أحاول أن أنسى، فالنسيان ليس هروبًا من الألم، بل هو وسيلة للتعايش معه جبران خليل جبران.
توقفت الإبادة الجماعية، ولكن هناك مشاهد قد نُقشت في عقلي وقلبي كجمرٍ مشتعل يلتهمني.
أحاول أن أنسى الأطفال الذين غطتهم الأتربة والجروح، فقد رأيت في أعينهم رعبًا لم أشاهده من قبل، وأجسادهم الهشة ترتجف. صرخاتهم الصامتة تُخنق في حناجرهم وتطن في أذنيّ كلما حاولت أن أنام.
أحاول أن أنسى تلك الأم التي كانت تتنفس الألم، تصرخ بجنون فوق جثمان ابنها الذي مات جوعًا. وكأن صرخاتها كانت محاولة يائسة لإحياء القلب بشري الذي توقف عن النبض.
أحاول أن أنسى ذلك الأب الذي انحنى أمام جسد ابنه الشهيد، يقدم له بيد مرتعشة قطعًا من البسكويت كان قد طلبه قبل أيام. عيناه غارقتان في بحر من الدموع، يحاول استعادة تلك اللحظة التي سرقها منه الجيش المجرم.
أحاول أن أنسى أمهاتي وأخواتي اللواتي انتهكت أرواحهن قبل أجسادهن بوحشية أعادتنا إلى عصور المغول والصليبيين. صرخاتهن انطلقت من أعماق القهر لا الخوف، بينما كانت تُجرى لهن العمليات القيصرية دون تخدير، وكأنهن مجرد أجساد بلا أرواح، بلا مشاعر، وبلا ألم.
أحاول أن أنسى ذلك الطفل الصغير الذي فقد كل شيء، يقف وحيدًا وسط الركام، يبكي بصوت مبحوح، ويسأل ببراءة قاسية: «أين العرب؟ أين المسلمون؟» كان سؤاله كسيف يشق صدر أمة قد ماتت.
أحاول أن أنسى إخوتي وأخواتي الذين عانوا من آلام لا يمكن وصفها، بينما كانت أطرافهم تُبتر دون تخدير، وأصواتهم تحرق سماء عواصمنا دون مجيب.
أحاول أن أنسى ذلك الرجل الذي جلس وسط الأنقاض، يحتضن دمية دب، وهي كل ما تبقى له من عائلته.
أحاول أن أنسى تلك الشاحنات التي كانت تحمل يومًا «الآيس كريم»، لكنها محملة بالجثث، تجوب الشوارع حاملة برودة الموت، بل برودة قلب الإنسانية. ولا أستطيع أن أنسى ذلك الجد العجوز الذي كان يهمس لأحفاده الشهداء برسالة إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، قائلاً: «أخبروا رسول الله أن أمته قد خذلتنا.» كانت كلماته طعنة في قلب كل من بقي لديه ضمير.
أحاول أن أنسى تلك الفتاة الصغيرة التي استشهدت وهي تحاول، بكل ما تبقى لديها من قوة، أن تحمل قناع الأكسجين لأخيها. تضحية تعجز عن وصفها أقوى الكلمات وأعمق الأقلام.
ولا أستطيع أن أنسى جيش الاحتلال الإسرائيلي وهو يقتل النساء أمام أعين أطفالهن، ويطلق الكلاب لتنهش أجساد البشر بوحشية وبرودة دم لا توصف.
ولا أنسى الدبابات الإسرائيلية التي مزقت شوارع رفح، تدهس الأمل والأرواح بلا تمييز. ولا أستطيع أن أنسى القوات الإسرائيلية وهي تفتح النار على الحشود، في محاولة لإخماد كل ذرة من الحياة، وكل بقايا من الإنسانية.
ولكن، فوق كل ذلك، لا أستطيع أن أنسى المشاهد التي تحولت فيها غزة إلى جحيم، حيث قُطعت رؤوس الأطفال وسالت الدماء كالأنهار. تلك الأيام ستظل بقعًا سوداء في تاريخ البشرية.
ولن أنسى تلك الشركات الكبرى والتجار الخونة الذين ساعدوا الاحتلال في استمرار مجزرته. ولن أنسى تلك الدول والمنظمات التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان، المرأة، الطفل، والحيوان، لكنها آثرت الصمت، فكان صمتها موافقة ضمنية على القتل.
ولن أنسى الغرب، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، وهم يدعمون الإبادة الجماعية، ولا الذين وقفوا على الحياد.
هذه المشاهد وآلاف غيرها ستظل أوزارًا نحملها لبقية حياتنا، بانتظار يوم الحساب أمام الجبار العليم.
الدستور الأردنية
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الشهداء الاحتلال غزة غزة الاحتلال الشهداء العدوان المجازر مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
الانتقال الذي لا ينتقل !!
بحلول الحادي عشر من يونيو الجاري، (بعد الغد)، تكون قد مرت على ذهاب حكم “الإنقاذ” ستة أعوام وستون يوماً، وهي في نفس الوقت، المدة التي قضاها شعب السودان وهو في حالة “إنتظار” لكي تتاح له الفرصة أن يذهب إلى صناديق الاقتراع لاختيار حكامه بإرادته الحرة، وتنتهي بذلك فترة “الانتقال”، لكن ذلك لم يحدث، ولا يلوح في الأفق متى سيحدث، فنحن منذ أن نجحت قيادة القوات المسلحة ولجنة النظام الأمنية في “الإطاحة برأس النظام” والتحفظ عليه، ظللنا في حالة إنتقال من وثيقة إلى وثيقة ومن تعديل إلى تعديل، مبتدئين في كل مرة العد من الصفر، بدلاً من العد التنازلي!!
