كيف ولماذا طرح الفلسطينيون حل الدولة الواحدة؟ قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 20th, February 2025 GMT
الكتاب: حوارات في مسألة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين
المؤلف: محمد الحلاج
تحرير وتقديم: جابر سليمان
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية
مع تراجع فرص تحقيق حل الدولتين في العقدين الأخيرين برزت الكثير من المبادرات، والمؤتمرات والدراسات، داخل فلسطين وخارجها، تناقش موضوع حل الدولة الواحدة الديمقراطية، سيما مع تقويض إسرائيل لأي احتمالية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة بتوسيع المستوطنات بشكل كبير، وفرضها نظام فصل عنصري على الفلسطينيين.
غير أن الكتاب موضوع العرض هنا لا يناقش حل الدولة الديمقراطية في السياقات الحالية، إنما استنادا إلى أفكار ورؤى سياسية من ثمانينيات القرن الماضي، سجلها الباحث والأكاديمي وعضو المجلس الوطني الفلسطيني، محمد الحلاج، في العام 1982 في حوارات مع نخبة من المفكرين والسياسيين الفلسطينيين، لكنه لم ينشرها، حتى وجدها ابنه إبراهيم الحلاج في أرشيفه الشخصي بعد وفاته في العام 2017، فأرسلها لمؤسسة الدراسات الفلسطينية التي قامت مؤخرا بجمعها وتحريرها وإصدارها في هذا الكتاب. يقول الباحث الفلسطيني جابر سليمان في مقدمة الكتاب أن مقاربات الشخصيات الوطنية للدولة الديمقراطية "قد تبدو، من منظور راهن، منفصلة عن الواقع ومفرطة في التفاؤل، لكنها تعبر عن مستوى الفكر السياسي الفلسطيني في مرحلة صعود منظمة التحرير الفلسطينية وتبوئها مكانة متميزة بين حركات التحرر الوطني العالمية، خصوصا بعد قبولها عضوا مراقبا في الأمم المتحدة عام 1974، وفي أعقاب صدور قرار الأمم المتحدة الذي يساوي الصهيونية بالعنصرية عام 1975". ويرى سليمان أن الأهم من ذلك أن هذه الآراء عكست مضمونا تقدميا لمشروع الحركة الوطنية الفلسطينية، الذي يميز بشكل صريح بين اليهودية كدين والصهيونية كأيديولوجيا عنصرية.
ما يحدث اليوم في غزة هو "انكشاف لجوهر المشروع الصهيوني أمام قطاعات أوسع من الرأي العام العربي والعالمي". المشروع الذي "ينكر مجرد وجود الشعب الفلسطيني على أرضه، وينزع عنهم إنسانيتهم"، ويلتزم به مجتمع استيطاني عنصري.تركز الحوارات على مسائل أساسية مثل ماهية الحل الاستراتيجي الأمثل للقضية الفلسطينية، وإمكانية التوفيق بين مبدأ الدولة الديمقراطية وعروبة فلسطين، وما إذا كان هناك تناقض بين هذه الدولة وبنود الميثاق الوطني الفلسطيني، وعدم تجاوب القوى الديمقراطية اليهودية والعالمية مع فكرة الدولة الديمقراطية، وضرورة المرور بمرحلة حل الدولتين قبل الوصول إلى حل الدولة الديمقراطية.
طبيعة الدولة وعروبة فلسطين
عن بدايات ظهور فكرة حل الدولة الواحدة يقول محمد أبو ميزر، مسؤول العلاقات الخارجية في حركة "فتح" آنذاك، أن الحركة هي أول من طرح هذه الفكرة في العام 1968، حين بدأت تواجه الثورة على مستوى اليسار العالمي تساؤلات حول البرنامج السياسي لها، وماذا سيكون مصير اليهود، في الوقت الذي لم يكن لدى الثورة، حتى تلك الفترة، برنامجا واضحا.
ويضيف إنه بعد لقائه بعدد من مفكري اليسار الفرنسي في باريس مثل مكسيم رودنسون، وجاك بيرك، وبمساعدة من بعض رموز الثورة الجزائرية، تمت صياغة برنامج على شكل بيان، وصار يعرف ببرنامج الدولة الديمقراطية. بينما يؤكد بلال الحسن (1939 ـ 2024)، السياسي والصحافي، أن أول من طرح الفكرة كان الدكتور عبد الوهاب الكيالي في نشرة "فتح" التي كان يصدرها من لندن. لكن الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين هي من قدمت إلى المجلس الوطني الفلسطيني في دورته السادسة في العام 1969 ورقة عمل بهذا الخصوص، إلا أن أعضاء المجلس رفضوا إدراج هذا الموضوع في قرارات المجلس وتوصياته، حيث انتهى الأمر بإحالته إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لدراسته بصورة أعمق، مع أنه ظل يطرح بشكل أو بآخر في الأدبيات الفلسطينية وأدبيات المجلس الوطني.
يشير سليمان إلى وجود شبه توافق في الإجابات حول نفي أي تناقض بين نصوص الميثاق الوطني وحل الدولة الديمقراطية. ويشرح الباحث داود تلحمي كيف أن الميثاق "يعرّف الشخصية الفلسطينية، ولا يتناول الجنسية، ولا يحدد من له حق العيش في فلسطين.. وكل طروحات المقاومة ترى حق اليهود الموجودين في البلد جميعهم إذا أرادوا أن يكونوا مواطنين متساوين في الدولة الديمقراطية".
أما أحمد نجم، عضو المكتب السياسي لجبهة التحرير الفلسطينية فيقول إن "الميثاق ينص على تحرير فلسطين، وليس هناك في حركات التحرير ما يقول إن التحرير يعني طرد السكان من البلد، فتحرير ألمانيا، على سبيل المثال، من النازية لم يشترط طرد النازيين منها، بل تحريرها من سلطاتهم.. تهجير الناس لم يكن أبدا جزءا من فكر الحركة الوطنية العربية أو الفلسطينية، ولم تمارسه سوى الحركة الصهيونية". إلى ذلك يرى إبراهيم أبو لغد (1929-2001)، الباحث وعضو المجلس الوطني، أن "الميثاق، في الوضع الطبيعي، يجب أن يتم تعديله، لأنه يمثل مفاهيم وقيم ومبادىْ تلائم أواسط الستينيات، وليس فقط لجعله مناسبا للدولة الديمقراطية..".
