الخرطوم – ألقت قوى سياسية ومجتمعية سودانية حجرا في بركة السياسة الراكدة في السودان بطرح وثيقة لإدارة البلاد خلال المرحلة الأخيرة من الحرب وما بعدها، تبناها رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان، الذي وجّه رسائل إلى قوى معارضة، اعتبرها مراقبون غزلا ومحاولة لوضع نفسه في مرحلة سياسية جديدة.

وسلمت قوى سياسية وقيادات قبلية ودينية وجماعات مسلحة مساندة للجيش البرهان، يوم السبت الماضي، خارطة طريق أقرتها بعد مشاورات عُقدت في بورتسودان العاصمة الإدارية المؤقتة للبلاد.

وأبرز تلك المجموعات هي الكتلة الديمقراطية برئاسة جعفر الميرغني، وتحالف الحراك الوطني بزعامة التجاني سيسي، وتحالف سودان العدالة (تسع) بقيادة بحر أبو قردة، وحزب المؤتمر الشعبي بقيادة الأمين محمود، وتنسيقية القوى الوطنية.

باب مفتوح

وأعد مشروع الوثيقة لجنة من 10 أعضاء برئاسة المحامي نبيل أديب القيادي في الكتلة الديمقراطية، وضمت اللجنة مبارك أردول، ومعتز الفحل، وعبد العزيز نور عشر، ونور الدائم طه وآخرين.

وعقب تسلمه الوثيقة، أعلن البرهان "عزمه إنشاء حكومة حرب أو حكومة تصريف أعمال لاستكمال مهام الانتقال، ومساعدة الجيش في الأعمال العسكرية المتبقية لتطهير السودان من قوات الدعم السريع". وذكر أن الحكومة المرتقبة ستشكَّل من كفاءات مستقلة، دون منع رئيس الوزراء من تكوين هيئات استشارية وأجسام تساعده.

إعلان

وأضاف أن تعديلات أُجريت على الوثيقة الدستورية، فأصبحت مختلفة عما كانت عليه عند توقيعها مع الشركاء السابقين، في إشارة إلى تحالف قوى الحرية والتغيير في 2019، لتكون المرجعية الدستورية لفترة الانتقال.

واشترط البرهان على تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) "رفع يدها عن الدعم السريع"، وقال إن "الباب لا يزال مفتوحا أمام كل شخص اتخذ موقفا وطنيا، وكل من يعود نرحب به، بعد أن يرفع يده عن المعتدين وينحاز للصف الوطني".

وحددت الوثيقة -التي حصلت الجزيرة نت على نسخة منها- ثوابت وطنية تشمل وحدة السودان وسيادته الوطنية، والالتزام بالديمقراطية وحكم القانون، والعدالة والمساواة والمواطنة المتساوية، والهوية الجامعة، واستقلالية المؤسسة العسكرية.

عملية واسعة

واقترحت الوثيقة ذاتها التالي:

فترة تأسيسية انتقالية لمدة عام واحد تنتهي بنهاية حوار سوداني، وتهدف إلى وقف الحرب وردع العدوان، وتحقيق سلام مستدام، وإعادة تشغيل الخدمات للمواطنين، وتعيين حكومة كفاءات وطنية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، وإطلاق سرح المعتقلين، ودمج جميع الجيوش والحركات في القوات المسلحة، وإعادة النازحين واللاجئين. فترة انتقالية يحدد مدتها مؤتمر الحوار السوداني، ومهامها تنفيذ مخرجات الحوار، وعقد مؤتمر لصياغة دستور للبلاد وإقراره عبر استفتاء شعبي، وإعادة إعمار ما دمرته الحرب، ومعالجة أوضاع المتضررين من الحرب.

كما شددت على "ضرورة مشاركة القوات المسلحة في السلطة لحماية الفترة الانتقالية بشكل متوازن مع التطور الديمقراطي، على أن ينتهي دورها بنهاية هذه الفترة وتسليم السلطة لحكومة منتخبة". وأقرت استمرار مجلس السيادة من عسكريين ومدنيين، وتشكيل حكومة وحدة وطنية من كفاءات وطنية من دون محاصّة حزبية.

