الفعل الإبداعي ومعنى الحقيقية
يتفق جان بول سارتر مع فكرة أن الإنسان "مطارد للمعنى"، لكن الفعل الإبداعي يتجاوز المطاردة إلى ابتكار معانٍ جديدة. إذا كانت مقاربة "الواقعية الصادمة" تفترض أن الكاتب يُعري المجتمع عبر فضح الممارسات والتابوهات، فإننا هنا نقترح قراءة مغايرة ترى في رواية "غارارام" تجربة فلسفية تسعى إلى مساءلة بنيات القيم ذاتها، لا فقط فضحها أو انتقادها.
الكاتب، في هذا السياق، لا يكتفي بعرض التفاصيل الواقعية وإنما يحاول تفكيك العلاقات الاجتماعية وتجريدها من الشرعيات التقليدية التي تستمد منها وجودها. إنها محاولة جريئة لإعادة صياغة مفهوم "العقد الاجتماعي"، ولكن ليس وفق الأسس الطوباوية كما تصورها روسو، بل وفق ديناميكيات العار والقيم المزدوجة التي تسكن المجتمعات السودانية والعالمية.
إشكالية "العقد الاجتماعي" بين الواقع والأسطورة
تقدم الرواية فكرة نشوء عقد اجتماعي غير رسمي يتمحور حول "السترة"، كآلية للتعامل مع الأزمات الأخلاقية داخل المجتمع السوداني. ومع ذلك، فإن هذا العقد ليس بريئًا أو طبيعيًا، بل يتسم بطابع خفي يدعم استمرارية النفاق الاجتماعي.
لكن، هل يمكن النظر إلى هذا العقد باعتباره مجرد وسيلة للإخفاء؟ أم أنه يُعبّر عن شكل جديد من التفاوض على المعايير الأخلاقية داخل مجتمع يعيش حالة اغتراب عن قيمه المعلنة؟
هنا يُمكننا أن نرى أن "غارارام" لا تكتفي بتقديم الواقع كما هو؛ بل تحاول كشف العلاقة الجدلية بين القيم المعلنة والتطبيق الفعلي لها في الحياة اليومية. فالكاتب يضع القارئ أمام تساؤل وجودي: هل القيم هي جوهر ثابت أم أنها مجرد أدوات مرنة تتشكل حسب الحاجة؟
اللغة والتفاصيل هل البساطة هي الخديعة؟
أشار التحليل إلى أن لغة الكاتب تبدو "يومية وعادية" لكنها تُخفي مستويات عميقة من السرد. هذا التوصيف ينطوي على تصور تقليدي يرى أن النص الأدبي ينجح عندما يُخفي المعنى وراء واجهة بسيطة. ولكن ماذا لو كانت هذه اللغة البسيطة نفسها تعبيرًا عن فلسفة سردية تُعيد تعريف وظيفة الأدب؟
في رواية "غارارام"، تكمن القوة في قدرتها على استغلال البساطة لخلق انحراف دقيق عن المألوف. فالتفاصيل ليست مجرد عناصر للحبكة، بل هي أدوات فلسفية تُجبر القارئ على مواجهة حقيقة أن كل "حقيقة" هي نتاج بناء اجتماعي معقد.
الجنس والعار والمقاربة الفلسفية
الجنس، كما تصوره الرواية، ليس مجرد فعل بيولوجي أو أخلاقي، بل هو فضاء تتقاطع فيه الأيديولوجيا مع العواطف الفردية. من خلال قصة "آرام"، يعيد الكاتب التفكير في مفهوم "الخطيئة" ذاته، ليس كفعل فردي، بل كإطار اجتماعي يُنتج ويعيد إنتاج القيم والممارسات.
على النقيض من النظرة التقليدية التي ترى في هذه الممارسات تهديدًا للمجتمع، تكشف الرواية عن أن المجتمع نفسه هو من يُنتج هذه الأفعال عبر بنياته المزدوجة. هنا، الجنس يصبح رمزًا لتحلل القيم التقليدية أمام صدمة الحداثة.
بين العباس علي يحيى وغراهام غرين هل هذا نقد التشبيه
تشبيه العباس بغراهام غرين يحمل دلالة مثيرة للتفكير، لكنه يفتقر إلى العمق النقدي إذا ما اقتصر على توصيف الشبه بين الجرأة في الطرح. غراهام غرين كان يبحث عن الخلاص الفردي في عالم تسوده الاضطرابات الروحية، بينما العباس يُعيد صياغة العلاقات الاجتماعية من الداخل، دون الهروب إلى أي ملاذات روحية أو أخلاقية.
الفرق الأساسي هنا هو أن غرين يُعالج المأساة الإنسانية من منظور ثنائي الخير مقابل الشر، بينما العباس يعالجها كعملية ديناميكية لا تخضع لهذه الثنائيات التقليدية.
الرواية بين السخرية والفلسفة
تشير المقاربة إلى أن الرواية تتسم بالسخرية، لكن هذه السخرية ليست هدفًا بحد ذاتها. إنها وسيلة فلسفية تكشف هشاشة الخطابات الاجتماعية وتدفع القارئ إلى التأمل في عبثية هذه الخطابات
السخرية، في هذا السياق، لا تأتي من رغبة في التهكم، بل من إحساس عميق بالتناقضات الكامنة في المجتمع. إنها دعوة للتفكير النقدي، وليست مجرد إدانة أو تشهير.