بينما يقول يوسف صايغ (1916-2004) مفكر وباحث اقتصادي، إنه غير مقتنع بجدية التناقض بين الميثاق والدولة الديمقراطية، لسببين؛ الأول أن هناك مبالغة في دلالات النصوص، والثاني أنه يمكن تعديله إذا جاء وقت الحديث الجدي عن الدولة الديمقراطية وتوحيد فلسطين. وعن التوفيق بين فكرة الدولة الديمقراطية وعروبة فلسطين يقول المفكر منير شفيق إن "فلسطين تاريخيا بلد عربي وجزء من الوطن العربي، وقد انتزعت منه صفته العربية بالقوة بعد تأسيس الدولة الصهيونية. لذلك أمامنا ثلاثة خيارات، إما أن نقبل عملية الاغتصاب، وإما أن ندعو إلى قذف اليهود في البحر والعودة إلى ما كنا عليه، وإما أن نلجأ إلى الحل الديمقراطي، ونحن اخترنا الحل الديمقراطي، فكيف يلغي ذلك ارتباط فلسطين التاريخي والإقليمي، وكيف ينفي عنها هويتها العربية؟".
حول طبيعة الدولة الديمقراطية يقول شفيق أن شعار هذه الدولة أثار الكثير من الخلافات بين الفصائل الفلسطينية بشأن مضمونها الاجتماعي، فاليساريين نادوا بدولة ديمقراطية شعبية على أساس نظام اشتراكي، ونادى البعض بالعلمانية، بينما اعترض آخرون على علمانية الدولة. ويعبّر إلياس شوفاني (1933-2018)، الباحث والمؤرخ وعضو المجلس الثوري في حركة فتح، عن تطلعه إلى مجتمع اشتراكي، ولا يرى أهمية للتمايز الديني، إنما يعتبر أن ليهود فلسطين خصوصية، كأقلية لغوية دينية. ويقول إن "الخصوصيات لا يمكن إغفالها تماما، ولكن لا يجب تكريسها على حساب القاسم المشترك. فنحن لا نريد توازنا طائفيا، ولا نريد إقامة مجتمع معزول في المنطقة على أساس أن لفلسطين وضعا خاصا كلبنان". أما كميل منصور، باحث وأكاديمي، فيرى أن مشاركة العرب واليهود في القرار السياسي، وهو الأمر الذي يتطلب التخلص من الأيديولوجيا الصهيونية، "لا يعني عدم الاعتراف برابطة دينية روحية لكل يهود العالم في فلسطين، لكن يجب ألا يترجم ذلك إلى أطماع سياسية أو حق في الهجرة الجماعية".
الحل المرحلي
لكن لماذا لم تتحول فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة إلى برنامج سياسي؟ يقول الباحث فيصل حوراني (1939-2022)، إنه "حتى اليوم (وقت إجراء الحوار) لم يقدم أي طرف برنامجا للدولة الديمقراطية، وظل الوضع في مستوى الشعار. لا نعرف كيف سنصل إلى الدولة الديمقراطية، ولا نعرف شكلها، ولا القوى التي يفترض أن تناضل من أجلها. كل هذا يدل على أن الذين طرحوه في البداية فعلوا ذلك لأسباب إعلامية لأنه يعطي وجها مقبولا للعمل الفلسطيني، واليسار قبله على مضض ليواجه به برنامجا أكثر اعتدالا، وهو برنامج السلطة الوطنية". أما أبو ميزر فيفسر خفوت الحديث عن الدولة الديمقراطية بظهور برنامج، النقاط العشر-برنامج السلطة الوطنية، الذي جاء كتعبير عن "مرحلة تراجعية" نتيجة لحرب أكتوبر ومواقف الرئيس المصري أنور السادات.
ويرى منير شفيق أن سبب إهمال شعار الدولة الديمقراطية هو "التحول إلى الحل المرحلي، الذي جاء استجابة للعلاقات الدولية المتنامية لمنظمة التحرير مع المعسكر الاشتراكي ودول عدم الانحياز، إلى جانب محاولة مخاطبة الدول الغربية، التي لا تتجاوز في مساندتها الشعب الفلسطيني فكرة إعطائه حق تقرير المصير، وإقامة دولته المستقلة في جزء من فلسطين تتعايش مع دولة يهودية في الجزء الآخر". أما صخر حبش (1939-2009) أمين سر المجلس الثوري لحركة "فتح" فيقول:" لم نتابع مسألة تفعيل شعار الدولة الديمقراطية وتوضيحه لأنه طرح في مرحلة انحسار النضال الفلسطيني، التي كانت فيها الأولوية للدفاع عن النفس" في مرحلة انتقال قواعد الثورة من الأردن إلى لبنان.
إن الكيانات الاستيطانية تلجأ إلى الدرجة القصوى من العنف عندما تستشعر خطرا وجوديا، وهذا ما يفعله نتنياهو في حرب الإبادة التي يشنها على غزة. لذلك فإن عملية "طوفان الأقصى" ربما تكون "قد فتحت الطريق أمام مسار تفكيك هذا النظام الاستيطاني..يشرح جميل هلال، باحث وقيادي في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، تصور الجبهة لكيفية الانتقال من الحل المرحلي إلى الحل الاستراتيجي (الدولة الديمقراطية) بأنه بعد قيام الدولة الفلسطينية سيتحول الصراع إلى تصفية الصهيونية، فكريا ومؤسساتيا، بإلغاء كل أشكال التمييز ضد غير اليهود داخل إسرائيل. وعندها يطرح شعار الدولة الديمقراطية الواحدة التي تلغى فيها كل أشكال التمييز الديني والقومي. أما أبو لغد، ورغم أنه يرى أن الدولة الديمقراطية هي الحل الوحيد فإنه يقول: إذا أنشئت الدولة الفلسطينية المستقلة عن طريق التحرر الوطني، فهي محطة على الطريق (للحل الاستراتيجي)، أما إذا أنشئت في أوضاع اتفاق دولي نحن طرف فيه، فهي دولة مشروطة بشروط تمنعها من ذلك، وستكون نهاية الطريق، وستعني التخلي عن الهدف الاستراتيجي. وهذا لا يمنع قيام دولة ديمقراطية علمانية متطورة في جزء من فلسطين". ويرى عبد الجواد صالح، قيادي في منظمة التحرير، أن صعوبة التوصل إلى حل الدولة الديمقراطية هو الذي أدى إلى بروز فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة. وبقيام هذه الأخيرة سيمكن وضع حد للطموحات الإسرائيلية التوسعية، وهذا سيؤدي إلى الاقتراب أكثر من الحل الديمقراطي.
