لماذا يستمر تهريب المخدرات من سوريا بعد سقوط نظام الأسد؟
تاريخ النشر: 16th, January 2025 GMT
مع الأيام الاولى لسقوط النظام السوري في ديسمبر/كانون الأول 2024، تراجعت عمليات تهريب المخدرات إلى الأردن بشكل ملحوظ، إلا أنها ما لبثت أن عادت بوتيرة أسرع مع بداية العام الحالي، إذ أعلنت السلطات الأردنية عن إحباط محاولتين لتهريب مواد مخدرة، تخللها اشتباكات مسلحة بين قوات حرس الحدود، مما أدى إلى مقتل مهربين وإصابة أحد أفراد الجيش الأردني.
ويبدو أن شبكات التهريب التي كانت ترتبط بشكل مباشر مع النظام المخلوع، وتعمل تحت إشراف مباشر أو برعاية غير معلنة، استغلت الفوضى الناتجة عن سقوطه لتُعيد تنظيم نفسها، وليتبين أن ما حدث لم يكن اختفاء التهريب، بل تحول في شكله، مما يعزز الاعتقاد أن النظام المخلوع كان الأداة السياسية وحجر الزاوية في ترسيخ تجارة المخدرات كجزء من معادلة الحرب والسيطرة في المنطقة.
ما بين نظام سقط وآخر يعيد ترتيب أوراقه، استغلت مجموعات تهريب المخدرات والسلاح الفرصة لاستئناف نشاطها، كما يرى الباحث في الشأن السوري، صلاح ملكاوي، حيث يشير إلى أن منطقة التهريب، التي كانت تحت رعاية النظام السوري السابق في الجنوب السوري، تشهد الآن حالة من الفراغ الأمني، جعل من مدينة السويداء، جنوبي سوريا، نقطة تجمع ومقصدا لتهريب المخدرات.
ويقول ملكاوي، في حديثه للجزيرة نت، إن المهربين يتوافدون إلى السويداء من عدة محافظات سورية، أبرزها حمص، والضمير (ريف دمشق الشرقي)، والغوطة، ودرعا، والقنيطرة، بعد أن كانت تقتصر هذه الأنشطة على بعض عشائر السويداء.
إعلانويشكل بدء فصل الشتاء عاملا رئيسيا لاستمرار عمليات التهريب، إذ يعد موسما رئيسيا لهذه الأنشطة، وتستغل المجموعات الظروف الجوية القاسية التي تقلل من فعالية المراقبة الحدودية، مثل الضباب والطقس العاصف الذي يصعّب الرصد الجوي والبري، وفق حديثه.
في المقابل، يتفق الخبراء، الذين التقتهم الجزيرة نت، على أن فصل الصيف يعد موسما للتخزين والتحضير، حيث تقوم شبكات التهريب بتأمين كميات كبيرة من المخدرات في مخابئ سرية وتطوير أساليب تهريب جديدة استعدادا لموسم الشتاء. وهذا التوزيع الموسمي للنشاطات يعكس التخطيط الدقيق لهذه الجماعات التي تستغل الظروف الطبيعية لتوسيع أعمالها.
ويرى ملكاوي أن المشكلة الرئيسية، التي تواجه المهربين بعد سقوط النظام، هي نقص المواد الخام التي كان يؤمنها لهم، مما أثر في قدرتهم الإنتاجية بشكل ملحوظ. بالإضافة إلى ذلك، يواجهون صعوبات متزايدة في تشغيل خطوط الإنتاج، وفي نقل المخدرات والأسلحة من المستودعات إلى المناطق الحدودية المحاذية للأردن، نتيجة التغيرات الميدانية.
ورغم هذه التحديات، فإن خبرتهم الطويلة في هذا المجال أتاحت لهم التكيف بسرعة مع الظروف المتغيرة، مما جعلهم قادرين على تطوير أساليب مبتكرة لضمان استمرار نشاطهم، رغم غياب عنصر الحماية والمتمثل في النظام السوري، وفق تعبيره.