الشعارات التي عبّأ بها مخططو التغيير الذي حدث في أبريل 2019 ، كانت شعارات برَّاقة، فبعد أن ألبسوا نظام “الإنقاذ” كل صفة ذميمة، قالوا لنا إننا بصدد الانتقال من نظام شمولي إلى نظام ديمقراطي تعددي، ومن عهد العزلة إلى عهد الانفتاح، ومن حالة الضيق في المعاش إلى الوفرة والرخاء، وأنه ليس بيننا وبين ممارسة حقنا في اختيار حكامنا وممثلينا في البرلمان، إلا بضعة أشهر، لن تبلغ الأربعين مهما استطالت، وأنه إلى ذلك الحين فعلينا أن نرضى بما هو متاح من حكام مدنيين وعسكريين أقاموا بينهم شراكة لتُسهل عملية الانتقال !!
وقبل أن ينقضي العام الأول أتانا شريكا الفترة الانتقالية (المكون العسكري والمكون المدني)، بشريك ثالث قالوا لنا إن أمر شراكته يقتضي تصفير عداد الانتقال والبدء من الصفر، وعلينا ألاّ نحسب العام الذي ضاع من عمر الانتقال قد مضى سُدىً، فهو قد كان استكمالاً لأحد أضلاع مثلث شعار “الثورة” الأبرز، حرية ، سلام ، وعدالة؛ وبناءً على ذلك تحولت صيغة الشراكة من مثنى إلى جمع، فأصبحنا نُحكم بـ “شركاء” الانتقال بدلاُ من شريكين، ولم يكن أمامنا خيار غير أن نقول “خير وبركة”.
قام “الشركاء” بتعديل الوثيقة الدستورية، بناء على الإتفاق السياسي الذي جرى توقيعه في جوبا، عاصمة جنوب السودان، في الثالث من مارس 2020، ربما تأسياً بالاتفاق الذي وقعه نظام الرئيس جعفر نميري في أديس أبابا في الثالث من مارس العام 1972، وجعلوا للوثيقة السياسية (إتفاق سلام جوبا) عُلوية على الوثيقة الدستورية المعدلة، في حال تعارضت النصوص، والأهم من ذلك أن الشركاء وهم يُجرون تعديلاتهم على الوثيقة الدستورية، لم ينسوا أن يُثبتوا في صلبها نصّاً يقنن الشراكة الجديدة، فجاء في المادة (80) من الوثيقة الدستورية المعدلة في 2020 ما يلي نصه: (ينشأ مجلس يسمى “مجلس شركاء الفترة الانتقالية”، تمثل فيه أطراف الاتفاق السياسي فى الوثيقة الدستورية ورئيس الوزراء وأطراف العملية السلمية الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان، يختص بحل التباينات فى وجهات النظر بين الأطراف المختلفة وخدمة المصالح العليا للسودان وضمان نجاح الفترة الانتقالية، ويكون لمجلس شركاء الفترة الانتقالية الحق في إصدار اللوائح التي تنظم أعماله).
لم تزد اجتماعات مجلس شركاء الفترة الانتقالية عن الخمسة، سرعان ما “تشاكسوا” بعدها، إذ تصاعدت المناكفات بين أعضاء الحرية والتغيير- المجلس المركزي وبين العسكريين في مجلس السيادة، ويبدو أن “قحت” قررت على إثر ذلك أن تُميت مجلس الشركاء بالاهمال، فقررت أن تكتفي بمشاركة الأعضاء غير الأساسيين من صفها القيادي في اجتماعات المجلس مما أعاق المداولات وحول النقاش داخله إلى مهاترات، وتسبب هذا بدوره في مقاطعة بعض أعضاء مجلس السيادة من العسكريين لاجتماعات المجلس إحتجاجاً على المستوى غير اللائق في النقاش من قبل بعض أعضاء “قحت”، وهكذا تعطلت أعمال مجلس الشركاء، مثلما تعطل من قبل اكتمال أضلاع سلطات الانتقال من مجلس تشريعي ومحكمة دستورية ومجلس أعلى للقضاء.
تسارعت الأحداث عقب الشلل الذي أصاب مجلس الشركاء، فجاءت أحداث فض الشراكة بين المكونين المدني والعسكري في 25 أكتوبر 2021، وتمت الإطاحة بـ “قحت” من السلطة، فأغاظ ذلك رعاتها الإقليميين والدوليين الذين نجحوا لاحقاً في استمالة “أحد طرفي” المكون العسكري، وصمموا “الاتفاق الإطاري” للإطاحة بـ “الطرف الآخر”، لكن الانقلاب الذي خططوا له بإحكام، فشل، وتحولت المحاولة الإنقلابية إلى الحرب التي نعيش تفاصيلها منذ ما يزيد عن العامين.
بعد نحو ثلاث سنوات ونصف، ظل “الإنتقال” خلالها مُقعداً بعد أن أصابه الشلل، وظلت الأحداث الكبرى تتقاذفنا، يُسلمنا هذا إلى ذاك، بدأت تلوح في الأفق فرصة جديدة لبث الروح في جسد الانتقال واستعادة بعضاً من عافيته، وذلك بتعيين رئيس وزراء مدني، بكامل الصلاحيات، وفي ضوء هذه الخطوة المحمودة يتعين إنعاش آمال السودانيين في انتقال على أسس مختلفة، يضع سداتها شركاء قُدامى وجدد ويتم من خلالها إعادة ترتيب المشهد السياسي واستكمال مؤسسات الانتقال من مجلس شركاء ومجلس تشريعي ومحكمة دستورية ومجلس أعلى للقضاء وحوار سوداني – سوداني يرسم بتؤدة ملامح سودان المستقبل.
العبيد أحمد مروح
إنضم لقناة النيلين على واتساب