من النهر إلى البحر
يلفت جابر سليمان إلى ثلاث مجموعات تتبنى حل الدولة الواحدة، وهي ناشطة حاليا، الأولى "حملة الدولة الديمقراطية الواحدة"، أطلقها ناشطون وأكاديميون فلسطينيون ويهود في أوائل العام 2018 في مدينة حيفا. وتسعى إلى التعاون والتنسيق بين الأفراد والجماعات، داخل فلسطين التاريخية وخارجها، وتعتبر أن حل الدولتين قد دفنته إسرائيل بسياساتها الكولونيالية في الأراضي التي كان يفترض أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية المستقلة. والثانية "مبادرة الدولة الواحدة"، التي أطلقت في العام 2023 من قبل فلسطينيين مدعومين من حلفاء عرب ويهود، لطرح مشروع سياسي بديل لا يعترف بشرعية الدولة اليهودية من خلال حل الدولتين، ويقدم ما تعتبره النقيض الجوهري للمشروع الصهيوني، وهو الدولة الديمقراطية الواحدة من النهر إلى البحر.
ويلفت سليمان إلى أن "المبادرة" نظمت خلال الحرب الأخيرة على غزة مؤتمرا في بروكسل تحدث فيه المؤرخ إيلان بابيه، الذي أكد في مشاركته أن الفكرة الصهيونية، ومن خلال تجسيدها في دولة إسرائيل، تمر في المراحل المبكرة لزوالها وانهيارها. أما المجموعة الثالثة "مبادرة دولة فلسطين الديمقراطية التقدمية على كامل التراب الوطني"، فأطلقتها مجموعة من الشخصيات وكوادر الحركة الوطنية الفلسطينية في العام 2008، وهي تدعو إلى تفكيك بنية الكيان الصهيوني الاستعمارية الإحلالية، وإلغاء وظيفتها الإمبريالية المتمثلة بالهيمنة على المحيط الإقليمي والقومي. وللمبادرة أمانة عامة على المستوى العالمي من شخصيات عربية وأجنبية، لخلق رأي عام عربي وعالمي داعم لهذه الرؤية.
ويقول في مقدمة الكتاب: إن العديد من التحولات الجوهرية حصلت في المشهد الجيوسياسي للقضية الفلسطينية منذ العام 1982 وحتى يومنا هذا. وما يحدث اليوم في غزة هو "انكشاف لجوهر المشروع الصهيوني أمام قطاعات أوسع من الرأي العام العربي والعالمي". المشروع الذي "ينكر مجرد وجود الشعب الفلسطيني على أرضه، وينزع عنهم إنسانيتهم"، ويلتزم به مجتمع استيطاني عنصري.
ويضيف: إن الكيانات الاستيطانية تلجأ إلى الدرجة القصوى من العنف عندما تستشعر خطرا وجوديا، وهذا ما يفعله نتنياهو في حرب الإبادة التي يشنها على غزة. لذلك فإن عملية "طوفان الأقصى" ربما تكون "قد فتحت الطريق أمام مسار تفكيك هذا النظام الاستيطاني.. من دون المبالغة في قرب تفكيك هذا النظام.. فهو يتطلب تغييرا ملموسا في موازين القوى الدولية والإقليمية، وينطوي على عملية تاريخية معقدة ومتعددة الأبعاد ومؤلمة..". وينظر سليمان إلى شعار "فلسطين حرة من النهر إلى البحر" الذي يتردد في أنحاء مختلفة من العالم اليوم باعتباره المعادل الموضوعي لشعار" الدولة الديمقراطية الواحدة".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الدولة فلسطين العرض احتلال فلسطين كتاب دولة عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدولة الفلسطینیة حل الدولة الواحدة المجلس الوطنی حل الدولتین فکرة الدولة سلیمان إلى فی العام
إقرأ أيضاً:
القبيلة والدولة.. الموالي بين منطق الفتح ومأزق التمييز في المشروع الأموي.. كتاب
الكتاب: النزعة العربية وأثرها على الموالي في عصري صدر الإسلام والدولة الأمويةالكاتب: الدكتور جوتيار تمر
الناشر: تموز ـ ديموزي للطباعة والنشر والتوزيع ـ دمشق، الطبعة الأولى 2024
306 صفحة من القطع الكبير.
في هذا الجزء الثاني من قراءته لكتاب "النزعة العربية وأثرها على الموالي في عصري صدر الإسلام والدولة الأموية"، يتناول الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني مسألةً جوهرية في تشكّل الدولة الأموية: العلاقة المتوترة بين العرب والموالي، بين منطق الدعوة الإسلامية القائم على المساواة، ومنطق الدولة السلطوية التي كرّست الامتيازات القبلية. فالفتوحات الإسلامية، التي وسّعت رقعة الدولة، لم تترافق بسياسات إدماج عادلة، بل أنتجت طبقية جديدة، جعلت من غير العرب مواطنين من الدرجة الثانية، رغم إسلامهم ومساهماتهم في بناء الدولة.
يكشف هذا الجزء من القراءة عن بنية السلطة الأموية كتحالف بين القبيلة والملك الوراثي والإقطاع المالي، حيث أُقصي الموالي عن مواقع القرار، وحُصر دورهم في ميادين الإدارة والجباية والعلم. ويبيّن المديني، انطلاقًا من تحليل الدكتور جوتيار تمر، كيف أن هذا التمييز المنهجي لم يكن حالة عرضية، بل خيارًا سياسيًا منظّمًا، ساهم في تأجيج التوترات الاجتماعية، ومهّد لصعود المعارضة العقائدية والسياسية، التي وجدت في العباسيين منبرًا للثأر والتمثيل.
موقف الدولة العربية الأموية تجاه الموالي 41- 132هـ / 550 - 750م.
استلم بنو أمية السلطة، فتغيرت الموازين العامة لسياسة الدولة، التي مالت للعرب، واستغلت غير العرب، مع أن بعض الباحثين يلتمسون العذر للمسلك الذي اتبعه بنو أمية نحو الموالي، ويرون أنه موقف طبيعي يلائم سنة التطور، ويتفق وطبيعة الأشياء، وضرورة تحتمها الظروف والملابسات التي كانت قائمة آنذاك. فالأمويون من الجنس العربي الذي شارك في الجيوش العربية الاسلامية الغازية، وإليهم آل الحكم وتدبير الأمر، والموالي مسترقون لهم، وأنهم اجناس مغلوبة على أمرها فمن السياسة إذا كبح جماح تلك الأجناس، وتذكيرهم بالسيطرة العربية حتى يخضعوا لها، ولا تحدثهم نفوسهم بالخروج عليها، بغية وضع حدود للحريات الفردية والجماعات، وبينوا ما لها من حقوق وواجبات والتزامات وأعراف وعادات.