على مدى السنوات الماضية، ظهرت أدلة متزايدة تشير إلى تورط النظام السوري السابق في تهريب المخدرات، حيث كان يُتهم بتسهيل هذه الأنشطة لصالح مصالح وأفراد مرتبطين بالنظام.
ونظرت المحاكم الأردنية في عشرات القضايا تكشف عن تورط أفراد النظام السوري السابق في تهريب المخدرات والتنسيق مع المهربين، وتتضمن أسماء أبناء لعشائر تعود أصولها لمدينة السويداء، وتثبت تعاطيهم للمواد المخدرة أثناء عمليات التهريب.
إعلانويرى الباحث في النزاعات الدولية حسن محمود جابر أن شبكات تهريب المخدرات تطورت عبر مراحل متعددة، فقبل عام 2011، كانت غير مرتبطة بالسياسة، واقتصرت نشاطاتها على حالات فردية لأغراض تجارية بحتة. لكن بعد ذلك، بدأ النظام باستخدام المخدرات كأداة سياسية، حيث تم توزيعها بالقرب من مواقع الاحتجاجات لإضفاء طابع تخريبي على المحتجين.
ومع تصاعد العمل العسكري بين النظام السابق والجيش الحر، لجأ النظام وأفراده إلى تعاطي المواد المخدرة لتعزيز قدرتهم على القتال وتحفيزهم في ساحات المعارك، وفق حديثه.
ويؤكد جابر، في حديثه للجزيرة نت، أن النقلة النوعية في ملف المخدرات كان في العام 2018 بعد أن تبلورت ملامح شبكات تهريب المخدرات المنظمة، وأصبحت ذات طابع سياسي، بقيادة النظام السوري وأجهزته السابقة، وعلى وجه الخصوص الفرقة الرابعة وبعض الأجهزة الفرعية.
وبسقوط النظام السوري، يقول جابر إن عنصر التسييس الممنهج والتداخل السياسي والاقتصادي والأمني مع شبكات التهريب قد سقط. وذلك، لا يعني القضاء الكامل على شبكات التهريب، حيث ستستمر بعض الممارسات التي يقوم بها أفراد من الجنوب السوري بشكل مستقل عن النظام، كونها تملك الخبرة الكافية.
في حين يرى الخبير العسكري، أيمن الروسان، أنه ليس من السهل انتهاء عمليات التهريب، إلا أن استمرارها بعد سقوط النظام بفترة قصيرة يؤكد وجود مخابئ سرية ومصانع لم يتم الكشف عنها حتى الآن، فكما توجد فلول للنظام السابق، هناك أيضا فلول للمهربين.
تتم عمليات تهريب المخدرات من سوريا إلى الأردن عبر وسيلتين رئيسيتين. الأولى تعتمد على النمط التقليدي باستخدام معبر جابر-نصيب الحدودي، حيث تُخَبَّأ المخدرات داخل شاحنات النقل.
أما الوسيلة الثانية، فتتمثل في التسلل البري عبر الشريط الحدودي من قبل أفراد العصابات باستخدام عربات نقل، أو من خلال اشتباكات مباشرة مع الجيش الأردني.
بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم الطائرات المسيرة أو المقذوفات الجوية، حيث تشير سجلات الأردن بين أغسطس/آب 2023 ويوليو/تموز 2024 إلى إسقاط وضبط أكثر من 15 طائرة مسيرة محملة بالمخدرات وبعضها بالأسلحة، بحمولة تتراوح بين كيلوغرامين و35 كيلو غراما، وفق ما ورد في كتاب "حرب الشمال" الصادر في ديسمبر/كانون الأول 2024.
إعلانوتُدار هذه الأنشطة عبر شبكات تهريب فرعية وليس كهيكل موحد، إذ تشير المعلومات الواردة في الكتاب إلى وجود نحو 150 شبكة تهريب نشطة في الجنوب السوري، حيث يتراوح عدد أفراد كل شبكة بين 20 و150 عنصرا، وتتوزع أدوار هذه العناصر بين حَمَالة ينقلون المواد المخدرة ومسلحين يتولون مواجهة قوات حرس الحدود.