نحو قراءة جديدة لـ"غارارام"
رواية "غارارام" ليست مجرد عمل أدبي يفضح المسكوت عنه، بل هي تجربة فلسفية تسعى إلى إعادة تعريف القيم والممارسات داخل سياقاتها الاجتماعية. إنها ليست فقط دعوة لمواجهة الواقع، بل هي أيضًا تحريض على إعادة التفكير فيه.
الكاتب العباس علي يحيى لا يُقدم إجابات جاهزة، بل يُجبر القارئ على البحث عن إجابات خاصة به. وهذا هو جوهر الأدب الحقيقي , أن يكون فضاءً للبحث عن المعنى في عالم تتداخل فيه الحقيقة مع الزيف، والقيم مع النفاق، والواقع مع الحلم.
zuhair.osman@aol.com
//////////////////////////
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
إيران تصف المقترحات الأوروبية حول برنامجها النووي بـ «غير الواقعية»
وصف مسؤول إيراني كبير، السبت، المقترحات التي قدمتها القوى الأوروبية بشأن كبح جماح برنامج إيران النووي بأنها "غير واقعية"، معتبرًا أنها تشكل عقبة أمام التوصل إلى اتفاق سياسي في ظل تصاعد المواجهات مع إسرائيل، وفق ما نقلته وكالة "رويترز".
ويأتي هذا الموقف الإيراني بالتزامن مع استمرار المواجهات العسكرية المباشرة بين إسرائيل وإيران منذ أكثر من أسبوع، في أعقاب الغارات الإسرائيلية التي طالت أهدافًا عسكرية ومنشآت حساسة داخل الأراضي الإيرانية، من بينها منشآت مرتبطة بالبرنامج النووي لطهران.
تحركات عسكرية أمريكية وسط الجمود الدبلوماسيعلى الصعيد العسكري، كشفت مصادر أمريكية، السبت، أن الولايات المتحدة بدأت بنقل قاذفات قنابل من طراز "بي-2" إلى قاعدة جزيرة غوام في المحيط الهادئ، في خطوة وصفها مراقبون بأنها رسالة ضغط واضحة لإيران، رغم تأكيد المسؤولين الأمريكيين عدم إصدار أوامر حتى الآن بتحريك هذه القاذفات نحو منطقة الشرق الأوسط.
ويمتلك هذا النوع من القاذفات القدرة على حمل قنابل خارقة للتحصينات، تُعد من بين الأسلحة القليلة القادرة على استهداف المنشآت النووية الإيرانية المحصنة مثل مجمع "فوردو".
وفي المقابل، قالت مصادر عسكرية إسرائيلية إنها نفذت سلسلة جديدة من الغارات على عشرات المواقع العسكرية في جنوب غربي إيران، في إطار حملة إسرائيلية متصاعدة لوقف تقدم البرنامج النووي الإيراني.
محاولات دبلوماسية متعثرةوعلى المستوى السياسي، التقى وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، الجمعة، بنظرائه من بريطانيا وفرنسا وألمانيا إضافة إلى ممثلين عن الاتحاد الأوروبي في جنيف، في محاولة للبحث عن مسار دبلوماسي يوقف التصعيد العسكري المستمر.
إلا أن المسؤول الإيراني الكبير الذي تحدث لـ"رويترز" أكد أن المقترحات الأوروبية "لن تقرّب الطرفين من اتفاق إذا أصرت العواصم الأوروبية على خطوطها الحمراء الحالية"، مشددًا على أن منع إيران من تخصيب اليورانيوم بالكامل هو "طريق مسدود". وأضاف أن طهران سترجع إلى العاصمة لمراجعة العروض، لكنها لن تقبل التفاوض على ما وصفه بـ"القدرات الدفاعية المشروعة".
إسرائيل تعلن مقتل قيادي إيراني بارزوفي سياق التصعيد الميداني، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس عن مقتل سعيد إيزادي، قائد فرع فلسطين في "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني، إثر غارة جوية إسرائيلية استهدفت شقة سكنية في مدينة قم وسط إيران.
وقال كاتس إن إيزادي لعب دورًا كبيرًا في دعم وتسليح حركة "حماس"، وكان له صلة مباشرة بالإعداد للهجوم الذي شنته الحركة على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، ما أدى إلى اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
ووصف كاتس العملية بأنها "إنجاز كبير للمخابرات والقوات الجوية الإسرائيلية"، في حين لم يصدر تأكيد رسمي من الحرس الثوري الإيراني بشأن مقتل إيزادي، واكتفت وسائل الإعلام الإيرانية بالإشارة إلى مقتل خمسة من عناصر الحرس في هجمات إسرائيلية أخرى على مدينة خرم آباد.
وتضاربت الروايات حول الضربة في قم، حيث أفادت تقارير أولية بمقتل فتى يبلغ من العمر 16 عامًا وإصابة اثنين آخرين، قبل أن تظهر تقارير لاحقة تتحدث عن استهداف شخصية عسكرية كبيرة.