وكان ذلك من عوامل الحد من سلطة الشعب، وزيادة في استبداد السلطة وقدرتها، لاسيما أن عدد الموالي عندما سيطر الأمويون على الحكم كان في ازدياد نتيجة سيطرة الجيوش العربية الإسلامية الغازية على البلدان والتي أوجدت الرقيق عن طريق الأسر أو الإهداء، فالعمال كانوا يبعثون بالعديد من الرقيق البيض والسود إلى بلاط الخليفة هدية، أو بدلاً من الخراج أو نحوه.
ومع أن ذلك التعليل لموقف بني أمية من الموالي يعد من المنظور السياسي محكماً، ومتماشياً مع نظرية الغالب والمغلوب، إلا أنهم بتلك السياسة قد نقضوا مبداً هاماً من المبادئ التي من المفترض أن الإسلام قد حاربها، ومحاها، والذي يتعلق بالمساواة التامة بين معتنقيه العدالة الاجتماعية، حيث أن الدولة الأموية لم تحاول أن تسوي بين العرب وبين أجناس الشعوب التي دخلت تحت سيطرتها، أو تألفها، وتحكم فيهم بحكم الإسلام، بل على العكس من ذلك تحيزت للجنس العربي وقلدته كل المناصب المؤثرة في الدولة وقد سار الخلفاء الأمويون على نهج الخلفاء الراشدين، ففرقوا في المعاملة بين العرب والموالي.. وحرموهم من تولى المناصب الإدارية والسياسية، التي تتحكم برقاب العرب، مع عدم إنكار تولي بعض الموالي بعض الوظائف الإدارية في الدولة الأموية، إلا أنها ألزمتهم مواضع لا يتجاوزونها حتى لا يتغلغلوا في المجتمع العربي، كما ألزمت الداخلين منهم في الإسلام بالولاء لقبيلة عربية خصوصاً الموالي من أهل الذمة، وفي بعض الفترات حرمت عليهم الهجرة إلى حواضر الإسلام، كما فعل الحجاج حين أعادهم إلى قراهم بالقوة وختم على أعناقهم وأيديهم.
حتى في الحدود أوجدوا تلك الفوارق فإن أخطأ العربي تكون عقوبته أخف من الموالي أياً كانوا، فحين كان يوسف بن عمر الثقفي ت 137هـ / 745م يعذب خالد بن عبد الله القسري ت 136هـ / 743م وقد منع عنه الماء، قام زيد بن تميم القيني بإرسال شربة من سويق مع أحد الموالي له "فبلغ ذلك يوسف، فضرب زيداً خمسمائة سوط، وضرب مولاه ألف سوط، وبالرغم من المبالغة في عدد مرات الضرب إلا أنها دلالة على وجود التفرقة في التعامل مع الحدود أيضاً بين العربي والموالي.
الإسلام كمنظومة وإن استطاع من احتواء القبائل العربية تحت مظلة دين واحد، إلا أنه لم يستطع من احتواء النعرات القبلية التي ظلت لعقود طويلة تهدد استقرار المنظومة السياسية للدولة الإسلامية..كان المجتمع العربي حتى في ظل الإسلام مجتمعاً قبلياً في بنيته الأساسية، ولا مكان للمرء خارج ذلك التركيب الاجتماعي، فقط لجأ المسلمون الأوائل من العجم الموالي إلى الالتحاق بالقبائل العربية والانخراط في جملة أبنائها على الولاء، ليكونوا ملحقين بها في المخطط الاجتماعي العام، فتعرف مكانتهم بين العرب، فقد كان الولاء للقبيلة العربية مظلة يتوقى بها الموالي مخاطر الفتن والأحداث التي نشبت بين أطراف المجتمع الإسلامي نفسه، فالإسلام كمنظومة وإن استطاع من احتواء القبائل العربية تحت مظلة دين واحد، إلا أنه لم يستطع من احتواء النعرات القبلية التي ظلت لعقود طويلة تهدد استقرار المنظومة السياسية للدولة الإسلامية.. آنذاك لم تكن سطوة القبائل العربية وطموحاتها في السيطرة والحصول على الغنائم موجهة ضد بعضها البعض أو الموالي الواقعين تحت سيطرتهم فحسب، فقد عمدت تلك القبائل إلى فرض وجودها عبر تهديد السلطة أحياناً، على الرغم من كون البعض منها كانت محل اعتماد الخلفاء منذ بداية توجه الجيوش الغازية نحو البلدان الأخرى، وبسبب نزعتها السلطوية انقسمت القبائل وتفرعت إلى تجمعات وتحالفات ثانوية داخل التجمعات الرئيسية، فالقحطانية انقسمت إلى تجمعين رئيسيين: كهلان وحمير ومنهما تفرعت الكثير من القبائل التي كانت قد أسست دويلات اليمن، في حين انقسم الفرع العدناني أيضاً إلى تجمعين كبيرين، مضر وربيعة، ومن مضر خرجت كنانة ومنها خرجت قريش، من خلال متابعة طريقة توزيع تلك القبائل ستتضح الصورة الاجمالية لقيمة الصراع فيما بينها وبين السلطة وتأثير ذلك على الموالي.
يقول الكاتب جوتيار تمر: "وانتهج الأمويون سياسة قاسية وشديدة في التعامل مع الفئات غير العربية أصحاب الأراضي في بداية عصرهم، مما لم يدع لهم مجالاً للتحرك ضد العرب المسلمين، مست بعض تلك الإجراءات المتعسفة جماهير الموالي، وأثرت فيهم وفي نظرتهم للحكم الإسلامي بصورة عامة، وفي المقابل كانت نظرة الأمويين إليهم أن اعتبرتهم كماً مهملاً يجب أن يقتل شطرا منهم أما الشطر الآخر فيسخر لإقامة الأسواق وعمارة الطريق، وذلك في الوقت الذي أسرف فيه ولاة العراق في إرضاء الأرستقراطيتين العربية والفارسية من الدهاقين، على أنه حتى في اعتمادهم على الدهاقين في بعض الأمور المالية والإدارية المتعلقة بالضرائب والخراج والجباية كانت السلطة العربية القبلية تحاول استغلال درايتهم بتلك الأمور وسبقهم الحضاري في تلك التنظيمات من جهة، والأمر الأهم حتى لا يكسروا الخراج ولا توغر صدور العشائر إذا ما طالبت السلطة أفرادها بدفع الخراج من جهة أخرى، تلك هي السياسة التي اتبعها زياد بن أبيه أثناء ولايته على العراق فقد كان يقول: "كنت إذا استعملت الرجل من العرب فكسر الخراج، فتقدمت إليه أو أغرمت صدور قومه، أو أغرمت عشيرته أضرت بهم، وإن تركته تركت مال الله وأنا أعرف مكانه، فوجدت الدهاقين أبصر بالجباية، وأوفى بالأمانة، وأهون في المطالبة منكم، مع أني قد جعلتكم أمناء عليهم لئلا يظلموا أحداً"(ص144).