وحسب الوثيقة، يختار الحوار السوداني لجنة حكماء قومية ترشح رئيس الوزراء، كما سيتم تشكيل مجلس تشريعي، وانتهاج العدالة الانتقالية باعتبارها مقاربة شمولية لمعالجة الأوضاع السياسية والاجتماعية وتعقيدات النزاعات المسلحة.

إعلان

تعليقا على ذلك، يوضح القيادي في الكتلة الديمقراطية وعضو لجنة القوى السياسية والمجتمعية مبارك أردول أن الاتجاه الغالب أن تكون الفترة التأسيسية عامين والانتقالية مثلها، على أن يستمر البرهان رئيسا لمجلس السيادة لهاتين الفترتين (4 سنوات).

وفي حديث للجزيرة، يقول أردول إن الوثيقة مفتوحة وصارت ملكا للجميع، وإنهم سيتواصلون مع قوى أخرى تمهيدا لعملية سياسية واسعة تنتهي بدستور دائم للبلاد.

قنطرة للسلام

بدوره، كشف حاتم السر المستشار السياسي لرئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، الذي يتزعم الكتلة الديمقراطية، عن تفاهمات ومشاورات أجراها معهم البرهان بشأن تشكيل الحكومة الجديدة لإدارة الفترة الانتقالية، وعدها مشاورات أولية غير رسمية.

ورجح السر -في تصريح صحفي- الإبقاء على مجلس السيادة ممثلا للسلطة السيادية في الدولة، على أن يسمي البرهان رئيس وزراء مدنيا يكلفه بتشكيل الحكومة لتكون السلطة التنفيذية للدولة، كما سيتم التوافق على مجلس تشريعي يتألف من 250 عضوا.

وفي موقف لافت، رأى عضو الهيئة القيادية لتنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية "تقدم" ياسر عرمان أن "خطاب البرهان وحده غير كافٍ لوقف الحرب، لكنه يمنح فرصة للحوار، كما انتقل من خطاب النصر المطلق إلى رحابة حديث السياسة الذي يقود للبحث عن الحلول".

وقال عرمان، في منشور على مواقع التواصل، إن قوات الدعم السريع "حققت انتصارات في الفترة السابقة، ويحقق الجيش انتصارات وتقدما حقيقيا في الفترة الأخيرة، ولكن كل ذلك لا يحقق النصر المطلق لأي من الطرفين. ومهما كانت نتائج انتصارات الجيش الحالية، فإنها "سقالة" (هيكل) نحو الحل السلمي لا النصر المطلق، ويجب أن ترتكز إستراتيجيتيهما على الحل السلمي".

ووفقا له، فإن حديث البرهان عن تنسيقية "تقدم" واشتراط رفع يدها عن قوات الدعم السريع للترحيب بها هو "فقه دعاية الحرب ولم يقدم جديدا".

إعلان

أما الكاتب والمحلل السياسي عبد الله رزق، فيرى أن البرهان سعى -من خلال خطابه- إلى "مغازلة قسم من تنسيقية "تقدم"، ممن يستهويهم الاستوزار، واستقطابهم بما أسماها حكومة التكنوقراط التي تدير المرحلة الانتقالية". ويعتقد -في تعليق بصفحته على فيسبوك- أن البرهان "يتهيأ لأن يبقى جزءا من أي ترتيبات سياسية للوضع في البلاد متحكما بمصائرها طوال فترة الانتقال وما بعدها".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الکتلة الدیمقراطیة مجلس السیادة الدعم السریع

إقرأ أيضاً:

البرهان يناور بذكاء ويتوعد الدعم السريع

تخيل بلدا يقف على جرف هارٍ تدفعه حرب ضارية إلى الهاوية، وجيشا يقاتل على جبهات متشعبة، واقتصادا ينهار طبقة بعد أخرى، بينما تتنازع قوى عالمية على أرضه وموانئه وذهبه وموقعه الاستثنائي.

وفي قلب هذا المشهد يقف رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد الجيش، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، محاولا أن يمسك بالعصا من وسطها: يلوح للغرب بإمكانية الشراكة، ويشد في الوقت نفسه خيوط الارتباط بالشرق الصاعد.

ليس ذلك تقلبا سياسيا ولا انتقالا عشوائيا بين المحاور، بل مناورة وجودية فرضتها الجغرافيا القاسية، وحرب أنهكت الدولة والمجتمع، وتوازنات دولية تجعل من السودان ساحة اختبار كبرى في صراع النفوذ على البحر الأحمر والقرن الأفريقي.