وتشير الأرقام الرسمية الصادرة عن الجيش الأردني إلى ارتفاع وتيرة عمليات التهريب على مدى السنوات الماضية، إذ أحبط الجيش الأردني أكثر من 1700 محاولة تسلل بهدف التهريب في الفترة ما بين 2020 وحتى منتصف 2023 محاولة، وهو ما يعني وجود 485 محاولة في السنة الواحدة.
وتشير التقديرات الواردة في الكتاب إلى أن العدد الإجمالي لعناصر شبكات التهريب في الجنوب السوري يبلغ بضعة آلاف، معظمهم من سكان المنطقة.
ويتجه جزء كبير منهم إلى هذا النشاط نتيجة الفقر وتردي أوضاعهم المعيشية، بينما تتألف القيادات غالبا من أفراد ذوي أسبقيات جرمية، وتُعد منطقتا الحماد والشعاب، المحاذيتان للحدود الأردنية، من أبرز المناطق التي تشهد نشاطا مكثفا في عمليات التهريب.
ويؤكد ملكاوي أن هناك تجار داخل الأردن ينتظرون شحنات التهريب القادمة من سوريا، حيث يتورط بعض سكان القرى الشمالية القريبة من الحدود في شبكات تهريب المخدرات، مدفوعين بظروف معيشية صعبة مثل الفقر وتدني مستوى الخدمات. وتُسهم الروابط العشائرية في تسهيل عمليات التهريب بشكل كبير.
ويرتبط دور تجار الداخل الأردني بنقل شحنات المخدرات باتجاه الحدود السعودية، التي تشكل وجهة رئيسية لهذه الأنشطة، وفق ملكاوي.
ويعزو كتاب حرب الشمال غياب الاشتباكات المسلحة مع المهربين على الحدود الأردنية-السعودية إلى اختلاف طبيعة المهربين من حيث العدد والتسليح والاستعداد للاشتباك، بالإضافة إلى طول الحدود بين الجانبين، مما يجعل التعامل معهم مختلفاً عن المهربين على الحدود الأردنية-السورية.
يتفق الخبراء -الذين تحدثنا معهم- على أن غياب اتفاق بين الإدارة السورية الجديدة واللواء الثامن، الذي يسيطر على مناطق واسعة في الجنوب السوري، يشكل عقبة كبيرة تؤثر سلبا على جهود مكافحة تهريب المخدرات.
إعلانويعد اللواء الثامن، الذي يتمتع بنفوذ عسكري وأمني كبير في تلك المناطق، لاعبا محوريا في ضبط الأمن وتأمين الحدود. ومع غياب التنسيق والتفاهم بين الطرفين، أتيحت فرصة أوسع لشبكات التهريب للتحرك واستغلال الفراغ الأمني لتنفيذ عملياتها، وفق الخبراء.
ويقول جابر إن ضبابية إمكانية التعاون بين الطرفين يؤخر إنشاء حملات أمنية واضحة ومنظمة لمحاربة تهريب المخدرات، واللواء الثامن وحده غير قادر على مواجهة شبكات تهريب المخدرات النشطة، والتي تتمتع بخبرة كبيرة في التهريب، وتمتلك مخازن وتقنيات متطورة تعزز قدرتها على مواصلة أنشطتها.
ويرى جابر أن الإدارة السورية الجديدة تنظر إلى ملف المخدرات كقضية ضرورية، لكنه لا يحتل صدارة أولوياتها في الوقت الراهن.
ويتفق مع هذا الرأي الروسان في حديثه للجزيرة نت، حيث يشير إلى أن الإدارة السورية الجديدة منشغلة بمعالجة الملفات الداخلية وإصلاح الفوضى التي خلفها النظام السابق في المؤسسات السورية، والتي تحتاج إلى إعادة بناء وهيكلة شاملة.
ويقول الباحث ملكاوي إن غياب التنسيق بين الأطراف المعنية شكّل عبئا على الأردن، حيث اضطر إلى اتخاذ دور مضاعف لحماية حدوده، مما قد يؤدي إلى تغيير قواعد الاشتباك وجعلها أكثر شدة، خاصة بعد إصابة ضابط في الجيش الأردني في يناير/كانون الثاني الحالي.