الصراعات الداخلية وانعكاسها على الأوضاع العامة في الدولة الأموية.
اكتظت بلاد الشام واختلطت بالأجناس والأديان، كما كان هناك اختلاف في الحالة الاقتصادية في المدن والأقاليم العريقة، فقد انقسم المجتمع الأموي إلى طبقات، يأتي الحكام في أولها، والعبيد في آخرها، ويمكن التعرف على تلك الطبقات من خلال قواعد الحكم والأسس الموروثة، منذ قيام دولة الإسلام إلى أن تمكن الأمويون من تحقيقها في مجتمع الشام، فاحتلت كل طبقة مكانتها ووضعها الطبيعي، ولغلبة العرب على الإسلام والبلاد، كانوا في أعلى المستويات، فمنهم الحاكم والأمير والقائد، ولأنه كان هناك تشابه بين الحياة في الشام وحياة البدو في الجزيرة العربية في عصر ما قبل الإسلام، نظراً لامتداد الجزيرة العربية إلى بادية الشام، وأن حياة البدو تعتمد على التنقل والترحل، فقد انتقل إليها الكثير من قبائل العرب سواء قبل البعثة النبوية أو بعد تحرك الجيوش الغازية للسيطرة عليها، ولغلبة طبع البداوة عليهم فقد اتخذوا بدل السهول والوديان من بادية الشام والمدن مركزاً لاستيطانهم، وسكنوا الخيام أول أمرهم، ثم تحولوا إلى القصور، وقضى معظم خلفاء بني أمية حياتهم في البادية بعيداً عن المدن واقاموا فيها القصور الفخمة.
يقول الكاتب جوتيار تمر: "قام معاوية بن أبي سفيان منذ استلامه ولاية الشام بعزل نفسه بوعي تام عن مشاكل ونزاعات القبائل العربية، وركز كل جهوده على القبائل الشامية التي كانت بمنأى عن تلك الصراعات القبلية العربية، وبذلك وضع الأساس المتين الذي سيستند إليه لاحقاً في تحويل ولايته إلى مركز سياسي مستقل، ومنفصل عملياً عن مركز الخلافة في المدينة أو الكوفة، وذلك ما أثمر حين استطاع أن يكسب ود زعيم القبائل الشامية آنذاك شرحبيل بن السمط الكندي ت 542 / 622م فاكتسبوا وده، وأخذ هذا يعبئ مدن الشام على علي قائلاً: أن علياً قتل عثمان، وأنه غضب له قومه فلقيهم وقتلهم وغلب على أرضهم ولم يبق إلا هذه البلاد وهو يريدها لنفسه، ولا يجد أحداً يقوى على قتاله إلا معاوية.
أظهرت الدراسات أن معاوية لم يعتمد على القبائل التي توجهت للسيطرة على بلاد الشام، إنما اعتمد بالدرجة الأساس على القبائل العربية الأصيلة التي سكنت الشام قبل ذلك بعقود طويلة، وكانت لها فروع منتشرة في الكوفة والبصرة وحتى في مناطق فارس، وبذلك استطاع من إثارتهم ضد منافسيه في حروبهولقد أظهرت الدراسات أن معاوية لم يعتمد على القبائل التي توجهت للسيطرة على بلاد الشام، إنما اعتمد بالدرجة الأساس على القبائل العربية الأصيلة التي سكنت الشام قبل ذلك بعقود طويلة، وكانت لها فروع منتشرة في الكوفة والبصرة وحتى في مناطق فارس، وبذلك استطاع من إثارتهم ضد منافسيه في حروبه، فمعاوية لم ير غير القبائل العربية تلك أهلاً ليكونوا سنداً له، وبذلك لا يؤكد على عروبة مساعيه فحسب، إنما يغير من النظم السياسية القائمة على أساس وحدة القبلية، إلى نظام أكثر تطوراً وذلك باستغلال القبائل العربية الأصيلة في وحدة الدولة التي لديها حاكم واحد، والقرارات تصدر من جهة واحدة، والأحكام والشرائع تصدر من شخص واحد، مع الحفاظ على العادات القبلية العربية الاصيلة للإبقاء على ود زعماء ورؤساء تلك القبائل، تلك القبائل التي استوطنت بلاد الشام كانت في الاصل قسمين من العرب، عرب الجنوب اليمانية، وعرب الشمال العدنانية، واحتلت بعض القبائل مكانة في نفوس الحكام منذ عصر ما قبل الإسلام، وأثناء حكم الروم، حتى العصر الأموي، وتعاونوا معهم، حيث استوطنت القبائل العربية ولاسيما القحطانية في بلاد الشام منذ ما قبل البعثة النبوية"(ص147).
أما سياسة معاوية بن أبي سفيان تجاه القبائل التي دخلت بلاد الشام مع تحركات الجيش العربي الإسلامي، وما بعدها من اليمانية والقيسية فقد تقرب إلى اليمانية، لاسيما من قبيلة كلب التي ورثت الغساسنة، وتزوج منهم، وكون منهم فرقة خاصة أجزل لها العطاء، وفي الوقت نفسه تقرب من القيسية الذين جاؤوا إلى بلاد الشام من الحجاز لحماية الثغور فيها، إلا أنه في الإجمال اعتمد على القبائل العربية الأصيلة في بلاد الشام، وذلك لبعدهم عن الصراعات التي كانت تدور بين المسلمين لاسيما بين الكوفة ودمشق والحجاز والبصرة، أصبحت الشام أموية بشكل لا رجعة فيه بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان، وحين آلت الخلافة إليهم، عمدوا إلى إحياء النعرات القبلية بين عرب الشمال وعرب الجنوب ليس في الشام وحدها، إنما في كافة الولايات الإسلامية ليضمنوا لحكمهم الاستمرار بإحداث نوع من التوازن السياسي، فتارة كانوا يؤازرون عرب الشمال المضرية القيسية، وأخرى يساندون اليمنية من عرب الجنوب، فاشتعلت نيران الصراع بينهما في المشرق والمغرب على السواء حتى صور بعض الدارسين لتاريخ بني أمية على أنه حلقات متصلة من الحروب بين اليمانية والقيسية.