وفي هذا السياق تحديدا، برزت آخر رسائل البرهان إلى الغرب عبر مقاله الذي اختار له بعناية صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية بتاريخ 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2025؛ رسالة لم تكن مقال رأيٍ عابرا، بل مذكرة سياسية مشفرة، صيغت بقدر محسوب من الإيحاء لتصل مباشرة إلى دوائر صناعة القرار.

الانحياز إلى الشرق يعني سلاحا متاحا، لكن يفضي إلى عزلة مالية خانقة والانحياز إلى الغرب يعني دعما اقتصاديا محتملا، لكن يفضي إلى فقدان الإسناد العسكري، وخطر الانفجار الداخلي، ولهذا يصبح الاصطفاف الكامل قاتلا

الرسالة السياسية والصفقة غير المعلنة

في مقاله المثير، حمل البرهان قوات مليشيا السريع مسؤولية الحرب، رافضا توصيف الصراع بأنه "صراع جنرالين"، ومؤكدا أنها حرب تمرد على الدولة.

لكنه لم يكتفِ بهذا التوصيف؛ بل بنى المقال كله على فكرة واحدة: إذا ساعدتموني على تفكيك مليشيا الدعم السريع وإنهاء التمرد، فسأكون جاهزا للمضي في مسار التطبيع، وتقديم صيغة حكم مدني ترضيكم.

لوح البرهان بالانتقال الديمقراطي، وذكر الغرب بأن الصراع يهدد مصالحه في البحر الأحمر، وفتح باب الشراكة الاقتصادية، مشيرا إلى دور للشركات الأميركية في إعادة الإعمار. بدا المقال أقرب إلى عرض تفاوضي مكتمل الأركان: دعم عسكري وسياسي مقابل شرعية واستقرار وتعاون أمني.

هذه الرسالة ليست معزولة؛ فهي تأتي في وقت تتنامى فيه تحركات البرهان على الساحة الدولية: خطابات في الأمم المتحدة، إشارات إيجابية في الملفات الإنسانية، وانفتاح محسوب على المؤسسات الغربية.

إعلان

لكن هذه الإشارات لا تعني انقلابا إستراتيجيا نحو الغرب، بل هي جزء من لعبة أكبر توازن فيها القيادة السودانية بين مكاسب اللحظة، ومخاطر الاصطفاف الحاد.

بين القيمة الجيوسياسية وكلفة الاصطفاف

يحتل السودان موقعا استثنائيا. فهو بوابة البحر الأحمر، وممر التجارة العالمية، وخزان ضخم للمعادن والأراضي الزراعية. ولهذا تتصارع عليه القوى الكبرى اليوم، كما لم تفعل من قبل.

الصين ترى في السودان امتدادا لطريقها التجاري نحو أفريقيا. استثماراتها الضخمة في الموانئ والبنية التحتية والزراعة، تجعلها تبحث عن طريقة لتفادي انهيار كامل قد يبتلع مصالحها. وبكين، رغم هدوئها المألوف، تدرك أن الفوضى في السودان تعني خسارة سنوات من العمل الاقتصادي والإستراتيجي، ولذلك تتحرك بدقة: دعم محدود للجيش، وضغط خلفي لتثبيت الاستقرار دون الاصطدام بالغرب مباشرة.

أما روسيا فقد استعادت أدواتها غير النظامية عبر "أفريكا كوربس"، البديل الجديد لفاغنر، بهدف ترسيخ وجود إستراتيجي دائم على البحر الأحمر. بالنسبة لموسكو، السودان ليس مجرد شريك إستراتيجي، بل هو مفتاح لدخول القرن الأفريقي بعمق، وتحقيق توازن مع الضغوط الغربية في أوكرانيا، وأوروبا.

الغرب من جهته يراقب بقلق تمدد الشرق. لكنّ لديه شرطا واحدا لم يتغير: لا دعم اقتصاديا حقيقيا دون التقدم في ملف التطبيع، وهندسة المسرح السياسي الداخلي، واستبعاد تيار بعينه.