وكان في منتصف 2023، قد شُن ضربات لمواقع في الجنوب السوري، بوساطة طائرات حربية يعتقد أنها أردنية ضد أهداف في منطقة اللجاة بين محافظتي درعا والسويداء جنوبي سوريا تضم تجار مواد مخدرة.
وفي العام نفسه، شنت طائرات حربية -يرجح أنها أردنية- غارات جوية جنوبي سوريا، استهدفت "مخابئ" لمهربي مخدرات ردا على عملية تهريب "كبيرة" كانت قادمة من سوريا.
إلى جانب الجهود العسكرية، تبنى الأردن أيضا نهجا دبلوماسيا مع النظام السوري السابق، ولا يزال يناقش الملف مع الإدارة السورية الجديدة، حيث تم الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة لمكافحة تهريب المخدرات والأسلحة.
إعلانويرى الخبراء أن اتخاذ خطوات عسكرية ليس أمرا مستبعدا إذا استمرت المجموعات في تحدي الأردن، إذ يمكن أن ينفذ عمليات استباقية، وهو ما يمكن تبريره بموجب القانون الدولي الذي يسمح بهذا النوع من التدخل لحماية الأمن القومي.
في الختام، يظل تهريب المخدرات أحد التحديات الكبيرة التي تواجه المنطقة حتى بعد سقوط النظام السوري السابق، حيث شهد هذا النشاط تحولا ملحوظا. وعلى ما يبدو، غاب الطابع السياسي الذي كان يميز هذه العمليات في السابق ليحل محله الطموح التجاري والربح.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الإدارة السوریة الجدیدة شبکات تهریب المخدرات النظام السوری السابق فی الجنوب السوری عملیات التهریب شبکات التهریب الجیش الأردنی هذه الأنشطة سقوط النظام السابق فی من سوریا بعد سقوط
إقرأ أيضاً:
عائلة البلعوس وقصة الوقوف في وجه الأسد وإسرائيل
بعد انطلاق الثورة السورية عام 2011 انقسمت مواقف دروز سوريا، الذين يقطن أغلبهم في محافظة السويداء، إلى عدة مواقف، ما بين التحفظ والتردد والتأييد، وهي مواقف امتدت إلى مشهد ما بعد سقوط الأسد من الحكومة الجديدة بشكل أكثر استقطابا.
منذ تولي الرئيس أحمد الشرع السلطة في دمشق بدأت مواقف رجال الدين ومشايخ العقل في السويداء تنقسم حول الموقف منها وعلاقة المحافظة بها، وتعمقت انقساماتها تدريجيا، وتصدر الشيخ حكمت الهجري تيار المعارضين لدمشق، ويأتي بعده الشيخ حمود الحناوي الذي يعترف بالسلطة الجديدة، ويؤكد أن السويداء جزء من سوريا الموحدة، وأخيرا الشيخ يوسف جربوع الذي يحاول إبرام تفاهمات مع دمشق والقبول بالعيش المشترك.
اللافت أن الحرب الشرسة التي قادها النظام السوري السابق ضد شعبه دفعت بفئة جديدة للبروز على رأسها آل البلعوس، ابتداء من وحيد وصولا إلى أبنائه ويتقدمهم ليث، حيث تصدروا مشهد مناهضة نظام الأسد في السويداء، ثم التعاون مع الحكومة الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع.
ينحدر الشيخ وحيد من عائلة تقطن قرية صميد الواقعة شمال محافظة السويداء، غير أن نشأته الفعلية كانت في قرية المزرعة إلى الغرب من المدينة. التحق بجهاز الأمن السياسي ثم انتقل إلى سلك الشرطة حيث خدم لسنوات طويلة في العاصمة دمشق، وبعد تقاعده عاد إلى منطقته الأصلية وانخرط في أعمال البناء كمهنة عمل، بحسب موقع الذاكرة السورية.
اتجه البلعوس فيما بعد إلى الحياة الدينية، فالتحق بمسار التعليم ضمن مشيخة عقل الطائفة الدرزية، وتدرج في مراتب المشيخة. لكنه قبل 2011 لم يكن له حضور يذكر في الأوساط العامة.