أخذت تلك الصراعات تكثر بين القبائل طلباً للثارات في أحيان كثيرة، لاسيما بين القيسية وغيرها من القبائل، واستمر القتال بينهم وكانت سجالاً يوم لقيس وآخر لتغلب، ففي سنة 69هـ / 688م، كانت الغلبة لتغلب على قيس ووصلت حدة الحرب بينهم إلى بقر بطون النساء كما فعلوا في يوم الثرثار سنة 70هـ / 689م، إذ استنجدت كل قبيلة بحليفاتها على الأخرى، فحشدت تغلب قواتها واجتمعت إليها بعض القبائل الأخرى من ظبيان وشيبان وغيرها، واستنجدت قيس بدورها حليفاتها "فاقتتلوا قتالاً شديداً، وقتلت تغلب ومن معها منهم مقتلة عظيمة، وبقروا بطون ثلاثين امرأة من بني سليم"، لم تكن تلك الواقعة الأولى والأخيرة بينهم لأنه قد سبقها وتلاها الكثير من الحروب الطاحنة بسبب العصبية القبلية والثارات بين تلك القبائل، على الرغم من تباين واختلاف أسباب الصراع وتلك الحروب إلا أن الصورة الإجمالية كانت واحدة، وهي بقاء روح العصبية القبلية بين تلك القبائل على الرغم من مرور ما يقارب القرن على إسلامهم، ذلك ما يثبت أن الإسلام لم يتجذر فيهم، ولم يستطع من إخراج الكثير من القبائل العربية من فكرها القبلي، فكان عصر بني أمية هو عصر التكتلات القبلية، فمع العصبيات للرهط أو البطن، ظهرت العصبية القبلية أو الجذم أيضاً أهله وعشيرته، وبالتالي كانت تلك الحروب وبالاً على الإسلام والمسلمين من جهة، ودافعاً قوياً لغير العرب ممن كان يرفض سطوة القبائل العربية والحكم العربي بأن ينضم إلى طرف للثأر من الطرف الآخر، وذلك لأن معايير التنظيم الاجتماعي والسياسي عندهم ظلت مشوبة وعند بعض مسلمة ما بعد خروج الجيوش الغازية نحو تلك البلدان، وحتى إفراد من السابقين أحياناً بشوائب ما قبل الإسلام، وكان ذلك سبباً من أسباب الفتن السياسية والعسكرية التالية بين المسلمين، فالصراع القبلي كان متجذراً حتى في قادة الجيش أمثال عبيد الله بن الحر ت 68هـ / 687م الذي كان من قادة العرب في معارك القادسية وجلولاء ونهاوند، ولكنه حين وجد إن قريش تريد أن تستأثر بالسلطة لاسيما بعد صراع يزيد بن معاوية وعبد الله بن الزبير، قال: "ما ارى قريشاً تنصف ابناء الحرائر 4، في اشارة واضحة إلى احتكار قريش للسلطة وتجاهل حق الآخرين فيها".
تأثر الموالي بالسياسة القبلية العربية الأموية ومشاركتهم
إن الدولة الأموية قامت على أساس سياسة عقلانية، أي على اساس دولة السياسة في الاسلام، حيث أن القبيلة لا العقيدة هي التي قامت بدور محدد للممارسة السياسية في العصر الأموي ـ وكانت بنية هذه الدولة بنية قبلية، فـ "القبيلة" في العصر الأموي لم تكن تؤطر سوى الفاتحين العرب، وهم وحدهم كانوا "أهل الدولة" وممارسة السياسة في "القبيلة" كانت تتم في صفوف هؤلاء وليس خارجهم.
وإذا نحن أردنا أن نجسم المسألة تجسيماً قلنا: لقد كان هناك " جند" وهم الفاتحون العرب، أصبحت له دولة، فالدولة كانت دولة الجند ولم يكن الجند الدولة. هذا بينما كان الوضع في عهد الخلفاء الراشدين يختلف تماما كانت هناك دولة، هي دولة الدعوة التي أسسها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وخلفها عليها الاربعة الراشدون، وكان لهذه الدولة جيش يتألف في بداية الأمر من المتطوعين من المهاجرين والانصار ثم منهم ومن قريش وغيرها ممن اسلم بعد فتح مكة إلى نهاية حروب الردة. وعندما جنّد عمر بن الخطاب القبائل للفتح كانت هذه القبائل جنداً لدولة المدينة. غير ان الثورة التي قامت ضد عثمان وانتهت بالحرب بين علي ومعاوية قد غيرت الوضع تماماً. ان مقتل عثمان كان بمثابة عقد وفاة لدولة المدينة التي كان لها " جيش" والحرب بين علي ومعاوية كانت حرباًَ أهلية داخل جيش دولة المدينة، فانتصر فريق على فريق واقام الفريق المنتصر من هذا الجيش دولته.
إن الدولة الأموية قامت على أساس سياسة عقلانية، أي على اساس دولة السياسة في الاسلام، حيث أن القبيلة لا العقيدة هي التي قامت بدور محدد للممارسة السياسية في العصر الأموي ـ وكانت بنية هذه الدولة بنية قبلية، فـ "القبيلة" في العصر الأموي لم تكن تؤطر سوى الفاتحين العرب، وهم وحدهم كانوا "أهل الدولة" وممارسة السياسة في "القبيلة" كانت تتم في صفوف هؤلاء وليس خارجهم.وعلى الرغم من ان دولة الدعوة المحمدية قامت على أساس العقيدة، حيث ان الاسلام جاء ليحقق العدل الاجتماعي وينصف الفقراء والمعدمين من استغلال الطبقة التجارية الاحتكارية السائدة في مكة، الان ان المغزى العام للتاريخ في العصر الأموي هو تكوين الدولة الامبراطورية، التي استلم التجار المكيون أنفسهم قيادة هذه الدولة، بسبب نضج الظروف والشروط لولادة هذه الدولة المركزية، حيث أعاد معاوية توحيد الفئات الغنية التي تركزت ثروات هائلة في ايديها، مع تضافر عنصر الغنيمة في مرحلة حركة الفتح المتنامية. و" لقد تمثلت النقلة النوعية في التطور بتركيز سلطة مركزية آخذة في التحول إلى طبقة ارستقراطية شبه اقطاعية. تلك السلطة وتلك الطبقة هي ما يطلق عليه اسم الإقطاع المركزي إن تطور تقسيم العمل، تطور الحرف كما ونوعاً، وتطور التجارة وكافة وجوه الاقتصاد النقدي، وكذلك تطور الزراعة بتحسين وسائل الري، وتطور السلطة المركزية مؤسسات واجهزة وجيشاً وادارات، ان كل ذلك قد شكل دفعاً هاماً للانقسام الطبقي والاجتماعي على حساب المشاعية القبلية. وقد أدى ذلك إلى حدوث اختلال هام في الاساس المادي للقبيلة المشاعية ألا وهو الملكية المشاعية الجماعية الا أنه، أي التطور، لم يستطع أن يحسم المعركة معها ولا أعدمها أساساً مادياً تستند إليه، لأنه غالباً ما ترافق التطور مع استمرار لون من الملكية الجماعية للأرض أو نوع من الكيان الاقتصادي الاجتماعي المميز والذي يشكل الأساس المادي لظهور نوع جديد من الانقسام القبلي (ديار بكر ديار ربيعة).