هكذا يجد السودان نفسه أمام معادلة مستحيلة:

الانحياز إلى الشرق يعني سلاحا متاحا، لكن يفضي إلى عزلة مالية خانقة. الانحياز إلى الغرب يعني دعما اقتصاديا محتملا، لكن يفضي إلى فقدان الإسناد العسكري، وخطر الانفجار الداخلي.

ولهذا يصبح الاصطفاف الكامل قاتلا، والمناورة بين الشرق والغرب أشبه بخيط نجاة رفيع، لكن لا بد من السير عليه.

عدم الانحياز الذكي ورهان الداخل

ضمن هذه الحسابات الدولية المعقدة، يبرز مسار ثالث يفرض نفسه بقوة:

عدم الانحياز الفعال، وهو ليس حيادا سلبيا كما في الستينيات، بل إستراتيجية قائمة على مزيج من الانفتاح الانتقائي، والمداورة الدبلوماسية.

هذا المسار يعني:

تعاونا اقتصاديا عميقا مع الصين، دون الارتهان لها. شراكة أمنية مع روسيا، دون التحول إلى بوابة لها على البحر الأحمر. انفتاحا على الغرب، دون الوقوع في فخ الشروط الثقيلة التي قد تشعل الداخل. بناء دور إقليمي يعتمد على الجغرافيا لا على الأيديولوجيا.

بهذه المقاربة، يتحول السودان من ساحة صراع إلى لاعب يجيد توظيف الصراع لصالحه.

بيد أن كل هذا لن ينجح إذا لم يتم حسم المعركة الأهم: معركة الداخل. فالرهان الحقيقي ليس على واشنطن ولا بكين ولا  موسكو، بل على قدرة القيادة السودانية على:

توحيد الجبهة الداخلية، إعادة بناء المؤسسات، وقف النزيف الاقتصادي، وفرض إرادتها على القوى الإقليمية المتدخلة.

فمن دون جبهة داخلية متماسكة، تصبح المناورة الخارجية مجرد لعبة خطرة قد تسقط عند أول هزة. ومن دون قرار وطني صارم، لن تستطيع الخرطوم تحويل ثقلها الجيوسياسي إلى قوة حقيقية.

الخلاصة: المناورة ليست خيارا.. بل قدرا سياسيا

ما يقوم به البرهان اليوم ليس استسلاما للغرب ولا انحيازا للشرق، بل مناورة إجبارية تهدف إلى جمع السلاح من منطقة، والشرعية من أخرى، والمساعدات من ثالثة، دون دفع الأثمان كاملة لأي طرف.

إعلان

هي محاولة لاستثمار موقع السودان الفريد في معركة الهيمنة على البحر الأحمر، وتحويل الأزمة إلى ورقة تفاوض كبرى. غير أن هذه اللعبة الخطرة لن تجدي نفعا إذا لم يُستعَد الداخل أولا.

ففي النهاية، لا تحدد الدول الكبرى مصائر الأمم بقدر ما تحددها إرادة أبنائها.

وقدرة السودان على الخروج من النفق لا تتوقف على لعبة التوازن الدولية فحسب، بل على قوة البيت الداخلي، وتمكن القيادة من فرض رؤيتها على من يحاولون تشكيل مستقبل السودان من الخارج.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • البصرة.. 10 أعضاء يشكّلون كتلة جديدة داخل مجلس المحافظة (وثيقة)
  • بعد سجنه 5 سنوات.. استئناف نجل عبد المنعم أبو الفتوح.. اليوم
  • مظاهرات في مدن سودانية دعما للجيش وتحذير من تفاقم أزمة المياه
  • وزير الخارجية يعرب لنظيره الباكستاني عن التقدير للعلاقات الوثيقة بين البلدين
  • الجبهة الديمقراطية: ربط العدو الإسرائيلي الانتقال للمرحلة الثانية باستعادة جثة آخر أسير صهيوني هو محاولة مكشوفة لتعطيلها
  • البرهان يناور بذكاء ويتوعد الدعم السريع
  • صدام علني بين الحلفاء.. الإخوان يكشفون دورهم في حرب السودان
  • بعد حل مجلس النواب.. تايلاند تدخل مرحلة سياسية جديدة
  • دراسة تقترح أن ثورانًا بركانيًا مهد الطريق لوباء الطاعون الذي فتك بأوروبا
  • واشنطن تقترح ممثلا في مجلس غزة وضغوط لبدء المرحلة الثانية