ومع تصاعد الحراك الثوري في السويداء ضد النظام السابق، أسس الشيخ وحيد تشكيلا عسكريا باسم "رجال الكرامة"، عام 2012 متبنيا في البداية خطابا محايدا داعيا الدروز إلى الإحجام عن المشاركة في حرب النظام ضد الشعب السوري، وفقا لموقع الذاكرة السورية المتخصص بتوثيق وأرشفة أحداث الثورة السورية.
إعلانوعلى الرغم من التباينات الواضحة بين هذا التشكيل ومؤسسة مشيخة عقل الطائفة الرسمية في السويداء، فإن العلاقة بين الطرفين لم تصل إلى حد المواجهة المباشرة، رغم المساعي المتكررة من جانب المشيخة لتحجيم نفوذ البلعوس، والتي لم تثمر في إضعاف حضوره المتصاعد داخل الأوساط الشعبية والدينية على حد سواء.
وتميّز تجمع مشايخ الكرامة بقيادة الشيخ وحيد البلعوس، على عكس الخطاب التقليدي للمشيخة الدرزية، بقدر عالٍ من الجرأة والوضوح، فكان التجمع حاسما في ردّه على الانتهاكات الأمنية والإدارية التي طالت أبناء السويداء.
هذا النهج الصريح أكسب البلعوس، المعروف بلقبه الشعبي "أبو فهد"، شعبية واسعة داخل أوساط الطائفة الدرزية، وانضوى تحت لواء التجمع عدد من المشايخ الشباب، ممن تباينت مواقفهم السياسية بين المعارضة والموالاة والحياد، لكنهم توحدوا خلف شخصية البلعوس باعتبارها مرجعية دينية واجتماعية جامعة، تُعبّر عن تطلعات الناس بعيدا عن الولاءات التقليدية.
تصاعد الصدام والشعبية
شهدت محافظة السويداء أول مواجهة علنية بين الشيخ وحيد البلعوس وأجهزة الأمن السورية خلال الانتخابات الرئاسية في يونيو/حزيران 2014، حين قامت قوى أمنية بإجبار امرأة تعاني من اضطرابات عقلية على رفع صورة الرئيس المخلوع بشار الأسد والرقص بها في إحدى الخيام الانتخابية، مما دفع البلعوس وعددا من أتباعه إلى اقتحام الخيمة وتدميرها.
وفيما بعد، اتخذ البلعوس منحى أكثر تصعيدا، فقد حثّ الأهالي على اللجوء إلى "الخطف المضاد"، ردا على حوادث الاختطاف التي طالت أبناء السويداء مقابل فدية، واتهم بشكل مباشر السلطات الأمنية، وعلى رأسها رئيس فرع الأمن العسكري في السويداء العميد وفيق ناصر، بالتقاعس عن ضبط الأمن، لا سيما ما يتعلق بوجود مجموعات مسلحة على أطراف المحافظة.
لاحقا، دعا الشيخ البلعوس شباب السويداء إلى عدم الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية، وفتح المجال أمام الرافضين لهذه الخدمة، مقدّما لهم دعما اجتماعيا ومعنويا، كما شجّع على حمل السلاح بعيدا عن قوات النظام، وهو خطاب لاقى تجاوبا واضحا في أوساط الشباب، لا سيما في ظل وطأة الحرب وتردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية.
أما المحطة المفصلية في مسيرة البلعوس فتمثلت في ما عُرف بـ"العراضة المسلحة" التي أقامها مع عدد من مرافقيه أمام مقام عين الزمان، أحد المقامات الدينية الرمزية لدى الطائفة الدرزية، وذلك بعد نحو 10 أشهر من حادثة الخيمة الانتخابية، أعقبتها حملة أمنية طالت أحد المقربين من البلعوس وُجهت إليه اتهامات تتعلق بالاتجار بالسلاح.