لقد أعاد معاوية إنتاج البنية القبلية، وعمل على تطوير إقطاع الدولة المركزي، الذي كان يزاوج بين الاقتصاد النقدي، وبين الإقطاع الزراعي، وحول الأراضي التي كانت ملكاً للدولة الاسلامية إلى ملكية خاصة استفاد منها أخص أقربائه وبطانته الذين تحولوا إلى كبار ملاكين عقاريين، التي تشكلت منهم الارستقراطية الإقطاعية الجديدة. كما اتسمت مرحلة معاوية بالتنابذ القبلي، وانعكس ذلك في تفاقم التناقضات الاجتماعية الطبقية "التي تراوحت أشكالها بين الصراعات القبلية أو صراعات القبائل المستضعفة مع السلطة، وبين الصراعات الاجتماعية الأكثر قرباً من الطبقة حين اتخذت شكل مقاومة لفساد السلطة المتمثل باستغلال الخلافة لتحويل الأموال والأراضي العامة إلى ملك فردي وامتياز طبقي".
ومع تبلور وتطور إقطاع الدولة المركزي، حين فرض الأمويون الخراج على الذين يسلمون من غير العرب متجاوزين بذلك المبدأ القائل: "إن الجزية والخراج حقان أوصل الله سبحانه وتعالى المسلمين إليهما من المشركين".. وحين أعادوا الكثير من الضرائب التي كان يرهن بها إقطاع البلاد المفتوحة كاهل الفلاحين قبل الفتح الإسلامي مما دفع هؤلاء لاستقبال المسلمين استقبال المحررين، وحين أضافوا إلى هذه الضرائب ضرائب جديدة". هذه التناقضات الناشئة في ظل البنية المركبة للدولة العربية انتجت آليات مركبة للصراع، استمرار الصراع القبلي أو المنابذات القبلية، وظهر الصراع القومي، وظهرت التيارات والأحزاب الاسلامية الخالصة، التي شكلت جميعها قوة معارضة للحكم الأموي.
ولما كان الطابع القومي للدولة الأموية محكوماً بعاملين أساسيين أولهما مستوى الوعي الاجتماعي العام والثاني درجة التدامج القومي والاجتماعي، وإذا أضفنا إلى ذلك العقلانية السياسية المنقوصة للدولة الأموية، بحكم موقف السلطة من المعارضة، فإن النزعة القومية يمكن أن تتحول إلى نزاع أقوامي، إذا افتقرت إلى وعي مناسب بذاتها، وإذا افتقر مجتمعها إلى الاندماج القومي، وإذا كانت من أشكال المعارضة التي عملت خارج حقل السلطة، واتخذت مظهراً ايديولوجيا تحولت فيما بعد إلى مظهر سياسي مباشر، أي تحولت إلى قوة معارضة للدولة الأموية، هي التالية: فئة الموالي
أما الفئة الثانية من المعارضة التي عملت في حقل السلطة، فهي فئة الموالي، التي اعتبرت أن مجال الصراع السياسي هو مجال الدولة، لذا تشبثت بهذا المجال، وضمنت لنفسها حضورا سياسياً دائماً.
فمع انتشار الاسلام بواسطة الفتوحات، تشكلت "طبقة" الموالي، الذين كانوا مسلمين أحراراً، أرادوا أن يحتلوا موقعاً مهماً في الخارطة الاجتماعية. ولما كان المجتمع العربي في العصر الأموي تسيطر عليه الارستقراطية القبلية، وأنواع من السلوك الأرستقراطي، فقد كان الموالي يعتبرون، ويعاملون في مرتبة دنيا على مستوى العلاقات الاجتماعية. ففي عهد الدولة الأموية كانت الأرستقراطية القبلية تعيش من غنائم انفتاح الأسواق والآفاق أمام ثرواتهم وتجارتهم، في بذخ ورغد العيش، بينما كان الموالي محرومين من أي نصيب من الغنيمة، ولذلك انصرف موالي المدن للعمل في التجارة والصيرفة أو بالعلم، في سبيل الحصول على صبوة اجتماعية محترمة، وبالتالي مركزاً محددا في السلطة، وقد انبثق منهم العديد من الكتاب والفقهاء الذين يتمتعون بمنزلة محترمة.
مع أن الموالي شاركوا في القتال، إلا أن السلطة الأموية لم تدخلهم في ديوان الجند، لكي يحصلوا على العطاء، لأن القبائل ما كانت لتقبل المساواة بينها وبين الموالي في العطاء، في حين أن الموالي يرون أنهم وحدهم قاموا بالفتوح.ومع أن الموالي شاركوا في القتال، إلا أن السلطة الأموية لم تدخلهم في ديوان الجند، لكي يحصلوا على العطاء، لأن القبائل ما كانت لتقبل المساواة بينها وبين الموالي في العطاء، في حين أن الموالي يرون أنهم وحدهم قاموا بالفتوح. وفي نطاق هذا الإقصاء من جانب المجتمع السياسي، تغلغل الموالي في تشكيلات المجتمع المدني الناشئ، من ذلك، أنهم أصبحوا الفئة المسيطرة على الحرف اليدوية والصنايع في المدن، فضلاً عن أن الكتاب في الدواوين كانوا في معظمهم من الموالي.