الإبعاد الديني والنهاية
في الأشهر الأخيرة من حياته، ومع تفاقم الأزمة المعيشية وشحّ المحروقات في السويداء، وجّه البلعوس اتهامات مباشرة إلى الدولة بأنها تعاقب المحافظة بشكل ممنهج عبر حرمانها من الحصص الأساسية من الوقود. وكان من اللافت رفضه القاطع لأي فتنة مذهبية أو طائفية في الجبل، مؤكدا في أكثر من مناسبة أن "كل عرض في الجبل سواء كان سنيا أو شيعيا أو علويا أو مسيحيا أو درزيا هو في حمايتنا"، مشدّدا على رفض أي فتنة مع الجوار.
إعلانفي يناير/كانون الثاني 2015، اندلعت أزمة إثر اعتداء عناصر حاجز الزرعة التابع للمخابرات الجوية على إحدى الحافلات، مما أثار موجة غضب واسعة، وأقدم عدد من أنصار البلعوس على اقتحام الحاجز وإزالته بالكامل، في تصعيد غير مسبوق ضد جهاز أمني وقتئذ.
هذه الواقعة كانت بمنزلة إعلان دخول البلعوس في مواجهة مفتوحة مع النظام السوري، وهي مواجهة لم تقتصر على البعد الأمني بل سرعان ما اتخذت طابعًا دينيا–سياسيا، خاصة بعد أن أطلق تصريحات نارية بحق الرئيس المخلوع اتّهمه فيها صراحة بـ"بيع سوريا لإيران"، وبأنه يسعى لتقسيم البلاد، قائلا "نحن وطنيون أكثر من بشار الأسد"، وذلك خلال اجتماع حاشد في بلدته المزرعة حضره وجهاء دروز.
ردّ النظام جاء، بحسب تقارير واكبت الأحداث آنذاك، عبر ممارسة ضغوط مباشرة على مشايخ الطائفة الدرزية، لدفعهم إلى اتخاذ موقف تجاه البلعوس، وقد صدر بالفعل بيان رسمي من شيوخ العقل الثلاثة، الحناوي وجربوع والهجري، بحق البلعوس، تضمن إبعاده عن الدين، متهما إياه بالخروج عن مسار الطائفة، وسبق البيان تبرؤ صريح من مواقفه المناهضة للنظام، معتبرا إياها مخالفة للقيم الأخلاقية والوطنية للطائفة.
وعقب ذلك وفي 4 سبتمبر/أيلول 2015، تعرّض موكب الشيخ البلعوس لانفجار عبوة ناسفة في منطقة ظهر الجبل بمدينة السويداء مما أسفر عن مقتله وعدد من رفاقه على الفور، في حادثة شكلت صدمة واسعة في الأوساط الشعبية والدينية بالمحافظة، واتهم الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط النظام السوري باغتيال البلعوس لأنه أبدى معارضة واضحة له.
بعد اغتيال الشيخ وحيد، تولى يحيى الحجار مكانه في قيادة "رجال الكرامة"، لكن أبناء البلعوس قرروا الخروج وتشكيل فصيل جديد باسم "شيخ الكرامة" إثر خلاف مع الحجار، ورغم ذلك ظلت علاقة الفصيلين جيدة.
عمل ليث البلعوس، نجل وحيد، على استكمال مسيرة أبيه، حيث أسهم في تنظيم شبكات الدفاع المحلي لا سيما في بلدة المزرعة من خلال تشكيل مجموعات معنية بحفظ الأمن ومواجهة محاولات التسلل من قبل الأجهزة الأمنية ومجموعات موالية للنظام.
ومع انطلاق الحراك الشعبي في السويداء صيف 2023، عاد اسم ليث إلى الواجهة مجددا بإعلانه دعم الاحتجاجات المناهضة للنظام، مع دعوته المستمرة إلى الحفاظ على السلمية ومنع التسلح، وفي تلك الأثناء أعاد تفعيل قوات "شيخ الكرامة"، مؤكدا على استقلالية قراره عن كل من النظام والمعارضة الرسمية، وفق ما نقلت مواقع محلية.
وقد عبر ليث البلعوس آنذاك في تسجيلات مصوّرة خلال المظاهرات عن تأييده لمطالب الشارع، ورفضه لأي حوار مع النظام قبل حدوث تغيير سياسي حقيقي، كما انتقد بوضوح الدور الإيراني في الجنوب السوري، متهما طهران بنشر المخدرات وتصفية معارضي النظام في المنطقة.
وخلال معركة ردع العدوان التي أطاحت بنظام الأسد، شارك فصيل البلعوس في المعارك التي أدت إلى تحرير السويداء تحت اسم غرفة عمليات الجنوب بالتنسيق مع قيادة المعركة. وعقب سقوط حكم الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 أسس ليث البلعوس "مضافة الكرامة"، وانخرط في حوار مباشر مع الإدارة السورية الجديدة، تم خلالها التوصل إلى اتفاق بشأن تفعيل دور الأمن العام في المحافظة، مع اشتراط أن يكون عناصره من أبناء السويداء أنفسهم.
وقد صرّح البلعوس للجزيرة نت، وقتئذ، أن هذه الخطوة تأتي في سياق "ضمان استقرار وأمن المنطقة"، مؤكدا مبادئه السياسية من وراء هذا التعاون بالقول "موقفنا واضح تجاه أهلنا السوريين، ولا وطن بديلا لنا عن سوريا الموحدة أرضا وشعبا"، وأشار إلى أن الإدارة الجديدة "تتفهم الوضع في محافظة السويداء ونتفق معها على إرساء دعائم الدولة".
إعلانكما كشف البلعوس عن خطط يجري العمل عليها لتأسيس تشكيل عسكري من أبناء الجنوب السوري، مهمته تأمين الحدود الجنوبية ضد عصابات التهريب والتنظيمات المتطرفة، وتهيئة مناخ يحفز على الاستثمار والتنمية.
ومع تصاعد التدخل الإسرائيلي في السويداء، أدلى ليث البلعوس في مارس/آذار 2025 بتصريحات لمواقع محلية شدد فيها على أن "السويداء لا تحتاج إلى وصاية خارجية"، مؤكدا أن عمقها الإستراتيجي هو سوريا فقط، كما وصف الدعوات للعمل في إسرائيل بأنها "امتهان للكرامة"، مجددا تمسكه بمقولة والده "إما فوق الأرض بكرامة أو تحت الأرض بكرامة"، ورفضه التام لمحاولات تصوير الدروز كأقلية تطلب الحماية.
وانعكس هذا الموقف في تعاطيه مع الأحداث الأمنية في جرمانا وأشرفية صحنايا، حيث قاد جهود تهدئة التوترات التي نشبت بين مجموعات محلية والأجهزة الأمنية السورية. وفي أبريل/نيسان الماضي شارك في وفد من مشايخ السويداء لعقد لقاءات مع مسؤولين حكوميين في داريا، في خطوة تعكس تمسكه بالحلول السورية الداخلية ورفضه للفدرالية أو التقسيم.
لم تمر تحركات الشيخ ليث البلعوس دون ثمن، فقد نجا من محاولات اغتيال متكررة أبرزها في مايو/أيار 2023 حين أُصيب في ساقه بإطلاق نار في بلدة المزرعة، وفي مايو/أيار 2025 حين تعرضت سيارته لهجوم مسلح أثناء توجهه للقاء محافظ السويداء في مدينة شهبا، ورغم التهديدات استمر البلعوس في التأكيد على سيادة سوريا ووحدة أراضيها، رافضا بوضوح أي سيناريوهات تسعى لتدويل الملف السوري أو تحويل المكونات الاجتماعية إلى أدوات في صراع خارجي.
وقد برز في الصراع الأخير الذي وقع في يوليو/تموز 2025 بين قوات العشائر العربية وبين القوات المالية للهجري في السويداء على إثر اشتباكات داخلية، ومنع قوات الحكومة السورية من الدخول للمحافظة.
دعا البلعوس في مقابلة مع الجزيرة إلى التهدئة، مع التشديد على حماية الأموال والأعراض والممتلكات وحق الدفاع عن النفس، وضرورة تدخل الدولة السورية لإيقاف الانتهاكات والحفاظ على وحدة الأراضي السورية، مشددا على أن الدروز لا يحتاجون لإسرائيل لحمايتهم، وأوضح أنه ضد مشاريع التقسيم والدعوات المطالبة بالتدخل الإسرائيلي والأجنبي في البلاد.