"ومن دون شك فإن بروز الموالي كقوة اجتماعية يحسب لها الأمويون حساباً ويخشون أنضمامها إلى صفوف الخوارج الذين حملوا السلاح ضدهم في" ثورة دائمة" وإلى الشيعة الذين لم يستسلموا ولم يستكينوا بل بقوا يقاومون الحكم الأموي تارة جهرا، وتارة سرا، إلى أن تمكن العباسيون بالتحالف معهم من اسقاطه. لاشك أن بروز الموالي بهذه القوة قد دفع الأمويين إلى سلوك سياسة" ليبرالية" نسبيا مع من كان يكتفي في معارضتهم بالقول دون الفعل متبعين في ذلك سياسة مؤسس دولتهم معاوية. وهكذا ستشهد الحياة الاجتماعية والفكرية تطورات سريعة بالغة الأهمية: فمن جهة سيزداد دور الموالي في الحياة العامة وسيواصلون اختراق " القبيلة" أما بالحلف والموالاة طلباً للمكانة الاجتماعية وأما بواسطة دورهم كـ" خبراء " في التجارة والصيرفة والأعمال الحرة. ومن جهة أخرى ستبرز فيهم نخبة في مجال الفكر والدين والسياسة، وسيلتحق كثير من أعضائها ببلاط الخليفة وحاشية الأمراء وسلك الموظفين، وسيحاولون التأثير في سياسة الدولة. وهكذا سنرى مجموعة منهم يبرزون كـ" انتلجنسيا" للعصر كله، العصر الأموي، هؤلاء الذين جعلوا من" الكلام" في القضايا الدينية وسبيله لممارسة السياسة بواسطة " العقيدة" ضدا على " القبيلة" وايديولوجيتها، فقادوا بذلك حركة تنويرية عكست بوضوح ذلك الصراع الذي خاضته القوى الاجتماعية الصاعدة المضطهدة، ولكن الطموحة، والتي كانت تتألف أساساً من الموالي، حركة تنويرية استطاعت بالفعل أن تخترق سياج القبيلة، وتؤثر في جانب من ارستقراطيتها وتستقطب بعض زعماء القبائل من داخل التحالف القبلي الأموي ذاته، بل أنها استطاعت أكثر من ذلك، أن تفسح المجال لقيام تنظيمات ثورية بعضها فشل وبعضها حقق نجاحاً ما بينما استطاع فصيل منها ان يقوده باسم" العقيدة" ثورة عارمة على " القبيلة" ونظام حكمها "الثورة العباسية" .
يقول الكاتب جوليار تمر: "اتبع الأمويون سياسة خاصة مع رعاياهم حتى وصفت بأنها بعيدة عن روح الإسلام والحق أن الحكم الأموي لم يكن حكماً إسلامياً يسوى بين الناس ويكافئ من أحسن عربياً كان أو مولى، ويعاقب من أساء عربياً كان أم مولى.. وكانت تسود العرب النزعة الجاهلية لا النزعة الإسلامية، كما كان الحق والباطل يختلفان باختلاف من صدر عنه العمل، فالعمل حق إذا صدر عن عربي من قبيلة، وهو باطل إذا صدر عن مولى أو عربي من قبيلة أخرى، وعلى الرغم من كون التعميم مجحفاً بحق الحكم الأموي، إلا أنه من الراجح أن الأمويين مثلوا سيادة قريش بنظر البعض، وتولد الشعور بأنهم يمثلون سيادة العرب تجاه غير العرب، وكان ذلك واضحاً في الإدارة، وصاروا قادة ارستقراطية متنامية، وهي ارستقراطية قبلية اتجهت إلى ملكية الأراضي، الأمر الذي جعل حتى المدافعين عن الدولة الأموية حين يشيرون إلى عدالتها ومساواتها بين العرب وغير العرب لا يشيرون إلا إلى بعض المناصب الإدارية غير المؤثرة كتولي مولى لقبيلة مولى حلف منصباً لخليفة أو أمير أو والي، كالحجابة أو رئيس حرس أو الكتابة، أو حتى قيادة جيش نعرف أن الأمويين استخدموا الموالي بكثرة في الدواوين، وهي عماد الادارة المحلية، واستخدموهم في الجباية والامور المالية على نطاق واسع، وفتحوا المجالات العلمية امامهم، ولكنهم لم يسلموهم الرئاسة، فالإمارة وقيادة الجيوش اقتصرت على العرب، مع ذلك فان بعض القادة مثل طارق بن زياد ت 101هـ / 720م. كانوا من الموالي، والحقيقة أن تلك المناصب احتكرها الموالي من الطبقة الأولى وهم موالي العرب، الذين أعتقوا أو عقدوا حلفاً مع بعض القبائل العربية ذات النفوذ السياسي، اي تنتمي إلى قاعدة العصبية التي قامت عليها الدولة الأموية، وفي الغالب كان اولئك ردءًا للدولة في القيام بكثير من الاعمال، أما في مجالات الدواوين وامور الجباية والمالية، فمن المعلوم أن الموالي -الفرس- بالذات كانوا أصحاب حضارة ودراية وإدارة سابقة، لذا لم يكن لتلك المجالات أن تظهر بمظهر مؤسساتي خاضع للدولة بدونهم"(ص158).
كما كان لهم قابلية تولي القضاء، كدليل واضح على أن الموالي أنفسهم قد لجأوا إلى التعمق في العلوم الدينية والفقهية واللغوية ونبغوا فيها كي يتجنبوا نظرة الازدراء العربية لهم، ويتخلصوا من المهانة التي كانت تلحق بهم، وبذلك استطاع من اشتهر من الموالي بالتقوى والصلاح، ونبغ في الثقافة العربية الإسلامية والعلوم الدينية أن يجد لنفسه مكانة في مجالس الخلفاء والأمراء، وكانوا يصادفون نوعاً من التكريم على يد خلفاء بني أمية وولاتهم، ومع ذلك فإن الراجح والذي يؤكده المنطق التاريخي من خلال توالي الحدث وتكراره على نفس النهج والاسس الاجتماعية والسياسية أن الموالي سواء في الكوفة أو في الأماكن الأخرى لم يكن لهم شأن اجتماعي ولا سياسي، بل كانوا أتباعاً لقبيلتهم أو لأسياد القبيلة، وإنهم في الأصل كانوا وقوداً لحروب السلطة سواء ضد المعارضين من القبائل العربية، أو من الموالي الأعاجم أنفسهم.
إقرأ أيضا: العروبة المؤسِّسة.. كيف صاغ العرب مكانتهم العليا داخل الدولة الإسلامية المبكرة؟